التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

ودل قوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) على ترغيب المسلمين بالتزام الصبر في القيام بالتكاليف الشاقة وتنفيذ الأوامر الإلهية ، والاعتصام بتقوى الله بالابتعاد عما نهى الله عنه وحظر منه ، فإن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيد الأعداء شيئا. وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الصبر في كل مقام يشق على النفس احتماله ، والموقف هنا يتطلب الصبر على عداوة الكافرين واتقاء شرهم ، حتى يأذن الله بالفرج القريب والنصر العاجل ، والله محيط بأعمالهم ، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بالمسلمين ، فلا بد من الثقة بالله والتوكل عليه.

غزوة أحد

تنظيم الجيش الإسلامي والتذكير بالنصر في غزوة بدر

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ

٦١

وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

الإعراب :

(وَإِذْ غَدَوْتَ) إذ متعلق بفعل مقدر ، تقديره : واذكر إذ غدوت. (إِذْ هَمَّتْ) متعلق بعليم من الآية السابقة ، أي : يعلم إذ همت. (إِذْ تَقُولُ) إما متعلق بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) أو بدل من (إِذْ هَمَّتْ) ولا يجوز أن يبدل من : نصركم لأن النصر كان يوم بدر ، وإذ همت كان يوم أحد ، أو متعلق بفعل مقدر تقديره : اذكروا.

(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ) أن وما بعدها في تقدير المصدر فاعل يكفيكم أي إمداد ربكم. (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) الهاء في (بِهِ) فيها خمسة أوجه : إما أن تعود على الإمداد ، أو على المدد ، أو على التسويم من (مُسَوِّمِينَ) أو على الإنزال من (مُنْزَلِينَ) أو على العدد الذي دل عليه : خمسة آلاف وثلاثة آلاف. ولام (لِتَطْمَئِنَ) : لام كي ، والفعل منصوب بها بتقدير : أن. (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) اللام إما متعلق بفعل دل عليه الكلام ، تقديره : ليقطع طرفا : نصركم ، أو متعلق بيمددكم ، أو متعلق بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) على نية التقديم ، وقوله : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) وما بعده اعتراض.

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إما بمعنى «إلا أن يتوب» وإما عطف على قوله (لِيَقْطَعَ) وتقديره : ليقطع طرفا من الذين كفروا ، أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم.

البلاغة :

(إِذْ تَقُولُ) أتى بالمضارع لحكاية الماضي بطريق استحضار الصورة في الذهن.

(أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) الإتيان بصفة الربوبية وإسنادها للمخاطبين لإظهار كمال العناية بهم.

(يَغْفِرُ) و (يُعَذِّبُ) بينهما طباق.

٦٢

المفردات اللغوية :

(غَدَوْتَ) خرجت في الغداة : وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. (تُبَوِّئُ) تهيأ وتنزل (مَقاعِدَ) مراكز وأماكن يقفون فيها. (إِذْ هَمَّتْ) بنو سلمة وبنو حارثة جناحا العسكر. والهم : حديث النفس واتجاهها إلى شيء. (أَنْ تَفْشَلا) تجبنا وتضعفا ، لما رجع عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه ، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ وقال لأبي جابر السلمي القائل له : «أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم» : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) فثبتهما الله ولم ينصرفا. (وَلِيُّهُما) ناصرهما. (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ليثقوا به دون غيره ، والتوكل : الاعتماد على الله في كفاية الأمور. (أَذِلَّةٌ) واحدها ذليل : وهو من لا منعة له ولا قوة ، وقد كان المسلمون في بدر قليلي العدد والسلاح (يَكْفِيَكُمْ) الكفاية مرتبة دون الغنى ، وهي سد الحاجة (يُمِدَّكُمْ) يعينكم ، والإمداد : إعطاء الشيء حالا بعد حال (مُنْزَلِينَ) بكسر اللام ، ويقرأ بالتخفيف والتشديد.

(بَلى) كلمة للجواب مثل نعم ، ولكنها لا تقع إلا بعد النفي ، وتفيد إثبات ما بعده ، أي نعم يكفيكم ذلك ، فأمدهم بألف أولا ، ثم صارت ثلاثة ، ثم صارت خمسة. (إِنْ تَصْبِرُوا) على لقاء العدو. (وَتَتَّقُوا) الله في المخالفة. (وَيَأْتُوكُمْ) أي المشركون. (مِنْ فَوْرِهِمْ) وقتهم أو ساعتهم ، والفور : الحال السريعة التي لا إبطاء فيها ولا تراخ. (مُسَوِّمِينَ) بكسر الواو بمعنى معلمين أنفسهم أو خيلهم ، أو بفتح الواو ، فكانت عليهم علامات تميزهم ، فإنهم صبروا ، وأنجز الله وعده ، بأن قاتلت معهم الملائكة على خيل بلق ، عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الإمداد. (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) بالنصر. (وَلِتَطْمَئِنَ) تسكن. (قُلُوبُكُمْ بِهِ) فلا تجزع من كثرة العدو وقلتهم ، فإن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء ، وليس بكثرة الجند. (لِيَقْطَعَ) متعلق بنصركم ، أي ليهلك (طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر. (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يذلهم بالهزيمة. (فَيَنْقَلِبُوا) يرجعوا. (خائِبِينَ) لم ينالوا ما راموا. (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) بل الأمر لله فاصبر إلى أن يتوب عليهم بالإسلام أو يعذبهم بظلمهم بالكفر. (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا.

سبب النزول :

نزول آية (وَإِذْ غَدَوْتَ)

في غزوة أحد ، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى عن المسور بن مخرمة قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف ، أي خالي : أخبرني عن قصتكم يوم أحد ، فقال : اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا ، أي من قوله : (وَإِذْ

٦٣

غَدَوْتَ ...) إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) أي وما بعد ذلك بمقدار ستين آية.

سبب نزول قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) :

روى أحمد ومسلم عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد كسرت رباعيته ، وشج رأسه ، حتى سال الدم على وجهه ، فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).

وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : اللهم العن فلانا ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت الآية : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إلى آخرها ، فتيب عليهم كلهم. وروى البخاري عن أبي هريرة نحوه.

قال الحافظ ابن حجر : طريق الجمع بين الحديثين : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على المذكورين في صلاته بعد ما وقع له من الأمر المذكور يوم أحد ، فنزلت الآية في الأمرين معا فيما وقع له ، وفيما نشأ عنه في الدعاء عليهم.

الخلاصة : إن الآية نزلت في قصة أحد ، ويمكن أن تشمل حوادث أخرى وقعت بعدها. وأما ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من الكف عن الدعاء على رعل وذكوان بعد نزول هذه الآية ، ففي الخبر علة وهي الإدراج من قول الزهري عمن بلغه : وهو قوله «حتى أنزل الله» لأن هذه القصة حدثت بعد قصة أحد.

ونص رواية مسلم : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في الفجر : اللهم العن رعلا وذكوانا وعصية ، حتى أنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).

ورواية البخاري : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين يفرغ في صلاة الفجر من القراءة

٦٤

يكبر ويرفع رأسه ويقول : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ثم يقول وهو قائم : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد ووطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف ، اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية ، عصت الله ورسوله. ثم بلغنا أنه ترك ذلك ، لما نزلت : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ).

المناسبة :

لما حذّر الله تعالى من اتخاذ بطانة السوء ، ذكر هنا مثالا واقعيا من ميدان المعارك والغزوات ، وهو أن سبب همّ الطائفتين بالفشل (الجبن والضعف) هو تثبيط المنافقين لهم بقيادة زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول.

روى الشيخان عن جابر قال : فينا نزلت : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ، وَاللهُ وَلِيُّهُما) قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل ، لقوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما).

وقد تحدثت الآيات عن غزوة أحد التي أنزل فيها ستون آية من ١٢١ ـ ١٨٠ ، وجاء في أثنائها الحديث عن غزوة بدر اعتراضا ، ليذكّرهم بنعمته تعالى عليهم ، حينما نصرهم ببدر وهم قلة.

نبذة يسيرة عن غزوتي بدر وأحد :

غزوة بدر :

حدثت معركة بدر في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، بعد أن تعرض المسلمون لقافلة أبي سفيان القادمة من الشام ، التي تحمل الأموال والتجارة ، في وسط من قيام حالة الحرب بين المسلمين وبين مشركي قريش بمكة ،

٦٥

بقصد الحصار الاقتصادي ، وتعويض المسلمين ما صادره لهم القرشيون في مكة من أموال وعقارات وممتلكات. وقد عزّ على المكيين هذا الحادث ، وأحسوا بالخطر على وجودهم ، وشعروا بقوة المؤمنين في المدينة ، وملأ الحقد والعزة بالإثم صدورهم. فحشدوا قواهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف من قريش إلا القليل النادر ، وكان عددهم ألفا وزيادة ، فيهم الفرسان والأبطال وصناديد قريش.

فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استشار أصحابه ، ثم خرج إليهم مسرعا في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، لم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيرا ، والباقون مشاة ليس معهم من العدد ما يحتاجون إليه.

وتقابل الجيشان في بدر : وهي بئر بين مكة والمدينة ، كانت لرجل يسمى بدرا ، فسمي به الموضع ، والأكثر على أنه ماء هنالك ، وبه سمي الموضع. وانجلت المعركة عن نصر مؤزر للمسلمين ، وكارثة كبري على المشركين ، وكانت معركة حاسمة قررت مصير الفريقين ، وأحدثت دويا هائلا بين العرب ، فسماها الله تعالى (يَوْمَ الْفُرْقانِ) فقال : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [الأنفال ٨ / ٤١].

فيها انتصرت الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكثيرة : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) وأمد الله تعالى فيها المؤمنين بالملائكة يقاتلون مع المسلمين ، وظهر فيها مدى ثبات المسلمين وجرأتهم النادرة ، واشترك فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاتل ـ وكان اشتراكه في تسع غزوات ـ وبرز فيها عنصر الإيمان والعقيدة والتوكل على الله في قلب المعركة وأثناء المشاركة بالسلاح ، وتمثل ذلك بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبيل التحام الصفين فقال :

«اللهم ، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض ، اللهم أنجزني ما وعدتني ، اللهم نصرك» ورفع يديه إلى السماء ، حتى سقط الرداء عن منكبيه ،

٦٦

فأخذه أبو بكر فرده ، ثم التزمه من ورائه يسري عنه ، ويشفق عليه من كثرة التضرع والاستغاثة والابتهال : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال ٨ / ٩].

غزوة أحد :

اشتد غيظ المشركين بعد معركة بدر على المسلمين ، وبدأ أبو سفيان زعيم قريش يؤلب المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجمعوا الأموال ، وجهزوا جيشا نحو ثلاثة آلاف مقاتل ، فيهم سبعمائة دارع ، ومائتا فارس ، على رأسهم صفوان بن أمية.

فاستشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، فأشار الشيوخ ومعهم عبد الله بن أبي زعيم المنافقين ورأس اليهود في المدينة بالبقاء في المدينة والقتال في شوارعها ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره الخروج. وأشار الشباب بالحرب ، ومعهم رجال لم يشهدوا بدرا ، وقالوا : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.

وما زالوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى دخل بيته ولبس وتجهز ووافق الأغلبية رأي القائلين بالحرب ، ثم ندم الذين اقترحوا الخروج وقالوا : استكرهناك يا رسول الله! ولم يكن ذلك لنا ، فإن شئت فاقعد ، صلى الله عليك ، فقال : «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته ـ درعه ـ أن يضعها حتى يقاتل».

فخرج في ألف أو إلا خمسين رجلا من أصحابه ، فيهم مائة دارع وفرسان فقط ، ونزل الشّعب من جبل أحد (على بعد نحو ٣ كم من شمال المدينة) يوم السبت سابع شوال في السنة الثالثة من الهجرة ، وجعل ظهره وعسكره إلى «أحد» وسوى صفوفهم ، وأجلس جيشا من الرماة وهم خمسون رجلا ، وأمرّ عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل ، وقال : انضحوا عنا بالنبل ، لا يأتونا من

٦٧

ورائنا ، ولا تبرحوا ، غلبنا أو نصرنا. وفي (سيرة ابن هشام): ادفعوا الخيل عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا. وفي (زاد المعاد): أمرهم بأن يلزموا مركزهم ، ولا يفارقوا ، ولو رأوا الطير تتخطف العسكر.

وكان لواء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع مصعب بن عمير ، وعلى أحد الجناحين الزبير بن العوام ، وعلى الآخر المنذر بن عمرو ، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، ولواؤهم مع طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار ، وعلى رماتهم وكانوا مائة : عبد الله بن أبي ربيعة.

ورجع زعيم المنافقين مع ثلاثمائة من أصحابه قائلا : أيعصيني ويطيع الولدان : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) [آل عمران ٣ / ١٦٧].

وكاد بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ألا يخرجوا إلى أحد ، ثم وفقهم الله ، فخرجوا ، وهو معنى قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ، وَاللهُ وَلِيُّهُما).

فلم يبق بعد رجوع المنافقين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا سبعمائة رجل.

ولما التقى الجمعان ، قامت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان في نسوة يضربن بالدفوف ، ويمشين وراء الصفوف.

وقاتل أبو دجانة الذي أخذ السيف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعده بأن يأخذه بحقه ، فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله. وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا ، وقتل عددا من الأبطال ، ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الراية لعلي بن أبي طالب ، وقتل وحشي غلام جبير بن مطعم حمزة بحربة دفعها عليه ، حتى خرجت من بين رجليه ، فسقط شهيدا سيد الشهداء.

وانهزم المشركون ، وسقط لواؤهم من يد طلحة ، فحمله ابنه ، ثم أخوه ،

٦٨

وكاد النصر يتحقق للمسلمين ، لولا أن الرماة على ظهر الجبل خالفوا أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانحدروا يجمعون الغنائم ، وفارقوا مكانهم.

ففطن خالد بن الوليد لمكان الضعف ، فبادر من قناة مع خيل المشركين إلى تطويق المسلمين من أعلى جبل الرماة من الخلف ، وانقض مع جيشه يفتك بالمسلمين ، وشاع بين الناس أن محمدا قد قتل ، فتراجع المسلمون ، وهربوا ، وأصيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة ، حتى وقع لشقه ، فكسرت رباعيته ، وشج في رأسه ، وجرحت شفته ، وسال الدم على وجهه ، وغاب حلق المغفر في وجنتيه ، وأصيبت ركبتاه ، وجعل يمسح الدم ويقول : «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم؟!» وأخذ بيده علي ورفعه طلحة حتى قام ، ومص مالك بن سنان الدم عن وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابتلعه.

ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو المسلمين في أخراهم ، ويقول : «إليّ عباد الله ، أنا رسول الله : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) [آل عمران ٣ / ١٥٣].

وصار أبو سفيان يقول : يا معشر قريش ، أيكم قتل محمدا؟ فقال عمر بن قميئة : أنا قتلته. وكان كعب بن مالك أول من بشر بنجاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسلمه الله من أذى المشركين : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧]. ولم يقتل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته سوى أبي بن خلف الذي تآمر على قتل النبي وفيه نزلت آية : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال ٨ / ١٧].

وكان يوم بلاء شديد على المسلمين ، استشهد فيه منهم سبعون رجلا ، وعدة قتلى المشركين اثنان وعشرون رجلا.

ووجد في ساحة المعركة حمزة سيد الشهداء ، وكانت هند بنت عتبة قد بقرت كبده ولاكتها ، ولم تستسغها ، وصرخ أبو سفيان بأعلى صوته : الحرب

٦٩

سجال ، يوم بيوم بدر ، اعل هبل (صنم عند الكعبة) أي ظهر دينك. ولما انصرف ومن معه قال : إن موعدكم بدر العام القابل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا له : هو بيننا وبينكم.

ثم بحث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عمه الحمزة ، فوجده مبقور البطن ، مجدوع الأنف ، مصلوم الأذن ، فحزن حزنا شديدا ، وقال : «لئن أظهرني الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين منهم». ثم سجّاه ببردته ، وصلى عليه ، وكبر سبع تكبيرات ، وصف إلى جانبه القتلى ، وصلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة. ثم دفن حمزة ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدفن بقية القتلى قائلا : ادفنوهم حيث صرعوا.

وكان سبب الهزيمة كما تبين مخالفة الرماة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطمعهم في الغنائم ، وكانت هذه المعركة محنة للمسلمين ، وتمحيصا وتربية للمؤمنين ، وتعليما لهم بأن النصر منوط باتخاذ الأسباب ، وأن الهزيمة لا تعني نكسة في الإيمان واضطرابا في اليقين ، لذا قال تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا ما أَصابَكُمْ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [آل عمران ٣ / ١٥٣]. وأن البلاء يعم ، كما قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال ٨ / ٢٥].

التفسير والبيان :

اذكر لهم يا محمد وقت خروجك من بيتك غدوة يوم السبت سابع يوم من شوال سنة ثلاث للهجرة تنزل المؤمنين أمكنة القتال ، وتعبئ الجيش ، فتضع جماعة على جبل الرماة ، وآخرين في الميمنة ، وأولئك في الميسرة ، وتخصص مواضع معينة للفرسان.

والله سميع لما قاله المؤمنون فيما شاورتهم فيه ، سواء الذين قالوا : «لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا» والذين قالوا : «اخرج بنا حتى نلقاهم في

٧٠

خارج المدينة» والله عليم بكل نية وفعل ، سواء من أخلص القول ، وإن أخطأ ، ومن نافق وإن أصاب كعبد الله بن أبي وجماعة المنافقين.

والله أيضا سميع عليم حين همت طائفتان من الأنصار وهم بنو سلمة من الأوس ، وبنو حارثة من الخزرج ـ وكانتا جناحي عسكر المسلمين ونحو ثلثهم ـ أن تضعفا وتجبنا عن القتال ولا تخرجا إلى المعركة ، حين رأوا تراجع المنافقين ، ولكن الله متولي أمورهما لصدق إيمانهما ، فعصمهم من الخذلان والذل ، وحماهم من الجبن والفرار ؛ لأن الهم بالشيء لا يعد معصية بدليل قوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، وليثقوا به ، وليعتمدوا على تأييده ، لا على قوتهم وأنصارهم ، بعد اتخاذ الأسباب ، وإعداد العدة ، وتجهيز الجيش والسلاح الملائم لكل عصر ، فإن الإنسان مأمور باتخاذ الأسباب ، ثم ترك النتائج والمسببات إلى الله تعالى ، فهو تعالى ينصر الفئة القليلة المؤمنة على الفئة الكثيرة بإذنه ، كما نصر المؤمنين يوم بدر.

لذا اقتضى المقام تذكيرهم بنصر الله لهم يوم بدر ، لما توكلوا عليه وامتثلوا أوامره وأوامر نبيه ، وكانوا قليلي العدد والعدد ، إذ كانوا نحو ثلاثمائة والكفار نحو ألف ، وليس معهم سوى فرسين ، ومع المشركين الخيول والدروع والفرسان والأبطال.

فذلك دليل على أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد ، وكما قال تعالى يوم حنين : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) إلى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة ٩ / ٢٥ ـ ٢٧].

فاتقوا الله بطاعته واجتناب محارمه ، والثبات مع رسوله ، والصبر على المشاق ، لتشكروا الله أو لتصيروا شاكرين أو لتعدّوا أنفسكم لشكره ، فإن الطاعة والصبر والثبات عدة الشكر على النعمة والنصر.

٧١

واذكر يا محمد حين تقول للمؤمنين يوم بدر ، تعدهم تطمينا ، وقد هابوا العدو لكثرتهم : ألن يكفيكم إمداد ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة أنزلهم الله تعالى لقتال الكفار. أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربيّ يريد أن يمدّ المشركين ، فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المسلمين ، فأنزل الله تعالى : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) إلى قوله : (مُسَوِّمِينَ) فبلغ كرزا الهزيمة ، فلم يمدّهم ورجع ، فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف ، وكانوا قد مدّوا بألف.

قال قتادة : كان الإمداد بالملائكة يوم بدر ، أمدهم الله بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف ، فذلك قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) وقوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) وقوله : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا ، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) فصبر المؤمنون يوم بدر ، واتقوا الله ، فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة ، على ما وعدهم ؛ فهذا كله يوم بدر.

وكان هذا الإمداد ماديا فعليا من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم ، وشاركت الملائكة في القتال ، وأكد ذلك روايات كثيرة ثابتة في البخاري ومسلم (١) وليس ذلك من قبيل الإمداد المعنوي ، كما جنح إليه صاحب (تفسير المنار) وهو رأي قديم لبعضهم إذ قال : إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبّحون ، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ ؛ فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر ، وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت. والرأي الأول هو ما عليه أكثر

__________________

(١) وقد كنت تورطت بمقال نشر في مجلة (حضارة الإسلام) بعنوان «الإمداد بالملائكة» تأثرا بما رجحه صاحب تفسير المنار والشيخ محمد عبده ، ثم عدلت عن ذلك ، لتضافر الروايات الصحيحة في السنة على أن الإمداد كان فعليا.

٧٢

المفسرين (١). قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون ، إنما يكونون عددا أو مددا.

وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير : أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر ، وأنهم قاتلوا الكفار (٢).

هذا على القول بأن آية (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ ..) هي تذكير بالقول يوم بدر.

وقيل عن عكرمة والضحاك : إنما كان هذا يوم أحد ، وعدهم الله المدد إن صبروا ، فما صبروا ، فلم يمدّهم بملك واحد ، ولو أمدّوا لما هزموا.

ومجمل القول : اختلف المفسرون في هذا الوعد : (إِذْ تَقُولُ ..) هل كان يوم بدر أو يوم أحد؟ على قولين : القول الأول ـ للحسن البصري وجماعة واختاره الطبري : وهو أنه متعلق بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ). والقول الثاني ـ لمجاهد وجماعة آخرين : وهو أن هذا الوعد متعلق بقوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ ..) وذلك يوم أحد ، والظاهر القول الأول.

ثم ذكر تعالى : بلى يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة ، ثم وعدهم بزيادة الإمداد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا ، حثا لهم عليهما ، وتقوية لقلوبهم.

فإن تصبروا على لقاء العدو ، وتتقوا المعاصي ، ومخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويأتيكم المشركون من ساعتهم هذه لقتالكم ، يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (بكسر الواو وفتحها) أي معلمين أنفسهم أو خيلهم ، أو معلمين بعمائم صفر

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ١٩٤

(٢) التفسير الكبير للرازي : ٨ / ٢١٣ ، تفسير الألوسي : ٤ / ٤٧

٧٣

مرخاة على أكتافهم ، كما قال الكلبي ، وعن الضحاك : معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها ، وعن قتادة : كانوا على خيل بلق. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه: تسوّموا ، فإن الملائكة قد تسوّمت.

والخلاصة : دل القرآن على أنهم أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة ، في قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ ، أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). وأما الإمداد بثلاثة آلاف أو بخمسة آلاف فأثبته بعضهم ، لكن قال الطبري : ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ، ولا بالخمسة الآلاف ، وعلى أنهم لم يمدوا بهم ، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم ، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على النحو الذي ذكره من أنكر ذلك ، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ، ولا بالخمسة الآلاف (١). وأضاف الطبري قائلا :

أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدّوا ، وذلك أنهم لو أمدوا ، لم يهزموا ، وينل منهم ما نيل.

وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون ، ولإلقاء الطمأنينة في قلوبكم بأن معونة الله ونصرته معكم ، أي : أن للإمداد بالملائكة غايتين :

١ ـ التبشير بالنصر على الأعداء ، وإدخال السرور على القلوب.

٢ ـ تطمين المؤمنين بأن الله معهم وأنه مؤيدهم ، فلا يجبنون عن المحاربة. وما النصر الحقيقي إلا من عند الله العزيز : القوي الذي لا يغلب ، الحكيم الذي يدبر الأمور على أحكم الخطط وأقوم الوسائل ، والذي يعطي النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة.

__________________

(١) جامع البيان للطبرسي.

٧٤

حقق الله نصركم يوم بدر وأمدكم بالملائكة ليهلك طائفة من رؤوس الكفر والشرك بالقتل والأسر ، فقد قتل يوم بدر سبعون وأسر سبعون من رؤساء قريش وصناديدهم ؛ أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ، فينقلبوا خائبين غير ظافرين بمبتغاهم ، وذلك نحو قوله تعالى : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ ، لَمْ يَنالُوا خَيْراً) [الأحزاب ٣٣ / ٢٥] ؛ أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى الله ؛ أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والعداوة ، فيكونون ظالمين لأنفسهم.

ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله ، فقال : ليس لك يا محمد من أمر البشر شيء ، وما عليك إلا تنفيذ أمري وإطاعتي ، وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، فلا تتألم منهم ، ولا تدع عليهم ، فربما تاب بعضهم ، وقد تاب وأسلم أبو سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية.

ثم أكد سبحانه وتعالى أن الأمر بيده ، فلله ملك السماء والأرض وما فيهما ، وكلهم خلقه وعبيده ، يحكم فيهم بما يشاء ، فيغفر لمن يشاء المغفرة له ، ويعذب من يشاء تعذيبه ، بحكمة وعدل ، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب من أوليائه ، الرحيم بأهل طاعته ، فيعفو ويصفح ، ويترك العقاب عاجلا أو آجلا. وفي ذلك تعليم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته ؛ إذ الأمر كله لله ، والكل خاضعون له ، لا فرق في ذلك بين ملك مقرّب أو نبي مرسل أو بشر آخر ممن خلق ، إلا من سخره الله لمهمة أو أذن له بشفاعة ، على وفق السنة الكونية العامة ، وبمقتضى المشيئة الإلهية المطلقة ، ولحكمة قد لا ندركها إلا يوم القيامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

خلاصة ما دلت عليه الآيات ما يأتي :

ـ لا بد للبشر في كل أمورهم من اتخاذ الأسباب والقيام بواجباتهم المعتادة ،

٧٥

سواء في حال السلم أو في حال الحرب والقتال ، ومنها إعداد القوة وتعبئة الجيش وتنظيم المقاتلين.

ـ ومن اتخاذ الأسباب المطلوبة في الظاهر والفعل : إطاعة أوامر الله والقائد ، فقد انتصر المسلمون في بدر ، وأمدهم الله تعالى بالملائكة فعلا ، وشاركوهم في القتال ، لما صبروا وثبتوا واتقوا وأطاعوا الله سبحانه ، وهزموا في أحد لما خالفوا أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركوا مواقعهم في جبل الرماة ، وهذا دليل واضح على أثر التقوى والصبر في غزوتي بدر وأحد ، كما أن لهما أثرا في التعامل مع الأعداء ، فإن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا ، كما في الآية (١٢٠).

ـ وإنجاز النصر مرهون بنصر الله تعالى ودينه ، وتحقيق النتائج إنما هو بيد الله تعالى وحده ، ولله الأمر كله ، وله ملك السموات والأرض وما فيهن.

أما تفصيل دلالات الآيات وأهم الأحداث التي صاحبت غزوتي بدر وأحد فهو ما يأتي :

١ ـ لا بد لكل قائد حربي من وضع خطة استراتيجية للمعركة التي يخوضها مع الأعداء ، ولا بد من تنظيم صفوف المقاتلين وترتيب مواقعهم وإنزالهم في أماكن معينة يتم من

خلالها لقاء المحاربين ، وقد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بوصفه قائد الحرب في معركة أحد ، كما أشارت الآية : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ..).

٢ ـ إن صدق الإيمان وإخلاص المقاتلين يعصمان من الوساوس والهم بالشيء وأحاديث النفس ، كما عصم الله طائفتي بني حارثة وبني الأوس من الأنصار من التراجع بقوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) حين رجع المنافقون إلى المدينة.

٣ ـ شارك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلا في القتال في تسع غزوات ، منها غزوة أحد ، وفيها جرح في وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، وهشمت البيضة

٧٦

(الخوذة) (١) من على رأسه ، وكان الذي رماه في وجهه عمرو بن قميئة الليثي ، الذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.

٤ ـ كان من كوارث أحد أن قتل حمزة عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيد الشهداء ، قتله وحشي الذي كان مملوكا لجبير بن مطعم ، وقد كان جبير قال له : إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل ، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلّها سود الحدق ، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر.

فقال وحشي : أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع ، وعسى أن أصادفه فأقتله.

وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرّت به قالت : إيها أبا دسمة ، اشف واستشف. فكمن له خلف صخرة ، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين ؛ فلما رجع من حملته ، ومرّ بوحشي زرقه بالمزراق (رمح قصير) فأصابه فسقط ميّتا ، رحمه‌الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق : فبقرت هند عن كبد حمزة ، فلاكتها ، ولم تستطع أن تسيغها ، فلفظتها ، ثم علت على صخرة مشرفة ، فصرخت بأعلى صوتها ، فقالت أبياتا مطلعها :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

ولا أخي وعمّه وبكري

٥ ـ دل قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) على أن التوكل على الله من الإيمان. والتوكل في اللغة : إظهار العجز والاعتماد على الغير. وأما في الشرع فليس هو ترك الأسباب ، كما زعم قوم ، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض ، واتباع سنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من

__________________

(١) وهي زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.

٧٧

مطعم ومشرب وتحرز من عدوّ ، وإعداد الأسلحة ، واستعمال سنة الله تعالى المعتادة (١). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر ، وهو ضعيف : «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف».

٦ ـ أرشدت الآيات (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) [١٢٣ ـ ١٢٥] إلى أن الله تعالى نصر عباده المؤمنين في بدر أول لقاء مسلح مع المشركين ، فرق الله بين الحق والباطل وسماه «يوم الفرقان» ، وأسفر عن معركة حاسمة بعيدة المدى في التاريخ الإنساني ، وأمد الله تعالى به المؤمنين بالملائكة ، باعتباره سببا من أسباب النصر ، لتطمئن قلوبهم وتتعلق بالله وتثق به ، وليمتثلوا ما أمرهم به من اتخاذ الأسباب التي قد خلت من قبل : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب ٣٣ / ٦٢].

أما في الحقيقة فالناصر هو الله تعالى بسبب وبغير سبب : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

وأما كلمة (مُسَوِّمِينَ) بكسر الواو اسم فاعل : فمعناها أنهم أعلموا أنفسهم بعلامة ، وأعلموا خيلهم ، وقال كثير من المفسرين : مسوّمين أي مرسلين خيلهم في الغارة. وأما بفتح الواو اسم مفعول : فالمعنى : معلّمين بعلامات. وعلى القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة ، فروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما «أن الملائكة اعتمّت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم» ذكره البيهقي عن ابن عباس ، وحكاه المهدوي عن الزجاج. وقال الربيع : كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق (٢).

وذلك دليل على اتخاذ الشارة (الهيئة) والعلامة للقبائل والكتائب ، يجعلها السلطان لهم ، لتتميز كل قبيلة وكتيبة عن غيرها عند الحرب.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ١٨٩

(٢) البلق : سواد وبياض.

٧٨

٧ ـ إن الإمداد بالملائكة يوم بدر كان إمدادا فعليا ، لا معنويا ، بدليل الثابت في الروايات الكثيرة في السنة النبوية. وقد جعله الله بشرى للمؤمنين بالنصر وتطمينا لقلوبهم ، وإهلاكا لأعدائهم. والنصر الحقيقي بسبب أو بغير سبب هو من عند الله القوي الغالب الحكيم الصنع ، المدبر لكل الأمور على وفق الحكمة بوضع كل شيء في المحل المناسب له.

٨ ـ إن جرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معركة أحد أمر عظيم الوقع والتأثير على النبي نفسه وعلى المؤمنين ، لذلك قال كما ثبت في صحيح مسلم حينما جعل يمسح الدم عنه : «كيف يفلح قوم شجّوا رأس نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله تعالى» فأنزل الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).

قال الضحاك : همّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو على المشركين ، فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).

وقيل : استأذن في أن يدعو في استئصالهم ، فلما نزلت هذه الآية ، علم أن منهم من سيسلم ، وقد آمن كثير ، منهم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عمر قال : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو على أربعة نفر ، فأنزل اللهعزوجل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) فهداهم الله للإسلام ، وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح.

وعلى أي حال : فهذه الآية (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) دليل قاطع على أن القرآن من عند الله ، فهذا تنبيه لرسول الله وإعلام له بأن الأمر كله لله ، سواء دعا على المشركين أو لم يدع.

٩ ـ بناء على ما ثبت من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جماعة من المشركين في صلاة الفجر ، اختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها. فمنعه الكوفيون (الحنفية والحنابلة) لما روي في الموطأ عن ابن عمر : «أنه كان لا يقنت في شيء

٧٩

من الصلاة» ولما روى النسائي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدين لم يقنتوا.

وأجازه الحجازيون (المالكية والشافعية) لكن الأفضل عند المالكية قبل الركوع ، وعند الشافعية بعد الركوع ؛ لما روى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال : «ما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا». وروى أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران أن جبريل علّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاء القنوت وهو دعاء عمر : «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ...» إلخ. وروى البيهقي صيغة القنوت بلفظ : «اللهم اهدني فيمن هديت ..» إلخ.

إرشادات للمؤمنين بفعل الخيرات

وترك المنكرات وجزاء الطائعين والعصاة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

٨٠