التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

هذه القصة في سورة البقرة إجمالا في قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) [٦٥] وأشير إليها في سورة النساء أيضا في الآيتين [٤٧ ، ١٥٤]. وذكرت قبل ذلك هنا في سورة الأعراف التي نزلت بمكة قبل ملاقاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدا من اليهود ، للدلالة على الإعجاز ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رجلا أميا ، لم يتعلم علما ، ولم يطالع كتابا ، فإخباره بالقصة معجز ، ودليل على أن ذلك من إخبار الله وكلامه.

وهناك فائدة أخرى من إيراد القصة : وهو التنبيه على أن الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبمعجزاته ليس شيئا جديدا حادثا في هذا الزمان ، وإنما كان الكفر والإصرار حاصلا في أسلافهم من الزمان القديم.

أضواء من التاريخ على القصة :

روي أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به ، وهو يوم الجمعة ، فتركوه ، واختاروا يوم السبت ، فابتلوا به ، وحرّم عليهم فيه الصيد وأمروا بتعظيمه ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرّعا بيضا سمانا ، كأنها المخاض ، لا يرى الماء من كثرتها ، (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) ، فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم جاءهم إبليس ، فقال لهم : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، فلا تقدر على الخروج منها ، وتأخذونها يوم الأحد. وأخذ رجل منهم حوتا ، وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل ، ثم شواه يوم الأحد ، فوجد جاره ريح السمك ، فتطلع في تنوره ، فقال له : إني أرى الله سيعذبك ، فلما لم يره عذب ، أخذ في السبت القادم حوتين ، فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم ، صادوا وأكلوا ، وملّحوا ، وباعوا ، وكانوا نحوا من سبعين ألفا.

فصار أهل القرية أثلاثا : ثلث نهوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا ، وثلث قالوا : لم تعظون قوما؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة.

١٤١

فلما لما ينتهوا ، قال المسلمون : إنا لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار ، للمسلمين باب ، وللمعتدين باب ، ولعنهم داود عليه‌السلام ، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس شأنا ، فنظروا ، فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ، ودخلوا عليهم ، فعرفت القرود أنسباءهم من الإنس ، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود ، فجعل القرد يأتي نسيبه ، فيشم ثيابه ويبكي ، فيقول : ألم ننهك؟ فيقول برأسه : بلى. وقيل : صار الشباب قردة والشيوخ خنازير.

وعن الحسن البصري : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها ، أثقلها خزيا في الدنيا ، وأطولها عذابا في الآخرة ، هاه ، وايم الله ، ما حوت أخذه قوم فأكلوه ، أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ، ولكن الله جعل موعدا ، (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)(١).

التفسير والبيان :

واسأل يا محمد يهود عصرك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة ، والسؤال للتوبيخ والتقريع ، وبيان أن كفر المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس جديدا ، بل هو موروث ، فإن أسلافهم ارتكبوا الذنب العظيم ، وخالفوا أوامر الله تعالى.

وحذرهم من مخالفتك لئلا يحل بهم ما حل بسلفهم.

اسألهم عن أهل المدينة التي كانت قريبة من البحر على شاطئه ، وهي أيلة على شاطئ البحر الأحمر ، بين مدين والطور ، حين اعتدوا حدود الله ، وتجاوزوها يوم السبت الذي يعظمونه ، بترك العمل فيه ، وتخصيصه للعبادة ،

__________________

(١) انظر القصة في الكشاف : ٢ / ٥٨٤ ـ ٥٨٥.

١٤٢

فخالفوا أمر الله فيه بالوصية لهم به إذ ذاك ، واصطادوا السمك فيه ، وقد نهوا عنه.

فكان السمك يأتيهم كثيرا على سطح الماء يوم تعظيم السبت ، ولا يحتاج صيده إلى عناء.

ويوم لا يسبتون ، في سائر الأيام غير السبت ، تختفي الأسماك ولا تظهر ، ولا تأتيهم كما كانت تأتيهم يوم السبت.

فاحتالوا على صيدها بإقامة الأحواض حيث يأتي المد بالسمك ثم إذا انحسر الماء بالجزر ، تبقى الأسماك في الأحواض ، فيأخذونها يوم الأحد.

مثل ذلك البلاء بظهور السمك يوم السبت المحرم عليهم صيده ، وإخفائه عنهم في الأيام التي يحل لهم صيده ، نبلو أي نختبر السابقين والمعاصرين ، ونعاملهم معاملة من يختبر حالهم ، ليجازى كل واحد على عمله ، بسبب فسقهم المستمر وخروجهم عن طاعة الله ؛ لأن من سنة الله أن من أطاعه ، سهل له أمور الدنيا ، وأثابه في الآخرة ، ومن عصاه ، ابتلاه بأنواع المحن والمصائب.

وحين ظهور المعصية فيهم ، انقسم أهل تلك القرية فرقا ثلاثا ، هي فرقة المؤيدين ، وفرقة المعارضين الواعظين ، وفرقة المحايدين الذين لم يجدوا فائدة من الوعظ ولاموا الواعظين قائلين لهم : لم تعظون قوما قد قضى الله بإهلاكهم وإفنائهم ، وقد علمتم أن الله سيهلكهم ويعاقبهم في الدنيا والآخرة.

فأجابهم الواعظون : نعظهم لنبرئ أنفسنا من السكوت عن المنكر ، ونعتذر إلى ربكم بأننا أدينا واجبنا في الإنكار عليهم ، ونحن لا نيأس من صلاحهم وعودتهم إلى الحق ، ولعلهم بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ، ويرجعون إلى الله تائبين ، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.

١٤٣

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة ، أنجينا الناهين عن السوء وهم فريق الواعظين وفريق اللائمين ، إلا أن الفريق الأول كانوا أحزم وأقوى ؛ لأنهم أنكروا بالقول والفعل ، لذا صرح القرآن بنجاة الناهين ، والفريق الثاني أنكر بالقلب فقط ، لذا سكت القرآن عن الساكتين ، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ، ولا ارتكبوا ذنبا ، فيذموا.

وعذبنا الظالمين الذين ارتكبوا المعصية بعذاب شديد.

وذلك العذاب أنهم لما عتوا أي تمردوا وتكبروا عن ترك ما نهوا عنه ، وأبوا سماع نصيحة الواعظين ، جعلهم الله قردة صاغرين أذلاء منبوذين مبعدين عن الناس. هذا عذاب الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

والظاهر وهو رأي الجمهور أنهم مسخوا قردة على الحقيقة ؛ لمخالفتهم الأوامر وتماديهم في العصيان ، لا لمجرد اصطياد الحيتان. وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم؟ لا دلالة في الآية عليه.

وقال مجاهد : أصبحوا كالقردة في سوء الطباع والطيش والشر والإفساد ، بسبب جناياتهم.

والراجح رأي العلماء الذين قالوا : إن الساكتين كانوا من الناجين ؛ لرجوع ابن عباس إلى رأي عكرمة في نجاة الساكتين ، وقد رجح ابن كثير هذا الاتجاه ، قائلا : وهذا أولى من القول بأنهم من الهالكين ؛ لأنه تبين حالهم بعد ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات في هذه القصة على ما يأتي :

١ ـ الإخبار بالقصة علامة لصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم. وكانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ٥ / ١٨] ؛ لأنا

١٤٤

من سبط خليله إبراهيم ، ومن سبط إسرائيل ، ومن سبط موسى كليم الله ، ومن سبط ولده عزيز ، فنحن من أولادهم ، فقال الله عزوجل لنبيه : سلهم يا محمد عن هذه القرية : أما عذبتهم بذنوبهم؟

٢ ـ إبطال الحيل الممنوعة المؤدية لتعطيل شرع الله ، وهدم مبادئه ، وتجاوز أحكامه ، ومخالفة أوامره.

٣ ـ القول بسدّ الذرائع ، أي تحريم كل وسيلة تؤدي إلى الممنوع أو المحظور شرعا ، فما أدى إلى الحرام فهو حرام.

٤ ـ إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واعتزال أهل الفساد ومجانبتهم ، وأن من جالسهم ، كان مثلهم.

٥ ـ دل قوله : (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) على أن من أطاع الله تعالى ، خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن. وهذا يعني أن المعاصي سبب النقمة.

٦ ـ واحتج أهل السنة بالآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح ، لا في الدين ولا في الدنيا ؛ لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ، ربما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح ، لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم ، صونا لهم عن ذلك الكفر والمعصية.

٧ ـ الفرقة التي عصت أوامر الله ، وتمادت في معصية الله ، كانت هالكة ، والفرقة التي أنكرت العصيان ووعظت العصاة ، كانت ناجية. وأما الفرقة الساكتة فكانت على الراجح من الناجين ، لإنكارها بالقلب ، ويأسها من الإصلاح.

١٤٥

٨ ـ قد لا يأتي العذاب الشديد فجأة ، وإنما بالتدريج ، فقد عاقب الله بني إسرائيل أولا بتنكيل البابليين ، ثم النصارى بهم ، وسلبوا ملكهم. ومن ألوان عذاب الدنيا : المسخ قردة وخنازير بسبب التمادي في العصيان ، ثم يأتي عذاب الآخرة.

رفع الجبل فوق اليهود وإذلالهم إلى يوم القيامة وتفريقهم في

الأرض واستثناء الصالحين

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١))

١٤٦

الإعراب :

(وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) دون : صفة لموصوف محذوف ، وتقديره : ومنهم جماعة دون ذلك ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، وهو منصوب على الظرف. (أُمَماً) مفعول ثان أو حال (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) صفة أو بدل منه.

(وَرِثُوا الْكِتابَ) : جملة فعلية في موضع رفع ؛ لأنها صفة (فَخَلَفَ).

(يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو (وَرِثُوا).

(وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) الجملة حال من (وَيَقُولُونَ ..).

(وَيَقُولُونَ : سَيُغْفَرُ لَنا) معطوف على (يَأْخُذُونَ).

(وَدَرَسُوا) معطوف على (وَرِثُوا الْكِتابَ).

(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) اعتراض وقع بين : ورثوا ودرسوا. (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) عطف بيان لميثاق الكتاب.

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) في موضع رفع لأنه مبتدأ ، وخبره : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) وتقديره : إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم ، ليعود من الخبر إلى المبتدأ عائد. ويجوز أن يكون ذكر (الْمُصْلِحِينَ) من قبيل وضع المظهر موضع المضمر أي أجرهم ، تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع.

(وَإِذْ نَتَقْنَا) وإذ : في موضع نصب بتقدير فعل ، وتقديره : واذكر إذ نتقنا.

(كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) في موضع نصب على الحال من (الْجَبَلَ). وقيل : في موضع رفع بتقدير مبتدأ محذوف.

البلاغة :

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) التفات من الغيبة إلى الخطاب ، لزيادة لتوبيخ.

المفردات اللغوية :

(تَأَذَّنَ) مثل أذّن : أي أعلم ونادى للإعلام (لَيَبْعَثَنَ) ليسلطن (عَلَيْهِمْ) أي على اليهود (يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) يذيقهم سوء العذاب بالذل وأخذ الجزية ، فبعث عليهم سليمان ، وبعده البابليين المجوس بقيادة بختنصر ، فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية ، ثم النصارى ، ثم

١٤٧

المسلمين ، ثم الألمان في العصر الحديث (لَسَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) لأهل طاعته (رَحِيمٌ) بهم.

(وَقَطَّعْناهُمْ) فرقناهم (فِي الْأَرْضِ أُمَماً) أي جماعات وفرقا (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي ناس منحطون عنهم وهم الكفار والفساق (وَبَلَوْناهُمْ) اختبرناهم (بِالْحَسَناتِ) بالنّعم (وَالسَّيِّئاتِ) النقم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن فسقهم. (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) بسكون اللام : من يخلف غيره في الشر ، ومنه قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ ...) [مريم ١٩ / ٥٩] وبفتح اللام : من يخلف غيره بالخير ، والخلف : مصدر نعت به ، ولذلك يقع على الواحد والجمع ، وقيل : جمع (وَرِثُوا الْكِتابَ) التوراة عن آبائهم (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) العرض : متاع الدنيا وحطامها ، والأدنى : الشيء الدني وهو الدنيا ، والمراد يأخذون المال أو هذا الشيء الدنيء من حلال وحرام.

(وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) الجملة حال ، أي يرجون المغفرة ، وهم عائدون إلى ما فعلوه ، مصرون عليه ، وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار ، وإنما غفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة ، والمصرّ لا غفران له.

(أَلَمْ يُؤْخَذْ) استفهام تقرير (مِيثاقُ الْكِتابِ) الإضافة بمعنى في ، وهو قوله في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما ، فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة. (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) عطف على : (يُؤْخَذْ) أي قرءوه وفهموه ، فهم عارفون الحكم ذاكرون له. فلم كذبوا عليه بنسبة المغفرة مع الإصرار (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الحرام. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أو بالياء : أنها خير ، فتؤثروها على الدنيا. (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ) بالتشديد والتخفيف أي يتمسكون به ويعملون (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه.

(وَإِذْ نَتَقْنَا) واذكر إذ رفعنا الجبل من أصله (ظُلَّةٌ) أي مظلة وهي كل ما أظلك من سقف أو سماء أو جناح طائر (وَظَنُّوا) أيقنوا (أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) ساقط عليهم ، بإنذار الله لهم بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة ، وكانوا أبوها لثقلها ، فقبلوا. (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أي قلنا لهم : خذوا ما آتيناكم بجد واجتهاد. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) بالعمل به.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى بعض قبائح اليهود وعقابهم عليها بالمسخ قردة ، ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة ، عقابا على

١٤٨

أفعالهم ، ثم ذكر أنه فرقهم جماعات مشردين في الأرض ، وأن خلفهم جماعة ماديون تهمهم الدنيا فقط ، وأن أسلافهم قبلوا الأخذ بالتوراة بعد إنذارهم بإسقاط الجبل عليهم. وهذا كله للعبرة ، فكل أمة تفسق عن أمر الله وتخالف أحكام الدين مهددة بمثل هذا العقاب.

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد حين أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه قضى عليهم في علمه وأوجب على نفسه ، ليسلطنّ عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم العقاب الشديد ، ويلحق بهم الذل والصغار ، ويفرض عليهم الجزية ، ويبدد ملكهم ، ويفرق شملهم ، حتى يصبحوا أذلة مشردين.

(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) لمن عصاه وخالف شرعه ، وإنه لغفور لمن تاب إليه وأناب ، ورحيم بأهل الطاعة والإنابة.

وقد تحقق مدلول الآية ، فكان موسى عليه‌السلام أول من فرض الخراج عليهم ، وألزمهم به ، ثم قهرهم اليونانيون والكشدانيون والكلدانيون والبابليون ، ثم الروم النصارى ، أخذوا منهم الجزية والخراج ، ثم المسلمون الذين أخذوا منهم الجزية والخراج ، ثم الألمان بقيادة هتلر في العصر الحديث ، الذي قتلهم وشردهم في البلاد.

والآية بمعنى قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) إلى أن قال : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء ١٧ / ٤ ـ ٨] أي وإن عدتم إلى الإفساد بعد المرة الآخرة ، عدنا إلى التعذيب والإذلال.

وأما وجود اليهود في فلسطين الآن فهو أمر عارض مؤقت زائل بإذن الله ، لثقتنا بوعد الله وكلامه.

١٤٩

هذا هو العقاب الأول على معاصي اليهود المتكررة وتمردهم على أحكام الله ، وهو تسليط الأمم عليهم لإذلالهم وتعذيبهم.

والعقاب الثاني : هو تفريقهم وتمزيقهم جماعات وطوائف وفرقا في أنحاء الأرض ، فلا يخلو منهم قطر من الأقطار ، فيهم الصالح وغير ذلك.

فمنهم الصالحون المحسنون الذين يؤمنون بالأنبياء بعد موسى ، ويؤمنون بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويؤثرون الآخرة على الدنيا ، مثل أولئك الذين نهوا عن الاعتداء في السبت ، ومثل عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا.

ومنهم من هو دون غيره في الصلاح ، ومنهم الفسقة الفجرة الكفرة الذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسّحت كالرشا والربا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل الله. وفي الجملة : معنى (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي منحطون عن الصلاح ، وهم كفرتهم وفسقتهم.

والله يعامل الفريقين كما يعامل غيرهم ، فيختبرهم بالحسنات أي بالنعم وبالسيئات أي بالنقم ، لعلهم يرجعون عن ذنبهم ، ويشكروا النعمة ، ويصبروا على النقمة.

ثم ظهر من الصالحين ومن دونهم خلف ورثوا التوراة عن أسلافهم ، أي تلقفوا ما فيها من الأحكام وقرءوها واطلعوا على ما فيها. وهم الذين كانوا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنهم هجروها وآثروا الدنيا ومتاعها وزينتها وتفانوا في جمع حطامها ، لا يبالون ، حلالا كان أو حراما أي من غير طريق شرعي ، كالسحت والرشوة والمحاباة في الحكم والاتجار في الدين وتحريف الكلم عن مواضعه ، وزعموا أن الله سيغفر لهم ولا يؤاخذهم على أفعالهم وسيئاتهم ، قائلين : إننا أبناء الله وأحباؤه ، وسلائل أنبيائه ، وهم مقيمون على المعاصي ، مصرون على الذنوب ، لا يتورعون عن ضم الحرام إلى غيره ، فإن يأتهم عرض آخر من عروض الدنيا مثل

١٥٠

الذي أخذوه أولا بالباطل ، يأخذوه بلهف دون تعفف ، وهم يعلمون أن وعد الله بالمغفرة مخصوص بالتائبين الذين يقلعون عن ذنوبهم.

فرد الله تعالى عليهم بقوله : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ ...) أي أن الله تعالى ينكر عليهم صنيعهم هذا ؛ لأنه قد أخذ عليهم العهد والميثاق ألا يقولوا على الله غير الحق ، فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي يصرون عليها ولا يتوبون منها ، وهذا هو المذكور في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة ، ومن جملة الميثاق أن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه ، وألا يحرفوا الكلم ولا يغيروا الشرائع لأجل أخذ الرشوة ، وهم قد درسوا الكتاب (التوراة) وفهموا ما فيه ، من تحريم أكل مال الغير بالباطل والكذب على الله.

ثم رغبهم الله في جزيل ثوابه ، وحذرهم من وبيل عقابه ، فقال :

ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها من نعيم خالد خير للذين يتقون المعاصي ومحارم الله ، ويتركون هوى نفوسهم ، ويقبلون على طاعة ربهم ، إنها خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بطريق الحرام كالرّشا والسحت وغير ذلك ، أفلا تعقلون؟ أي أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي من ثواب عقل يردعهم عماهم فيه من السفه والتبذير؟!

والخلاصة : أن الدار الآخرة خير من ذلك العرض الخسيس.

وفي هذا إيماء إلى أن الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد بني إسرائيل ، وفي هذا عبرة للمسلمين الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.

ثم أثنى الله تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو مكتوب فيه ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ ...) أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب الإلهي ، ويعتصمون به ، ويقتدون بمنهجه ، ويتركون زواجره ، وأقاموا الصلاة ، وخصها بالذكر مع أن الكتاب يشتمل على كل عبادة ،

١٥١

ومنها إقامة الصلاة ؛ إظهارا لعلو مرتبتها ، وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان ، وأنها عماد الدين ، والفارقة بين الكفر والإيمان.

(إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي لا نضيع أجرهم ؛ لأن المصلحين في معنى (الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف ١٨ / ٣٠].

وبعد أن بيّن الله تعالى مخالفة بني إسرائيل لأحكام دينهم ذكّر ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم ، فقال : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ ...) أي واذكر أيها النبي إذ رفعنا فوقهم جبل الطور لقوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) [البقرة ٢ / ٦٣ ـ ٩٣] (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) [النساء ٤ / ١٥٤] ، وأصبح كأنه سقيفة ، لما أبوا أن يقبلوا التوراة لثقلها ، وعلموا وأيقنوا أنه ساقط عليهم ؛ لأن الجبل لا يثبت في الجو ، ولأنهم كانوا يوعدون به ، وقلنا لهم : خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بجد واجتهاد ، وحزم وعزم على احتمال المشاق والتكاليف.

واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي ، ولا تنسوه ، أو : واذكروا ما فيه من الإعداد للثواب والعقاب ، فترغبوا في الثواب العظيم ، وترهبوا من العقاب الشديد ، رجاء أن تتحقق التقوى في قلوبكم ، فتصبح أعمالكم متفقة مع الدين ، وفي ذلك الفلاح لكم ، أو لتتقوا ما أنتم عليه ، فإن قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذيب الأخلاق ، كما أن التهاون في احترام الدين يغري النفوس على اتباع الشهوات ، كما قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٩١ / ٩ ـ ١٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات واردة في حق اليهود الذين بقوا على الكفر واليهودية ، فأما الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخارجون عن هذا الحكم.

١٥٢

وقد دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ إعلام اليهود الأسلاف ومن باب أولى الخلف أنهم إن غيروا نصوص التوراة ، ولم يؤمنوا بالنبي الأمي ، بعث الله عليهم من يعذبهم إلى يوم القيامة.

وهذا تنصيص على أن ذلك العذاب مستمر إلى يوم القيامة ، وهو يقتضي أن العذاب إنما يحصل في الدنيا. وللعذاب ألوان ومظاهر ، فهو إما أخذ الجزية ، وإما الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) [آل عمران ٣ / ١١٢] وإما الإخراج والإبعاد من الوطن. وقد أذاقهم العذاب أمم كثيرة في الماضي من عهد بختنصّر ، إلى العهد الإسلامي ، وإلى العصر الحديث. وأما دولة إسرائيل فلا يحسد موقفها فهي تبع لإمريكا والغرب ، وتعيش في قلق واضطراب ومخاوف ، فلا تنعم بالأمن والاستقرار ، ولا تهدأ ساحتها ، لا في الداخل ولا في الخارج ، وزوالها محقق مع الزمن ، كما يثبت أهل العلم ، فإن مرور الزمان ليس في صالحهم إطلاقا.

٢ ـ اليهود أمة مشتتة ممزقة مفرقة في أنحاء الأرض ، لا يخلو منهم قطر ، منهم الصلحاء ومنهم الكفرة الفسقة الفجرة ، وقد اختبرهم الله بأنواع عديدة من الاختبارات ، أو عاملهم معاملة المختبر ، فأمدهم بالحسنات أي بالخصب والعافية ، والسيئات ، أي الجدب والشدائد ، ليرجعوا عن كفرهم ويتوبوا من فسقهم. قال أهل المعاني : وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة ، أما النعم فلأجل الترغيب ، وأما النقم فلأجل الترهيب.

٣ ـ أولاد الذين فرّقهم الله في الأرض ، ورثوا التوراة كتاب الله ، فقرءوه وعلموه ، وكانوا خلف سوء ، خالفوا أحكامه وارتكبوا محارمه ، مع دراستهم له ، فاستحقوا التوبيخ والتقريع من الله تعالى.

ومن قبائحهم : ماديتهم الطاغية ، وربما هم الذين علّموا أوربا وأمريكا

١٥٣

النزعة المادية الشديدة ، فهم كانوا يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا من حلال أو حرام ، لشدة حرصهم ونهمهم : (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) ويزعمون أنه سيغفر لهم مع بقائهم على المعاصي ، بل إنهم لا يتوبون ، وقد ذمهم الله على اغترارهم بقولهم : (سَيُغْفَرُ لَنا) مع أنهم مصرون على الذنوب.

وإن جاءتهم عروض أخرى دنيوية وهي الرّشا والمكاسب الخبيثة ، أخذوها أيضا. وفي هذا دلالة على أن الطمع في الدنيا هو سبب فساد اليهود. قال الحسن البصري : هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا ، وأنهم لا يستمتعون منها (١).

وقال القرطبي : وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به هؤلاء موجود فينا ، أسند الدارمي أبو محمد عن معاذ بن جبل قال : «سيبلى القرآن في صدور أقوام كما سيبلى الثوب فيتهافت ، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة ، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف ، إن قصّروا قالوا : سنبلغ ، وإن أساؤوا قالوا : سيغفر لنا ، إنا لا نشرك بالله شيئا» (٢).

٤ ـ أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل في التوراة وفي جميع الشرائع على اتباع قول الحق في الشرع والأحكام ، وألا يميل الحكام بالرّشا إلى الباطل. وهذا عهد أيضا على المسلمين في كتاب ربنا وسنة نبينا.

ثم خالف اليهود الميثاق ، مع أنهم قرءوا التوراة ، وهم قريبو عهد بها. قال ابن زيد : كان يأتيهم المحقّ برشوة ، فيخرجون له كتاب الله ، فيحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة ، وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم ، وحكموا له.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٤

(٢) تفسير القرطبي : ٧ / ٣١١ ـ ٣١٢

١٥٤

٥ ـ المتمسكون بكتاب الله ، والمقيمو الصلاة ، لهم أجرهم الجزيل عند ربهم ، لا يضيع من حسناتهم شيء.

٦ ـ من قبائح اليهود أنهم رفضوا الأخذ بالتوراة لغلظها وثقلها ، ولم يعودوا للعمل بما فيها إلا بتهديدهم بإسقاط جبل الطور عليهم. وقد سبق بيان قصة الجبل في سورة البقرة (٦٣ ، ٩٣) وفي سورة النساء (١٥٤).

الميثاق العام المأخوذ على بني آدم

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

الإعراب :

(وَإِذْ أَخَذَ) إذ : في موضع نصب ؛ لأنه يتعلق بقولهم : (قالُوا : بَلى) وقيل : بتقدير : اذكر. و (مِنْ ظُهُورِهِمْ) : بدل من (بَنِي آدَمَ) بإعادة الجار ، وهو بدل بعض من كل ، وتقديره : وإذ أخذ ربك من ظهورهم من بني آدم ذرياتهم.

(أَنْ تَقُولُوا) في موضع نصب على المفعول له أي لأجله ، وتقديره : لئلا يقولوا ، أو كراهة أن تقولوا.

البلاغة :

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) فيه التفات من المتكلم إلى المخاطب ، والأصل : وإذ أخذنا ، والمقصود تعظيم شأن الرسول بتوجيه الخطاب له. والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام: (رَبُّكَ) فيها تكريم وتشريف.

١٥٥

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ أَخَذَ) : واذكر حين أخذ أي أخرج ، وإنما عبّر به ، لما فيه من الاصطفاء والانتقاء (مِنْ ظُهُورِهِمْ) جمع ظهر : وهو ما فيه العمود الفقري للإنسان (ذُرِّيَّتَهُمْ) سلالتهم ذكورا وإناثا ، بأن أخرج بعضهم من صلب بعض ، من صلب آدم ، نسلا بعد نسل ، كنحو ما يتوالدون كالذر (وَأَشْهَدَهُمْ) أخذ منهم شهادة على أنفسهم ، والشهادة: إما قولية ، كما قال : (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) [الأنعام ٦ / ١٣٠] أو حالية ، كما قال : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ، شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [التوبة ٩ / ١٧] أي حالهم شاهدة عليهم بذلك ، لا قائلين.

(بَلى شَهِدْنا) أي بلى أنت ربنا ، شهدنا بذلك (أَنْ تَقُولُوا) أي أن الإشهاد لئلا تقولوا أيها الكفار (عَنْ هذا) التوحيد (غافِلِينَ) لا نعرفه.

(وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) أي فاقتدينا بهم ؛ لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذرا (أَفَتُهْلِكُنا) تعذبنا (بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) من آبائنا بتأسيس الشرك. المعنى : لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد. والتذكير به على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم مقام ذكره في النفوس.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) مثل ذلك البيان للميثاق نبينها ، ليتدبروها (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم أو عن التقليد واتباع الباطل.

المناسبة :

لما شرح الله تعالى قصة موسى عليه‌السلام مع توابعها ، ذكر في هذه الآية ما هو حجة على جميع المكلفين. وبعد أن ذكر الميثاق الخاص على اليهود بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) [البقرة ٢ / ٦٣] وقوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) ذكر هنا الميثاق العام الذي أخذه على بني آدم جميعا وهم في صلب آدم.

والمقصود من هذا الكلام هاهنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج النقلية والعقلية ، ومنعهم عن التقليد ، وحملهم على النظر والاستدلال.

١٥٦

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد للناس جميعا ما أخذه الله على البشر كافة من ميثاق يتضمن الاعتراف على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا الله ، وذلك حين أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم كما تثبت الآية ، ومن آدم نفسه كما ثبت في الخبر (١) ، أي استخرج من بني آدم ذريتهم أو سلالتهم ، وخلقهم على فطرة التوحيد والإسلام.

وأشهد كل واحد على نفسه من هؤلاء الذرية قائلا لهم قول إرادة وتكوين ، لا قول وحي وتبليغ : ألست بربكم؟ فقالوا بلسان الحال ، لا بلسان المقال : بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة.

وسبب هذا الإشهاد هو ألا يعتذروا يوم القيامة إذا أشركوا : إنا كنا عن التوحيد غافلين ، أي لم ينبهنا إليه أحد ، فلا عذر لكم بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله ، ووجود العقل ، وتكوين الفطرة.

وخلق الناس على فطرة التوحيد مقرر في آية أخرى هي قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم ٣٠ / ٣٠] وفي الصحيحين ما يؤيد ذلك عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة» وفي رواية : «على هذه الملة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسّون فيها من جدعاء» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم». والجمعاء : السليمة الخلقة ، والجدعاء : المقطوعة بعض الأعضاء.

__________________

(١) وهو ما رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لما خلق الله آدم مسح ظهره. فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ...».

١٥٧

وقد اختلف العلماء في هذه الآية آية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ...) على رأيين : رأي السلف ، ورأي الخلف. أما السلف من المفسرين فقالوا : إن الله خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر ، وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا ، وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة ، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم ، فأقروا بذلك ، وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق كثيرة لا يخلو بعضها من ضعف وانقطاع ، وقال به جماعة من الصحابة (١).

وأما الخلف فقالوا : هذا من قبيل التمثيل والتصوير ، والمجاز والاستعارة فلا سؤال ولا جواب ، وإنما أقام الله الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم ، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى ، فكأنه قال للخلق : أقروا بأني ربكم ، ولا إله غيري ، وكأنه أشهدهم على أنفسهم ، وقال لهم : ألست بربكم؟ فقالوا : بلى (٢). وهذا ما اختاره الزمخشري وأبو حيان وأبو السعود والبيضاوي. وقال عنه الرازي : لا طعن فيه البتة.

وحدد ابن كثير دلالة الأحاديث ، فقال : هذه الأحاديث دالة على أن الله عزوجل استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميّز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم ، فما هو إلا في حديث ابن عباس ، وفي حديث عبد الله بن عمرو ، وهما موقوفان لا مرفوعان ، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد ، إنما هو فطرهم على التوحيد ، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ، وقد فسر الحسن الآية بذلك.

قالوا : ولهذا قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) ولم يقل : من آدم ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ٤٦ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٦١ ـ ٢٦٤.

(٢) روي عن ابن عباس أنه قال : «لو قالوا : نعم ، لكفروا» لأن «نعم» تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب ، فكأنهم أقروا أنه ليس ربهم ، بخلاف «بلى» فإنها حرف جواب ، وتختص بالنفي وتفيد إبطاله ، والمعنى : بلى أنت ربنا ، ولو قالوا : نعم ، لصار المعنى : نعم لست ربنا.

١٥٨

(مِنْ ظُهُورِهِمْ) ولم يقل : من ظهره ذرياتهم أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن. ثم قال : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) أي أوجدهم شاهدين بذلك ، قائلين له حالا وقالا ، والشهادة تكون بالقول ، كقوله : (قالُوا : شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) الآية ، وتارة تكون حالا ، كقوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ، شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [التوبة ٩ / ١٧] أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك ، وكذا قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات ١٠٠ / ٧].

فالمراد من الآية أن الله تعالى جعل الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد حجة مستقلة عليهم ، ولهذا قال : (أَنْ تَقُولُوا) أي لئلا تقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) أي التوحيد (غافِلِينَ) أي لم ننبه إليه (أَوْ تَقُولُوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) الآية.

وإني لميّال لهذا الرأي ، وهو أولى الآراء بالصواب.

(أَوْ تَقُولُوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا ...) أي إن سبب الإشهاد لمنع اعتذارهم يوم القيامة بغفلتهم عن التوحيد ، أو بادعائهم التقليد ، وقولهم : إن آباءنا أشركوا من قبلنا ، ونحن خلف لهم ، نجهل بطلان شركهم ، وقد قلدناهم في أعمالهم واعتقادهم ، مع حسن الظن بهم ، ولم نهتد إلى التوحيد.

أفتهلكنا بالعذاب وتؤاخذنا بما فعله المبطلون من آبائنا؟! ولكن الله لا يقبل عذرهم أبدا ؛ لأن التقليد في الاعتقاد وأصول الدين لا يجوز.

ومثل ذلك التفصيل البليغ الواضح للميثاق ، نفصل للناس الآيات البينات ، ليتدبروها بعقل وبصيرة ، ولعلهم يرجعون بها عن شركهم ، وجهلهم ، وتقليدهم الآباء والأجداد.

١٥٩

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ خلق الله البشر على فطرة التوحيد أي الإقرار بأن الله ربهم وأنه واحد لا شريك له.

٢ ـ لا يعذر الإنسان بالجهل بخالقه ، لما يرى من الدلائل ، فمن لم تبلغه دعوة رسول لا يعذر يوم القيامة في الشرك بالله ، ولا بفعل الفواحش التي تنفر منها الطباع السليمة وتدرك ضررها العقول الرشيدة.

٣ ـ إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في الميثاق الأول ، ومن بلغ عاقلا لم يغنه الميثاق الأول ، وبناء عليه : أطفال المشركين في الجنة.

٤ ـ إبطال حجة المشركين يوم القيامة بأنه لم يأتهم رسول ينبههم إلى التوحيد ، وإبطال التقليد للآباء والأجداد في أصول العقيدة والدين ، فكما لا يقبل الاعتذار بالجهل لقيام الأدلة على التوحيد ، لا يقبل الاعتذار بالتقليد ، بعد قيام الأدلة الفطرية والعقلية على معرفة الله ووحدانيته.

٥ ـ في كتاب الله تعالى وهو القرآن تفصيل كل شيء ، فكما فصل الله في الآية بناء الإنسان على فطرة التوحيد ، بيّن سائر الآيات ليتدبرها الناس ، فيرجعوا إلى الحق ، ويعرضوا عن الباطل.

١٦٠