التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))

الإعراب :

(أَضْعافاً مُضاعَفَةً) : أضعافا حال منصوب من الربا ، ومضاعفة : صفة له (وَسارِعُوا) معطوفة على ما قبلها من القصص (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) و (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الأولى جملة اسمية والثانية فعلية ، وهما في موضع جر صفة لجنة.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) : (مَنْ) استفهام معناه النفي : مبتدأ ، و (يَغْفِرُ) : خبره ، وفيه ضمير يعود إلى (مَنْ). و (إِلَّا اللهُ) : بدل من ضمير (يَغْفِرُ) ، وتقديره : ما يغفر الذنوب إلا الله.

(وَجَنَّاتٌ تَجْرِي ..) جملة : تجري فعلية في موضع رفع صفة لجنات ، والعائد إليها الهاء في (تَحْتِهَا). (خالِدِينَ فِيها) حال من أولئك ، أي مقدرين الخلود فيها. (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : ونعم أجر العاملين الجنة ، وحذف لدلالة الكلام المتقدم عليه.

البلاغة :

(أَضْعافاً مُضاعَفَةً) جناس اشتقاق.

(لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) مجاز مرسل ، سمي الأخذ أكلا ؛ لأنه يؤول إليه.

(عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) تشبيه بليغ حذف منه أداة الشبه ، أي كعرض السموات والأرض.

(سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) أي إلى موجب مغفرة ، تسمية للشيء باسم سببه.

(السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) فيه طباق.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) استفهام يقصد منه النفي أي لا يغفر.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ) الإشارة بالبعيد للدلالة على علو منزلتهم.

(وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) حذف منه المخصوص بالمدح أي ونعم أجر العاملين الجنة.

المفردات اللغوية :

(أَضْعافاً مُضاعَفَةً) بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب ، وضعف

٨١

الشيء : مثله ، وهذه المضاعفة : إما في الزيادة فقط التي هي الربا ، وإما بالنسبة إلى رأس المال كاستدانة مائة بثلاثمائة (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك الربا بأن تجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه (تُفْلِحُونَ) تفوزون (وَاتَّقُوا النَّارَ) أن تعذبوا بها (أُعِدَّتْ) هيئت (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) بادروا إلى الأسباب المؤدية إليها من الأعمال الصالحة ، كالصدقة وفعل الخير والتوبة عن الآثام كالربا ونحوه (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي كعرضهما لو وصلت إحداهما بالأخرى ، والعرض : السعة ، والمراد وصف الجنة بالسعة.

(السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) السراء : الحال التي تسر ، والضراء : الحال التي تضر ، وفسرهما ابن عباس باليسر والعسر (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الحابسين والكاتمين له مع القدرة على إمضائه. والغيظ : أشد أنواع الغضب ، وهو ألم شديد يحدث في النفس عند الاعتداء على حق مادي كالمال والولد ، أو معنوي كالشرف والعرض والكرامة.

(الْمُحْسِنِينَ) الإحسان : الإنعام والتفضل على الغير على نحو لا مذمة فيه (فاحِشَةً) الفاحشة : الذنب الكبير والفعل القبيح الذي يتعدى أثره إلى الغير كالزنا والغيبة ونحوهما. وظلم النفس : هو الذنب الذي يقتصر أثره على الفاعل كشرب الخمر ونحوه.

(ذَكَرُوا اللهَ) تذكروا وعده ووعيده ، وأمره ونهيه ، وعظمته وجلاله.

(يُصِرُّوا) يداوموا ، والمراد شرعا بالإصرار على الذنب : الاستمرار في فعل القبيح دون إقلاع عنه من غير تراجع ولا استغفار ولا توبة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن الذي أتوه معصية.

سبب النزول :

نزول الآية (١٣٠):

أخرج الفريابي عن مجاهد قال : كانوا يبتاعون إلى الأجل ، فإذا حل الأجل ، زادوا عليهم ، وزادوا في الأجل ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

وأخرج أيضا عن عطاء قال : كانت ثقيف تداين بني النصير ، فإذا جاء الأجل قالوا : نربيكم وتؤخرون عنا ، فنزلت : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

٨٢

نزول الآية (١٣٥):

قال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت الآية في نبهان التّمّار ، وكنيته أبو مقبل ، أتته امرأة حسناء ، باع منها تمرا ، فضمها إلى نفسه وقبّلها ، ثم ندم على ذلك ، فأتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية.

المناسبة :

بعد أن حذر الله المؤمنين من اتخاذ البطانة من غير المسلمين ، وبيّن أنهم إن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا ، وذكر مثالا للصبر والتقوى في غزوتي بدر وأحد وما فعله المشركون واليهود ، حذر هنا المسلمين من فحش صفة لازمة لليهود والمشركين وهي الربا ، واستتبع هذا بيان ألوان من الترغيب والترهيب والإرشادات وثمرة فعل الخير والشر.

التفسير والبيان :

يا أيها المؤمنون ، إياكم أن تأكلوا الربا كما كان الناس يفعلون في الجاهلية ، فهو نهي صريح للمؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة ، كما كانوا في الجاهلية يقولون : إذا حل أجل الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي ، فإن قضاه وإلا زاده في المدة ، وزاده الآخر في قدر الفائدة ، وهكذا كل عام ، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا.

وضم الله تعالى إلى هذا النهي لتأكيد تحريم الربا أمر المؤمنين بالتقوى لعلهم يفلحون في الدنيا والآخرة ، ثم زاد النهي تأكيدا فتوعدهم بالنار ، وحذرهم منها ثم شدد في الأمر بإطاعة الله والرسول ، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات ، والمسارعة إلى نيل القربات.

وقد أوضحت في الجزء الثالث في تفسير آيات الربا (٢٧٥ ـ ٢٧٦ ،

٨٣

٢٧٨ ـ ٢٧٩) من سورة البقرة أن هذه الآية نزلت في المرحلة الثالثة من مراحل تدرج التشريع في تحريم الربا ، وأن قليل الربا ولو ١% وكثيره حرام ، وأن الآيات القرآنية التي في سورة البقرة والتي هي آخر الأحكام نزولا دلت على تحريم نوعي الربا : ربا النسيئة (أي الأجل) وربا الفضل (أي الزيادة الحالية) وأن تحريم الربا بنوعيه إنما هو لمصلحة الأمة ، لما فيه من خطر على الفرد والجماعة ، وأن تحريم ربا الفضل من باب سد الذرائع ، أي حتى لا يكون ذريعة يتذرع به إلى ربا النسيئة ، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا ، سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا مادية كثيرة أو قليلة.

وربا الجاهلية أو ربا النسيئة هو ما يسمى اليوم في المصارف الربوية بالربا الفاحش أو الربح المركب أو الفائدة المركبة مع مرور الزمن ، وهو محرم قطعا بنص القرآن الكريم ، وأما التقييد بالأضعاف المضاعفة في الآية فهو قيد لبيان الواقع وتصوير للحالة التي كان عليها الناس في الجاهلية ، وتشنيع عليهم بأن في هذه المعاملة ظلما صارخا واستغلالا واضحا لحاجة المدين. ولا يعني هذا التقييد أصلا أن الربا اليسير حلال ، وأن الحرام هو الربا الفاحش فقط ، فذلك ليس مرادا من الآية ، فالربا قل أو كثر هو حرام وكبيرة من الكبائر ، وليس لهذا القيد أي مفهوم. ولا يبلح الربا بحال إلا للمضطر في حدود الضرورة القصوى ، مثل الإقدام على أكل الميتة ، كأن غلب على ظنه الوقوع في الهلاك جوعا ، أو تعرض للعيش في الشارع بلا مسكن يأوي إليه ، أما الاقتراض بفائدة للتوسع في التجارة أو الصناعة أو الزراعة ، فهو حرام ، إلا إذا كان مهددا بغالب الظن بالإفلاس أو تلف المحصول الزراعي ، فهو حرام ، إلا إذا كان مهددا بغالب الظن بالإفلاس أو تلف المحصول الزراعي ، ولم يجد أحدا يقرضه القرض الحلال ، فله الاقتراض بفائدة بقدر إنقاذ نفسه من الضائقة المستحكمة ؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.

ومما يبشر بخير في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحالية نجاح مؤسسات المصارف

٨٤

وشركات التأمين الإسلامية التي تقوم على أساس عقود المضاربة والمرابحة والضمان وغيرها مما أباحه الفقهاء ، وليس فيه الربا الحرام أو الغرر والمقامرة المحرمان شرعا.

وأكد الله تعالى النهي عن الربا بالأمر بتقوى الله فيما نهينا عنه من الأمور ، ومنها الربا ، لنحقق لأنفسنا الفوز والفلاح في الدنيا بالتعاون والتراحم المؤديين إلى المحبة ، والمحبة أساس السعادة ، وفي الآخرة بالظفر برضوان الله وبالجنة.

وزاد النهي تأكيدا بالتحذير مما يؤدي إلى النار ، ومنه الربا ، تلك النار التي هيأها الله للكافرين ومنهم المرابون ، فإذا لم يمتثلوا جانب التقوى واتقاء المعاصي ، صاروا في عداد أهل النار ، روي عن أبي حنيفة رحمه‌الله : إن هذه أخوف آية في القرآن ، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمه. وقد عرفنا في سورة البقرة أن الله تعالى أعلن الحرب والعداوة من الله ورسوله على أكلة الربا.

ثم شدد تعالى في النهي تشديدا بليغا ، فأمر بإطاعة الله ورسوله فيما نهى عنه الله ورسوله من أخذ الربا ، كي يرحم الناس في الدنيا بصلاح حالهم ، وفي الآخرة بحسن الجزاء على أعمالهم.

ثم أمر عزوجل بالمبادرة إلى ما يوجب مغفرة الذنوب ودخول الجنان الواسعة الفسيحة التي أعدها الله للمتقين ، وهذا دليل على أن الجنة مخلوقة الآن. روى الإمام أحمد في مسنده: أن هرقل كتب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟» أي أنه إذا دار الفلك كان النهار في جانب من العالم ، والليل في الجانب الآخر ، فكذا الجنة في ناحية العلو ، والنار في جهة السفل ، فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار. ويمكن أن يكون

٨٥

المعنى : أنه لا يلزم إن عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث شاء الله عزوجل ، قال ابن كثير : وهذا أظهر لحديث أبي هريرة عند البزار قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أرأيت قوله تعالى : (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فأين النار؟ قال : «أرأيت الليل إذا جاء ، لبس كل شيء ، فأين النهار؟» قال : حيث شاء الله ، قال : «وكذلك النار تكون حيث شاء اللهعزوجل».

هذه أربعة تأكيدات للتّنفير من الرّبا : اتّقوا الله ، اتّقوا النّار ، أطيعوا الله ، أطيعوا الرّسول. ثمّ رغب تعالى بفعل الخير بعد التّرهيب ، فأمر بالمبادرة إلى فعل الطاعات كالصدقة والصّلة والتّراحم والتّعاون والبعد عن الآثام كالرّبا ونحوه ، وتلك الأعمال الخيرية هي التي تجعل المجتمع الإسلامي متراحما سعيدا مطمئنا لا أحقاد فيه ولا صراعات ولا حسد ولا بغض ولا كراهية بين الفقراء والأغنياء.

ثم ذكر الله تعالى أوصاف أهل الجنة ، وهي :

١ ـ الذين ينفقون في السّراء والضراء ، أي في الشدة والرّخاء ، والمنشط والمكره ، والصّحة والمرض ، وفي جميع الأحوال ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [البقرة ٢ / ٢٧٤] ، والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه ، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البرّ ، وجاء في الحديث عند أحمد والشيخين عن عدي : اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة».

والأمر بالإنفاق له هدفان :

الأول ـ أنّ الصدقة عون المحتاج وأخذ بيده إلى طريق الكفاية ، والرّبا استغلال الغني حاجة الفقير ، لذا قال تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ، فَأُولئِكَ هُمُ

٨٦

الْمُضْعِفُونَ) [الرّوم ٣٠ / ٣٩] ، وقوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة ٢ / ٢٧٦].

الثاني ـ أنّ الإنفاق في مختلف الأحوال يسرا وعسرا وغيرهما أدلّ على التّقوى ، وأعون على سدّ الحاجات المتكررة ، بنحو تدريجي بطيء ، فلا يكون فيه إرهاق على المنفق ، ولا إهمال للمحتاج حتى يصير في أدنى درجات الحاجة ، والحكمة تقول : «أعط القليل فالحرمان أقل منه». وحبّ الخير وتذكّر الآخرة هو الذي يحرّك في الإنسان عاطفة الرّحمة ، وداعية البذل لإنفاق القليل الدائم ، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع ، والقليل إذا اجتمع من الأفراد والجماعات صار كثيرا محققا للمطلوب ، لذا قال الله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق ٦٥ / ٧].

٢ ـ والكاظمين الغيظ أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموا ، فلم يعملوه مع القدرة على إمضائه وإنفاذه ، لا عن ضعف وعجز ، قال عليه الصّلاة والسّلام : «ليس الشديد بالصّرعة ، لكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (١). وروى أحمد أيضا أن حارثة بن قدامة السعدي قال : يا رسول الله ، أوصني ، قال : «لا تغضب».

وطريق علاج الغضب ما رواه أحمد وأبو داود عن عطية بن سعد السعدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وروى عبد الرّزاق عن أبي هريرة أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ، ملأ الله جوفه أمنا وإيمانا».

__________________

(١) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه.

٨٧

وأثر عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن خادما لها أغاظها فقالت : لله درّ التّقوى ، ما تركت لذي غيظ شفاء.

٣ ـ والعافين عن الناس أي الذين يتسامحون ويعفون عمن أساء إليهم مع القدرة على ردّ الاعتداء ، وتلك منزلة ضبط النفس التي تدلّ على سعة العقل ورجاحة الفكر وقوة الإرادة ومتانة الشخصية ، وهي أرقى من كظم الغيظ ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى ٤٢ / ٣٧] ، وروى الحاكم والطبراني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سرّه أن يشرف له البنيان ، وترفع له الدّرجات ، فليعف عمن ظلمه ، ويعط من حرمه ، ويصل من قطعه» (١). وعن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول : أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربّكم ، وخذوا أجوركم ، وحقّ على كلّ امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة».

وفي هذا إشارة إلى عفو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرّماة الذين خالفوا أمره في غزوة أحد ، وإلى تركه مجازاة المشركين بما فعلوه بحمزة رضي‌الله‌عنه حين قال ـ وقد رآه مثّل به كما جاء في السيرة ـ : «والذي نفسي بيده لأمثّلنّ بسبعين منهم».

٤ ـ والله يحبّ المحسنين : الذين يقابلون الإساءة بالإحسان ، إما بإيصال النّفع لمن أساء ، وإما بدفع الضّر عنه في الدّنيا بألا يقابل الإساءة بمثلها ، أو في الآخرة بالعفو عماله عند النّاس من الحقوق. وهذه مرتبة هي أعلى المراتب السابقة. أخرج البيهقي أنّ جارية لعلي بن الحسين رضي‌الله‌عنه جعلت تسكب عليه الماء ، ليتهيأ للصّلاة ، فسقط الإبريق من يدها فشجّه ، فرفع رأسه ، فقالت : إن الله يقول : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها : قد كظمت غيظي ،

__________________

(١) قال الحاكم : هو صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

٨٨

قالت : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال : قد عفا الله عنك ، قالت : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال : اذهبي فأنت حرّة لوجه الله تعالى.

٥ ـ والذين إذا فعلوا فاحشة ، أي ذنبا يتعدّى ضرره إلى الغير كالزّنى والرّبا والسّرقة والغيبة ونحوها ، أو ظلموا أنفسهم أي فعلوا ذنبا يقتصر ضرره عليهم كشرب الخمر ونحوه ، ذكروا وعد الله ووعيده ، وعظمته وجلاله ، فرجعوا إليه تائبين مستغفرين لذنوبهم ، طالبين رحمته.

علما ـ وهذه جملة اعتراضية ـ بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله ، ومن فضله وإحسانه وكرمه أنه يعفو عن المسيء ، ويتجاوز عن المذنب مهما عظمت الذنوب ، غير الشرك ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨] ، وقال أيضا : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف ٧ / ١٥٦].

وشرط قبول التوبة : عدم الإصرار على الذّنب ، وهذا قوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي تابوا من ذنوبهم ، ورجعوا إلى الله عن قريب ، ولم يستمرّوا على المعصية ويصرّوا عليها غير مقلعين عنها ، ولو تكرر منهم الذّنب تابوا منه ، كما قال الحافظ أبو يعلى في مسنده ، فإنه مع أبي داود والترمذي والبزار في مسنده رووا عن أبي بكررضي‌الله‌عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أصرّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرّة»(١).

وهم يعلمون أن الذي أتوه معصية ، ويذكرون ذنوبهم فيتوبون منها ، وأن من تاب تاب الله عليه ، وهذا كقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة ٩ / ١٠٤] ، وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ، يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء ٤ / ١١٠].

__________________

(١) حديث حسن.

٨٩

ثم أبان الله تعالى بعد وصف المتّقين بالأوصاف السابقة : أن أولئك المتّقين الموصوفين بهذه الصّفات جزاؤهم مغفرة من ربّهم على ذنوبهم ، وأمن من العقاب ، ولهم ثواب عظيم عند ربّهم في جنّات تجري من تحتها الأنهار ، أي من أنواع المشروبات ، وهم خالدون فيها أي ماكثون فيها ، ونعم هذا الجزاء على تلك الأعمال الصالحة وهو الجنة ، فهو تعالى يمدح الجنة ، وحقّ له المدح ، ففيها النعيم الأبدي المطلق ، وفيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات (١٣٠ ـ ١٣٢) على تحريم الرّبا من نواح أربعة : النّهي عنه (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) واتّقاء الله في أموال الرّبا فلا تأكلوا ، والوعيد لمن استحلّ الرّبا بالنّار ، ومن استحلّ الرّبا فإنه يكفر ، والأمر بإطاعة الله في تحريم الرّبا ، وإطاعة الرّسول فيما بلّغ الناس من التّحريم ، كي يرحمهم‌الله.

قال مجاهد : كانوا يبيعون البيع إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل زادوا في الثّمن على أن يؤخّروا ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً).

قال القرطبي (١) : وإنما خصّ الرّبا هنا من بين سائر المعاصي ؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة ٢ / ٢٧٩] ، والحرب يؤذن بالقتل ؛ فكأنه يقول : إن لم تتّقوا الرّبا هزمتم وقتلتم ، فأمرهم بترك الرّبا ؛ لأنه كان معمولا به عندهم.

ودلّت عبارة (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) المؤكّدة على شنعة فعلهم وقبحه ، ولذلك ذكرت حالة التّضعيف خاصة ، فإنهم كانوا يكرّرون التّضعيف عاما بعد عام.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ٢٠٢

٩٠

ودلّت آية (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) على أنّ النّار مخلوقة ، ردّا على الجهمية ؛ لأنّ المعدوم لا يكون معدّا.

وأرشدت آية (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) إلى وجوب المبادرة إلى ما يوجب المغفرة ، وهي الطاعة ، وقدم المغفرة على الجنّة ؛ لأنّ التّخلي مقدم على التّحلي ، فلا يستحقّ دخول الجنّة من لم يتطهّر من الذّنوب أولا.

واختلف العلماء في تأويل قوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فقال ابن عبّاس : تقرن السّموات والأرض بعضها إلى بعض ، كما تبسط الثياب ، ويوصل بعضها ببعض ، فذلك عرض الجنّة ، ولا يعلم طولها إلا الله. وهذا قول الجمهور. ولم تقصد الآية تحديد العرض ، ولكن أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه. وأشارت آية (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) إلى أن الجنّة مخلوقة موجودة كالنّار ، وهذا قول عامّة العلماء. ويؤيده نص حديث الإسرار وغيره في الصحيحين وغيرهما ، وحديث أبي ذر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما السّموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض».

وقالت المعتزلة : إنهما غير مخلوقتين في وقتنا ، وإن الله تعالى إذا طوى السّموات والأرض ، ابتدأ خلق الجنّة والنّار حيث شاء ؛ لأنهما دار جزاء بالثّواب والعقاب ، فخلقتا بعد التّكليف في وقت الجزاء ؛ لئلا تجتمع دار التّكليف ودار الجزاء في الدّنيا ؛ كما لم يجتمعا في الآخرة.

ويلاحظ أنه تعالى أمر بالمسارعة إلى عمل الآخرة في آيات كثيرة : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) [آل عمران ٣ / ١٣٣] ، (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) [الحديد ٥٧ / ٢١] ، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [البقرة ٢ / ١٤٨] ، (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة ٦٢ / ٩] ، (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين ٨٣ / ٢٦] ، وأما السّعي للدّنيا فذكر بها تذكيرا برفق مثل : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها)

٩١

[الملك ٦٧ / ١٥] ، (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) [المزمل ٧٣ / ٢٠]. وفي الآية (١٣٤) صفات المتّقين الأبرار : وهي الإنفاق في الرّخاء والشّدة ، وفي حال الصّحة والمرض ؛ وكظم الغيظ وكتمه وردّه في الجوف دون إنفاذ وإمضاء مع القدرة على ذلك ، والغيظ أصل الغضب والفرق بينهما : أن الغيظ لا يظهر على الجوارح (الأعضاء) بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما ، ولا بدّ أن يظهر ، ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى ؛ إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ؛ والعفو عن النّاس عند الإساءة ، وكل من استحقّ عقوبة فتركت له ، فقد عفي عنه ، والإحسان بعد الإساءة أعلى المراتب ، والإحسان : أن تحسن وقت الإمكان ، فليس كلّ وقت يمكنك الإحسان. ومعنى قوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي يثيبهم على إحسانهم.

وهذه أصول الفضائل وأمّهات مكارم الأخلاق. ثم ذكر الله تعالى بقوله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ...) صنفا هم دون الصنف الأول ، فألحقهم به برحمته ومنّه ، وهم التّوابون. ذكر التّرمذي وقال : حديث حسن ، وأبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : حدثني أبو بكر ـ وصدق أبو بكر ـ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من عبد يذنب ذنبا ، ثم يتوضأ ويصلّي ركعتين ، ثم يستغفر الله إلا غفر له» ، ثم تلا هذه الآية : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، ذَكَرُوا اللهَ ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ...) الآية ، والآية الأخرى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء ٤ / ١١٠]. والفاحشة تطلق على كلّ معصية ، وقد كثر اختصاصها بالزّنى ، حتى فسّر جابر بن عبد الله والسّدّي هذه الآية بالزّنى. وذكر الله : معناه الخوف من عقابه والحياء منه ، وذكر العرض الأكبر على الله ، والتّفكر في النّفس أن الله سائل عن الذّنب.

والاستغفار عظيم وثوابه جسيم ، ووقته الأسحار ، روى التّرمذي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم ،

٩٢

وأتوب إليه ، غفر له ، وإن كان قد فرّ من الزّحف». وروى مكحول عن أبي هريرة قال: «ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». قال علماء المالكية : الاستغفار المطلوب : هو الذي يحلّ عقد الإصرار ، ويثبت معناه في الجنان ، لا التّلفّظ باللسان. فأما من قال بلسانه : أستغفر الله ، وقلبه مصرّ على معصيته ، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار ، وصغيرته لا حقة بالكبائر. قال الحسن البصري : استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

وليس أحد يغفر المعصية ، ولا يزيل عقوبتها إلا الله تعالى.

والباعث على التوبة وحلّ الإصرار : إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار ، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنّة ، ووعد به المطيعين ، وما وصفه من عذاب النار وتهدّد به العاصين ، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه ، فدعا الله رغبا ورهبا ، والرّغبة والرّهبة : ثمرة الخوف والرّجاء ، يخاف من العقاب ، ويرجو الثّواب ، والله الموفق للصّواب.

وتصحّ التّوبة بعد نقضها بمعاودة الذّنب ؛ لأن التّوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحّت ، وهو محتاج بعد مواقعة الذّنب الثّاني إلى توبة أخرى مستأنفة ، والعود إلى الذّنب وإن كان أقبح من ابتدائه ؛ لأنه أضاف إلى الذّنب نقض التّوبة ، فالعود إلى التّوبة أحسن من ابتدائها ؛ لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم ، وأنه لا غافر للذّنوب سواه. ودليل ذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما يحكي عن ربّهعزوجل قال : «أذنب عبد ذنبا ، فقال : اللهم اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا ، فعلم أنّ له ربّا يغفر الذّنب ، ويأخذ بالذّنب ، ثم عاد فأذنب فقال : أيّ ربّ اغفر لي ذنبي ـ فذكر مثله مرّتين ، وفي آخره : اعمل ما شئت فقد غفرت لك». ومعنى العبارة الأخيرة وهو الأمر : الإكرام ، فيكون من باب قوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ).

٩٣

ودلّت الآية وهذا الحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذّنب والاستغفار منه ، أخرج الشّيخان في صحيحيهما ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تاب إلى الله ، تاب الله عليه». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون ، فيغفر لهم» وهذه فائدة اسم الله تعالى : الغفار والتّواب.

أنواع الذّنوب : الذّنوب التي يتاب منها : إما كفر أو غيره ، فتوبة الكافر : إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره ، وليس مجرّد الإيمان نفسه توبة. وغير الكفر إما حقّ الله تعالى ، وإما حقّ لغيره.

فحقّ الله تعالى يكفي في التّوبة منه التّرك ، لكن مع القضاء كالصّلاة والصّوم ، أو مع الكفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك.

وأما حقوق الآدميين : فلا بدّ من إيصالها إلى مستحقيها ، فإن لم يوجدوا تصدّق عنهم. فإن كان معسرا فعفو الله مأمول وفضله مبذول.

وليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه : أن يتوب منه بعينه ، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه.

ودلّ قوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا) على أنّ الإنسان يؤاخذ بما وطّن عليه بضميره ، وعزم عليه بقلبه من المعصية. وهذا يدلّ على أنّ الهم بالمعصية يؤاخذ عليه إن وطّن نفسه عليها(١). وأما معنى قوله عليه الصّلاة والسّلام في الحديث الصحيح : «من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة» أي لم يعزم على عملها ، فإن أظهرها أو عزم عليها عوقب عليها. وفي التّنزيل : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحجّ ٢٢ / ٢٥] عوقبوا قبل فعلهم بعزمهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ٢١٥

٩٤

وقوله تعالى : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ ..) فيه ترتيب فضل الله وكرمه بغفران الذّنوب لمن أخلص في توبته ، ولم يصرّ على ذنبه ، وهذا يشمل من فرّ في غزوة أحد ، ثم تاب ولم يصرّ ، فله مغفرة الله.

عاقبة المكذّبين والمتّقين وتوفير العزّة للمؤمنين بالجهاد

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١))

الإعراب :

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الواو إما للعطف ، أو للحال فيكون المعنى : ولا تضعفوا ولا تحزنوا ، وهذه حالكم.

(نُداوِلُها) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الأيام.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ) الواو : إما عاطفة على فعل مقدّر ، والتّقدير : لئلا يغترّوا وليعلم الله الذين امنوا ، وإما زائدة ، أي ليعلم الله. والوجه الأول أوجه.

٩٥

البلاغة :

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ) التفات من الحاضر في كلمة (نُداوِلُها) إلى الغيبة ، لتعظيم شأن الجهاد في سبيل الله.

المفردات اللغوية :

(قَدْ خَلَتْ) مضت (سُنَنٌ) طرائق في الكفار بإمهالهم ثم أخذهم ، واحدها سنة : وهي الطريقة المعتبرة والسّيرة المتّبعة. (وَهُدىً) من الضلالة أي تبصير وإرشاد إلى طريق الدّين القويم. (وَمَوْعِظَةٌ) ما يلين القلب ويدعو إلى التّمسك بالطاعة. (وَلا تَهِنُوا) تضعفوا عن قتال الكفار ، من الوهن : الضعف في العمل وفي الرّأي وفي الأمر. (وَلاتَحْزَنُوا) على ما أصابكم بأحد أو غيرها من المعارك من الهزيمة. والحزن : ألم يعرض للنّفس من فقد ما تحبّ. (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) بالغلبة عليهم. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقّا.

(قَرْحٌ) جهد من جرح بسلاح ونحوه. (الْأَيَّامُ) المراد هنا أزمنة الفوز والظّفر ، واحدها يوم : وهو الزمن المعروف من الليل والنهار. (نُداوِلُها) نصرّفها بين النّاس ، يوما لهؤلاء ويوما لآخرين ، ليتّعظوا ، كما وقع في يومي بدر وأحد.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ) أي ليظهر الله علمه. (الَّذِينَ آمَنُوا) أخلصوا في إيمانهم من غيرهم. (شُهَداءَ) واحدهم شهيد : وهو قتيل المعركة. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي يعاقب الكافرين ، وأما ما ينعم به عليهم فهو استدراج.

(وَلِيُمَحِّصَ) يطهرهم من الذّنوب ويخلّصهم من العيوب بما يصيبهم. (وَيَمْحَقَ) يهلك وينقص.

سبب النزول :

نزول الآية (١٣٩):

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) : قال ابن عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا يعلونّ علينا ، اللهم لا قوّة لنا إلا بك ، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النّفر» فأنزل الله تعالى هذه

٩٦

الآيات ، وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا الجبل ، ورموا خيل المشركين حتى هزموهم ، فذلك قوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)(١).

سبب نزول أوّل الآية : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) : قال راشد بن سعد : لما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كئيبا حزينا يوم أحد ، جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها مقتولين ، وهي تلدم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أهكذا يفعل برسولك؟ فأنزل الله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) الآية (٢).

نزول آخر الآية (١٤٠):

(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ) : أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما أبطأ على النّساء الخبر ، خرجن ليستخبرن ، فإذا رجلان مقبلان على بعير ، فقالت امرأة : ما فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالا : حيّ ، قالت : فلا أبالي يتّخذ الله من عباده الشهداء ، ونزل القرآن على ما قالت : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ).

المناسبة :

إنّ ما حدث في وقعتي بدر وأحد ، وجزاء المؤمنين والكافرين هو سنة الله في الخلق مع بيان الحكمة في النصر والانهزام ، فالحق لا بدّ أن ينتصر على الباطل مهما طال أمد وجوده ، وقد جرى ذلك على أتباع الأنبياء السابقين ، كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين ، كما وعد الله رسله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٣] ، (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٥].

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٧١ ، لكن هذه الرّواية غير مخرجة ، ويظهر منها الضعف.

(٢) المصدر السابق. واللّدم : صوت الحجر أو الشيء يقع بالأرض ، وليس بالصوت الشديد.

٩٧

التّفسير والبيان :

إن مشيئة الله تسير على نظم ثابتة وسنن حكيمة ، ترتبط فيها الأسباب بالمسببات ، والمقدّمات بالنتائج ، وإن كان الله قادرا على كلّ شيء ، وتلك السّنة في الماضين واللاحقين هي أن من سار على منهاج الطائعين المؤمنين الموفقين ، حظي بالسعادة والنّصر والفلاح ، ومن سار في طريق العصاة المكذّبين ، كانت عاقبته خسرا ودمارا وهلاكا.

ففي أحوال السّلم إن سار المرء على الأصول المطلوبة والنّظم العلمية والخبرات المعروفة في شؤون الزراعة والصّناعة والتّجارة وغيرها ، نجح وظفر بمراده ، وإن كان ملحدا أو وثنيّا أو مجوسيّا. وإن جانب المعقول ، وخرج عن المألوف ، كان من الخاسرين ، وإن كان صالحا تقيّا.

وفي أحوال الحرب إن أعدّ القائد العدّة المناسبة في كلّ عصر لقتال العدوّ ، كما قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ...) [الأنفال ٨ / ٦٠] ودرّب الجيش على فنون الحرب تدريبا صحيحا عاليا ، تحقق النصر والغلبة ، وإن أهمل الإعداد والتّدريب ، أدركته الهزيمة.

ومن سار في الأرض ، وتعقب أحوال الأمم ، وتدبّر التاريخ وعرف الأخبار ، يجد مصداق تلك السّنة الإلهية الثابتة وهي الفوز لمن أحسن ، والخيبة لمن أساء.

وفي هذا تنبيه لمن أساء وخالف أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحد ، وتذكير بأنّ النّصر يوم بدر كان بسبب الثبات وصدق اللقاء وإطاعة الله والرّسول وحسن التّوكل على الله والثقة بقدرته ورحمته وفضله.

وهذا كلّه في القرآن بيان صريح للنّاس جميعا ، وهداية وموعظة للمتّقين

٩٨

منهم خاصة ، لأنهم المنتفعون بهدي القرآن : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢] ، (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) [لقمان ٣١ / ٢ ـ ٣] ، إنه بيان الأمور على نحو واضح ، وكيف كان الأقدمون مع أعدائهم ، وهو زاجر عن المحارم والمخالفات.

وذلك يدحض قول المشركين والمنافقين : «لو كان محمد رسولا حقّا لما غلب في وقعة أحد» مما يتبين أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرّسل وسائر الخلق ، فما من قائد لا يطيعه جنوده ويخالفون أوامره ، إلا كان جيشه عرضة للهزيمة.

وإذا عرف المؤمنون هذه الحقيقة فيجب عليهم ألا يضعفوا عن القتال بسبب ما جرى في أحد ، وما يجري من مسّ السّلاح ، ولا يحزنوا على ما أصابهم من قتل في أحد ، فالقتيل شهيد مكرم عند الله يوم القيامة ، وتلك الموقعة درس وتربية وتعليم للمسلمين ، لذا قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو خيّرت بين الهزيمة والنّصر يوم أحد لاخترت الهزيمة».

وليس لكم أن تضعفوا وتحزنوا ، وأنتم الأعلون ، والعاقبة والنصر لكم أيها المؤمنون ، بمقتضى سنّة الله في جعل العاقبة للمتّقين ، وقتلاهم في الجنّة ، وقتلى الكافرين في النّار. والمراد بالنّهي عن الوهن والحزن : النّهي عن الاستسلام ، والعودة إلى التّأهّب والاستعداد ، مع صدق العزيمة ، وقوّة الإرادة ، وحسن الظّن بالله ، والتّوكّل عليه والثّقة بالنّصر.

وكيف تضعفون بسبب الآلام والجراح والقتل ، فإن كنتم قد أصابتكم جراح ، وقتل منكم طائفة في أحد ، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح ، بل وتعرّضوا لألم أكثر في بدر ، فإن هزمتم في أحد ، فقد انتصرتم في بدر ، والأيّام دول ، والحرب سجال ، ويوم لكم ويوم عليكم ، وذلك كلّه لحكمة ، فنجعل للباطل دولة في يوم ، وللحقّ دولة في أيّام ، والعاقبة والنّصر في النهاية

٩٩

للمتّقين المخلصين. جاء في السّيرة أنّ أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ، فمكث ساعة ، ثم قال : أين ابن أبي كبشة؟ يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو كبشة زوج حليمة السعدية ، وهو أبوه من الرّضاع ، أين ابن أبي قحافة؟ ـ أي أبو بكر ـ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم ، والأيّام دول ، والحرب سجال. فقال عمر رضي‌الله‌عنه : لا سواء ، قتلانا في الجنّة ، وقتلاكم في النّار ، فقال : إنكم تزعمون ذلك ، فقد خبنا إذن وخسرنا (١).

إن تقلّب الأحوال بين الدّول ليظهر العدل ويستقرّ النظام ، ويعلم الناظر في السّنن العامة ، وليظهر الله علمه بتحقق إيمان المؤمنين ، وانكشاف الصابرين على مناجزة الأعداء ، كقوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال ٨ / ٣٧] أي ليعلم الناس الفرق بينهما ويميزوه ، ولذا قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موقعة أحد لمطاردة المشركين : «لا يذهب معنا في القتال ـ أي في غزوة حمراء الأسد ـ إلا من قاتل» فذهب المؤمنون الصّادقون بالرّغم من تعبهم وعنائهم. وقد فسّرنا : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) بأن يظهر الله علمه بذلك للناس بما يعلم به ، إذ علم الله بالأشياء ثابت في الأزل ، فما يقع يكون مطابقا لعلم الله السابق في الأزل ، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع ، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.

وليعدّ الله أناسا للشهادة في سبيل الله ، فيقتلون في سبيله ويبذلون أرواحهم في مرضاته ، فقد فات بعض المؤمنين الاستشهاد يوم بدر ، فتمنوا لقاء العدو ، ليحظوا بمرتبة الشهادة. وقد كرّم الله الشهداء بالحياة البرزخية ، وبالدرجة الموازية للأنبياء ، فقال : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران ٣ / ١٦٩] ، وقال : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ) [النساء ٤ / ٦٩].

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٤١٢ ، تفسير القرطبي : ٤ / ٢٣٤

١٠٠