التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

قال تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف ٦١ / ٦].

٣ ، ٤ ـ إنه يأمر بالمعروف : وهو ما تعرفه العقول الرشيدة وتألفه الطباع السليمة ، وقد ورد به الشرع ، وهو ينهاهم عن المنكر : وهو ما تنكره النفوس الصافية. فهو عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالخير ، ولا ينهى إلا عن الشر ، كما قال عبد الله بن مسعود : إذا سمعت الله يقولها : يا أيها الذين آمنوا ، فأرعها سمعك ، فإنه خير تؤمر به ، أو شر تنهى عنه.

ومن أهم ما أمر الله به : عبادة الله وحده لا شريك له ؛ ومن أهم ما نهى عنه : عبادة ما سواه ، كما أرسل به جميع الرسل قبله ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦].

٥ ، ٦ ـ وإنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث : أي يحل لهم ما تستطيبه الأنفس من الأطعمة : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة ٢ / ٥٧ ، ١٧٢ ، والأعراف ٧ / ١٦٠ ، وطه ٢٠ / ٨١] ويحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم ، ويحرم عليهم ما تأباه النفوس ، كالميتة والخنزير والدم المسفوح ، وما يؤخذ من الأموال بغير حق كالربا والرّشوة والغصب والخيانة. قال ابن عباس : الخبائث كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى. قال بعض العلماء : فكل ما أحل الله تعالى من المآكل ، فهو طيب نافع في البدن والدين ، وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين.

٧ ـ وإنه يضع عنهم الإصر والأغلال : أي يرفع عنهم التكاليف الشاقة ، كالقصاص في القتل ، العمد أو الخطأ ، من غير شرع الدية ، وقتل النفس عند التوبة ، أي التقاتل وإهدار الدماء ، وقطع الأعضاء المذنبة ، وقرض موضع

١٢١

النجاسة من الجلد والثوب ، وتحريم السبت.

أي إنه جاء بالتيسير والسماحة ، كما ورد في الحديث الذي رواه الخطيب عن جابر : «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: «بشّرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا».

ومن مظاهر التيسير : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتب الستة عن أبي هريرة : «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به ، وقوله فيما رواه الطبراني عن ثوبان : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

ولهذا أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ، وَاعْفُ عَنَّا ، وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٨٦]. وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه : قد فعلت ، قد فعلت.

أما اليهود فقد شدد الله عليهم في الأحكام الشرعية في العبادة والمعاملة والعقوبة ، ثم خفف المسيح عليه‌السلام في بعض الأمور المادية ، وشدد في الأحكام الروحية.

فالذين آمنوا بالنبي الأمي وبرسالته ، وعزروه أي منعوه من الأعداء ، ونصروه أي عظموه ووقروه ، وأيدوه باللسان والسّنان ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلّغا إلى الناس ، أولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة ، الناجون الفائزون بالرحمة والرضوان ، دون من سواهم من حزب الشيطان الذين يخذلهم الله في الدنيا والآخرة. ويدخل في ذلك قوم موسى الذين يتحقق فيهم هذا الوصف العام.

١٢٢

فقه الحياة أو الأحكام :

بعد أن أقر موسى بأن لا إله إلا الله تعالى ، أعلن أن الله ولينا أي القائم بأمورنا والمتولي شؤوننا ، والولي يدفع الضر ويجلب النفع ، لذا طلب منه المغفرة والرحمة لدفع الضر ، المقدم على تحصيل النفع ، ثم طلب منه تحقيق النفع وهو سؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة.

ويناسب هذه الأشياء اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع ، لذا قال موسىعليه‌السلام: (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي تبنا ورجعنا إليك.

فتحقق بهذا مجموع أمرين لا بد منهما : وهما تقرير عزة الربوبية ، أي كون الله تعالى إلها وربا ووليا ، والاعتراف بذل العبودية أي كون العباد له تائبين خاضعين خاشعين.

ثم أجاب الله موسى مبينا أن عذابي أعذب به من أشاء ، وليس لأحد على اعتراض ؛ لأن الكل ملكي ، ومن تصرف في خالص ملكه ، فليس لأحد أن يعترض عليه.

وأما رحمتي فهي عامة لا نهاية لها ، ولا حد لسعتها ، وسعت كل شيء ، حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها.

روى الإمام أحمد وأبو داود عن جندب بن عبد الله البجلي رضي‌الله‌عنه قال : جاء أعرابي ، فأناخ راحلته ، ثم عقلها (ربطها بالحبل) ثم صلى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى راحلته ، فأطلق عقالها (حبلها) ، ثم ركبها ، ثم نادى : اللهم ارحمني ومحمدا ، ولا تشرك في رحمتنا أحدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتقولون : هذا أضل أم بعيره ، ألم تسمعوا ما قال؟» قالوا : بلى ، قال : «لقد حظّرت رحمة واسعة ، إن الله عزوجل خلق مائة

١٢٣

رحمة ، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها ، وأخّر عنده تسعا وتسعين رحمة ، أتقولون : هو أضل أم بعيره».

وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله عزوجل مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة».

ثم ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة لمن يستحق رحمته ، وهم المتقون ، المؤتون الزكاة ، المؤمنون بآيات الله تعالى.

قال بعض المفسرين : طمع في هذه الآية ـ أي (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) كل شيء حتى إبليس ، فقال : أنا شيء ؛ فقال الله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) فقالت اليهود والنصارى : نحن متقون ؛ فقال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) الآية. فخرجت الآية عن العموم.

وهذه الأوصاف الثلاثة التي خصصت بها الآية شملت كل ما يصدر عن الإنسان وهو التروك والأفعال ، أما التروك فهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها ، والاحتراز عنها والاتقاء منها ، وأما الأفعال فهي إما متوجهة على مال الإنسان أو على نفسه ، الأول ـ الزكاة ، والثاني ـ الإيمان ، وهو يدخل فيه ما يجب على الإنسان علما وعملا ، أما العلم فالمعرفة بالله ، وأما العمل فبالإقرار باللسان والعمل بالأركان ، ويدخل فيها الصلاة.

وأما صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقررة في التوراة والإنجيل فهي :

١ ـ كونه رسولا نبيا أميا : والرسول أخص من النبي ، وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة ، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم ، وكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ؛ لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة.

١٢٤

وأميته لإبطال دعاوى اختلاق القرآن من عند نفسه ، فكانت من المعجزات ، كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٨] ومع أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يكتب وما كان يقرأ ، كان يتلو كتاب الله بتعليم الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ، فكان ذلك أيضا معجزة ، كما قال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى ٨٧ / ٦].

وكانت أمة العرب أميّة ، روي في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنا أمة أميّة ، لا نكتب ولا نحسب».

٢ ـ صفاته موجودة في التوراة والإنجيل : وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل ؛ لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا ، لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفّرات لليهود والنصارى عن قبول قوله ؛ لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات ، ويترفع عنه العاقل ، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.

٣ ، ٤ ـ مهمته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : قال عطاء : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) بخلع الأنداد (الشركاء) ، ومكارم الأخلاق ، وصلة الأرحام. (وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) عبادة الأصنام ، وقطع الأرحام.

ويجمع الأمر بالمعروف قوله عليه الصلاة والسلام : «التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله» والنهي عن المنكر يشمل النهي عن عبادة الأوثان ، والقول في صفات الله بغير علم ، والكفر بما أنزل الله على النبيين ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين.

٥ ـ (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) : قيل : المراد بالطيبات : الأشياء التي حكم الله بحلها. ومذهب مالك : أن الطيبات هي المحلّلات ، فكأنه وصفها بالطيب ؛

١٢٥

إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. ورد الرازي على ذلك باستبعاد هذا القول ؛ لأنه يترتب عليه التكرار ، فتصير الآية : ويحل لهم المحللات ، وبه تخرج الآية عن الفائدة ؛ لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي؟

بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات : الأشياء المستطابة بحسب الطبع ، وذلك لأن تناولها يفيد اللذة ، والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع السليم الحل ، إلا لدليل. وهذا مذهب الشافعي أن الطيبات هي من جهة الطعم.

واحتج بهذه الآية بعض العلماء الذين ذهبوا إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها. وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته.

٦ ـ (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) : أي يمنعهم من اقتراب المستخبثات وهي كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس ، ويكون تناوله سببا للألم ، والأصل في المضار الحرمة. ومقتضاه : أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا لدليل.

والخبائث في مذهب مالك هي المحرمات ، ويقتضي ذلك أنه أحل المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. وقد عرفنا وجه الضعف في ذلك ، وأن مذهب الشافعي هو تحريم المحرمات والمتقذرات ، فتحرم العقارب والخنافس والوزغ ونحوها.

٧ ـ (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي يرفع عن بني إسرائيل التكاليف والأحكام الشاقة التي كانت مقررة عليهم ، مثل تحريم الغنائم ، وتحريم مجالسة الحائض وقرض موضع النجاسة ، والقصاص من القاتل بلا دية ، وقتل النفس علامة للتوبة ، فكانوا إذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء

١٢٦

فأكلتها ، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها ، وإذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضة ، وروي : وجلد أحدهم ، فأحل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغنائم ، وأباح مجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها ، ورخص بغسل البول ، وشرع الدية ، وقيّد القصاص في القتل العمد ، وجعل التوبة باللسان والقلب مع الله. ودلت الآية على أن من آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأيده وحماه وعظمه واتبع القرآن فهو من المفلحين أي الفائزين بالمطلوب في الدنيا والآخرة.

عموم الرسالة الإسلامية

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨))

المفردات اللغوية :

(قُلْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (وَكَلِماتِهِ) القرآن. (تَهْتَدُونَ) ترشدون.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى وجود صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوراة والإنجيل ، وذكر أن من يتبعه ، فله سعادة الدنيا والآخرة ، أوضح مزية الرسالة الإسلامية وهي أنها عامة شاملة ، وأن بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس كافة ، يدعوهم فيها إلى الإيمان به وبرسالته ، وأن كل من يتبعه تشمله تلك السعادة.

١٢٧

التفسير والبيان :

قل يا محمد لجميع البشر من عرب وغيرهم ، بيض أو سود : إني رسول الله إليكم جميعا ، لا إلى قومي العرب خاصة ، وإلى كل وقت وزمن إلى يوم القيامة ، وهذا يقتضي أن يكون مبعوثا إلى جميع الناس ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٧] وقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ ٣٤ / ٢٨] وقال : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩] أي وأنذر كل من بلغه. ومطلع سورة الفرقان يؤكد عالمية الرسالة.

وجاءت الأحاديث الثابتة مؤكدة عموم الرسالة النبوية ، مثل حديث الصحيحين والنسائي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرّعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ ، وأحلّت لي الغناء ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة».

(إِنِّي رَسُولُ اللهِ) الذي له الملك التام والتصرف الكامل في السموات وفي الأرضين جميعها ، وله القدرة التامة على الإحياء والإماتة.

وقد تضمنت هذه الآية عناصر العقيدة الثلاثة : وهي توحيد الربوبية بالإيمان ، وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل ، أي بعبادة الله وحده ، ثم الإيمان برسالة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم الإيمان بالبعث بعد الموت ، وذلك معنى الإحياء والإماتة.

ورتب على ما سبق الدعوة إلى الإيمان فقال : (فَآمِنُوا بِاللهِ ...) أي فصدقوا أيها الناس قاطبة بالله الواحد الأحد الفرد الصمد في ربوبيته وألوهيته ، وآمنوا برسوله النبي الأمي الذي بعثه إلى الخلق أجمعين.

١٢٨

وهو النبي الذي يؤمن بوحدانية الله وكلماته التشريعية التي أنزلها الله لهداية البشر ، وكلماته التكوينية الدالة على قدرته وإرادته وحكمته ، ويصدق قوله عمله ، ويؤمن بما أنزل إليه من ربه. فالمراد من كلماته : ما تضمنته كتبه من التوراة والإنجيل والقرآن من أحكام وإرشادات وأدلة على وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته.

وهذا أمر بالإيمان أتبعه بالأمر بالإسلام ، أي اتبعوا منهج هذا النبي ، واسلكوا طريقه في كل ما جاء به ، لتهتدوا إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ، أو رجاء أن تهتدوا بالإيمان واتباع الشرع إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة.

والحق أنه لأهدي صحيحا ثابتا إلا في القرآن ، ولا خير إلا في الدين ، ولا سعادة إلا باتباع شريعة خاتم النبيين ، وبمقدار الالتزام بالشريعة يكون النجاح في الدنيا والآخرة.

روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث إلى جميع الخلق ، وأن رسالته عامة للناس أجمعين ، بل لكل العالمين من الإنس والجن.

والمراد بالناس : هم المكلفون أي البالغون العقلاء ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر : «رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق».

١٢٩

والمقصود بالناس أيضا كل من وصل إليه خبر وجوده وخبر معجزاته وشرائعه ، وقلّ أن تجد قوما لم يبلغهم خبر ظهور محمد عليه الصلاة والسلام.

ودلت الآية أيضا على ما يثبت كونه عليه الصلاة والسلام رسولا إلى الناس جميعا ، وهو أنه مرسل من خالق العالم المتصف بالحياة والعلم والقدرة والوحدانية ، المنزه عن الشريك والوالد والولد ، القادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة ، مالك السموات والأرضين ، المتصرف في الكون كيفما يشاء ، وأن الخلق كلهم عبيده ، وهو المنعم عليهم بأعظم النعم ، وأنه المجازي لهم بعد موتهم ، مما يقتضي تكليف الخلق بما يريد.

وما على الخلق إلا الإيمان بوحدانية الله وبربوبيته ، واتباع كلماته أي تشريعاته ، وليس من التشريع أمور الدنيا العادية من تدبير شؤون الزراعة والصناعة والتجارة المباحة والعلوم النافعة ، فتلك متروكة لعقول الناس ومعارفهم وخبراتهم ، لما ورد في الحديث الصحيح عند الشيخين : «أنتم أعلم بأمور دنياكم».

ومن كلمات الله : المعجزات الدالة على كونه نبيا حقا ؛ لأن كل شيء غريب يسمى كلمة ، والمعجزات نوعان :

معجزات ظهرت في ذاته عليه الصلاة والسلام ، وأشرفها وأهمها كونه رجلا أميا ، لم يتعلم من أستاذ ، ولم يطالع كتابا ، ولم يجالس أحدا من العلماء.

ومعجزات صدرت عنه مثل انشقاق القمر ، ونبوع الماء من بين أصابعه.

وبه يكون المراد بقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه ، وبما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه.

١٣٠

اتباع الحق لدى بعض قوم موسى ونعم الله على بني إسرائيل في

صحراء التيه

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠))

الإعراب :

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) : إنما أنث اثنتي عشرة على تقدير أمة ، وتقديره : اثنتا عشرة أمة. و (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) : حال. و (أَسْباطاً) : بدل منصوب من (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ). ولا يجوز أن يكون (أَسْباطاً) منصوبا على التمييز ؛ لأنه جمع ، والتمييز لما عدا العشرة إنما يكون مفردا. و (أُمَماً) : صفة لقوله : (أَسْباطاً) كما ذكر ابن الأنباري. وقال الزمخشري عن كلمة «أمما» : بدل من (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) بمعنى : وقطعناهم أمما ؛ لأن كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد. وقال : (أَسْباطاً) تمييز ، ووجه كونه مجموعا أنه وضع (أَسْباطاً) موضع قبيلة ؛ وكل قبيلة أسباط لا سبط.

المفردات اللغوية :

(أُمَّةٌ) جماعة. (يَهْدُونَ) يرشدون الناس ويدلونهم. (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) في الحكم ، أي يحكمون بين الناس بالعدل. (قَطَّعْناهُمُ) فرقنا بني إسرائيل وصيرناهم فرقا وقطعا. (أَسْباطاً) قبائل ، والأسباط : أولاد الأولاد ، جمع سبط وهو عندهم كالقبيلة في ولد إسماعيل. وأسباط بني إسرائيل : سلائل أولاده العشرة ما عدا لاوى ، وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما إفرايم ومنس ؛ لأن سلائل لاوى قامت بخدمة الدين في جميع الأسباط.

١٣١

(إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) طلبوا منه الماء للسقيا في التيه. (فَانْبَجَسَتْ) انفجرت. (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد الأسباط. (كُلُّ أُناسٍ) سبط منهم. (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) جعلنا الغمام يظلهم في التيه ، والغمام : سحاب رقيق أو أبيض أو السحاب مطلقا. (الْمَنَ) مادة بيضاء تنزل على ورق الشجر وغيره كالندى ، حلوة المذاق كالعسل. (وَالسَّلْوى) طير يشبه السّماني ، لكنه أكبر منه.

المناسبة :

بعد أن رغب الله سبحانه بني إسرائيل باتباع ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق إنزال الرحمة عليهم ووصفهم بأنهم المفلحون ، ذكر ثلاثة أحوال لهم ، الحال الأولى : أن بعضهم اتبعوا موسى بحق واتبعوا أيضا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتزموا الحق وقضوا به ، والحال الثانية : قسمتهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر ، والحال الثالثة : انفجار الحجر اثنتي عشرة عينا بقدر عدد الأسباط لما طلبوا السقيا من موسى عليه‌السلام ، وتظليلهم بالغمام ، وإنزال المن والسلوى عليهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى بأن طائفة من بني إسرائيل يتبعون الحق ويعدلون به ، وهم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل ، آمنوا بموسى عليه‌السلام ، وآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم جماعة قوموا أنفسهم بالإيمان ، وأرشدوا الناس إليه ودلوهم عليه ، وهدوهم بالحق الذي جاءهم من عند الله ، ويعدلون بالحق بينهم في الحكم ، لا يجورون ، كما قال تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ، يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ ، وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران ٣ / ١١٣] وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ ...) الآية [آل عمران ٣ / ١٩٩] وقال عزوجل : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) [آل عمران ٣ / ٧٥].

١٣٢

والخلاصة : الخبر في هذه الآية متعلق بجماعة مؤمنة من بني إسرائيل في عصر موسى ، وبعد عصره ، وهم أصناف ثلاثة : صنف أدركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمنوا به ، وهم المشار إليهم في آية : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة ٢ / ١٢١]. وصنف آمنوا بموسى واتبعوا من بعده من الأنبياء ، وهم المذكورون في الآية هنا ، وصنف محتمل للقسمين ، كما في الآية المتقدمة : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ ...).

وهذه شهادة عظيمة من الله تعالى تثبت وجود أهل الحق والعدل في كل أمة ، وهذه هي الحال الأولى لبني إسرائيل.

والحال الثانية : أنه تعالى صيّر قوم موسى اثنتي عشرة فرقة أو قبيلة تسمى أسباطا ، أي أمما وجماعات ، تمتاز كل جماعة منهم بنظام خاص بها في المعيشة وممارسة شؤون الحياة.

والحال الثالثة : حال الأسباط إزاء نعم الله تعالى عليهم ، والنعمة الأولى : إغاثة الله لهم ، حينما طلبوا من موسى السقيا ، وقد عطشوا في التيه ، فأوحى الله إلى موسى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) ، فضربه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من الماء بقدر عدد أسباطهم ، كل سبط له عين خاصة به (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) أي سبط مشربهم منه. والفرق بين الانبجاس والانفجار أن الأول : خروج الماء بقلة ، والثاني : خروجه بكثرة.

والنعمة الثانية : تظليل الغمام ، فكانوا إذا اشتد عليهم الحر في الصحراء ، يسخر الله تعالى لهم الغمام أي السحاب ، يظلهم بظله الظليل ، رحمة من الله.

والنعمة الثالثة : إنزال المن والسلوى : فكان الطعام الشهي ينزل عليهم بسهولة ، دون عناء ولا مشقة ، وهو المن الذي كان يقوم مقام الخبز عندهم وهو

١٣٣

مادة حلوة الطعم يجتمع كالندى على ورق الشجر وغيره صباحا ، والسلوى : يقوم مقام سائر اللحوم ، وهو طير أكبر من السّمانى.

ثم قيل لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، فهي نعم خصصناها بكم ، فما عليكم إلا شكر النعمة.

(وَما ظَلَمُونا) بكفرهم بهذه النعم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار ؛ لأن المكلف إذا أقدم على المعصية ، فهو ما أضر إلا نفسه ، حيث عرّض نفسه للعقاب الشديد ، ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ ..) على أن الإسلام لا عصبية فيه. وأن الله تعالى يعلمنا طريق الحكم على الناس والأشياء ، وهو طريق الحق والعدل ، فهو الحكم الموضوعي المجرد ، وهو الحكم الأبقى والأخلد. إنها شهادة عظيمة من الله تعالى لجماعة من بني إسرائيل أنهم التزموا الحق والعدل في أنفسهم ومع غيرهم ، فآمنوا بالنبي موسى عليه‌السلام وبمن بعده من الأنبياء ، وقضوا بين الناس بالعدل ، ودعوا الناس إلى الهداية بالحق.

وهذه المزية أيضا قائمة في أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد أنزل الله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الإسراء بعد رجوعه إلى الدنيا : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٨١] يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فالله يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك.

ودلت آية (وَقَطَّعْناهُمُ) على قسمة بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة ؛ لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب ، فميزهم وفعل بهم ذلك ، لئلا يتحاسدوا ، فيقع بينهم الهرج والمرج. ولا شك أن القسمة تريح من عناء

١٣٤

الاختلاف والنزاع في استيفاء المنافع ، وليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم ، فيخف الأمر على موسى.

وأرشد قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى ...) إلى النعم العظمى التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، وهي : أولا ـ الشرب في التيه من ينابيع تفجرت اثنتي عشرة عينا بعدد الأسباط ، بضرب موسى الحجر ، وهذه معجزة خارقة له ، كمعجزة العصا واليد وفلق البحر لإنجائهم من فرعون وقومه. وثانيا ـ تظليل الغمام. وثالثا ـ إنزال المن والسلوى ، وقد أباح الله لهم تلك الطيبات ، وسهل لهم الطعام والشراب.

ولكن بني إسرائيل لم يشكروا تلك النعم العظيمة ، وجحدوا بها ، وظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي ، وكانوا فاسقين لخروجهم عن طاعة الله تعالى.

أمر بني إسرائيل بسكنى القرية (بيت المقدس)

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢))

الإعراب :

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) هذا مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة ؛ لأنه جمع مؤنث سالم. ومن قرأ يغفر وتغفر ، رفع خطيئاتكم على أنه نائب فاعل. ومن قرأ يغفر بالياء بالتذكير فلوجود الفصل ب (لَكُمْ). ومن قرأ بالتاء بالتأنيث فعلى الأصل ، ولم يعتبر الفصل.

١٣٥

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قِيلَ) واذكر إذ قيل (الْقَرْيَةَ) بيت المقدس (حِطَّةٌ) أي أمرنا حطة أي حط عنا أوزارنا وخطايانا (الْبابَ) أي باب القرية (سُجَّداً) سجود انحناء (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بالطاعة ثوابا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) فقالوا : حبة في شعرة ، ودخلوا يزحفون على أستاههم (رِجْزاً) عذابا.

المناسبة :

بعد أن عدد الله تعالى أحوال بني إسرائيل وأصناف النعم التي أنعم بها عليهم ، وجحودهم لها وظلمهم أنفسهم ، ناسب أن يذكر نوعا آخر من أنواع العصيان أو الظلم ومخالفة أمر الله ، وهو دخول القرية بقول معين (حطة) وهيئة معينة (ساجدين) فالمناسبة بين الآيات واضحة وهي تبيان أحوال الظلم من هؤلاء القوم ، لذا ختمت الآيتان بإثبات صفة الظلم فيهم.

التفسير والبيان :

سبق بيان هذه القصة في سورة البقرة في الآيتين (٥٨ ، ٥٩) مع اختلاف في الألفاظ فقط ، ليتناسب ذلك مع بلاغة القرآن وكمال الإعجاز ؛ لأن تكرار اللفظ نفسه غير بليغ ، والبلاغة تقتضي إبراز المعنى الواحد بأساليب مختلفة وألفاظ متنوعة.

وقد ذكر الرازي ثمانية وجوه للمخالفة في الألفاظ بين السورتين (١) ، وهي ما يأتي ، علما بأنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض ، ولا تناقض فيهما :

١ ـ هنا قال : (اسْكُنُوا) وهناك قال (ادْخُلُوا) والفائدة هنا أتم ؛

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ٣٤ وما بعدها.

١٣٦

لأن السكنى تستلزم الدخول دون العكس ، فمن يسكن يدخل قطعا ، وليس العكس.

٢ ـ قال هنا : (وَكُلُوا) وهناك قال : (فَكُلُوا) لأن بدء الأكل يكون عقب الدخول ، فيحسن ذكر فاء التعقيب بعده. وأما الواو فيدل على أن الأكل حاصل مع السكنى لا بعده.

٣ ـ وصف الأكل هناك بقوله : (رَغَداً) أي واسعا هنيئا ، ولم يذكر الوصف هنا ؛ لأن الأكل للقادم في أول الدخول يكون ألذ وأمتع ، وتهفو النفس إليه عادة ، أما بعد طول المقام والانتظار فلا يحدث إلا عند الحاجة الشديدة وتكامل اللذة ، فترك قوله : (رَغَداً) فيه.

٤ ـ قدم هنا قول (حِطَّةٌ) على الدخول ، وعكس الأمر هناك ، ولا فرق بين التعبيرين ؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب ، فسواء دعوا أولا ثم أظهروا الخضوع بالسجود أي تنكيس الرؤوس ، أو أعلنوا التواضع والخضوع أولا ثم دعوا بقولهم : (حِطَّةٌ) ؛ لأن المقصود تعظيم الله تعالى ، وإظهار الخضوع والخشوع.

٥ ـ قال هنا : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) وقال هناك : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) وكلا الجمعين سواء ، وفيهما إشارة إلى أن مغفرة الذنوب تشمل القليل والكثير.

٦ ـ قال هنا : (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بدون واو ، وهناك ذكر الواو : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بالعطف ، والمعنى واحد ، لكن ترك الواو الذي يفيد الاستئناف أدل على أن زيادة الإحسان مستقلة عن المغفرة بعد الدعاء ، تفضلا من الله تعالى ، وأن الموعود به شيئان : المغفرة وزيادة الحسنة.

٧ ـ قال هنا : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً) وقال هناك في سورة البقرة

١٣٧

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) والإنزال لا يشعر بالكثرة ، والإرسال يشعر بها ، فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ، ثم جعله كثيرا.

٨ ـ قال هنا : (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) وقال هناك : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) إشارة إلى حصول الوصفين منهم ، فهم ظالمو أنفسهم ، وهم فاسقون خارجون عن طاعة الله تعالى ، ثم إن الظلم فيه معنى الاعتداء على الغير ، والفسق فيه معنى الخروج عن الدين.

وزيد هنا كلمة (مِنْهُمْ) في قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ولم تذكر هناك ، وزيادتها تأكيد في البيان. ومعنى التبديل أنهم تجرؤوا على المخالفة التامة بالقول والفعل ، دون اجتهاد ولا تأويل.

والمعنى العام للآية : أن الله تعالى يذكّر بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما حصل من أسلافهم ، وهم ملومون مثلهم لرضاهم بأفعال الأسلاف ، فقد أمرهم الله بأن يدخلوا القرية وهي بيت المقدس أو قرية غيرها ، والعرب تسمي المدينة قرية ، داعين الله أن يغفر ذنوبهم ، ومظهرين الخضوع والخشوع لله تعالى ، وقد وعدهم الله بشيئين : الغفران وزيادة الإحسان. ولكن طبيعة اليهود التي يغلب عليها العصيان والتمرد أبت عليهم إلا تحدي الأمر الإلهي ، والتنكر له ، والتجرؤ على المخالفة بالقول والفعل ، فقالوا : حبّة في شعرة ، بدل حطة وزحفوا على أستاههم ، بدل تنكيس رؤوسهم وخشوعهم وتواضعهم لله ، شكرا له على نعمه عند دخول القرية ، والتنعم بخيراتها من طعام وفاكهة وشراب.

وماذا كانت النتيجة المنتظرة؟ النتيجة أن الله تعالى صب عليهم عذابا من السماء صبا ، بسبب ظلمهم أنفسهم وغيرهم ، وفسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى إلى طاعة أهوائهم وشياطينهم ، ولسخريتهم من أوامر الله تعالى.

١٣٨

فقه الحياة أو الأحكام :

إن العبرة واضحة من هذه الواقعة أو القضية ، وهي أن الله تعالى يعاقب الناس على ذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة ، فما عليهم إلا الابتعاد عن الظلم والفسق ؛ فقد عاقب الله بني إسرائيل على ظلمهم وفسقهم ، بالرغم من فضائلهم ، ككثرة الأنبياء فيهم ، وتفضيلهم على العالمين ، أي عالمي زمانهم.

حيلة اليهود على صيد الأسماك يوم السبت

وعقاب المخالفين

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦))

الإعراب :

(إِذْ يَعْدُونَ) يتعلق بسأل ، وتقديره : سلهم عن وقت عدولهم في السبت ، وهو مجرور بدل من القرية ، و (إِذْ تَأْتِيهِمْ) : بدل من (إِذْ) الأولى ، ويجوز نصبه بيعدون ، و (شُرَّعاً) : منصوب على الحال من (حِيتانُهُمْ) ، والعامل فيه : (تَأْتِيهِمْ).

(مَعْذِرَةً) مفعول لأجله ، فكأنهم لما قالوا : لم تعظون؟ (قالُوا : مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أي لمعذرة إلى ربكم. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : موعظتنا معذرة.

(بِعَذابٍ بَئِيسٍ) على وزن فعيل ، مصدر «بيس» وتقديره : بعذاب ذي بيس ، أي : ذي بوس ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

١٣٩

المفردات اللغوية :

(وَسْئَلْهُمْ) يا محمد توبيخا عما وقع لأهل القرية (عَنِ الْقَرْيَةِ) هي أيلة ، وخليج أيلات معروف اليوم وقيل : مدين ، وقيل : طبرية ، والمراد بالقرية : أهلها ، والعرب تسمى المدينة قرية ، وعن أبي عمرو بن العلاء : ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج ، يعني رجلين من أهل المدن (حاضِرَةَ الْبَحْرِ) قريبة مجاورة للبحر الأحمر (بحر القلزم) على شاطئه ، وهي أيلة (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) يعتدون ويتجاوزون حد الله فيه ، وهو اصطيادهم في يوم السبت ، وقد نهوا عنه. و (السَّبْتِ) : مصدر سبتت اليهود : إذا عظمت سبتها بترك الصيد وغيره من الأعمال ، والاشتغال بالعبادة ، والمعنى : يعدون في تعظيم السبت. وكذلك قوله : (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) معناه يوم تعظيمهم أمر السبت.

(حِيتانُهُمْ) سمكهم ، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة (شُرَّعاً) ظاهرة على الماء (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) لا يعظمون السبت أي سائر الأيام (لا تَأْتِيهِمْ) ابتلاء من الله (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم ، ومعنى (نَبْلُوهُمْ) نختبرهم. ولما صادوا السمك يوم السبت بحيلة حجزه وراء حواجز يوم الجمعة ، افترقت القرية أثلاثا : ثلث صادوا معهم ، وثلث نهوهم ، وثلث أمسكوا عن الصيد والنهي.

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ) معطوف على (إِذْ) قبله ، والأمة منهم : الجماعة منهم وهي التي لم تصد ولم تنه كمن نهى (قالُوا : مَعْذِرَةً) أي موعظتنا معذرة نعتذر بها إلى الله ، لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي ، أي قياما منا بعذر أنفسنا عند ربنا بقصد التنصل من الذنب (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الصيد.

(فَلَمَّا نَسُوا) تركوا (ما ذُكِّرُوا بِهِ) وعظوا به ، أي تركوه ترك الناس ، وأعرضوا عنه إعراضا تاما ، فلم يرجعوا عن المخالفة (السُّوءِ) العمل الذي تسوء عاقبته (بَئِيسٍ) شديد ، مأخوذ من البأس وهو الشدة ، أو من البؤس وهو المكروه (يَفْسُقُونَ) يخرجون عن الطاعة.

(عَتَوْا) تكبروا عن ترك ما نهوا عنه (خاسِئِينَ) صاغرين. أما الفرقة الساكتة فقال ابن عباس : ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة. وقال عكرمة : لم تهلك ؛ لأنها كرهت ما فعلوه ، وقالت : (لِمَ تَعِظُونَ)؟ وروى الحاكم عن ابن عباس : أنه رجع إلى قول عكرمة وأعجبه.

المناسبة :

تذكر الآيات نوعا آخر من مخالفات اليهود وعصيانهم ، فبعد أن ذكرت قصتهم في دخول القرية ، ذكرت قصة احتيالهم على صيد الأسماك. وقد ذكرت

١٤٠