التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

من بعض الأمم أمة قائمة بالحق قولا وعملا ، يرشدون الناس ويدعونهم إليه ، ويعملون بالحق ، ويقضون بالعدل ، دون ميل ولا جور ، وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدليل ما جاء في الأحاديث الكثيرة التي منها : ما رواه الشيخان في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة» وفي رواية «حتى يأتي أمر الله ، وهم على ذلك».

ومنها :ما قاله الربيع بن أنس في قوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ ...) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن من أمتي قوما على الحق ، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل».

ومنها : ما أخرجه ابن جرير الطّبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان عن ابن جريج في قوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) قال : ذكر لنا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «هذه أمّتي بالحقّ يحكمون ويقضون ، ويأخذون ويعطون».

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية : بلغنا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول إذا قرأها : وهذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).

وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن علي بن أبي طالب قال : لتفترقنّ هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلا فرقة ، يقول الله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه هي التي تنجو من هذه الأمّة.

والخلاصة : لما ذكر تعالى في قصّة موسى قوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ثم أعاد الله تعالى هذا الكلام ، حمله أكثر المفسّرين

١٨١

على أنّ المراد منه أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدليل ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جريج وغيرهم.

هذا هو الفريق الأوّل من أمّة الدّعوة المحمّدية ، ثمّ ذكر تعالى الفريق الثّاني بقوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي والذين كذبوا بالقرآن وهم أهل مكة نتركهم في ضلالهم ، ونستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ، ونقرّبهم إلى ما يهلكهم ، بإمدادهم بالنّعم ، وفتح أبواب الرّزق والخير ، وتيسير سبل المعاش ، كلّما ارتكبوا ذنبا أو فعلوا جرما ، فيزدادون بطرا وانغماسا في الفساد ، وتماديا في الغي ، وتدرّجا في المعاصي ، بسبب متابعة تلك النّعم والخيرات ، كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٥٥ ـ ٥٦] ، وقال تعالى أيضا : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا ، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً ، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام ٦ / ٤٤ ـ ٤٥] ، وروى الشيخان عن أبي موسى : «إنّ الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته».

وقد تحقّق ذلك بكفار قريش الذين هزموا في بدر والخندق وفتح مكة وغيرها من المعارك ، وأظهر الله رسوله عليهم.

قال عمر لما حملت إليه كنوز كسرى : «اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا ، فإني سمعتك تقول : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)».

(وَأُمْلِي لَهُمْ) ، أي سأملي وأطوّل لهم ما هم فيه وأمهل هؤلاء المكذّبين المستدرجين ، إنّ مكري أو تدبيري الخفي شديد قوي.

والخلاصة : إنّ الإمداد بالنّعم والخيرات والأرزاق ليس دليلا على صلاح الإنسان ، وإنما قد يكون استدراجا كما يستدرج العدو إلى مكان للقضاء عليه ،

١٨٢

فالظالم إذا لم يعاقب فورا ، عليه ألا ينخدع بذلك ، فقد يكون تركه طعما للتّعرّف على المزيد من بغيه وجوره ، كما تفعل أجهزة الأمن اليوم في كثير من حالات مراقبة تحرّكات المشبوهين ، ثم يقع ذلك الظالم في قبضة الحكام لعقابه الدّنيا ، أو تنزل به المصائب والدّواهي ، ثم يعاقبه الله بالعذاب الشديد الآخرة. والاستدراج : هو الإدناء قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم.

وبعد أن هدّد الله المعرضين عن آياته ، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم ، فقال : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ...) أي أولم يتفكّر هؤلاء المكذّبون بآياتنا ما بصاحبهم يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جنون ، فقد كانوا يقولون : شاعر مجنون ، مع أنهم يعرفون حاله من بدء نشأته ، ويعلمون حقيقة دعوته ، ودلائل رسالته ، فهو رسول الله حقّا ، دعا إلى حقّ. والتّعبير : (بِصاحِبِهِمْ) للتّذكير بأنهم يعرفون سيرته معرفة كاملة في سنّ الصّبا وعهد الشّباب والكهولة وبعد النّبوة.

إنهم إن تفكّروا في شأنه ، وتجرّدوا عن عصبيّتهم وأهوائهم ، عرفوا الحقّ ، وأدركوا صدقه ، وأنه ليس مجنونا ولا شاعرا ، كما حكى القرآن افتراءهم : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير ٨١ / ٢٢] ، (قُلْ : إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ، بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ ٣٤ / ٤٦] ، (أَمْ يَقُولُونَ : بِهِ جِنَّةٌ ، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٧٠] ، (وَقالُوا : يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ : إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر ١٥ / ٦] ، (وَيَقُولُونَ : أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) [الصّافات ٣٧ / ٣٦].

إنه ليس بمجنون ، بل هو منذر ناصح ، ومبلّغ أمين ، فهو ينذركم ما يحلّ بكم من عذاب الدّنيا والآخرة إذا لم تؤمنوا بدعوته.

وبعد أن حكى الله عن هؤلاء المكذّبين موقفهم ، فذكر : أكذّبوا الرّسول ، ولم

١٨٣

يتفكّروا في شأنه وشأن دعوته؟ لفت نظرهم إلى ما يدعوهم إلى الإيمان بوحدانية الله ، فقال: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) أي أكذّبوا الرّسول ، ولم ينظروا في عالم السموات والأرض ، ففي ملكوت السماء والأرض دلائل على وجود الصانع الحكيم القديم ، والملكوت : من صيغ المبالغة ومعناه : الملك العظيم ، فإذا نظر هؤلاء المكذّبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه ونظامه البديع في السموات والأرض ، وفي كل ما خلق الله من كبير وصغير ، لأداهم النّظر الصحيح إلى وجود الله تعالى ووحدانيته ، وألم ينظروا في احتمال مجيء الموت فربّما يموتون عمّا قريب ، فليسارعوا إلى النّظر وطلب الحقّ قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب ، وليؤمنوا برسول الله ، وينيبوا إلى طاعته.

وقوله : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) تنبيه على أن دلائل التوحيد غير مقصورة على السّموات والأرض ، بل كلّ ذرة من ذرأت الأجسام والأرواح التي خلقها الله برهان قاهر على التّوحيد.

وقوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) معناه : أو لم ينظروا في أن الشّأن والحديث عسى أن يموتوا عما قريب أي لينظروا في آجالهم التي ربّما اقتربت ، وهذا ترغيب شديد في الإتيان بهذا النّظر والتّفكر ، وتحذير لهم أن تكون آجالهم قد اقتربت ، فيهلكوا على كفرهم ، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. والخلاصة : لعلّ أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل فوات الأوان. قال ابن عباس : أراد باقتراب الأجل يوم بدر ، ويوم أحد.

فبأي كلام أو حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به؟ وبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في كتابه ، يصدّقون إن لم يصدّقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند الله عزوجل؟ وبأي حديث أحقّ من القرآن أن يؤمنوا به؟

١٨٤

ثم قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ ...) مقرّرا لما سبق ، ومعلّلا له ، وهو أنّ من يضلّه الله فلا هادي له ، أي أنّ من فقد الاستعداد للإيمان بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعمل بالقرآن ، فإن الله يتركه متردّدا في ضلاله ، حائرا في سبيله ، بسبب تجاوزه الحدّ في الظّلم والطّغيان والفجور ، ولن يجد لنفسه هاديا أو مرشدا آخر غير الله.

وليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضّلال ، بل المقصود أنهم لما تأصّل الكفر في قلوبهم ، وأسرفوا في طغيانهم ، فقدوا باختيارهم ما يدعوهم إلى الهدى والإيمان ، وأصبحت نفوسهم غير متهيّئة لدعوة الحقّ ، وخلقهم الله على هذا النحو الذي علمه منهم قبل إيجادهم فكانوا هم الضّالين.

فقه الحياة أو الأحكام :

أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أمة الدّعوة المحمّديّة ، وجعلهم كغيرهم من أقوام الأنبياء فريقين : فريق المؤمنين المهتدين ، وفريق الضّالين المكذّبين.

أما المهتدون فوصفهم الله بأنهم يرشدون الناس إلى الحق ، ويقضون بالحق والعدل ، وهذا كما وصف بعض قوم موسى بالوصفين ذاتهما ، وفي ذلك غاية التّجرّد والموضوعيّة والحياد وإنصاف الحقائق.

ودلّت الآية ـ كما ذكر القرطبي ـ على أنّ الله عزوجل لا يخلّي الدّنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحقّ.

وأما المكذّبون بآيات الله وقرآنه وهم أهل مكة : فقد أخبر تعالى أنه سيستدرجهم بإدنائهم وتقريبهم إلى ما يهلكهم ، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ، عن طريق إمدادهم بالنّعم والخيرات والأرزاق ، كلما أتوا بجرم ، أو أقدموا على ذنب.

وأنه سيطيل لهم المدّة ، ويمهلهم مع إصرارهم على الكفر ، ولا يعاجلهم

١٨٥

بالعقوبة ، وإنما يؤخّر عقوبتهم ، لإعطائهم فرصة للعودة إلى الحقّ ، والاستجابة لدعوة الإيمان ، وتصديق النّبي المصطفى عليه الصّلاة والسّلام. وفي فترة إمهالهم أنذرهم أنهم إن داموا على المعصية والكفر ، فإن كيد الله ، أي تدبيره شديد قوي محكم. قيل : نزلت في المستهزئين من قريش ، قتلهم الله في ليلة واحدة ، بعد أن أمهلهم مدة ، كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) [الأنعام ٦ / ٤٤].

وتضمّنت آية (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) دعوة المكذّبين إلى إصدار الأحكام بالاعتماد على العقل والتّفكير والموازنة والنّظر إلى واقع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته ، فهو ليس كما تقوّلت ألسنتهم بمجنون ، وإنما هو داعية حقّ ، ونذير خير ، وناصح أمة ، ومرشد قوم إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم.

ثم دعاهم الله تعالى إلى إعمال فكرهم وتسديد نظرهم في ملكوت السموات والأرض ، وفي المخلوقات والأشياء العديدة ، وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت ، للتّوصّل إلى معرفة الإله الحقّ ، والإيمان بوجود الصانع الحكيم القدير القديم ، الذي لا ندّ له ولا شريك ولا نظير ، ومعرفة كمال قدرته. وإذا لم يؤمنوا بالقرآن ، فبأي قرآن غير ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصدّقون؟! وفي هذا دلالة على أن القرآن هو مصدر الهداية.

وقد استدلّ العلماء بآية (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وأمثالها الكثيرة في القرآن الكريم (١) ، على وجوب النظر في آيات الله ، والاعتبار بمخلوقاته. وقد ذمّ الله تعالى من لم ينظر ، وسلبهم الانتفاع بحواسهم ، فقال : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ...) الآية [الأعراف ٧ / ١٧٩] ، قال الجصاص : في

__________________

(١) نحو قوله تعالى : قُلِ : انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وقوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها)، وقوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) ، وقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

١٨٦

قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) حثّ على النّظر والاستدلال والتّفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره ، فإنه يدلّ عليه وعلى حكمته وجوده وعدله (١). وذلك يدلّ على أنّ التّقليد في العقائد غير جائز ، ولا بدّ من النّظر والاستدلال.

واتّجه أكثر العلماء إلى أن النّظر والاستدلال أوّل الواجبات على الإنسان. وذهب بعضهم إلى أنّ أوّل الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به ، والإيمان : هو التّصديق الحاصل في القلب ، الذي ليس من شرط صحته المعرفة ، ثم النظر والاستدلال المؤدّيان إلى معرفة الله تعالى ، فيتقدّم وجوب الإيمان بالله تعالى على المعرفة بالله. وقالوا ـ ومنهم القرطبي (٢) ـ : هذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق ؛ لأن أكثرهم ومنهم العامة والمقلّدون لا يعرفون حقيقة المعرفة والنّظر والاستدلال. ولأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستّة عن أبي هريرة قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها ، وحسابهم على الله».

ومن الطّريف أن العلماء قالوا : لا يكون النّظر والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنّسوان ، فذلك متابعة الهوى ، ومخادعة العقل ، ومخالفة العلم ، ولم يحلّ الله النّظر إلا على صورة لا ميل للنّفس إليها ، ولا حظّ للهوى فيها.

وإنما النظر يكون في المخلوقات والجمادات ، أما المخلوقات فكثيرة ، ينظر في السموات كيف بنيت وزيّنت من غير شقوق ، ورفعت بغير عمد ، وفي الأرض كيف وضعت فراشا ، ووطئت مهادا ، وفي أصناف المخلوقات والحيوانات في البر والبحر ، وفي البحار التي هي أعظم المخلوقات عبرة. وأما الجمادات فينظر في أصنافها واختلاف أنواعها وأجناسها.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ٣٦.

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٣١ ـ ٣٣٣.

١٨٧

وهل التّفكّر أفضل أو الصّلاة؟

يرى الصّوفيّة : أنّ الفكرة أفضل ، فإنها تثمر المعرفة ، وهي أفضل المقامات الشّرعيّة.

ويرى الفقهاء : أن الصّلاة والذّكر أفضل ، لما روي في ذلك من الحثّ والدّعاء إليها ، والتّرغيب فيها.

وتوسّط ابن العربي ، فرأى أن التّفكر أفضل للعالم المفكّر القوي النّظر ، القادر على الاستدلال ، وأما غيره فالأعمال أقوى لنفسه ، وأثبت لشأنه (١).

ودلّ قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ...) على أن الهدى والضّلال من الله ، بمعنى أن الله هو الخالق لأفعال العباد ، سواء في حال الخير أو في حال الشّر ، وأنه جعل القرآن أعظم أسباب الهداية للمتّقين ، لا للجاحدين المعاندين. وفي ذلك ردّ على القدريّة الذين يقولون : إن الإنسان يخلق أفعال نفسه ، والمعاصي لا يريدها الله. وهي ردّ أيضا على المعتزلة أيضا الذين يقولون : إنّ العبد خالق لأفعاله ، ولكنهم نزّهوا الله عن العجز ، فقالوا : إن هذا بقدرة أودعه الله إياها وخلقها.

ولا إجبار من الله على الضّلال ، وإنما نسب الضّلال إلى الله في الآية من قبيل النّسبة إلى النّظام الذي وضعه والسّنّة التي قضى بها في خلق الإنسان ، وربط أعماله بأسباب تترتّب عليها مسبباتها ، فإذا اختار العبد الضّلالة ، فلن يجد غير الله هاديا له ، ولا يهديه أحد سوى الله. ومن سنّته تعالى أنه يترك هؤلاء الضّالّين يتردّدون حيرة في متاهات ضلالهم ، ولا يجدون سبيلا للخروج مما هم فيه. فكما أن من اختار أصل الهداية يزيده الله هدى ويوفّقه لمتابعة طريق الهدى ، ويمكّنه

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٨٠٧.

١٨٨

من الوصول إلى هدفه ، كذلك من اختار طريق الضّلالة ، يتركه الله في ضلاله ، ويزيده ضلالا ، ويحجب عنه النّور الذي يؤدّي به إلى الخير ، ويلقي على قلبه حجابا كثيفا يمنع نفاذ الخير إليه ، فلا يهتدي إلى الحقّ والخير أبدا ، كما قال : (كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين ٨٣ / ١٤].

علم السّاعة عند الله

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧))

الإعراب :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) : الكاف في الفعل في موضع نصب ؛ لأنه المفعول الأوّل. و (عَنِ السَّاعَةِ) : في موضع المفعول الثاني. و (أَيَّانَ مُرْساها) مبتدأ وخبر ، (مُرْساها) مبتدأ ، و (أَيَّانَ) خبره ، وهو ظرف مبني بمعنى متى ؛ لأنه تضمّن معنى حرف الاستفهام ، وبني على حركة لالتقاء الساكنين ، وكان الفتح أولى ؛ لأنه أخفّ الحركات ، وموضع الجملة من المبتدأ والخبر : نصب ؛ لأنه يتعلق بمدلول السؤال ، والتّقدير : قائلين أيّان مرساها.

(لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً بَغْتَةً) : منصوب على المصدر في موضع الحال.

البلاغة :

(كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) تشبيه مرسل مجمل ، لذكر أداة التّشبيه وهي الكاف ، وحذف وجه الشّبه.

المفردات اللغوية :

(يَسْئَلُونَكَ) أي أهل مكّة. (عَنِ السَّاعَةِ) القيامة ، وهو الوقت الذي ينتهي فيه العالم

١٨٩

ويموت أهل الأرض جميعا عند النفخة الأولى للصوّر. وهذا اصطلاح شرعي ، ويستعمل عادة بأل ، فإذا ذكر بدون «أل» في القرآن فمعناه الساعة الزّمانية ، وهو لغة : جزء قليل غير معيّن من الزّمن. وعند الفلكيين : جزء من أربع وعشرين جزءا متساوية من اليوم.

(أَيَّانَ مُرْساها) متى زمن إرسائها واستقرارها وحصولها ، ومنه : إرساء السّفينة أي إيقافها بالمرساة التي تلقى في البحر ، فتمنعها من الجريان.

(لا يُجَلِّيها) لا يظهرها ولا يكشفها. (لِوَقْتِها) اللام بمعني في ، أي في وقتها ، كما يقال : كتبت هذا لغرّة المحرّم أي في غرّته. (ثَقُلَتْ) عظمت. (بَغْتَةً) فجأة على غفلة ، من غير توقّع ولا انتظار ، كما قال عليه الصّلاة والسّلام فيما ذكر قتادة : «إنّ الساعة تهيج بالناس ، والرّجل يصلح حوضه ، والرّجل يسقي ماشيته ، والرّجل يقيم سلعته في السّوق ، ويخفض ميزانه ويرفعه» (١).

(حَفِيٌّ عَنْها) عالم بها أو مبالغ في السؤال عنها ، من حفي عن الشيء : إذا سأل عنه ، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه ، استحكم علمه به ، ولذلك عدي بعن. والحفيّ : المستقصي في السؤال عن الشيء المعتني بأمره ، قال الأعشى :

فإن تسألي عنّي ، فيا ربّ سائل

حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا

والإحفاء : الاستقصاء ، ومنه : إحفاء الشّارب. وحفي عن الشيء : إذا بحث للتعرّف عن حاله.

سبب النزول :

كانت اليهود تقول للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن كنت نبيّا فأخبرنا عن الساعة متى تقوم؟». وأخرج ابن جرير الطّبري عن قتادة أن المشركين قالوا ذلك ، لفرط الإنكار (٢). وأخرج الطّبري أيضا وغيره عن ابن عباس قال : قال خمل بن قشير وسموءل بن زيد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخبرنا متى الساعة ، إن كنت نبيّا كما تقول ، فإنّا نعلم ما هي ، فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها).

ورجّح ابن كثير أنها نزلت في قريش ؛ لأن الآية مكّية ، وكانوا يسألون عن

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٧١.

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ٣٣٥.

١٩٠

وقت السّاعة ، استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها (١) ، كما قال تعالى : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سبأ ٣٤ / ٢٩] ، وقال تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [الشورى ٤٢ / ١٨].

المناسبة :

لما تكلّم الله تعالى في التّوحيد والنّبوة والقضاء والقدر ، أتبعه بالكلام عن المعاد. وكذلك لما قال تعالى في الآية المتقدّمة عن أجل الإنسان : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) بقصد الحثّ على التوبة والإصلاح ، وهو الساعة الخاصة ، قال بعده : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) للإرشاد إلى النظر والتّفكر في أمر الساعة العامة التي تنتهي بها الدّنيا كلّها ، ويموت بها جميع النّاس ، ولبيان أن وقت السّاعة مكتوم عن الخلق.

التفسير والبيان :

يسألونك يا محمد عن وقت الساعة ، متى يكون؟ ومتى يحصل ويستقرّ؟ كما قال تعالى : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) [الأحزاب ٣٣ / ٦٣]. وفي التعبير بالإرساء الدّال على الاستقرار إشارة إلى أن قيام الساعة إنهاء لحركة العالم ، وانقضاء عمر الأرض.

قل لهم : إن علم الساعة مقصور على الله وحده ، فلا يطّلع عليه أحد من الخلق ، فإنه هو الذي يعلم جلية أمرها ، ومتى يكون على التّحديد ، ولا يظهرها في وقتها المحدود إلا الله ، ولا يعلم بها أحد حتى ولو كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا ، كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها)

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٧١.

١٩١

[فصلت ٤١ / ٤٧] ، وقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ...) [لقمان ٣١ / ٣٤]. فكلّ من الساعة العامة (القيامة) ، والساعة الخاصّة (أجل الإنسان) من الغيبيات التي اختص الله بعلمها ، لتكون فترة الاختبار صحيحة وعامة غير متأثرة بدافع العلم بها أو بقصد النّفعية ، ولا مختصّة بزمن معيّن يطلع عليه الخلق ، ولتبقى رهبتها مهيمنة على النّفوس.

وفي التّعبير بقوله : (عِنْدَ رَبِّي) إشارة إلى أن ما هو شأن الرّب لا يكون للمخلوق ، وأنّ مهمة النّبي الإنذار بوقوعها ، لا بتحديد زمنها ، حتى لا يضطرب شأن العالم ، فلو علمت لاضطرب الناس واختلّ العمران.

لذا قال تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خفي علمها على أهل السّموات والأرض ، ولم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها ، وكلّ ما خفي علمه فهو ثقيل على الفؤاد. وقيل عن الحسن وغيره : كبر مجيئها على أهل السّموات والأرض ، وعظم أمرها ، فهم لا يدرون متى تفاجئهم ، ويتوقعون دائما وقوعها ، ويخافون منها لشدّة وقعها وعظم أهوالها.

وقضى الله أنها لا تأتي إلا بغتة أي فجأة على غفلة ، والناس مشغولون في شأن الدّنيا ومصالحها. وهذا تأكيد لما تقدّم وتقرير لعنصر المفاجأة في إتيانها.

روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشّمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيرا. ولتقومنّ الساعة ، وقد نشر الرّجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومنّ الساعة ، وقد انصرف الرّجل بلبن لقحته (١) فلا يطعمه ، ولتقومنّ

__________________

(١) اللقحة : الشاة الحلوب أو الحامل.

١٩٢

الساعة والرّجل يليط (١) حوضه ، فلا يسقي فيه ، ولتقومنّ الساعة ، والرّجل قد رفع أكلته إلى فيه ، فلا يطعمها».

(يَسْئَلُونَكَ) عن الساعة (كَأَنَّكَ حَفِيٌ) مبالغ في السؤال عنها ، ومهتم بشأن زمنها ، وعالم بها. قل لهم : لست أعلمها ، (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) الذي يعلم الغيب في السّموات والأرض. و (أَيَّانَ) معناه الاستفهام عن زمان المجيء ، بمعنى متى.

وتكرار هذا الجواب : (عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) بعد تكرار السؤال مبالغة في التأكيد ، بل ليس هذا تكريرا ، ولكن أحد العلمين لوقوعها ، وهو الجواب الأول عن سؤالهم عن وقت قيام الساعة ، والآخر لكنهها ، وهو الجواب الثاني عن سؤالهم عن كنه ثقل الساعة وشدّتها ومهابتها. فالسؤال الأوّل عن وقت قيام الساعة ، والثاني عن مقدار شدّتها ومهابتها.

وعبّر هنا بلفظ الجلالة الله إشارة إلى استئثار الله بعلمها لذاته ، كما عبّر هناك بلفظ ربي للتّنبيه على أنّ الساعة من شؤون ربوبيّته.

ونقل عن ابن عباس تفسير (حَفِيٌّ عَنْها) بأنه حفيّ ببرّهم وفرح بسؤالهم ، وكأن بينك وبينهم مودّة ، وكأنك صديق لهم ؛ لأنهم قالوا : بيننا وبينك قرابة ، فأسرّ إلينا بوقت الساعة.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه العالم بها ، وأنه المختصّ بالعلم بها ، وسرّ إخفائها ، أو سبب عدم معرفة الخلق وقتها المعيّن ، وحكمة ذلك ، وإنما يعلم ذلك القليلون ، وهم المؤمنون بالقرآن وبما أخبر به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الشيخان عن عمر رضي‌الله‌عنه حينما سأله جبريل عن الساعة ، فقال : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي أنا وأنت سواء في جهل هذا الأمر. ولكن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عن قرب

__________________

(١) يليط : يطلي حوضه أو حجارته بجصّ ونحوه ليمسك الماء.

١٩٣

وقوع الساعة ، فقد أخرج الترمذي وصححه عن أنس مرفوعا : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وقرن بين أصبعيه : السبابة والتي تليها.

قال الرّازي : السبب في إخفاء الساعة عن العباد : هو أن يكونوا على حذر منها ، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة ، وأزجر عن المعصية (١).

وقال الألوسي : وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التّشريعية ذلك ، فإنه أدعى إلى الطاعة ، وأزجر عن المعصية ، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك(٢).

وهذا هو السّر أيضا في إخفاء ليلة القدر وساعة الإجابة ، لينشط الناس في طلبها والعمل لها في وقت أطول ، وليظلّ الإنسان ملازما حال الاستقامة والدّعاء والعبادة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية على أحكام عديدة مستنبطة من كلّ جملة فيها ، وهي ما يأتي :

١ ـ لا يعلم وقت قيام الساعة ، ولا مقدار شدّتها ومهابتها ، ولا يعرف كنهها وحقيقتها إلا الله عزوجل ، لقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان ٣١ / ٣٤] ، وهي محققة المجيء والحدوث ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) [غافر ٤٠ / ٥٩] ، وقريبة الوقوع ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [طه ٢٠ / ١٥] ، وتقع كلمح البصر أو أقرب ؛ لقوله سبحانه : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل ١٦ / ٧٧].

٢ ـ إنّ يوم السّاعة عظيم الثّقل على القلوب ، بسبب أنّ الخلق يصيرون

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٥ / ٨٠.

(٢) تفسير الألوسي : ٩ / ١٣٤.

١٩٤

بعدها إلى البعث والحساب والسؤال ، ولكون الخوف من الله في ذلك اليوم شديدا على الخلائق.

٣ ـ لا تجيء الساعة إلا بغتة فجأة ، على حين غفلة من الخلق ، روى الحسن البصري عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «والذي نفس محمد بيده لتقومنّ الساعة ، وإنّ الرّجل ليرفع اللقمة إلى فيه ، حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك». وسمّيت القيامة بالسّاعة لوقوعها بغتة ، أو لأن حساب الخلق يقضى فيها في ساعة واحدة ، أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق.

٤ ـ لم يكن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عالما بالسّاعة ولا كثير السؤال عنها.

٥ ـ الحكمة التّشريعية في كون وقت السّاعة مكتوما عن الخلق : هو حمل المكلّفين على المسارعة إلى التوبة ، وأداء الواجبات ، وسداد الحقوق إلى أصحابها.

وللسّاعة أشراط أو علامات ثلاث :

١) ـ ما وقع بالفعل منذ زمان مثل قتال اليهود وفتح بيت المقدس والقسطنطينية.

٢) ـ ما حدث بعضه ويتوالى ظهوره مثل كثرة الفتن ، وكثرة الدّجالين ، وكثرة الزّنا ، وكثرة النّساء وتشبههن بالرّجال ، والمجاهرة بالكفر والإلحاد والشرك.

٣) ـ ما سيقع قبيل قيام الساعة من علامات صغرى وكبري ، مثل أن تلد الأمة ربّتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشّاء يتطاولون في البنيان ، ومثل طلوع الشّمس من مغربها.

١٩٥

الأمور كلّها بيد الله وحده وعلم الغيب مختصّ بالله تعالى

وحقيقة الرّسالة

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

المفردات اللغوية :

(الْغَيْبَ) هو ما غاب عنّا ، وهو إما حقيقي : لا يعلمه أحد إلا الله ، وإما إضافي نسبي يعلمه بعض الخلق بتعليم الله كالأنبياء والرّسل. (الْخَيْرِ) ما يرغب الناس فيه عادة من المنافع المادية كالمال ، والمعنوية كالعلم. (السُّوءُ) ما يرغب عنه الناس لضرره كالفقر وغيره. (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنا إلا منذر بالنّار للكافرين ، والإنذار : التّبليغ المقترن بالتّخويف من العقاب على الكفر والمعاصي. والتّبشير : التّبليغ المقترن بالتّرغيب في الثّواب مع الإيمان والعمل الصالح. والبشير : المبشر بالجنّة للمؤمنين.

سبب النزول :

روي أن أهل مكة قالوا : يا محمد ، ألا يخبرك ربّك بالرّخص والغلاء حتى نشتري فنربح ، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى عن أنّ وقت الساعة (القيامة) لا يعلمه إلا الله وحده ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبيّن للناس أنّ كلّ الأمور بيده تعالى وحده ، وأنّ علم الغيب كله عنده ، وأنه لا يدّعي علم الغيب ، (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ) وبشير ، كما قال تعالى في سورة يونس : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ :

١٩٦

لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً ، إِلَّا ما شاءَ اللهُ ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [١٠ / ٤٨ ـ ٤٩].

التفسير والبيان :

أمر الله تعالى رسوله أن يفوّض الأمور إليه ، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل ، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه ، كما قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ...) [الجنّ ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

قل أيها الرّسول للناس : إنّي لا أملك لنفسي ولا لغيري جلب أي نفع ، ولا أستطيع دفع ضرر عنّي ولا عن غيري ، إلا بمشيئة الله وقدرته ، فيلهمني إيّاه ويوفّقني له.

وهذا يدلّ على إظهار العبودية ، والتّبرّي من ادّعاء العلم بالغيوب ، ومنصب الرّسالة لا يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب ، فالغيب لله وحده.

وإنما وظيفة الرّسالة تبليغ الوحي المنزل ، والتّعليم والإرشاد ، وفيما عدا ذلك فإنّ الرّسول بشر كسائر الناس : (قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ...) [الكهف ١٨ / ١١٠].

(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) كالمال ونحوه من المنافع ، ولما أصابني السّوء ، أي لاجتنبت ما يكون من الشّرّ قبل أن يكون ، وتوقيت المضارّ قبل أن تقع.

وليس لي مزية عن البشر إلا بتبليغ الوحي عن الله بالإنذار والتّبشير ، فما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة ، نذير من العذاب ، وبشير للمؤمنين بالجنّات ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم ١٩ / ٩٧].

١٩٧

وكوني المنذر والمبشر للمؤمنين : لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والتّبشير.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه آية من أصول العقيدة والدّين ، بيّنت حقيقة الرّسالة ، وميّزتها عن الرّبوبية ، وهدمت قواعد الشّرك والوثنية.

فما الرّسول إلا بشر مبلّغ عن الله ما يوحيه إليه ، وهو قدوة صالحة للنّاس في العمل بما جاء به من عند الله ، وليس له شيء من صفات الله وأفعاله ، ولا سلطان له بالتأثير في الأشياء ، لا نفعا ولا ضرّا ، ولا خيرا ولا شرّا ، ولا إيمانا ولا كفرا.

وبما أنّ الإيمان نفع والكفر ضرّ ، فإنهما لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه ، فهو الخالق للإيمان والكفر ، والمريد لهما ، والعبد هو الموجد ما خلق الله عنده من قدرة إما إلى الإيمان والخير ، وإما إلى الكفر والشّرّ.

وليس أدلّ على الإقناع بعدم علم الرّسول بالغيب من أنه لو كان عالما بالغيب ، لحقّق لنفسه منافع الدّنيا وخيراتها ، من مال ومجد ، وعظمة دولة ، ونصر حربي ، وتفوّق دائم ، وأرباح ومكاسب كثيرة ، ولدفع عن نفسه آفات الدّنيا ومضارّها ، كالفقر والمرض والجرح والهزيمة ونحوها من ألوان السّوء والشّرّ ، ولحذر من مكر الأعداء ومكائدهم ، ولاستطاع التّمييز بين من تؤثر فيه الدّعوة إلى الدّين الحقّ ومن لا تؤثّر فيه.

١٩٨

التذكير بالنشأة الأولى والأمر بالتوحيد واتباع القرآن

والنهي عن الشرك

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣))

الإعراب :

(لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) صالحا صفة المفعول الثاني المحذوف ، وتقديره : ابنا صالحا ، والمفعول الأول : (نا) في الفعل.

(شُرَكاءَ) جمع شريك ، وفيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، أي جعل أولادهما له شركاء. وكذلك (فِيما آتاهُما) أي آتى أولادهما ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله : تسميتهم أولادهم بعبد العزى ، وعبد مناة ، وعبد شمس وما أشبه ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم.

البلاغة :

(فَلَمَّا تَغَشَّاها) التغشي : كناية عن الجماع.

١٩٩

المفردات اللغوية :

(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي من آدم ، أو من جنس واحد (وَجَعَلَ) خلق زوجها حواء (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ليأنس بها ويطمئن إليها ويألفها (تَغَشَّاها) جامعها ، مثل غشيها (حَمَلَتْ) علقت منه (حَمْلاً خَفِيفاً) هو النطفة ، والحمل بفتح الحاء : ما كان في بطن أو على شجرة ، وبالكسر : ما كان على ظهر (فَمَرَّتْ بِهِ) استمرت حاملة له إلى وقت ميلاده (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صار الحمل ثقيلا وقرب وضعها (صالِحاً) أي ولدا أو نسلا صالحا أي سويا سليما في الجسم والفطرة (فَتَعالَى اللهُ) تعاظم وتنزه عن الشريك والولد (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي أهل مكة به من الأصنام. وأجريت الأصنام مجرى العقلاء أولي العلم في قوله : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى : يشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله وهم يخلقون.

وجملة (فَتَعالَى ...) عطف على (خَلَقَكُمْ) وما بينهما اعتراض.

المناسبة :

موضوع الآيات عود على بدء ، فقد بدئت السورة بالكلام عن التوحيد واتباع القرآن ، ثم ختمت بالكلام عن التوحيد وعن القرآن ، والتذكير بالنشأة الأولى ، كما ذكّر بها سابقا ، لترسيخ العقيدة بوجود الله ووحدانيته ، والامتناع عن الشرك ، والعهد عن وسوسة الشيطان.

التفسير والبيان :

الله هو الذي خلقكم في الأصل من نفس واحدة ، قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة : آدم عليه‌السلام ، ثم خلق منه زوجته حواء ، ثم انتشر الناس منهما ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) [الحجرات ٤٩ / ١٣] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء ٤ / ١].

ورأى بعض المفسرين أن المعنى : خلقكم من جنس واحد وطبيعة واحدة ،

٢٠٠