التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

تماثيل البقر. وكان موسى في ذلك كله شديد الشكيمة ، قوي العزيمة ، لقنهم التوحيد الخالص ، وأنكر عليهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم.

وقال موسى : أعجلتم أمر ربكم؟ أي استعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له ، وهو ما وعدكم من الأربعين ، وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ، فقد مات (١) ، أي تعجلتم في الحكم علي. قال الزمخشري : المعنى : أعجلتم عن أمر ربكم ، وهو انتظار موسى حافظين لعهده ، وما وصاكم به ، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم ، فحدثتم أنفسكم بموتي ، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه ٢٠ / ٨٨] إن موسى لن يرجع وأنه قد مات (٢).

وطرح موسى الألواح من يده ، لما اعتراه من فرط الدهشة ، وشدة الضجر عند استماعه حديث العجل ، غضبا لله ، وحمية لدينه ، وكان في نفسه حديدا (ذا حدة) شديد الغضب ، وكان هارون ألين منه جانبا ، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى.

وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت ، فرفع منها ستة أسباعها ، وبقي منها سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء ، وفيما بقي الهدى والرحمة.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرحم الله موسى ، ليس المعاين كالمخبر ، أخبره ربه عزوجل أن قومه فتنوا بعده ، فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح».

وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه بذؤابته ، لشدة ما استفزه من الأمر ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١١.

(٢) تفسير الكشاف : ١ / ٥٧٨.

١٠١

وذهب بفطنته ، وظنا بأخيه أنه قصر في خلافته ، وفرط في كفّ القوم عن عبادة العجل ، ومن حق الخليفة اتباع سيرة سلفه : (قالَ : يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه ٢٠ / ٩٢] أي أن تتبعني إلى جبل الطور.

ولقد كان موسى عليه‌السلام معذورا فيما فعل فهو غضب للحق ، فقد كان نبينا عليه الصلاة والسّلام لا يغضب لنفسه ، فإذا انتهكت حرمات الله ، كان أشد ما يكون غضبا لله.

فأجابه هارون قائلا : يا ابن أمي ، لا تتعجل بلومي وتعنيفي واتهامي بالتقصير في واجبي نحو الله تعالى ، فإني أنكرت عليهم ، ونصحتهم ، ولكن القوم استضعفوني فوجدوني فردا واحدا ، ولم يلتفتوا إلى كلامي ، بل قاربوا أن يقتلوني.

يا ابن أمي (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) ، أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلى ، ولا تجعلني في حنقك علي ، وعقوبتك لي قرينا لهم وصاحبا ، أو ولا تعتقد أني واحد من زمرة الظالمين لأنفسهم ، يعني الذين عبدوا العجل ، مع براءتي منهم ومن ظلمهم.

ولما اعتذر إليه أخوه واستعطف قلبه قال موسى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي) ما قد فرط مني من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة لأخي ، واغفر لأخي ما قد فرط أثناء خلافته عني ، من مؤاخذة القوم على ما ارتكبوه من جرم وإثم ، و (أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) الواسعة ، فأنت أرحم الراحمين ، أي اجعل رحمتك ملازمة لنا لا تفارقنا في الدنيا والآخرة.

دعا موسى بهذا الدعاء ليرضي أخاه ، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه ، فلا يشمتون به.

١٠٢

ودل ذلك على أن هارون كان دون موسى في شدة العزيمة وقوة الإرادة وأخذ الأمور بالحزم.

وأرشد اعتذار هارون أنه بريء من جريمة اتخاذ العجل إلها ، وأنه لم يقصر في نصحهم والإنكار عليهم ، وقد غفر الله له. وهذا مخالف لما في التوراة أن هارون هو الذي صنع العجل لهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

تختلف أحوال الناس وطبائعهم في سياسة الآخرين والاحتكاك بهم ، فمنهم الحاد الطبع ، السريع الانفعال كموسى عليه‌السلام ، الذي غضب للحق ، وهو محق فيما فعل ، ومتوقع منه كل ما فعل ، ومنهم الهادي الطبع ، اللين العريكة ، الحليم مثل هارون عليه‌السلام الذي لم يأل جهده في الإنكار على قومه ، ولكنهم لم يرعووا لنصحه وهمّوا بقتله.

ولم يغضب موسى لخبر ربه غضبا مماثلا لما شاهده من الواقع المر ؛ لأنه ليس الخبر كالعيان ، والشاهد يتألم ويتأثر عادة أكثر مما يتأثر به الغائب ؛ لأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.

وكل هذه أحوال نفسية فطرية ، لا سلطان للإنسان عليها ، ومن المعروف أن الأمور الجبليّة من غضب وسرور ونحوهما لسنا مكلفين بها.

أما إلقاء موسى الألواح فكان بسبب دهشته واستفزازه ومن غير شعور منه تأثرا بما رأى ، ففعل ما فعل ، ولم يدر ما صنع. ولم يتعمد كسر الألواح ، بل كان في غيبة وانفعال شديد ، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه.

وأما أخذه برأس أخيه يجره إليه من شعره ولحيته فلا يتنافى مع عصمة الأنبياء ؛ لأنه لم يفعل ذلك على سبيل الإهانة والإذلال والاستخفاف ، وإنما على

١٠٣

سبيل الإكرام والتعظيم ، كما تفعل العرب عادة من قبض الرجل على لحية أخيه إكراما وتعظيما. ولكن هارون كره ذلك لئلا يظن بنو إسرائيل أنه إهانة. وكان هارون أكبر من موسى عليهما‌السلام بثلاث سنين ، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى ؛ لأنه كان ليّن الغضب. ثم إن موسى فعل ذلك بأخيه ؛ لظنه أو توهمه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل ، ومثل هذا الميل لا يجوز على الأنبياء.

وزال الإشكال باعتذار هارون أن عبدة العجل استضعفوه ، وقاربوا يقتلونه ، فقبل موسى عذره ودعا له ولأخيه بالمغفرة وطلب الرحمة ، المغفرة له على ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح ، والمغفرة لأخيه لما ظنه أنه مقصّر في الإنكار عليهم ، وإن لم يقع منه تقصير ، أي اغفر لي طرح الألواح ، ولأخي إن قصر.

قال الحسن البصري : عبد كلهم العجل غير هارون ، إذ لو كان ثمّ مؤمن غير موسى وهارون ، لما اقتصر على قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) ، ولدعا لذلك المؤمن أيضا.

وإنما أقام هارون ولم يتبع أخاه موسى إلى الطور ، خوفا على نفسه من القتل ، فدلت الآية على أن من خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر له أن يسكت.

قال ابن العربي : هذا دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام ، كما زعم بعض الناس ، فإن موسى عليه‌السلام لم يغيّر غضبه شيئا من أفعاله ، بل اطّردت على مجراها من إلقاء لوح ، وعتاب أخ ، وصكّ ملك (١). قال المهدوي : لأن غضبه كان لله عزوجل ، وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا ويتفرقوا.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٧٨٣.

١٠٤

وكان موسى لشدة حدته فيما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة ، أنه لما أرسل ملك الموت إليه ، صكّه صكّة ، ففقأ بها عينه ، فرجع إلى ربه ، فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، فقال : ارجع إليه ، فقل له : يضع يده على متن ثور ، فله بكل شعرة سنة ، قال : أي رب ، ثم ماذا؟ قال : الموت ، قال : فالآن ... الحديث.

جزاء الظالمين باتخاذ العجل وقبول توبة التائبين

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣))

الإعراب :

(اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) المفعول الثاني محذوف ، والتقدير : اتخذوا العجل إلها ومعبودا.

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا ... وَالَّذِينَ) : مبتدأ مرفوع ، والجملة من (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) باسمها وخبرها في موضع رفع ، خبر المبتدأ.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ) عذاب وهو ما أمروا به من قتل أنفسهم ، أي قتل بعضهم بعضا ، كما تقدم في سورة البقرة. (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) شعور بهوانهم على الناس ، واحتقارهم لهم ، وخروجهم من ديارهم (وَكَذلِكَ) أي كما جزيناهم (نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) على الله بالإشراك وغيره (ثُمَّ تابُوا) رجعوا عن السيئات (وَآمَنُوا) بالله (مِنْ بَعْدِها) أي التوبة (لَغَفُورٌ) لهم (رَحِيمٌ) بهم.

١٠٥

المناسبة :

الربط بين هذه الآيات وما قبلها واضح ، فبعد أن ذكر تعالى عتاب موسى لأخيه هارون عليهما‌السلام ، ثم استغفاره لنفسه ولأخيه ، ذكر جزاء الظالمين باتخاذ العجل إلها ومعبودا ، وقبول توبة التائبين. وهذا هو الفصل الثالث من قصة عبادة العجل.

التفسير والبيان :

إن الذين اتخذوا العجل من بني إسرائيل إلها ومعبودا بعد غيبة رسولهم موسى عليه‌السلام ، وبقوا على تأليهه واستمروا على عبادته كالسامري وأتباعه ، سيصيبهم عذاب شديد من ربهم ، وهو المذكور في سورة البقرة ، وهو أن الله تعالى لن يقبل توبتهم حتى يقتتلوا ، ويقتل بعضهم بعضا : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ ، فَتابَ عَلَيْكُمْ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة ٢ / ٥٤].

وسينالهم أيضا ذلة وصغار في الحياة الدنيا ، بخروجهم من ديارهم وتشردهم ، وهوانهم على الناس واحتقارهم لهم ، وتهالكهم على حب الدنيا ، فهم الماديون المنبوذون المكروهون في كل أمة ، وتلك هي ذلة عظيمة المعنى ، ونظيره قوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة ٢ / ٦١] والذلة بمعناها القريب والبعيد. وأما قيام دولتهم في فلسطين فهي محنة للمسلمين ، فربما أناس سلّط عليهم من هو شر لهم ، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن بقاء دولة الصهاينة في فلسطين شيء مستحيل ، ولا تؤيده الظروف والقرائن المشاهدة ، وقد بشرت الأحاديث النبوية بقتلهم وطردهم منها ، ولكل أجل كتاب.

ومثل ذلك الجزاء الذي نزل بالظالمين من بني إسرائيل في الدنيا نجزي القوم

١٠٦

المفترين على الله في كل زمان ، والمعنى : أن كل مفتر في دين الله جزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا.

ويشمل ذلك كل من افترى بدعة وخالف الرشاد ، وقال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم ، وإن هملجت بهم البغلات ، وطقطقت بهم البراذين (١).

وروى عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) فقال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.

وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل (٢).

ومن عادة القرآن مقابلة الأشياء بأضدادها ، فبعد أن ذكر جزاء الظالمين ، فتح باب الأمل أمام التائبين ، فنبه الله تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبتهم من أي ذنب كان ، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق ، فقال : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ...) أي والذين ارتكبوا الأعمال السيئة والمعاصي المنكرة شرعا وعلى رأسها الكفر والشرك ، ثم تابوا أي رجعوا من بعدها إلى الله ، بأن آمن الكافر ، وأقلع العاصي عن عصيانه ، واستقام المؤمن على منهج ربه ، وآمنوا إيمانا خالصا من الشوائب ، وقرنوا الإيمان بالعمل الصالح ، إن ربك يا محمد من بعد تلك الفعلة لغفور لهم ، ستار لذنوبهم ، رحيم بهم يجزي بالحسنة عشر أمثالها ، ويكافئ على القليل بالجليل الكثير.

سئل ابن مسعود عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها ، فتلا هذه الآية : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها ، وَآمَنُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فتلاها عبد الله عشر مرات ، فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٤٨.

(٢) المرجع والمكان السابق.

١٠٧

وهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولا ، وذلك بأن يتركها ويرجع عنها ، ثم يؤمن بعد ذلك ، يؤمن بالله تعالى ، ويصدق بأنه لا إله غيره. وهذه الآية تدل على أن جميع السيئات قابلة للغفران بالتوبة ، وهذه بشارة عظمي للمذنبين.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيتان مبدأين مهمين : مبدأ العدل في العقاب ، ومبدأ الرحمة بالعصاة التائبين.

أما المبدأ الأول ـ وهو عدالة العقاب فهو ما قامت عليه شريعة الله ، فمن أشرك بالله إلها آخر ، كما فعل بنو إسرائيل في غيبة موسى عليه‌السلام ، فهو ظالم لنفسه ، يستحق غضب الإله عليه ، ومصاحبة الذلة والهوان له في الحياة الدنيا. ومن ابتدع شيئا ليس في دين الله فهو مفتر يناله من الجزاء مثل جزاء الظالمين الكافرين ؛ لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي المبتدعين ، قال الإمام مالك رحمه‌الله : ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلّة.

وينطبق ذلك على الناس كلهم في الماضي والحاضر والمستقبل ، فهو يشمل فعلة بني إسرائيل في عهد موسى عليه‌السلام ، وكل من رضي بفعلهم كاليهود في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كل زمن على ممر الأجيال.

وأما المبدأ الثاني ـ مبدأ الرحمة بالعصاة التائبين فهو فضل عظيم من الله تعالى على هذه الأمة المسلمة وعلى الأمم كلها ، ففي الآية خبر قاطع وقرار حاسم وحكم دائم وهو أن الله يقبل توبة التائب من الشرك وغيره من المعاصي ؛ لأن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) يشمل الكفر وسائر المعاصي. ورحمة الله سبقت غضبه ، ورحمته وسعت كل شيء ، فمن آمن بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن دستورا ، وتاب من كفره أو معصيته ، وعمل صالحا فإن الله من بعد توبته غفور له رحيم به.

١٠٨

نهاية قصة اتخاذ العجل إلها

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

الإعراب :

(وَلَمَّا سَكَتَ لَمَّا) : ظرف زمان ، ويفتقر إلى جواب ، وجوابها (أَخَذَ الْأَلْواحَ) وهو العامل فيها.

(وَفِي نُسْخَتِها هُدىً) مبتدأ وخبر في موضع نصب على الحال من (الْأَلْواحَ) والعامل فيه (أَخَذَ).

(لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أدخل اللام على المفعول لتقدمه.

البلاغة :

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) استعارة مكنية ، شبه الغضب بإنسان ثائر يرعد بصوته ، طالبا الانتقام ، ثم حذف المشبه به ، وصرح بشيء من لوازمه وهو : (سَكَتَ) أي اختفى الصوت. وهو تشبيه لطيف رائع بليغ.

المفردات اللغوية :

(سَكَتَ) سكن ، والسكون لغة : ترك الكلام ، نسب إلى الغضب على طريقة تصويره بصورة شخص ثائر يأمر وينهى. قال الزمخشري : هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ، ويقول له : قل لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجرّ برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء.

١٠٩

(أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي ألقاها (وَفِي نُسْخَتِها) أي ما نسخ أو كتب فيها (هُدىً) بيان للحق من الضلالة (وَرَحْمَةٌ) بالإرشاد إلى الخير والصلاح. (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) يخافون ، والرهبة : أشد الخوف.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى لنا ما كان من موسى حال الغضب ، وانقسام قومه قسمين : مصر على عبادة العجل ، وتائب إلى الله من ذلك ، بيّن في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب ، وسكون النفس وهدأة البال. وإذا كان موسى سريع الغضب حاد الطبع ، فهو أيضا سريع العودة إلى الحلم حينما يعود الحق إلى نصابه ، ويعدل الظالم عن ظلمه.

وهذا هو الفصل الرابع والأخير من قصة عبادة العجل.

التفسير والبيان :

ولما سكن غضب موسى على قومه ، وهدأت نفسه بتوبة أكثرهم ، أخذ الألواح التي كتبت فيها التوراة ، والتي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل ، غيرة لله وغضبا له ، فوجد فيها هدى للحيارى ، ورحمة بالعصاة التائبين الذين يخافون من ربهم أشد الخوف على ما يصدر منهم من ذنوب ، ويخشون عذابه وحسابه. وقد ضمن الرهبة معنى الخضوع ، فعداها باللام.

ذكر ابن عباس : أنه لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما ، فردّت عليه ، وأعيدت له تلك الألواح في لوحين ، ولم يفقد منها شيئا. قال القشيري : فعلى هذا : (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً) أي وفيما نسخ من الألواح المتكسرة ، ونقل إلى الألواح الجديدة هدى ورحمة. وقال عطاء : وفيما بقي منها. وذلك أنه لم يبق منها إلا سبعها ، وذهب ستة أسباعها. ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شيء.

١١٠

فقه الحياة أو الأحكام :

الحلم سيد الأخلاق ، فحينما هدأت نفس موسى عليه‌السلام ، وعاد إلى أناته وحلمه ، أخذ يتدارس الألواح التي كتبت فيها التوراة ، فوجد فيها بيان الحق من الضلال ، والهدى من الانحراف ، والرحمة من العذاب ، ببيان وجه الرشاد وسلوك طريق الخير والصلاح ، لمن كان يخاف ربه ويخشى عقابه.

وفي ضوء ما وجد فيها من حدود وأحكام ، أخذ يرشد قومه إلى ما فيها ، ويحملهم على العمل بها ؛ لأنها شريعة الله لبني إسرائيل. وتلك هي فترة الاستقرار في حياة موسى على ما يظهر لنا ، بعد أن مرّ بتقلبات وأحوال شديدة التأثير ، كاد بها يخسر إيمان قومه برسالته إلى الأبد ، لولا عودته إلى النصح والإرشاد بما نزل في التوراة.

اختيار موسى سبعين رجلا لميقات الكلام والرؤية

ومناجاته ربه

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥))

الإعراب :

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) : (قَوْمَهُ) ، و (سَبْعِينَ) : منصوبان باختار ، إلا أنه تعدى إلى (سَبْعِينَ) من غير تقدير حذف حرف جر ، وتعدى إلى (قَوْمَهُ) بتقدير حذف حرف جر ، والتقدير فيه : واختار موسى من قومه سبعين رجلا ، فحذف حرف الجر ، فتعدي الفعل إليه.

١١١

البلاغة :

(تُضِلُ) و (تَهْدِي) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي اصطفى من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً) أي ممن لم يعبدوا العجل في رأي أكثر المفسرين ، اختارهم بأمره تعالى (لِمِيقاتِنا) للوقت الذي وعدناه بإتيانهم فيه ، ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي فخرج بهم ، فلما أصابتهم الصاعقة أو الزلزلة الشديدة التي هزت القلوب والأبدان (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي قبل خروجي بهم ، ليعاين بنو إسرائيل ذلك ولا يتهموني.

(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) استفهام استعطاف ، أي لا تعذبنا بذنب غيرنا. (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي ما هي أي الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك وامتحانك (مَنْ تَشاءُ) إضلاله (مَنْ تَشاءُ) هدايته (أَنْتَ وَلِيُّنا) متولي أمورنا.

المناسبة :

هذه الآية استمرار في بيان ما حدث لموسى عليه‌السلام أثناء مناجاة ربه ، فقد بدأ الله تعالى قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية بقوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الآية : ١٤٣] ثم استطرد لبيان قصة عبادة العجل ، ثم عاد لإتمام ما حدث في ذلك الميقات ، فهو ميقات الكلام والرؤية نفسه ، وليس ميقاتا آخر ، كما رجح الرازي ؛ لأنه تعالى قال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) ثم قال : (وَاخْتارَ مُوسى) .. (لِمِيقاتِنا) فدل على أن المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات (١).

التفسير والبيان :

أوحى الله إلى موسى أن يختار معه لميقات الكلام والرؤية سبعين رجلا من

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٧ ـ ١٨

١١٢

قومه بني إسرائيل ، ففعل ، وأتى بهم للميقات الذي وقّته الله تعالى وهو مكان في جبل الطور: طور سيناء حيث ناجى ربه ، وقد أمرهم أن يصوموا ، ويتطهروا ، ويطهروا ثيابهم.

والظاهر من ترتيب سرد الآيات أن اختيار هذا العدد كان عند طلب موسى رؤية اللهعزوجل قبل اتخاذ عبادة العجل ، وذلك ليكون سماعهم مناجاة موسى ربه دليلا على صدقه ، فلما أتوا ذلك المكان قالوا : يا موسى ، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فإنك قد كلمته فأرناه ، فأخذتهم رجفة الجبل وصعقوا حينما ألحوا في طلب الرؤية.

ولم تكن تلك الرجفة موتا ، ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة ، أخذتهم الرعدة ورجفوا ، وخاف موسى عليه‌السلام الموت ، فعند ذلك بكى ودعا ، فكشف الله عنهم تلك الرجفة. قال وهب : ما ماتوا ، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تبين مفاصلهم ، وخاف موسى عليهم الموت.

ولما أخذتهم الرجفة قال موسى : رب أتمنى لو كانت مشيئتك قد سبقت بإهلاكهم قبل هذا الوقت وقبل خروجهم معي إلى هذا المكان ، أي حين طلب الرؤية ، وأهلكتني معهم كذلك قبل أن أرى ما رأيت من رعدتهم ، كيلا أحرج مع قومي ، فيقولوا : قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم.

ثم أردف موسى قائلا : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أي حيث طلبوا الرؤية لك جهارا لسماعهم كلامك ، وهو قولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب.

وما هي إلا فتنتك أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك حين كلمتني ، فسمعوا كلامك وطلبوا الرؤية ، فليس الأمر إلا أمرك ، وما الحكم إلا لك ، فما شئت كان ، تضل بالمحنة من تشاء من عبادك وهم الجاهلون غير المتثبتين في معرفتك ،

١١٣

ولست بالظالم لهم أبدا في تقديرك ، بل هذا موافق لطبعهم وكسبهم واختيارهم ، وتهدي بالمحنة أيضا من تشاء من عبادك ، وهم المؤمنون المتثبتون في معرفتك ، ولست بالمحابي لهم في توفيقك للهداية ، بل هذا متفق مع طبعهم وكسبهم واختيارهم ، ولو ترك الفريقان وشأنهم لاختار كل منهم ما هو فيه وما قدر له. وإنما استفاد ذلك موسى عليه‌السلام من قوله تعالى له : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) [طه ٢٠ / ٨٥] وجعل ذلك إضلالا من الله وهدى منه ؛ لأن محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا ، فكأنه أضلهم بها وهداهم ، على الاتساع في الكلام.

أنت ولينا ، أي المتولي أمورنا والمهيمن علينا ، فاغفر لنا أي استر ذنوبنا ولا تؤاخذنا بها ، وارحمنا وإن قصرنا وفرطنا ، وأنت خير الغافرين ، أي الساتر ذنوب العباد ، العافي عن السيئات ، ورحمتك وسعت كل شيء ، ومغفرتك ورحمتك بلا سبب ولا علة ولا لمصلحة ولا لعوض ، أما غيرك فإنما يغفر لأغراض عديدة كحب الثناء وطلب النفع أو لدفع الضرر ، وأنت تغفر لمحض الفضل والجود والكرم ، فهو حقا وقطعا خير الغافرين.

قال ابن كثير : والرحمة إذا قرنت مع الغفر ، يراد بها ألا يوقع العبد في مثل الذنب في المستقبل (١).

وقوله : (أَنْتَ وَلِيُّنا) يفيد الحصر ، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت.

وقيل : في تفسير الآية وطلب موسى إهلاكهم وقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) : أن الفتنة يراد بها عبادة العجل ، وأن طلب الإهلاك حينما عبدوا العجل ، وأن الذين عبدوه هم السفهاء وهم الأكثرون ، وأما عقلاء بني إسرائيل فلم يعبدوه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٥٠

١١٤

فقه الحياة أو الأحكام :

على المؤمن أن يلتزم الأدب مع الله وألا يسلك مسلك العناد ، فطلب القوم رؤية الله عزوجل قياسا منهم على سماع كلامه ، أدى بهم إلى إنزال الصاعقة أي الزلزلة الشديدة في الجبل الذي كانوا عليه.

وإذا كان هذا سبب الرجفة ، فإن عبادة العجل تستحق عذابا أشد وأنكى.

والمراد بالإضلال في قوله : (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) ليس الإجبار أو الإكراه على الوقوع في الضلال كما تقول الجبرية ؛ لأنه لم يقل : تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين ، ولأنه تعالى قال : (تُضِلُّ بِها) أي بالرجفة ، ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها ، فوجب التأويل ، وتأويل ذلك أنك تعاقب من تشاء بشرط ألا يؤمن ، أو تهلك من تشاء بهذه الرجفة.

وكذلك الهداية في قوله : (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) يراد بها التوفيق والإرشاد إلى وجوه الهداية ومسالكها.

ولا شك أن خالق الداعية إلى الإيمان والكفر إنما هو الله تعالى ، والعبد بقدرته الصالحة للإيمان والكفر يرجح أحد الجانبين على الآخر لما خلق الله فيه ، وحينئذ تكون الهداية من الله تعالى ، والإضلال من الله تعالى (١) ، أي بالخلق والإيجاد ، لا بالكسب والتحصيل ، فالأول فعل الله والثاني فعل الإنسان.

فبنو إسرائيل هم الذين أظهروا العناد ، فطلبوا رؤية الله جهرة ، وهم الذين اخترعوا عبادة العجل.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٩.

١١٥

بقية دعاء موسى عند مشاهدة الرجفة

وربط الإيمان برسالته برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧))

البلاغة :

(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) وكذا (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) فيهما ما يسمى بالمقابلة : وهي الإتيان بمعنيين فأكثر ، ثم الإتيان بما يقابلها بالترتيب.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) استعار الإصر والأغلال لتكاليفهم الثقيلة أو الشاقة ، فالإصر والأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة.

المفردات اللغوية :

(وَاكْتُبْ) أوجب (حَسَنَةً) الحسنة في الدنيا : الصحة والغنى عن الناس ، والاستقلال ، والحسنة في الآخرة : الجنة ونيل الرضوان (هُدْنا) رجعنا وتبنا ، فهو هائد ، وقوم هود (مَنْ

١١٦

أَشاءُ) تعذيبه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) عمت كل شيء في الدنيا (فَسَأَكْتُبُها) أحكم بها في الآخرة ، أي سأوجب حصول رحمتي ، منّة مني وإحسانا إليهم ، كما قال تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام ٦ / ٥٤].

(لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات ، وهم أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم الذين يتقون الشرك والعظائم من الذنوب (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يخرجون زكاة الأموال التي تتزكى بها نفوسهم.

(النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) النبي لغة مأخوذ من النبوة وهي الارتفاع ، ومن النبأ : وهو الخبر المهم العظيم الشأن ، وفي الشرع : هو من أوحى الله إليه بشرع ولم يأمره بتبليغه. والرسول : هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه. ولا يشترط الاستقلال بالشرع أو بالكتاب ، بل قد يكون تابعا لشرع غيره كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة. والأمي : الذي لم يقرأ ولم يكتب ، ولقب العرب بالأميين كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة ٦٢ / ٢] وحكى تعالى عن أهل الكتاب : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا : لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران ٣ / ٧٥] والنبي الأمي : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) باسمه ووصفه (بِالْمَعْرُوفِ) ما تعارفت العقول السليمة والفطر النقية على حسنه ، وذلك موافق لما ورد الأمر به في الشرع.

(الْمُنْكَرِ) ما تنكره النفوس والشرائع لمصادمته للفطرة والمصلحة.

(الطَّيِّباتِ) ما تستطيبه الأنفس والطباع السليمة من الأطعمة ، ومعنى قوله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) أي مما حرم في شرعهم (الْخَبائِثَ) ما تستخبثه الطباع السليمة وتنفر منه كالميتة والدم المسفوح ، أو يكون سببا في الضرر البدني كالخنزير الذي يسبب أكله الدودة الوحيدة وغيرها من المضار ، أو الضرر الديني كالمذبوح الذي يتقرب به لغير الله. والخبيث من الأموال : ما يؤخذ بغير حق كالربا والرشوة والسرقة والغضب ونحو ذلك من المكاسب الخبيثة.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحركة لثقله ، مثل اشتراط قتل الأنفس بالتقاتل في صحة توبتهم (وَالْأَغْلالَ) الشدائد أو التكاليف الشاقة ، والأغلال جمع غل : وهو القيد الذي تربط به يد الجاني إلى عنقه. والمراد هنا : ما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة ، مثل إيجاب القصاص في القتل مطلقا ، عمدا كان أو خطأ ، من غير شرع الدية ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وإحراق الغنائم ، وتحريم العروق في اللحم ، وتحريم السبت أي تحريم العمل فيه.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) منهم (وَعَزَّرُوهُ) أي أعانوه ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدو ، أي

١١٧

حاموا عنه (النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي القرآن ، وإنما أنزل مع جبريل ، فالمراد : أنزل مع نبوته ، وصارت نبوته مصحوبة بالقرآن.

التفسير والبيان :

هذا من تتمة دعاء موسى عليه‌السلام عند مشاهدة الرجفة ، فأعلن أولا أنه لا ولي إلا الله بقوله : (أَنْتَ وَلِيُّنا) والمتوقع من الولي والناصر أمران : دفع الضرر ، وتحصيل النفع ، ولما كان دفع الضرر مقدما على تحصيل النفع ، بدأ بطلب دفع الضرر ، فقال : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع بقوله : (وَاكْتُبْ).

أي أوجب لنا وأثبت لنا بفضلك ورحمتك حسنة ، أي حياة طيبة في الدنيا بتوفير نعمة الصحة والعافية ، وسعة الرزق ، والتوفيق في العمل ، والاستقلال في الأمور العامة ، ومثوبة حسنة في الآخرة بدخول جنتك والظفر برضوانك وفيض إحسانك ، وذلك كقوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة ٢ / ٢٠١].

(إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك ، أي ندمنا على ما طلبه قومنا من اتخاذ الآلهة وعبادة العجل ورؤية الله جهرة ونحو ذلك من فعل السفهاء ، ورجعنا إلى الإيمان المقرون بالعمل.

قال الله : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) من الكفار والعصاة ، أما رحمتي فقد وسعت كل شيء في العالمين ، والعذاب مما يترتب على صفة العدل ، ولكن الرحمة أشمل ، ولو لا عموم الرحمة لهلك الكفار والعصاة عقب كفرهم وعصيانهم ، كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر ٣٥ / ٤٥] وقال عزوجل : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) [الكهف ١٨ / ٥٨].

١١٨

والمراد من آية العذاب هنا : أني أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد ، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك. ثم قرن ذلك بما يطمئن العباد وهو أن الرحمة تسبق الغضب ، وهي أعم وأشمل منه ، فهذه آية عظيمة الشمول والعموم ، كقوله تعالى عن حملة العرش ومن حولهم أنهم يقولون : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر ٤٠ / ٧].

ثم وصف الله تعالى مستحقي الرحمة وذكر من تثبت لهم : وهم الذين يتصفون بهذه الصفات وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي :

١ ـ الذين يتقون الشرك والمعاصي أو الذنوب.

٢ ـ والذين يؤتون الزكاة التي تتزكى بها نفوسهم ، وتشمل زكاة الأنفس وزكاة الأموال. وخصت الزكاة بالذكر لعلاج مرض الماديين النفعيين وهم اليهود وأمثالهم ، ولأن النفوس شحيحة بها غالبا.

٣ ـ والذين يؤمنون ، أي يصدّقون بآياتنا الدالة على توحيدنا ، وكفاية شريعتنا وسموها وصلاحيتها للعمل والتطبيق ، وصدق رسلنا.

وهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الثلاث هم متبعو ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وها هي صفاته في كتب الأنبياء ، بشروا أممهم ببعثته ، وأمروهم بمتابعته ، وأوصافه عندهم سبعة وهي:

١ ـ الرسول النبي الأمي : أي الذي لم يقرأ ولم يكتب ، فالأمية آية من آيات نبوته ، وأن القرآن المعجز منزل عليه من عند الله ، فهو مع أميته أتى بأكمل العلوم وأجداها في العقيدة والعبادة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق والأعمال. واتباعه : باعتقاد نبوته والعمل برسالته. وهذه الصفة يمكن أن تتنوع إلى صفات ثلاث : هي الرسول : أي المرسل من الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف. والنبي وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى ، والأمي.

١١٩

٢ ـ وهو الذي يجدون اسمه وصفته كتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، لذا آمن به بعض علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام ، وبعض علماء النصارى مثل تميم الداري. فأما المستكبرون فكانوا يكتمون البشارات به في كتبهم ، ويؤولونها. روى الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي قال : حدثني رجل من الأعراب قال : جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما فرغت من بيعي قلت : لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ، قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون ، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها ، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت ، كأجمل الفتيان وأحسنها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنشدك بالذي أنزل التوراة ، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟» فقال برأسه هكذا ، أي لا ، فقال ابنه : إي ، والذي أنزل التوراة ، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله فقال : «أقيموا اليهودي عن أخيكم» ثم تولى كفنه والصلاة عليه (١).

وجاء في الباب الثالث والثلاثين في التوراة من سفر تثنية الاشتراع : «جاء الرب من سينا ، وأشرق من ساعير ، واستعلى من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار ، في يمينه قبس من نار» ومجيئه من سينا : إعطاؤه التوراة لموسى عليه‌السلام ، وإشراقه من ساعير : إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه ، واستعلاؤه من جبال فاران : إنزاله القرآن ؛ لأن فاران من جبال مكة.

وجاء في الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا : «فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق ، فهو يشهد لي ، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء» والفارقليط بالعبرية : معناه أحمد ، كما

__________________

(١) قال ابن كثير في تفسيره (٢ / ٢٥١) : هذا حديث جيد قوي ، له شاهد في الصحيح عن أنس.

١٢٠