التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

قصة بلعم بن باعوراء وأمثاله الضالين المكذبين

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧))

الإعراب :

(يَلْهَثْ) في الموضعين ، حال ، أي لاهثا ذليلا بكل حال.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) : فاعل (ساءَ) مقدر فيها ، وتقديره : ساء المثل مثلا. و (الْقَوْمُ) : أي مثل القوم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وارتفع بما كان يرتفع به «مثل». وهو يرتفع إما لأنه مبتدأ وما قبله خبره ، وإما لأنه خبر مبتدأ محذوف ، كقولهم : بئس رجلا زيد ، أي هو زيد ، و (مَثَلاً) : منصوب على التمييز.

(وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) إما معطوف على قوله (كَذَّبُوا) فيصير المعنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، وإما كلام منقطع بمعنى : وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب.

البلاغة :

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) تشبيه تمثيلي ، شبه حاله التي هي مثل في السوء كحال أخس الحيوانات ، وهي حالة الكلب في دوام لهثه ، سواء في حالة التعب أو الراحة ، والتشبيه التمثيلي : هو حالة انتزاع الصورة من متعدد.

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) تشبيه مرسل مجمل.

١٦١

المفردات اللغوية :

(وَاتْلُ) اقرأ (نَبَأَ) خبر مهم (فَانْسَلَخَ مِنْها) خرج من الآيات بكفره ، كما تخرج الحية من جلدها ، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل ، الذي دعا على موسى مقابل هدية من اليهود. وعبر بالانسلاخ للدلالة على كمال مباينته للآيات ، بعد أن كان بينهما كمال الاتصال ، كما قال أبو السعود.

(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أدركه ولحقه فصار قرينه (الْغاوِينَ) الراسخين في الغواية والضلالة ، بعد أن كان من المهتدين (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) لو شئنا لرفعناه إلى منازل العلماء ، بأن نوفقه للعمل (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) ركن إلى الدنيا ومال إليها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في دعائه إليها ، فأصبح من الحقيرين (فَمَثَلُهُ) صفته (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) تشد عليه بالطرد والزجر (يَلْهَثْ) للهث : التنفس الشديد مع إخراج اللسان. والقصد : التشبيه في الخسة والحقارة.

(ذلِكَ) المثل (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بعد أخذ الميثاق عليهم وعلى الناس (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) على اليهود (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) أي بئس وقبح ، والمثل : الصفة (يَظْلِمُونَ) بالتكذيب.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أخذ الميثاق على الناس قاطبة ، وإقرارهم بأن الله ربهم ، ضرب المثل للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله ، ومضمون هذا المثل أن العالم بآيات الله غير العامل بها كالحية تنسلخ من جلدها وتتركه على الأرض.

قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم‌الله : نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء.

التفسير والبيان :

واقرأ أيها الرسول على اليهود خبر الذي علمناه آياتنا ، ولكنه لم يعمل بها ، وتركها وراءه ، وتجرد منها إلى الأبد ، فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له ، وتمكن من الوسوسة له ، فأصغى إليه ، فصار من الظالمين الكافرين ، لميله إلى الدنيا واتباع الهوى والشيطان.

١٦٢

وهو عالم من علماء بني إسرائيل ، وقيل : من الكنعانيين ، وروي عن ابن عباس أنه رجل من اليمن ، اسمه بلعم بن باعوراء ، أوتي علم بعض كتب الله ، فانسلخ منها ، وكفر بآيات الله ، ونبذها وراء ظهره.

وذلك أن موسى عليه‌السلام قصد بلده الذي هو فيه ، وغزا أهله وكانوا كفارا ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه‌السلام وقومه ، وكان مجاب الدعوة ، وعنده اسم الله الأعظم ، فامتنع منه ، فما زالوا يطلبونه منه ، حتى دعا عليه ، فاستجيب له ، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه (١). وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل ، وكان مجاب الدعوة ، يقدمونه في الشدائد ، بعثه نبي الله موسى عليه‌السلام إلى ملك مدين ، يدعوه إلى الله ، فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه ، وترك دين موسى عليه‌السلام (٢).

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) بالآيات ، وجعلنا له منزلة عظيمة من منازل العلماء الأبرار ، بأن نوفقه للهداية والعمل بالآيات.

ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها ورغب فيها واهتم بلذائذها ، واتبع هواه ، فلم يوجه همّه إلى نعيم الآخرة ، ولم يهتد بآياتنا ، ولم ترق نفسه إلى سلّم الكمال الروحي ، ولم يحترم نعمة الله عليه باستعمالها في مرضاته.

وأصبح مثله أو صفته في الذلة والحقارة ، والخسة والدناءة كمثل الكلب أو صفته في أخس أحوالها وأذلها ، وهي حال دوام اللهث به ، سواء حمل عليه أي شد عليه وطرد ، أو ترك دون طرد.

وهذه الصفة هي أقبح حالات الكلب وأخسها ، وقد شبّه بها حال عجيبة غريبة ، هي حال ذلك الذي تجرد من معرفة آيات الله تعالى.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ٥٤.

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٦٤.

١٦٣

ذلك المثل الغريب هو مثل هؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات الله ، واستكبروا عنها ، ولم تنفعهم الموعظة ، وهم اليهود بعد ما قرءوا نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوراة ، وبشروا الناس باقتراب مبعثه ، وكانوا يستنصرون أو يستفتحون به ، وجاء القرآن المعجز كاشفا هذه الحقيقة التي أنكرها اليهود بعد بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فاقصص أيها الرسول قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال المكذبين بآياتنا ، لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعم وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته ، بسبب استعماله نعمة الله في تعليمه الاسم الأعظم ـ الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب ـ في غير طاعة ربه ، بل دعا به على حزب الرحمن ، لعلهم يتفكرون فيحذروا أن يكونوا مثله ، فإن الله أعلمهم بصفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته.

ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، أي قبحت أشد القبح صفة المعرضين عن النظر في آيات الله أن شبهوا بالكلاب التي لا هم لها إلا تحصيل أكلة أو شهوة ، وهم بهذا الإعراض كانوا ظالمين لأنفسهم بالتكذيب ، فما ظلمهم الله ، ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى ، وطاعة المولى.

وقد ذكر سوء هذا المثل في السنة ، فقد ثبت في الصحيح وفي الكتب الستة عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه».

فقه الحياة أو الأحكام :

الهدف من هذه القصة ضرب مثل لجميع الكفار ، المعرضين عن الإيمان بالله والرسول بعد ما عرفوا الحق ، فمن آتاه الله العلم والدين ، فمال إلى الدنيا ، و (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) ، كان مشبّها بأخس الحيوانات ، وهو الكلب اللاهث ، حيث واظب على العمل الخسيس والفعل القبيح ، لا لحاجة أو ضرورة.

١٦٤

وشبّه حال كل كافر بحال رجل عرف آيات الله ، ثم تركها وراء ظهره ، وهذا ينطبق على بلعم بن باعوراء أو غيره ممن اتصف بهذه الصفة ، فلم تعين الآية اسم من ضرب به المثل ، وحينئذ لا يهم سواء أكان ذلك مطابقا لبعض الروايات بأنه رجل من بني إسرائيل أم الكنعانيين أم أهل اليمن ، أم من غيرهم.

وتكون الآية تحذيرا للناس عن اتباع أهوائهم ، وركونهم إلى الدنيا وشهواتها ، واتباع الأغراض الدنيئة ، وترك ما أرشدتهم إليه آيات الله من الإيمان بالله وبرسوله وبالآخرة.

والآية واضحة الدلالة على أن المعرض عن آيات الله ، واقع في الضلالة والغواية ، بسبب سوء فعله ، واختياره العمل بما هو قبيح شرعا ومروءة.

وعلى الإنسان الاعتبار بهذه القصة ، والتأمل والتفكر في آيات الله بعين البصيرة والعقل ، لا بالهوى والحقد والعداوة. وفي إيراد هذا المثل والتشبيه بالصورة الواقعية إشارة إلى أن للأمثال تأثيرا قويا في إقناع السامعين ، وأنها أقوى أثرا من إيراد الحجج والبراهين.

وفيها إشارة أيضا إلى أهمية التفكر ، وأنه مبدأ الوصول إلى الحقيقة والعلم والمعرفة الصحيحة ، كما قال تعالى في مناسبات كثيرة في كتابه ، مثل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر ٣٩ / ٤٢] ومثل : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس ١٠ / ٢٤].

وهذه الآية ـ كما قال الرازي ـ من أشد الآيات على أصحاب العلم ، فإن العالم إذا لم يعمل بعمله ، حرم بركة العلم ، وكان بعده عن الله أعظم ، كما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما رواه الديلمي في الفردوس عن علي رضي‌الله‌عنه : «من ازداد علما ، ولم يزدد زهدا ، لم يزدد من الله إلا بعدا» أو كما قال.

١٦٥

أسباب الهداية والضلالة

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))

الإعراب :

(فَهُوَ الْمُهْتَدِي) حمل على اللفظ (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حمل على المعنى ، والقصد من الإفراد في الأول والجمع في الثاني : هو التنبيه على أن المهتدين كواحد ؛ لاتحاد طريقهم ، بخلاف الضالين.

البلاغة :

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) التشبيه هنا مرسل مجمل.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا) خلقنا وأوجدنا (الْجِنِ) مخلوقات خفية لا تدرك بالحواس (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي لا يفهمون بها الحق ، والقلب هنا هو الذي يسمونه أحيانا (الضمير) ويراد به هنا العقل أو الوجدان أي محل الحكم على الأشياء المدركة ، وسبب هذا الاستعمال أن آثار الأحداث من خوف أو سرور تنعكس عليه ، فيحدث الانقباض أو الانشراح. وكثيرا ما يستعمل في القرآن بمعنى دقة الفهم والتعمق في العلم.

(وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) دلائل قدرة الله ، بصر عظة واعتبار (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم الفهم والبصر والاعتبار (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من الأنعام ؛ لأنها تحرص على ما ينفعها ، وتهرب مما يضرها ، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة (الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة.

١٦٦

المناسبة :

بعد أن ضرب الله المثل للمنسلخ من الدين الخارج منه ، ليتعظ أولئك الضالون ، ويتركوا ضلالهم ، ويعودوا إلى الحق ، بيّن أسباب الهدى والضلال ، من استعمال العقل والحواس ، واستخدام هداية الفطرة في سلوك أحد السبيلين : الخير والشر ، كما قال تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠].

التفسير والبيان :

من يوفقه الله للإيمان والخير واتباع الشرع والقرآن باستعمال عقله وحواسه ، فهو المهتدي حقا لا سواه ، ومن يخذله ولا يوفقه ، ولا يهديه إلى الخير واتباع القرآن ، بسبب تعطيل عقله وحواسه في فهم آياته الكونية والشرعية ، فهو الخاسر البعيد عن الهدى ، الذي خسر الدنيا والآخرة.

وبما أن الهداية الإلهية نوع واحد والضلالة أنواع متعددة ، أفرد الله المهتدي ، وجمع الخاسرين ، فقال : (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) ثم قال : (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

ثم أوضح تعالى ما أجمله بالنسبة لأهل الضلالة فقال : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي أن الله تعالى يقسم بأنه خلق أو أوجد خلقا (كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) مستعدين لعمل يستحق دخول جهنم ، وخلق أيضا خلقا آخرين مستعدين لعمل يدخلهم الجنة ، كما قال في بيان مآل الفريقين : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى ٤٢ / ٧] وقال في بيان مصيرهم يوم القيامة : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٥].

وأسباب استحقاق أهل النار دخول جهنم : هي أنهم لا يستعملون عقولهم استعمالا صحيحا للوصول إلى حقيقة الإيمان ، وإدراك لذة السعادة الدنيوية

١٦٧

والأخروية ، وأن الخير فيما أمر الله به ، وأن الشر فيما نهى عنه الله ، وإنما نظرتهم ظاهرية ، كما قال تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم ٣٠ / ٧] فهم بمنزلة من لا يفقه ؛ لأنهم لا ينتفعون بقلوبهم الواعية ، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا.

وهم أيضا لا ينظرون بأعينهم نظر تبصر واعتبار وإمعان في آيات الله الكونية وآياته القرآنية التي ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم.

ولا يسمعون بآذانهم سماع تدبر وإصغاء آيات الله المنزلة على أنبيائه ، ولا يسمعون أخبار التاريخ والأمم الغابرة ، وكيف كان مصيرهم بسبب إعراضهم عن هداية الله وإرشاد الرسل. وليس الغرض من نفي السمع والبصر نفي الإدراكات عن حواسهم ، وإنما المقصود بيان حجبها عن إبصار الهدى وسماع المواعظ.

ونظير ذلك قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ، أَفَلا يَسْمَعُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ، أَفَلا يُبْصِرُونَ) [السجدة ٣٢ / ٢٦ ـ ٢٧].

أولئك الموصوفون بما ذكر من تعطيل عقولهم وحواسهم هم كالأنعام (البقر والإبل والغنم) لا همّ لهم إلا الأكل والشرب والتمتع بلذات الحياة والدنيا ، (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) منها ؛ لأن الأنعام تحرص على ما ينفعها ، وتنفر مما يضرها ، ولا تسرف في أكلها وشربها ، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة ، وهم مسرفون في جميع اللذات ، ولا يهتدون إلى ثواب ، ولا قدرة للحيوانات على تحصيل الفضائل ، وأما الإنسان فأعطي القدرة على تحصيلها.

أولئك هم كاملو الغفلة عن آيات الله وعن استعمال مشاعرهم وعقولهم فيما

١٦٨

خلقت من أجله ، وهو الاستفادة من المسموعات ، والانتفاع من المبصرات ، وهم الأغبياء الجاهلون الذين لا ينظرون إلى المستقبل ، وإنما انصرفوا إلى الحياة الدنيا ، وتركوا الاشتغال بما يؤهلهم للخلود في نعيم الحياة الآخرة. وعلى هذا تكون غفلتهم بمعنى ترك التدبر ، والإعراض عن الجنة والنار.

أما العقلاء الفطنون فهم الذين عملوا للآخرة ، ولم يهملوا ما تتطلبه الدنيا ، كما قال تعالى : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص ٢٨ / ٧٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

يرى المعتزلة أن الهداية والضلالة باختيار الإنسان ، وأما هذه الآية : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) فهي في المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم ، ونظرا لإيغالهم في الكفر وإصرارهم عليه ، وأنه لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار ، جعلهم الله مخلوقين للنار ، فالآية تدل على توغلهم في موجبات النار ، وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها (١).

ويرى أهل السنة أن الآية تدل على أن الهداية من الله ، وأن الضلال من الله تعالى ، فمن هداه الله ، فإنه لا مضل له ، ومن أضله فقد خاب وخسر لا محالة ، فإنه تعالى ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولهذا جاء في حديث ابن مسعود الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم : «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥٨٨.

١٦٩

لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» (١).

قال البيضاوي عن قوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : تصريح بأن الهدى والضلال من الله ، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض (٢).

وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) فيدل في رأي أهل السنة على أن الله تعالى خلق الأفعال أو الأعمال ، فإن أولئك الكفار استعملوا عقولهم وحواسهم في مصالح الدنيا ، ولم يستخدموها في مصالح الدين ، فما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يحقق مصالح الدين ، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين. والمعنى أن الله خلق في المؤمن القدرة على الإيمان ، وخلق في الكافر القدرة على الكفر (٣) ، والعبد وجّه تلك القدرة إما إلى الإيمان وإما إلى الكفر ، ولم يجبره تعالى على اختيار أحد الأمرين ، وإلا لما كان عدلا حسابه وعقابه.

قال ابن كثير في تفسير آية : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي خلقنا وهيأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ، وبعمل أهلها يعملون ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم ، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء».

والخلاصة : يرى المعتزلة أن الإنسان يخلق أفعال نفسه ، وأن الإنسان مخيّر مطلقا ، ويرى أهل السنة والجماعة أن الله تعالى هو الذي يخلق أفعال العبد ، وأن

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٦٧.

(٢) تفسير البيضاوي : ص ٢٢٩.

(٣) تفسير الرازي : ١٥ / ٦٠ ـ ٦٣.

١٧٠

للإنسان تخييرا وكسبا في أمور ما عدا الحياة والموت والعز والذل والرزق ونحوها من الأصول ؛ وذلك لأن الله هو خالق الخلق ومتصف بالعدل ، فيخلق أفعال الإنسان ، ومن الظلم أن يحاسبه على فعل أكره عليه أو قهر عليه ، والهداية من الله لها مفهومان : الدلالة ، والتمكين من الوصول إلى الغاية ، أي أن تعالى أرشد الإنسان ودلّه على طرق الخير : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠] ثم وفقه لهدفه ومكنه من الوصول إليه بهداية أخرى ، فمن سأل شرطيا عن طريق فدله عليه ، فتلك الهداية الأولى ، وإذا ركب معه في سيارته ، وأوصله إلى المكان المطلوب فذلك هو التمكين من الهداية الثانية ، والإنسان هو الذي يوجّه ما خلق الله فيه من قدرات في الخير والشر إلى كل منهما ، وبهذا التوجيه يحاسب وعليه يعاقب.

واستدل العلماء بقوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف ٧ / ١٧٩] على أن محل العلم هو القلب ؛ لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم ، مما يدل على أن محل الفهم والفقه هو القلب.

أسماء الله الحسنى

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))

المفردات اللغوية :

(الْأَسْماءُ) جمع اسم : وهو ما يدل على الذات أو هو كل لفظ جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقا ، فإن كان مشتقا فهو صفة (الْحُسْنى) مؤنث الأحسن (فَادْعُوهُ بِها) سمّوه ونادوه بها للثناء عليه أو لطلب الحاجات منه (وَذَرُوا) اتركوا (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) يميلون عن الحق ، حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم ، كاللات من الله ، والعزى من العزيز ، ومناة : من المنان.

١٧١

صل الإلحاد في كلام العرب : العدول عن القصد ، والميل والجور والانحراف. ومنه اللحد في القبر انحرافه إلى جهة القبلة (سَيُجْزَوْنَ) سيلقون في الآخرة جزاء أعمالهم.

المناسبة :

لما وصف الله تعالى المخلوقين لجهنم بأنهم هم الغافلون ، لتعطيل عقولهم ومشاعرهم في فهم آيات الله وتزكية نفوسهم بالإيمان والعلم النافع ، أمر بعده بذكر لله تعالى ، فهو الدواء لتلك الغفلة ، فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) وهو كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى ، والمخلّص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى.

وقد ذكرت أسماء الله تعالى الحسنى في سور أربعة : أولها : هذه السورة ، وثانيها : في آخر سورة الإسراء (بني إسرائيل) في قوله : (قُلِ : ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء ١٧ / ١١٠] ، وثالثها : في أول طه ، وهو قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [طه ٢٠ / ٨] ، ورابعها : في آخر الحشر ، وهو قوله : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الحشر ٥٩ / ٢٤].

سبب النزول :

روي أن بعض المسلمين دعا الله أو الرحيم في صلاته ، ودعا الرحمن مرة أخرى فقال المشركون : محمد وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا ، فما بال هذا يدعو اثنين ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية ، أي أن هذه الأسماء إله واحد ، وليست بآلهة متعددة.

التفسير والبيان :

لله دون غيره جميع الأسماء المشتملة على أحسن المعاني ، فنادوه بها إما للثناء عليه ، مثل : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة ٢ / ٢٥٥] ومثل : (هُوَ

١٧٢

اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [الحشر ٥٩ / ٢٢] وإما للسؤال وطلب الحاجات.

وأسماء الله الحسنى تسع وتسعون ، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن لله تسعا وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر» ومعنى «أحصاها» عدها وحفظها وتفكر في مدلولها. وقد ذكر الترمذي والحاكم هذه الأسماء من طريق الوليد بن مسلم عن شعيب ، فقال بعد قوله : «يحب الوتر» :

«هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفار ، القهار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البرّ ، التواب ، المنتقم ، العفوّ ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المانع (١) ، الضارّ ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور» (٢).

__________________

(١) وفي رواية : المغني.

(٢) قال الترمذي : هذا حديث غريب ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. والراجح لدى المحدثين أن سرد هذه الأسماء مدرج من الراوي ، كما حقق الحافظ ابن حجر.

١٧٣

والمراد من الأسماء في الآية والحديث : التسميات بلا خلاف ، وهي عبارات عن كون الله تعالى على أوصاف شتى ، منها ما يستحقه لنفسه ، ومنها ما يستحقه لصفة تتعلق به ، ومنها صفات لذاته ، ومنها صفات أفعال.

وهذه الأسماء عند العلماء توقيفية ، فلا يسمى باسم لم يرد في القرآن والسنة كالرفيق والسخي والعاقل.

(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي اتركوا أولئك الذين يلحدون في أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن الحق ، إلى سبل أخرى من تحريف أو تأويل ، أو شرك ، أو تكذيب ، أو زيادة أو نقصان ، أو ما ينافي وصفها بالحسنى.

والإلحاد يكون بثلاثة أوجه :

أحدها ـ بالتغيير فيها كما فعله المشركون ، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه ، فسمّوا بها أوثانهم ، فاشتقوا اللّات من الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من المنان.

الثاني ـ بالزيادة فيها ، أي التشبيه ، فالمشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه.

الثالث ـ بالنقصان منها أي التعطيل ، فالمعطلة سلبوه ما اتصف به ، كما يفعل الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه ، ويذكرونه بغير ما يذكر من أفعاله ، إلى غير ذلك مما لا يليق به.

والسبب في تركهم أنهم سيلقون جزاء عملهم ، ويعاقبون في الدنيا قبل الآخرة.

١٧٤

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى ؛ لأن قوله (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) يفيد الحصر.

٢ ـ أسماء الله ليست إلا لله ، والصفات الحسنى ليست إلا لله ، فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال ، وهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال ، فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه.

والأسماء : ألفاظ دالة على المعاني ، فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها ، ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال ، وهي محصورة في نوعين : عدم افتقاره إلى غيره ، وثبوت افتقار غيره إليه.

وأسماء الله تعالى يجوز إطلاقها كلها على غير الله تعالى ، ما عدا اسمي : الله والرحمن.

وهذه الأسماء منها ما يمكن ذكره وحده ، مثل : يا الله ، يا رحمن ، يا حكيم. ومنها ما لا يجوز إفراده بالذكر ، بل يجب أن يقال : يا محيي يا مميت ، يا ضار يا نافع.

ولا يجوز إطلاق اسم على الله غير وارد في القرآن والسنة ، فهي أسماء توقيفية ، ولا تنحصر في تسع وتسعين ، بدليل ما رواه الإمام أحمد ، وأبو حاتم بن حبان البستي في صحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن ، فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته

١٧٥

أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله حزنه وهمه ، وأبدل مكانه فرجا» فقيل : يا رسول الله ، أفلا نتعلمها؟ فقال : «بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها».

وقد أورد ابن العربي مائة وستة وأربعين اسما من أسماء الله للتضرع والابتهال ، وذكر في موضع آخر زيادة ثلاثين اسما (١). فصار المجموع مائة وستة وسبعين ، مثل الطيّب والمعلّم والجميل : وهو الذي لا يشبهه شيء.

٣ ـ لله أسماء حسنة ، يجب على الإنسان أن يدعو الله بها ، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ، كما تبين ، فيجوز أن يقال : يا جواد ، ولا يجوز أن يقال : يا سخي ، يا عاقل ، يا طبيب ، يا فقيه.

٤ ـ الاسم غير المسمى ؛ لأن أسماء الله كثيرة ، ولا شك أن الله واحد منها ، فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى.

لذا قال جماعة من العلماء : المراد بهذه الأسماء التسميات ؛ لأنه سبحانه واحد ، والأسماء جمع. ذكر ابن عطية في تفسيره أن الأسماء في الآية بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يجوز غيره.

فمعنى قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي التسميات الحسنى التي يدعى بها لا بغيرها. وقيل : ولله الصفات. والاسم هو المسمى ، أو صفة له تتعلق به ، وهو غير التسمية.

٥ ـ سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى ؛ لأنها حسنة في الأسماع والقلوب ؛ فإنها تدل على توحيده وجوده ورحمته وإفضاله.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٧٩٨ ـ ٨٠٥

١٧٦

٦ ـ ليس للإنسان أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى ، وهذه الدعوة تتطلب فهم معاني تلك الأسماء. وقد ذكر ابن العربي في أحكام القرآن (١) وغيره تلك المعاني ، فيطلب بكل اسم ما يليق به ، يقول : يا رحيم ارحمني ، يا حكيم احكم لي ، يا رزاق ارزقني ، يا هادي اهدني. وإن دعا باسم عام قال : يا مالك ارحمني ، يا عزيز احكم لي ، يا لطيف ارزقني ، وإن دعا بالاسم الأعظم قال : يا الله ، فهو متضمن لكل اسم ، قال ابن العربي : وهكذا ، رتّب دعاءك تكن من المخلصين.

٧ ـ يجب تنزيه الله تعالى عن الإلحاد في أسمائه ، وذلك على ثلاثة أوجه :

الأول ـ إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله ، كتسمية الكفار الأوثان آلهة ، وتسمية أصنام لهم باللات والعزى ومناة ، من الإله ، والعزيز ، والمنان. وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن.

والثاني ـ أن يسمى الله بما لا يجوز تسميته به ، مثل تسميته أبا للمسيح ، وقول النصارى : الأب ، والابن ، وروح القدس.

والثالث ـ أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ، ولا يتصور مسماه ، فإنه ربما كان مسماه أمرا غير لائق بجلال الله تعالى.

وقد ختمت الآية بقوله تعالى : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله تعالى.

قالت المعتزلة : الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد ، وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله.

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.

١٧٧

والدعاء مشروع وعبادة ، قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة ٢ / ١٨٦].

ولا يكون الدعاء لغير الله تعالى من أي مخلوق حي أو ميت ، فالله وحده هو الذي يقصد في الدعاء ، فهو الصمد أي الذي لا يقصد في المطالب غيره ، وقال : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) [النمل ٢٧ / ٦٢] أي لا يجيب المضطر إلا هو ، فهو المستحق وحده للعبادة ، المقصود بالدعاء.

وفوائد الأمر بذكر الله في الآية : (فَادْعُوهُ بِها) كثيرة : منها ترسيخ معالم الإيمان وتنميته ، وتحقيق مراقبة الله والخشوع له ، والرغبة فيما عنده ، وتهوين شأن الدنيا ولذاتها ، روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي : «من نزل به غم أو كرب أو أمر مهمّ ، فليقل : لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ، ورب العرش الكريم».

وروى الحاكم في المستدرك عن أنس رضي‌الله‌عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة : «ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت ، وإذا أمسيت : يا حيّ ، يا قيوم برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين».

١٧٨

المهتدون والمكذبون من أمة الدعوة الإسلامية

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

الإعراب :

(وَيَذَرُهُمْ) بالرفع على تقدير مبتدأ ، وتقديره : هو يذرهم. ويقرأ بالجزم بالعطف على موضع الفاء في (فَلا هادِيَ لَهُ) وموضعه الجزم على جواب الشرط ، أي أن الرفع على سبيل الاستئناف ، والجزم عطف على محل ما بعد الفاء.

(وَأَنْ عَسى) أي في أنه عسى ، وأن : مخففة من الثقيلة ، والأصل : وأنه عسى ، على أن الضمير ضمير الشأن ، والمعنى : أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث ، عسى أن يكون أجلهم قرب ، ولعلهم يموتون عما قريب ، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق قبل مفاجأة الموت والعقاب. وقوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) متعلق بقوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ).

المفردات اللغوية :

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ) هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في الحديث المتواتر «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ...». ويهدون : يرشدون الناس إلى الحق والخير (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي وبالحق يحكمون وكما عند الشيخين عن المغيرة بالعدل دون ميل لأحد الجانبين المتخاصمين.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) القرآن ، من أهل مكة (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنأخذهم قليلا قليلا ،

١٧٩

وننزلهم درجة بعد درجة إلى دركات العذاب ، وندنيهم من الهلاك شيئا فشيئا (وَأُمْلِي لَهُمْ) نمهلهم ونؤخرهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي إن تدبيري الخفي شديد قوي لا يطاق.

(ما بِصاحِبِهِمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) جنون (نَذِيرٌ مُبِينٌ) بيّن الإنذار ، والإنذار : التعليم والإرشاد مع التخويف (مَلَكُوتِ) ملك (مِنْ شَيْءٍ) بيان لما ، فيستدلوا به على قدرة صانعه ووحدانيته (قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) قرب أجلهم ، فيموتوا كفارا ، فيصيروا إلى النار ، فيبادروا إلى الإيمان (مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مجموع العالم (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) الحديث : كلام الله ، وهو القرآن ، وبعده : بعد القرآن (وَيَذَرُهُمْ) يتركهم (فِي طُغْيانِهِمْ) الطغيان : تجاوز الحد في الكفر والشر والظلم (يَعْمَهُونَ) يترددون تحيرا.

سبب النزول :

نزول الآية (١٨٤) :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) : أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة بن دعامة قال : ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام على «صفا» فدعا قريشا ، فجعل يدعوهم فخذا فخذا ، يا بني فلان ، يحذرهم بأس الله ووقائعه ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوت (١) إلى الصباح ، أو حتى أصبح ، فأنزل الله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

المناسبة :

أخبر الله تعالى في الآيات السابقة أنه خلق لجهنم كثيرا من الخلق ؛ لأنهم أهملوا طاقات المعرفة لديهم من العقل والحواس ، ثم أرشد إلى ما يصلح الناس ويقوي إيمانهم من الدعاء بأسمائه الحسنى ، ثم ذكر هنا انقسام أمة الدعوة المحمدية فريقين : فريق المهتدين الذين يقضون بالحق والعدل ، وفريق المكذبين الضالين. ولفت النظر إلى وجوب التفكر والنظر في عالم السموات والأرض ، للتوصل إلى فهم الأمور الدالة على وحدانية الله وصدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) وفي رواية : «يهوّت».

١٨٠