التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

وجعل زوجه من جنسه ، ليسكن إليها ، ويطمئن بها ، كما خلق من كل الأنواع زوجين اثنين ، كما قال عزوجل : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات ٥١ / ٤٩].

وقوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي ليأنس بها ويطمئن ويألفها ، كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ، لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم ٣٠ / ٢١] وهذا التآلف قائم في أعماق كل من الرجل والمرأة ، ففي عهد الشباب لا تسكن النفس إلا بالاقتران بزوج آخر ، ولا نجد ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين ، والجنس ميال بطبيعته إلى جنسه ، والتعاون على شؤون الحياة يحتاج إلى التزاوج ، وبقاء النوع الإنسان مرهون بهذا الترابط بين الجنسين : الذكر والأنثى.

ثم ذكر الله تعالى ثمرة هذا التزاوج بين الرجل والمرأة فقال : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) وهو كناية عن الوقاع ، أي فلما حدث الوطء أو الوقاع أو الجماع بين الجنسين ، بدأ تكون الجنين ، وحدث الحمل الخفيف ، وهو أول الحمل الذي لا تجد فيه المرأة ثقلا ولا ألما ، إنما هي النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة ، ويرتفع الحيض عادة ببدء الحمل ، وتستمر المرأة في متابعة أعمالها المعتادة دون مشقة ، وهذا هو المراد من قوله : (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت بذلك الحمل الخفيف.

فلما أثقلت المرأة الحامل أي صارت ذات ثقل بحملها بسبب كبر الولد في بطنها ، وحان وقت الوضع ، (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) ، أي دعا الزوجان وهما آدم وحواء مقسمين : لئن آتيتنا ولدا صالحا ، أي بشرا سويا ، تام الخلق ، سليم الفطرة ، لنكونن لك من الشاكرين نعمتك ، المشتغلين بشكر تلك النعمة.

فلما آتاهما الله ما طلبا ، ورزقهما ولدا صالحا سويا كامل الخلقة ، جعل الزوجان لله شركاء أي شريكا فيما آتاهما وأعطاهما ، فتعالى أي تعاظم وتنزه (اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وينسبون له من الولد والشريك.

٢٠١

ومن المراد بقوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما)؟

ذكر بعض المفسرين كالسيوطي أن المراد آدم وحواء ، بالاعتماد على حديث ضعيف في الترمذي وغيره ، وهو ما رواه سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لما ولدت حواء ، طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سميه عبد الحارث ـ وكان اسم إبليس حارثا بين الملائكة ـ فإنه يعيش ، فسمته ، فعاش ، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره. وتؤيده روايات إسرائيلية كثيرة لاثبات لها ، فلا يعول عليها ، وأمثال ذلك لا يليق بالأنبياء.

والواقع ـ على افتراض أن المراد بالنفس الواحدة : آدم ـ أن نسبة هذا الجعل إلى آدم وحواء يراد به بعض أولادهما ، قال الحسن البصري : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادا ، فهوّدوا ونصّروا (١).

وأيّد ابن كثير هذا التأويل عن الحسن رضي‌الله‌عنه ، فقال : وهو من أحسن التفاسير ، وأولى ما حملت عليه الآية ... وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه‌الله في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال الله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي بصيغة الجمع. فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين ، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس ، كقوله : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك ٦٧ / ٥] ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها ، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها ، ولهذا نظائر في القرآن (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٧٥.

(٢) المرجع السابق : ٢ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

٢٠٢

والخلاصة : إن الشرك نسب إلى آدم وحواء ، والمراد به أولادهما ، كاليهود والنصارى والمشركين ؛ لأن آدم وزوجته لم يكونا مشركين.

قال الزمخشري في قوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) أي جعل أولادهما له شركاء ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك (فِيما آتاهُما) أي آتى أولادهما ، وقد دل على ذلك قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله : تسميتهم أولادهم بعبد العزى ، وعبد مناة ، وعبد شمس ، وما أشبه ذلك ، مكان عبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد الرحيم (١). وقد ذكر الرازي هذا التأويل.

وذكر أيضا أي الرازي تأويلا آخر للآية وهو أن قوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد ، وتقريره : فلما آتاهما صالحا ، اجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك ، وينسبونه إلى آدم عليه‌السلام (٢).

وهذا كله على تسليم أن القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء. وهناك من جعل الخطاب في الآية لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم آل قصي ، إذ سمّى قصي وزوجته القرشيان أولادهما الأربعة بعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد قصي ، وعبد اللات.

وقال القفال : إنه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل ، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك ، على أساس أن المراد بالزوجين الجنس أي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة أو جنس

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٥٩٢.

(٢) تفسير الرازي : ١٥ / ٦٧ وما بعدها.

٢٠٣

واحد ، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية.

ثم فنّد الله تعالى آراء المشركين ، ونقض الشرك من جذوره ، فقال : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ...) أي أيشركون بالله شيئا لا يستطيع إطلاقا خلق أي شيء؟ أو أيشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئا ، ولا يستطيع ذلك؟ وإنما الله هو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق ، كما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج ٢٢ / ٧٣].

وهذه الأصنام مخلوقة مصنوعة ، كما قال تعالى : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً ، وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل ١٦ / ٢٠].

وهم لا يستطيعون لعابديهم تحقيق أي معونة أو نصر ، بل إنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم على من يعتدي عليهم بإهانة أو سب أو أخذ شيء مما عندهم من طيب أو حلي ، فلا نصر لأنفسهم ممن أرادهم بسوء. وقال : يخلقون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع ، فأجريت مجرى الناس.

فهذا كله إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان ، وهي مخلوقة لله ، مربوبة ، مصنوعة لا تملك شيئا من الأمر ، ولا تضر ولا تنفع ، ولا تسمع ولا تبصر ، ولا تنتصر لعابديها ، بل هي جماد لا تتحرك ، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم.

ثم ذكر الله تعالى أن هذه الأصنام لا تصلح تبعا فضلا عن أن تكون متبوعة ، فقال : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى ...) أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد ، أو إلى أن يهدوكم إلى ما تريدون تحقيقه ، لا يستجيبون لكم ولا ينفعونكم ، فهم في الحالين عديمو النفع ، فإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله

٢٠٤

الخير والهدى ، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبكم ، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأعراف ٧ / ١٩٤].

سواء لديكم دعاؤكم إياهم ، أو سكوتكم عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم ، ولا خير يرتجى منهم ، إذ هم لا يفهمون الدعاء ، ولا يسمعون الأصوات ، ولا يعقلون الكلام.

ومثل من كانت هذه صفته ، لا يصلح ربا معبودا ، وإنما الرب الموجود المعبود هو السميع البصير ، العليم الخبير ، الناصر القادر ، النافع من يعبده ، الضار من يعصيه ، الهادي إلى الرشاد ، المنقذ من الردى ، المجيب المضطر إذا دعاه.

وعبر بالجملة الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار : (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) بدلا عن الجملة الفعلية المشعرة بالتجدد المتكرر : «أم صمتم» لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر ، دعوا الله دون أصنامهم ، كقوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم ، فقيل لهم : إن دعوتموهم ، لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم ، وبين ما أنتم عليه من الاستمرار على سكوتكم ومن عادة صمتكم عن دعائهم (١). أي فلا فرق بين تجديد دعاء الأصنام بفعل متجدد وبين الاستمرار والثبات على حال الصمت وعدم دعائها ، وبذلك صلح عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية الذي لا يجوز إلا لفائدة وحكمة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الناس في الأصل مخلوقون من نفس واحدة ، المشهور أنها نفس آدم.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٥٩٢.

٢٠٥

وحواء مخلوقة من نفس آدم : وخلق منها زوجها على معنى أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم ، وحكمة ذلك أن الجنس أميل إلى الجنس ، والجنسية علة الضم واللقاء والألفة بين الرجل والمرأة. واستشكل الرازي هذا الكلام ؛ فإن الله قادر على أن يخلق حواء خلقا مستقلا كما خلق آدم ابتداء ، فلما ذا يقال : إنه تعالى خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ثم رجح أن المراد من كلمة «من» في قوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) خلق حواء من نوع آدم ومن جنسه في الإنسانية ، وجعل زوج آدم إنسانا مثله (١).

٢ ـ من رحمة الله تعالى بالأم أن جعل خلق الجنين واكتمال الحمل على مراحل متدرجة من الأخف إلى الأثقل ، كيلا تشعر بالثقل المفاجئ ، ولتظل قائمة بأعمالها المعتادة دون إرهاق.

٣ ـ يفهم من ظاهر قوله تعالى : (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) أن الحمل مرض من الأمراض ، ولأجل عظم الأمر جعل موتها شهادة ، كما ورد في حديث تعداد الشهداء الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم : «الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله : المطعون شهيد ، والغريق شهيد ، وصاحب ذات الجنب شهيد ، والمبطون شهيد ، وصاحب الحريق شهيد ، والذي يموت تحت الهدم شهيد ، والمرأة تموت بجمع شهيدة» أي تموت وفي بطنها ولد. فيكون حال الحامل في رأي الإمام مالك حال المريض في أفعاله بعد مضي ستة أشهر من الحمل ، أي المريض مرض الموت ، وهو الذي لا تنفذ تبرعاته من هبة ومحاباة في بيع إلا في ثلث ماله. وقال الأئمة الثلاثة : إنما يكون ذلك في الحامل بحال الطّلق ، فأما قبل ذلك فلا ؛ لأن الحمل عادة ، والغالب فيه السلامة. ورد المالكية بقولهم : كذلك أكثر الأمراض غالبة السلامة ، وقد يموت من لم يمرض.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ٨٩.

٢٠٦

ويعد الزاحف في الصف للقتال والمحبوس للقتل في قصاص بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ، ما كان بتلك الحال ، في رأي الإمام مالك ، فلا يتبرع إلا في الثلث.

٤ ـ الأوثان لا تصلح للألوهية ؛ لأنها مخلوقة ، وغير قادرة على خلق شيء أو إيجاد نفع أو ضر فكيف يعبد ما لا يقدر على أن يخلق شيئا؟! والمقصود من الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للألوهية.

٥ ـ ليس المراد من قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ما ذكر من قصة إبليس مع آدم عليه‌السلام السابق ذكرها ؛ إذ لو كان المراد ذلك ، لكانت هذه الآية غريبة عن تلك القصة غرابة كلية ، وأدى الأمر إلى إفساد النظم والترتيب ، وإنما المراد بها الرد على عبدة الأوثان ، كما ذكر القفال ، فهي بيان لخلق الرجل والمرأة من جنس واحد ومن أصل واحد في الإنسانية ، ثم التنديد بفعل بعض الأزواج ، فلما تغشى الزوج زوجته (واقعها) وظهر الحمل ، دعا الزوجان ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا ، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) نعمائك ، فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا ، جعلا لله (شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) ؛ لأن الأزواج تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، كما هو قول الطبيعيين ، وتارة إلى الكواكب ، كما هو قول الفلكيين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان ، كما هو قول عبدة الأصنام.

٦ ـ احتج أهل السنة بقوله : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ، وَهُمْ يُخْلَقُونَ) على أن العبد لا يخلق ولا يوجد أفعاله ، وإنما الذي يخلق هو الإله ، فلو كان العبد خالقا لأفعال نفسه ، كان إلها.

٧ ـ دل قوله : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ...) على أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ، ولا تنتصر ممن عصاها. والمعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ، ودفع الضرر ، وهذه الأصنام عاجزة عن ذلك ، فكيف يليق بالعاقل عبادتها؟!

٢٠٧

٨ ـ ودل قوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) على أنه أيضا لا علم للأصنام بشيء من الأشياء ، فلا يتصور منها الاتباع إذا دعيت إلى الخير ، فكيف تصلح أن تكون معبودة؟!

والخلاصة : إن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها ، وسواء لديها من دعاها ومن أهملها ، كما قال إبراهيم : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٤٢].

واقع الأصنام والأوثان المعبودة

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

الإعراب :

(عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) عباد خبر (إِنَ) مرفوع ، و (أَمْثالُكُمْ) : صفة ، وجاز أن يكون وصفا للنكرة ، وإن كان مضافا إلى المعرفة ؛ لأن الإضافة في نية الانفصال ، وأنه لا يتعرف بالإضافة ، للشيوع الذي فيه.

وقرأ سعيد بن جبير : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) بتخفيف (إِنَ)

٢٠٨

ونصب : (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) ، والمعنى : ما الذين (تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) عبادا أمثالكم ، على إعمال : إن عمل ما الحجازية ، وهو مذهب المبرد. وأما مذهب سيبويه فهو إهمالها.

البلاغة :

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) هذا إطناب يراد به زيادة التقريع والتوبيخ. والاستفهام في المواضع المختلفة استفهام إنكار ، أي ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم ، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالا منهم؟!

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ). وأصل الدعاء : النداء ، ويقصد به غالبا دفع ضرر أو جلب خير. (عِبادٌ) مملوكة لله (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) دعاءكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنها آلهة (يَبْطِشُونَ) يضربون ويصولون بها.

(ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) إلى هلاكي (فَلا تُنْظِرُونِ) تمهلون ، فإني لا أبالي بكم.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) أي متولي أموري (نَزَّلَ الْكِتابَ) القرآن (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) من عباده بحفظه فضلا عن أنبيائه (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي الأصنام (وَتَراهُمْ) أي الأصنام يا محمد (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي يقابلونك كالناظر ، فهم يشبهون الناظرين إليك ؛ لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه.

المناسبة :

هذه الآيات تأكيد لما سبق بيانه أن الأصنام لا تصلح للألوهية ، بقصد غرس التوحيد في القلوب ، واستئصال جذور الشرك من النفوس.

التفسير والبيان :

إن تلك الأصنام التي تعبدونها وتسمونها آلهة من دون الله ، وتدعونها لدفع الضر أو جلب النفع هم عباد أو عبيد مثل عابديها ، في كونهم مخلوقات لله مثلهم ، خاضعون لإرادته وقدرته ، بل الأناس أكمل منها ؛ لأنها تسمع وتبصر وتبطش ، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك. وإذا كانت على هذا النحو فكيف يصح عقلا

٢٠٩

تقديسها وعبادتها من مخلوق مثلها ، بل أسمى وأكمل منها؟ وإنما الذي يستحق العبادة هو الرب الخالق الذي خضعت له جميع الكائنات ، ودانت له الأسباب. وكيف تترك رسالة بشر خصه بالعلم والمعرفة ، وازدانت عقيدته بالحق والنور والفائدة العظمى ، وتعبد حجارة من دون الله ، لا تضر ولا تنفع؟

وإن كنتم صادقين في تأليههم ، واستحقاقهم العبادة ، والتماس النفع أو الضر منهم ، فادعوهم واطلبوا منهم طلبا ما ، فليستجيبوا لكم دعاءكم ، إما بأنفسهم ، وإما بتوسطهم عند الله. ومعنى هذا الدعاء : طلب المنافع ، وكشف المضار من جهتهم. واللام في قوله (فَلْيَسْتَجِيبُوا) لام الأمر ، على معنى التعجيز ، والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ، ظهر أنها لا تصلح للعبادة.

وقوله : (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) استهزاء بهم ، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإن ثبت ذلك ، فهم عباد أمثالكم ، لا تفاضل بينكم.

وصفت الأصنام بأنها عباد ، وأشير إليها بضمير العقلاء في قوله : (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ) ولم يقل : التي ، مع أنها جمادات غير عاقلة ، إنزالا لها منزلة العقلاء بحسب اعتقاد المشركين أنها تضر وتنفع ، فتكون عاقلة فاهمة ، فوردت الألفاظ على وفق معتقداتهم.

ثم ترقى القرآن في الجواب عليهم ، وأبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم ، وأثبت أنهم ليسوا أمثالهم ، بل أدنى منهم رتبة ، فذكر أعضاء أربعة هي الأرجل والأيدي والأعين والآذان ، وكلها معطلة القوة والحركة والإدراك ، مع أن هذه الأعضاء إن كان فيها هذه القوى فهي وسائل الكسب في الحياة.

فليس للأصنام أرجل يمشون بها إلى جلب نفع أو دفع ضر ، وليس لهم أيد يبطشون بها ويصولون بها لتحقيق ما ترجون منهم من خير ، أو تخافون من شر ، وليس لهم أعين يبصرون بها أحوالكم ، ولا آذان يسمعون بها نداءكم وكلامكم وفهم

٢١٠

مطالبكم ، فهم ليسوا مثلكم ، بل دونكم في التكوين والصفات والقوى ، ومن يخلو من منافع هذه الأعضاء ، لا يستحق العبادة ، فإن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام ، بل لا تصح المقارنة بين مزايا الإنسان وهذه الأصنام ، إذ هم حجارة صماء ، أو طين وماء ، أو عجوة أو حلاوة كصنم بني حنيفة.

أكلت حنيفة ربها

عام التقحم والمجاعة

ومع كل هذا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يتحداهم ، ويدعوهم للاختبار العملي ، فقيل له : قل يا محمد الرسول لهؤلاء الوثنيين : نادوا شركاءكم وآلهتكم من دون الله ، واستنصروا بها علي ، وتعاونوا على كيدي ، فلا تؤخروني طرفة عين ، وابذلوا جهدكم ، وأوقعوا الضرر بي كيف شئتم ، ولا تمهلون ساعة من نهار ، أنتم وشركاؤكم ، فلا أبالي بكم. ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله ، وكانوا قد خوفوه آلهتهم.

وهذا رد على تهديدهم وقولهم : إنا نخاف عليك من آلهتنا!!

ثم أعلن الرسول ثقته الكبرى بالله وتحقيره هذه المعبودات ، مع قلة الأعوان والنصراء في مكة فقال بتعليم الله : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ ...) أي الله حسبي وكافيني ، وهو نصيري وناصري عليكم ، ومتولي أمري في الدنيا والآخرة ، وعليه اتكالي ، وإليه ألجأ ، وهو الذي نزل علي القرآن الذي يدعو إلى التوحيد ، وينبذ الشرك ، وأعزني برسالته ، وهو الذي يتولى كل صالح بعدي ، وهو كل من صلحت عقيدته ، وسلمت من الخرافات والأوهام ، وصلحت أعماله ، ومن عادته تعالى أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ، ولا يخذلهم. أما المشرك فوليه الشيطان : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة ٢ / ٢٥٧]. ومناسبة هذه الآية : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) لما قبلها أنه تعالى لما بيّن في الآيات المتقدمة أن هذه

٢١١

الأصنام لا قدرة لها على النفع والضر ، بيّن بهذه الآية أن الواجب على كل عاقل عبادة الله تعالى ؛ لأنه هو الذي يتولى تحصيل منافع الدين ومنافع الدنيا ، أما الأولى فبسبب إنزال الكتاب وأما الثانية فبسبب تولي الصالحين.

ثم أكد تعالى ما تقدم من خيبة الأصنام في تحقيق النصر فقال : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ...) بصيغة الخطاب ، وذاك بصيغة الغيبة ، أي إن الذين تعبدونهم وتدعونهم من دون الله لنصركم ودفع الضر عنكم عاجزون ، لا يستطيعون نصركم ، ولا نصر أنفسهم ضد من يحقرهم أو يسلبهم شيئا مما يوضع عليهم من طيب أو حلي ، أو يريدهم بسوء.

فقد كسّر إبراهيم عليه‌السلام الأصنام وأهانها غاية الإهانة فما دفعت عن نفسها الأذى ولا انتقمت منه ، كما أخبر تعالى عنه في قوله : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [الصافات ٣٧ / ٩٣] وقال تعالى : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٥٨].

وروي عن معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو بن الجموح رضي‌الله‌عنهما ـ وكانا شابين من الأنصار قد أسلما ، لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ـ أنهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل ، ليعتبر قومهما بذلك ، ويرتئوا لأنفسهم رأيا آخر.

وكان لعمرو بن الجموح ـ وكان سيد قومه ـ صنم يعبده ويطيبه ، فكانا يجيئان في الليل ، فينكسانه على رأسه ، ويلطخانه بالعذرة ، فيجيء عمرو بن الجموح ، فيرى ما صنع به ، فيغسله ويطيبه ، ويضع عنده سيفا ، ويقول له : انتصر ، ثم يعودان لمثل ذلك ، ويعود إلى صنيعه أيضا ، حتى أخذاه مرة ، فقرناه مع كلب ميت ، ودلياه في حبل في بئر هناك ، فلما جاء عمرو ، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدّين باطل ، وقال :

٢١٢

تالله لو كنت إلها مستدن

لم تك والكلب جميعا في قرن

ثم أسلم وحسن إسلامه ، وقتل يوم أحد شهيدا رضي‌الله‌عنه (١).

وكما هم عاجزون عن النصرة عاجزون عن الإرشاد والهداية ، فقال تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى أن يهدوكم إلى سواء السبيل وتحقيق النصر ، لا يسمعوا دعاءكم ، فضلا عن المساعدة والمعونة والإمداد ، وتراهم أيها المخاطب المتأمل يقابلونك بعيون مصوّرة صناعية ، وهي جماد لا تبصر شيئا ، ولا تدرك المرئي ؛ لأن لهم صورة الأعين ، وهم لا يرون بها شيئا ، فهم فاقدو السمع والبصر ، كما قال تعالى في آية أخرى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر ٣٥ / ١٤].

وإذ فقدوا السّمع والبصر ، فكيف يرجى منهم نصر أو عون ، وكيف يخاف منهم إحداث ضرر أو أذى لمن يحتقرهم ، وكيف يليق بكم أن تتخذوهم آلهة؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات محاجّة في عبادة الأصنام ، وتأكيد لما سبق من بيان عدم أي جدوى من تلك العبادة ، وقد دلّت على ما يأتي :

١ ـ يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام المعطلة القوى المحركة والمدركة ، لفقدها الأرجل والأيدي والأعين والآذان ؛ لأن المعبود يتّصف بهذه القوى وغيرها ، والإنسان الذي يعبدها أفضل منها بكثير ، بل لا مجال للمقارنة بينه وبينها أصلا ، فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون ، الذي لا يحس منه فائدة البتة ، لا في جلب المنفعة ، ولا في دفع المضرة؟! فهي ليست عبادا أمثال الإنسان ، وإنما هي حجارة وخشب ، فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٧٦.

٢١٣

٢ ـ الإنسان أفضل وأكمل حالا من الصنم ؛ لأن له رجلا ماشية ، ويدا باطشة ، وعينا باصرة ، وأذنا سامعة ، وليس للصنم شيء من ذلك.

٣ ـ كيف تحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرر؟! فليس للأصنام قدرة على النفع والضرر ، لا لنفسها ولا لغيرها ، ولا تستطيع نصرة أحد.

٤ ـ إن تخويف المشركين الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآلهتهم عبث وهدر ، فقد دعاهم إلى مكايدته وإضراره دون إمهال ، فخابوا وخسروا هم وشركاؤهم.

٥ ـ إن متولي أمور النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا والآخرة بنصره وحفظه هو الله تعالى الذي يتولّى الصّالحين من عباده ويحفظهم. جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهارا غير سرّ يقول : «ألا إنّ آل أبي ـ يعني فلانا ـ ليسوا لي بأولياء ، إنما وليّي الله وصالح المؤمنين».

٦ ـ الواجب على العاقل عبادة الله تعالى ؛ لأنه هو الذي يحقق له منافع الدين بإنزال الكتاب المشتمل على العلوم العظيمة في الدّين ، ومنافع الدّنيا بتولّي الصالحين من عباده وحفظه لهم ونصرته إياهم ، فلا تضرّهم عداوة من عاداهم.

وما أروع ذلك الموقف العملي للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بالاستدلال بهذه الآية ، فإنه ما كان يدّخر لأولاده شيئا ، فقيل له فيه ، فقال : ولدي إما أن يكون من الصالحين ، أو من المجرمين ، فإن كان من الصالحين فوليّه الله ، ومن كان الله له وليّا ، فلا حاجة له إلى مالي ، وإن كان من المجرمين ، فقد قال تعالى : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ومن ردّه الله لم أشتغل بإصلاح مهماته.

٧ ـ كرر الله تعالى وصف الأصنام بأنها عاجزة عن نصر عابديها ، ونصر أنفسها ، وفائدة التكرار أن المعنى الأول مذكور على جهة التقريع ، وهذا مذكور على جهة

٢١٤

الفرق بين من تجوز له العبادة ، وبين من لا تجوز ، فالإله المعبود هو الذي يتولّى الصالحين ، أي يحفظهم ، وهذه الأصنام لا تتولى أحدا ، فلا تصلح للألوهية.

٨ ـ الأصنام جمادات مصنوعة ، ركبت لها حدق عيون من معادن أو جواهر برّاقة ، كأنها ناظرة ، وهي جماد لا تبصر ، فلذلك قال : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ) وقد عاملها معاملة من يعقل وعبّر عنها بضمير العاقل ؛ لأنها على صورة مصورة كالإنسان.

وقال السّدي ومجاهد : المراد بهذا المشركون. قال ابن كثير : والأول أولى ، وهو قول قتادة ، واختاره ابن جرير.

أصول الأخلاق الاجتماعية ومقاومة الشيطان

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢))

الإعراب :

(وَإِمَّا) فيه إدغام نون : إن الشرطية في «ما» المزيدة.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فعل أمر ، وهو جواب الشرط ، وجواب الأمر محذوف ، أي يدفعه عنك.

(إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) فعل وفاعل ، و (طائِفٌ) : اسم فاعل من طاف. وقرئ : طيف مخففا من طيّف ، وهو فعل من طاف ، كما خفف سيّد وميّت.

(يَمُدُّونَهُمْ) فعل مضارع من «مدّ» وهو ثلاثي ، وقرئ بالضم على جعله مضارعا.

أمد وهو رباعي. وقيل : مدّ في الخير والشّر ، وأمدّ في الشّرّ خاصة.

٢١٥

(وَإِخْوانُهُمْ) جمع الضمير في هذه الكلمة والشيطان مفرد ؛ لأن المراد به الجنس ، كقوله : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

البلاغة :

(يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) النزغ : إدخال الإبرة ونحوها في الجلد ، وفيه استعارة ؛ لأنه شبّه وسوسة الشيطان وإغراءه الناس على المعاصي بالنزغ.

المفردات اللغوية :

(الْعَفْوَ) اليسر من أخلاق الناس ، ولا تبحث عنها ، والمعنى : خذ ما عفا وتيسر من أخلاق الناس. (بِالْعُرْفِ) المعروف. (يَنْزَغَنَّكَ) يصيبنّك ، أو يصرفنّك ، والنزغ كالنّخس : إصابة الجسم بشيء محدد كالإبرة ونحوها ، والمراد منه هنا : وسوسة الشيطان. (فَاسْتَعِذْ) أي الجأ إليه وتذكره.

(مَسَّهُمْ طائِفٌ) أصابهم شيء ألم بهم ، أي وسوسة ما. (تَذَكَّرُوا) عقاب الله وثوابه. (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) الحق من غيره ، فيرجعون. (وَإِخْوانُهُمْ) أي الشياطين من الكفار. (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) يعاونهم الشياطين في الضلال. (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) لا يكفّون عن إغوائهم ، بالتّبصر كما تبصّر المتقون. والإقصار : التقصير.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى فيما سبق أن الله هو الذي يتولّى نبيّه والمؤمنين الصالحين بالحفظ والتّأييد ، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار ، بيّن في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس ، وهي آية تشمل أصول الفضائل ، فهي من أسس التشريع التي تلي أصول عقيدة التّوحيد المبيّنة بأتمّ بيان. ثم أعقب ذلك بوصية وقائية ، وهي اتّقاء وساوس الشياطين من الجنّ ، بعد الأمر بالإعراض عن الجاهلين السفهاء ، اتّقاء لشرّ الفريقين.

٢١٦

التفسير والبيان :

جمعت الآية الأولى أصول الفضائل الثلاث وهي :

١ ـ الأخذ بالعفو : وهو السّهل من أخلاق الناس وأعمالهم ، دون تكليفهم بما يشق عليهم ومن غير تجسّس ، وإنما يؤخذ بالسّمح السّهل ، واليسر دون العسر ، كما ورد في الحديث الذي أخرجه أحمد والشّيخان والنّسائي عن أنس بن مالك عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يسّروا ولا تعسّروا ، وبشّروا ولا تنفّروا». ويدخل في العفو : صلة القاطعين أرحامهم ، والعفو عن المذنبين ، والرّفق بالمؤمنين ، وغير ذلك من أخلاق المطيعين.

وهذا هو الصّنف الأول من الحقوق التي تستوفي من الناس وتؤخذ منهم بطريق المساهلة والمسامحة ، ويشمل ترك التّشدد في كل ما يتعلّق بالحقوق المالية ، والتّخلّق مع الناس بالخلق الطّيّب ، وترك الغلظة والفظاظة ، كما قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران ٣ / ١٥٩] ومن هذا القسم : الدّعوة إلى الدّين الحق بالرّفق واللطف ، كما قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النّحل ١٦ / ١٢٥].

والخلاصة : إن المراد بالعفو : الأخذ باليسر والسّماحة ودفع الحرج والمشقة عن الناس في الأقوال والأفعال ، وما خيّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثما ، كما أخرج الترمذي ومالك.

٢ ـ الأمر بالعرف وهو المعروف والجميل من الأفعال : وهو كل ما أمر به الشرع ، وتعارفه الناس من الخير ، واستحسنه العقلاء ، فالمعروف : اسم جامع لكل خير من طاعة وبرّ وإحسان إلى الناس. وهذا هو النوع الثاني من الحقوق التي لا يجوز التّساهل والتّسامح فيه ، ويراد به ما هو معهود بين الناس في المعاملات والعادات. ولا يذكر المعروف في القرآن إلا في الأحكام المهمة ، مثل

٢١٧

قوله تعالى في وصف الأمّة الإسلامية : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [آل عمران ٣ / ١٠٤].

وفي تبيان الحقوق الزّوجية : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة ٢ / ٢٢٨] ، وفي الحفاظ على رباط الزّوجية : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة ٢ / ٢٢٩] ، (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة ٢ / ٢٣١].

٣ ـ الإعراض عن الجاهلين : ويتمثل بعدم مقابلة السّفهاء والجهّال بمثل فعلهم ، وترك معاشرتهم وصيانة النّفس عنهم ، وعدم مماراتهم والحلم عنهم ، والصّبر على سوء أخلاقهم والغضّ على ما يسوءك منهم. فإذا تكلّم الجاهل الأحمق بما يسوء الإنسان ، فليعرض عنه ، ويقابله بالعفو والصّفح ، لقوله تعالى في وصف المؤمنين : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران ٣ / ١٣٤] ، وقوله تعالى في فضيلة العفو : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٣٧].

هذه المبادئ الثلاثة هي أصول الفضائل ومكارم الأخلاق فيما يتعلّق بمعاملة الإنسان مع الغير. قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية ، قال عليه الصّلاة والسّلام : «يا جبريل ، ما هذا؟ قال : إنّ ربّك يقول : هو أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك».

وروى الطّبري وغيره عن جابر مثل ذلك.

وقال جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه : «أمر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها». وقال عبد الله بن الزّبير : والله ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق النّاس. وقد روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال فيما رواه الترمذي : «أثقل شيء في الميزان : خلق حسن تام».

٢١٨

وناسب الأمر بالإعراض عن الجاهلين وهم السّفهاء اتّقاء لشرّهم ، الأمر بالاستعاذة من الشّياطين ، تجنّبا للوقوع في مفاسدهم وشرورهم ، فقال تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ...) أي وإما يعرض لك الشّيطان بوسوسته ، وينخس في قلبك بحملك على خلاف ما أمرت به ، ويحاول إيقاعك في المعاصي ، أو يغضبنك من الشيطان غضب يصدّك عن الإعراض عن الجاهل ، ويحملك على مجازاته ، بجعلك ثائرا هائجا ، فالجأ إلى الله واطلب النّجاة من ذلك بالله ، واستجر بالله من نزغه ، واذكر الله في القلب واللسان ، يصرف عنك وسوسة الشيطان ، والله سميع للقول من جهل الجاهلين والاستعاذة بالله من نزغ الشيطان (وسوسته) ولغير ذلك من كلام خلقه ، لا يخفى عليه منه شيء ، عليم بالفعل ، وبما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه.

والاستعاذة مطلوبة عند تلاوة القرآن في قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النّحل ١٦ / ٩٨ ـ ٩٩].

والخطاب في آية (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) ونحوها موجّه إلى كلّ المكلّفين ، وأوّلهم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ويدأب الشّيطان على إلقاء وساوسه في قلب كلّ إنسان ، روى مسلم عن عائشة وابن مسعود أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما منكم من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجنّ ، قالوا : وإيّاك يا رسول الله؟ قال : وإيّاي إلا أن الله أعانني عليه ، فأسلم منه».

ثم أوضح الله تعالى طريق التخلّص من وساوس الشّيطان ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ...) أي إن عباد الله المتقين ، الذين أطاعوه فيما أمر ، وتركوا عنه ما زجر ، إذا أصابهم طائف من الشيطان ، أي ألّمت بهم لمّة منه ، تذكّروا ما أمر الله به ونهى عنه ، وذكروا عقاب الله وجزيل ثوابه ، ووعده ووعيده ، فأبصروا السّداد ، وعرفوا طريق الحقّ والخير ، ودفعوا ما وسوس به الشّيطان إليهم ، ولم

٢١٩

يتبعوه أنفسهم ، فإذا هم أولو بصيرة ووعي وعقل ، وقد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه. وهذا الاعتصام بالله من الشيطان عمل وقائي ، ولا شكّ أن الوقاية خير من العلاج. فإذا وقع الإنسان في معصية بادر إلى التّوبة والإنابة والرّجوع إلى الله من قريب ، حتى يمحو الله عنه أثر الذّنب.

ومن المعروف أن للإنسان نزعة إلى الخير ونزعة إلى الشّرّ ، وبمقدار ما يجاهد به نفسه ، ويتغلّب على هوى نفسه ، ووسوسة شيطانه ، كان مثابا مقرّبا إلى الله تعالى ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود : «إنّ للشّيطان لمّة بابن آدم ، وللملك لمّة ، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشّرّ وتكذيب بالحقّ ، وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ، فمن وجد ذلك ، فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله على ذلك ، ومن وجد الأخرى ، فليتعوّذ من الشّيطان ، ثم قرأ : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ).

ثم ذكر الله مدى تأثير الشيطان على الجاهلين الفاسدين فقال : (وَإِخْوانُهُمْ) أي وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتّقين ، فإن الشياطين يتمكّنون من إغوائهم ، ويمدّونهم في الغيّ أي الضّلال ، ويكونون مددا لهم فيه ويعضدونهم ، ولا يقصرون أبدا في حملهم على المعصية أي لا يمسكون عن إغوائهم ، ولا يكفّون عن إفسادهم ، حتى يصرّوا على الشّرّ والفساد ؛ لأنهم لا يذكرون الله إذا نزغ بهم الشيطان ، ولا يستعيذون من وسواسه ، إما لعدم إيمانهم ، أو لخلو قلوبهم من التّقوى.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمّنت آية : (خُذِ الْعَفْوَ) أصول الفضائل والأخلاق الاجتماعية ، وهي تلي في المرتبة أصول العقيدة ، ففي المعاملات والعادات ولدي التعامل مع الآخرين تظهر أخلاق الناس ، وما أحوج الإنسان إلى هذه الأصول الخلقية في تعامله مع الغير.

٢٢٠