التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

سَبِيلاً ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [النساء ٤ / ١٥٠ ـ ١٥١]. والدليل عليه قوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) مع إيمانهم بالله ، لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه ؛ لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام ، حبا للرياسة ، واستتباع العوام ، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع ، وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله ، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين.

هذه المقومات والأوصاف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان الحق بالله وبعناصر الإيمان الأخرى هي سبب الفضيلة والخيرية ، ولا تثبت للأمة إلا بمحافظتها على هذه الأصول الثلاثة ، روى ابن جرير عن قتادة قال : بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في حجة حجها ، رأى من الناس دعة ، فقرأ هذه الآية : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ثم قال : «من سرّه أن يكون من هذه الأمة ، فليؤد شرط الله فيها».

ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة ٥ / ٧٩].

ولهذا لما مدح الله تعالى هذه الأمة على هذه الصفات ، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم ، فقال : ولو آمنوا بما أنزل على محمد ، لكان خيرا لهم ؛ إذ هم يؤمنون ببعض الكتاب ، ويكفرون ببعض ، ويؤمنون ببعض الرسل كموسى وعيسى ، ويكفرون بمحمد ، مع أن كتبهم تتضمن البشارة بمحمد وصفته!

إلا أن هذا الذم ليس كليا ولا جماعيا شاملا ، لذا استطرد الله تعالى فذكر أن بعض أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي ورهطه مؤمنون إيمانا حقا ، لكن أكثرهم فاسقون خارجون عن حدود دينهم وكتبهم ، متمردون في الكفر ، فقليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان. ومرة يعبر تعالى بالأكثر كما هنا ، وكما في قوله

٤١

عن بني إسرائيل : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء ٤ / ٤٦] ، وتارة يعبر بالكثير ، كما في قوله عن النصارى واليهود : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) [المائدة ٥ / ٦٦].

ويكثر الفسق عادة بعد طول الأمد على ظهور الدين ، كما قال تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد ٥٧ / ١٦].

ثم أخبر الله تعالى عباده المؤمنين وبشرهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب ، فذكر أن هؤلاء الكافرين الفاسقين لن يلحقوا بكم إلا ضررا بسيطا كالسب والهجاء والتوعد باللسان ومحاولة الصد عن دين الله ، والطعن في الدين ، وإلقاء الشبهات ، وتحريف النصوص ، والطعن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما يفعل المبشرون اليوم.

وإن يقاتلوكم ينهزموا أمامكم ، ولا ينصرون عليكم أبدا ما داموا على فسقهم ، ودمتم على خيريتكم بالحفاظ على الأصول الثلاثة ، وقد تحققت لسلف أمتنا هذه البشارات الثلاث من أخبار الغيب ، فانهزم يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ، ويهود خيبر.

وتحقق مثل هذه الانتصارات مرهون بنصر دين الله ، كما قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٧] وبالحفاظ أيضا على الأصول الثلاثة المذكورة هنا وفي آيات أخرى مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين المجاهدين : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) [التوبة ٩ / ١١٢].

والخلاصة : إن النصر ليس هبة تمنح كما يتوقع بعض المخدوعين ، وإنما هو

٤٢

مشروط بالإتيان بمقومات دينية أساسية ، فما دمنا نأمر بالمعروف ، وننهى عن المنكر ، ونؤمن بالله إيمانا صحيحا ، تحقق لنا النصر والسيادة والعزة ، وما داموا هم فاسقين خارجين عن حدود الله والطاعة والإيمان ، ظلوا أذلة مقهورين.

والله تعالى ألصق بهم الذل والهوان أبدا أينما كانوا ، لا ينعمون بأمن ولا استقرار ، إلا بعهدين : عهد الله وعهد الناس. أما عهد الله فهو ما قررته الشريعة لهم من الأمان وتحريم الإيذاء والمساواة في الحقوق والقضاء إذا تم لهم عقد الذمة وفرض الجزية وإلزامهم أحكام الملة.

وأما عهد الناس : فهو ما يصدر لهم من الأمان كالمهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه أحد المسلمين ولو امرأة ، وكذا التاجر الذي يتعامل معه في داخل البلاد أو على الحدود الخارجية ، لتبادل المنافع والصنائع والتجارات. ومثل ذلك ما نجده من الحماية الثابتة لليهود في فلسطين ، سواء من أمريكا وأوربا وروسيا وغيرها من الدول الكبرى.

والله تعالى أيضا ألزمهم غضبا منه فالتزموه ، واستوجبوه واستحقوه ، وأحاط بهم المسكنة والصغار إحاطة المكان بما فيه ، فهم تابعون أذلاء لغيرهم ، دائمون في الذل والحاجة والتبعة لغيرهم ، متفرقون في أقطار الأرض على قلتهم ، وسيظلون كذلك بالرغم من محاولاتهم المستميتة في التجمع والاستيطان والاستقرار في الأراضي المحتلة بفلسطين ، وبالرغم من غناهم واعتمادهم على جمع المال والسيطرة على اقتصاديات العالم.

ثم بيّن تعالى سبب كل ذلك وعلته من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بسخط الله عليهم : وهو كفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم ، وبدافع من الكبر والبغي والحسد ، مع اعتقادهم أنهم على غير حق فيما

٤٣

يرتكبونه من جريمة قتل أناس يقولون : ربنا الله. وفي هذا غاية التشنيع عليهم ، والتوبيخ لهم.

وما جرأهم على ذلك ، وما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله ، إلا كثرة المعاصي لأوامر الله ، والانغماس الدائم في المعصية ، والاعتداء على شرع الله وحدوده ، فمن اعتاد العصيان ، وانتهك حرمات الله ، هان عليه كل شيء حرام ومنكر في الحياة.

والتشنيع على اليهود المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوجيه اللوم لهم على الكفر وقتل الأنبياء ، مع أنه صدر من أسلافهم ، إنما كان لأنهم منتسبون إليهم ، متكافلون متعاطفون معهم ، راضون بأفعالهم ، سائرون على منهجهم ، فإنهم حاولوا أيضا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات وصف فريقين أو أمتين من الناس ، وأبانت سبب الاتصاف ، وقارنت بينهما ، على أساس دقيق من التعادل والحق.

فالأمة الإسلامية خير الأمم بسبب إيمانها الصحيح التام بكل ما أمر به الله ، وبقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتظل الخيرية والفضيلة لها على الشرائط المذكورة ، والتزامها الأصول الثلاثة.

وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم ، فإن السنة النبوية أوضحت أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» (١) وهذا مذهب معظم العلماء ، فمن صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورآه ولو مرة في عمره مؤمنا به ، فهو أفضل ممن يأتي بعده.

وفضل قرن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم ، قليلون في عددهم ، مع

__________________

(١) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن مسعود.

٤٤

كثرة الكفار ، صابرون على أذاهم ، متمسكون حق التمسك بدينهم. وأما أواخر هذه الأمة فلهم فضيلة أخرى لا تمنع ولا تحجب فضيلة السلف الصالح إذا أقاموا الدّين ، وتمسكوا به ، وصبروا على طاعة ربهم ، في وقت ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر ، فيصيرون بذلك أشباه السلف غرباء أيضا ، وتزكو أعمالهم في ذلك الوقت ، كما زكت أعمال أوائلهم ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة : «إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود كما بدأ ، فطوبى للغرباء» وقوله فيما رواه الترمذي والحاكم وصححاه وابن ماجه وغيرهم عن أبي ثعلبة الخشني : «إن أمامكم أياما : الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر ، للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثل عمله ، قيل : يا رسول الله ، منهم؟ قال : بل منكم» وذكر أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي : «أمتي كالمطر لا يدرى أوّله خير أم آخره» وذكره الدارقطني في مسند حديث مالك عن أنس : «مثل أمتي مثل المطر ، لا يدرى أوله خير أم آخره».

وحينئذ يستوي أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية.

ومدح الأمة الإسلامية ما داموا قائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر ، زال عنهم اسم المدح ، ولحقهم اسم الذم ، وكان ذلك سببا لهلاكهم.

وإيمان أهل الكتاب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير لهم ، ومنهم المؤمن والفاسق ، والفاسق أكثر.

ووعد الله المؤمنين ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أهل الكتاب لا يغلبونهم ، وأنهم منصورون عليهم ، لا ينالهم منهم أذى إلا بالافتراء والتحريف ، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين.

وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام ؛ لأن من قاتله من اليهود انهزم وولى الأدبار.

٤٥

وسبب الغضب من الله على اليهود وإلصاق صفة الذل والهوان أينما وجدوا هو كفرهم بآيات الله ، ومنه عدم إيمانهم بالقرآن والإسلام ، وقتلهم الأنبياء ظلما وعدوانا ، ومنه محاولة قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأليب المشركين عليه وتحريضهم على قتاله واستئصال شأفة المسلمين إلى الأبد ، كما حدث في غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة ، وغزوة الأحزاب (الخندق) في السنة الخامسة ، وغير ذلك من ألوان العصيان والاعتداء.

الفئة المؤمنة من أهل الكتاب والثواب على أعمالهم

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))

الإعراب :

(لَيْسُوا سَواءً) : الواو في (لَيْسُوا) اسم ليس ، وسواء : خبرها.

(أُمَّةٌ قائِمَةٌ) إما بدل من ضمير (لَيْسُوا) ، والتقدير : ليس أمة قائمة وأمة غير قائمة سواء. فحذف «غير قائمة» مثل حذف البرد في آية (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ، وإما مبتدأ و (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : خبر مقدم ، أو مرفوع بالجار والمجرور على قول الأخفش والكوفيين (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) جملة فعلية في موضع رفع ؛ لأنها صفة (أُمَّةٌ). (آناءَ اللَّيْلِ) ظرف زمان متعلق ب (يَتْلُونَ). (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) إما حال من ضمير (يَتْلُونَ) ، ويكون المراد بالسجود هنا الصلاة ؛ لأن التلاوة لا تكون في السجود ، وإما معطوف على (يَتْلُونَ) ويكون المراد بالسجود : السجود بعينه.

٤٦

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) جملة فعلية : إما في موضع نصب على الحال من ضمير (يَسْجُدُونَ) أو (يَتْلُونَ) أو (قائِمَةٌ) ، وإما في موضع رفع ؛ لأنها صفة (الأمة) ، وإما مستأنفة. وهذه الأوجه تجري في جمل (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ).

البلاغة :

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ) جملة اسمية للدلالة على الاستمرار. (يَتْلُونَ .. يَسْجُدُونَ) جملة فعلية للدلالة على التجدد. (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) الإشارة بالبعيد لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم.

المفردات اللغوية :

(لَيْسُوا) أي أهل الكتاب. (سَواءً) متساوين ، يستعمل للواحد والمثنى والجمع ، فيقال : هما سواء ، وهم سواء (قائِمَةٌ) مستقيمة عادلة ثابتة على الحق ، مثل عبد الله بن سلام رضي‌الله‌عنه وأصحابه ، مأخوذ من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى : استقام (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) أي القرآن. (آناءَ اللَّيْلِ) أي في ساعاته ، واحدها أنى كعصا. (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يصلون.

(يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يبادرون إلى فعل الخيرات. (وَما يَفْعَلُوا) أي الأمة القائمة ، والقراءة بالتاء : أي أيتها الأمة. (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي يعدموا ثوابه ، بل يجازون عليه ، والقراءة بالتاء : أي أنتم أيتها الأمة.

سبب النزول :

نزول الآية (١١٣):

أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده في الصحابة عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعنة (أو سعية) ، وأسيد بن سعنة (أو سعية) ، وأسد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد واتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله في ذلك : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وذكر مثله عن مقاتل.

وأخرج أحمد وغيره عن ابن مسعود قال : أخرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة

٤٧

العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا بالناس ينتظرون الصلاة ، فقال : أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم ، وأنزلت هذه الآية (لَيْسُوا سَواءً ...) حتى بلغ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ). وبعبارة أخرى لابن مسعود : نزلت الآية في صلاة العتمة (العشاء) يصليها المسلمون ، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها.

المناسبة :

هذه الآيات استمرار في بيان أوصاف أهل الكتاب ، ففي الآيات السابقة صنفهم القرآن صنفين : منهم المؤمنون وكثير منهم الفاسقون ، ثم بين حال الفاسقين ومصيرهم ، وهنا بيّن حال المؤمنين منهم الذين وإن كانوا قلة دخلوا في الإسلام.

التفسير والبيان :

ليس من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب متساوين أو على حد سواء في الفسق والكفر ، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم ، فمنهم فئة قائمة بأمر الله ، مستقيمة على دينه ، مطيعة لشرعه ، متبعة نبي الله ، يتلون القرآن في صلواتهم ليلا ، ويكثرون التهجد.

وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا صادقا لا شبهة فيه ، ويأمرون غيرهم بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويبادرون إلى فعل الخيرات بسرعة ، ويعملون الصالحات دون تلكؤ ، وهم موصوفون عند الله بأنهم من الصالحين الذين صلحت أحوالهم ، وحسنت أعمالهم.

وهم من أحبار أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام ، وأسد بن عبيد ، وثعلبة بن سعنة وغيرهم ممن نزلت فيهم هذه الآيات ، ردا على اليهود الذين زعموا أن من آمن منهم شرارهم لا خيارهم ، ولو كان فيهم خير لما آمنوا.

٤٨

وما يفعلون من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ، ولا يضيع عند الله ، بل يجزيهم به أوفر الجزاء ، والله شكور عليم بالمتقين ، أي لا يخفى عليه عمل عامل ، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا.

فقه الحياة أو الأحكام :

يأبى عدل الله إلا أن يظهر الأخيار ، ويبعد الأشرار ، لذا أكد سبحانه وتعالى في هذه الآيات التنويه بإيمان المؤمنين من أهل الكتاب ، فإنهم آمنوا بالإسلام ، وصدقوا بالقرآن ، ورغبوا في دين الله ورسخوا فيه.

وقاموا بالأعمال الصالحة ، فأصلحوا أنفسهم ، وجاهدوا في إصلاح غيرهم ، وقاوموا دعوة الفساد والانحراف ، فاستحقوا الاتصاف بالصالحين ، والوصف بالصلاح هو غاية المدح والثناء ، بدليل مدح إسماعيل وإدريس وذي الكفل بهذا الوصف ، فقال تعالى : (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا ، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٦] وقال عن سليمان : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل ٢٧ / ١٩].

وهذا هو واجب الإنسان العاقل في هذه الحياة ، فلا قيمة لحياة دون عقيدة صحيحة ، ولا مدنية لإنسان دون العمل الصالح ، ومحاربة ألوان الفساد.

وسيجد العامل الصالح ثمرة عمله ، ويجازى بأوفر الجزاء ، ويشكر عليه ، ولن يجحد ثوابه ، وقد سمى الله في آية أخرى إثابته للمحسنين شكرا في قوله : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٩] ، وسمى نفسه شاكرا في قوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة ٢ / ١٥٨] ، وعبر تعالى هنا عن عدم الإثابة بالكفر.

٤٩

ضياع أعمال الكافرين يوم القيامة

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))

الإعراب :

(كَمَثَلِ رِيحٍ) : خبر المبتدأ وهو (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ). (فِيها صِرٌّ) في موضع جر ؛ لأنها صفة (رِيحٍ). (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) و (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) جملة في موضع جر صفة لقوم.

البلاغة :

(كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي باردة : تشبيه تمثيلي ، شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله ، بالزرع الذي أصابته الريح الباردة ، فذهب حطاما (الكشاف : ١ / ٣٤٤).

المفردات اللغوية :

(لَنْ تُغْنِيَ) لن تجزئ وتنفع (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) أي صفة إنفاق الكفار (صِرٌّ) أو صرّة : برد شديد (حَرْثَ) زرع (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية.

المناسبة :

هذه الآيات وعيد للكفار وإحباط لآمالهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة

٥٠

بنفقاتهم فائدة ، ولن ترد عنهم عذابا ، وذلك بعد أن ذكر في الآيات السابقة أحوال الكافرين وعقابهم ، قال مقاتل : لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم ، وهو قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى عن مصير أعمال الكافرين يوم القيامة ، وهم اليهود والمنافقون والمشركون جميعا ، فهم بافتخارهم بأموالهم ، وإنفاقهم لها فيما يكيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعاديه في هذه الحياة الدنيا ، لن تجزي عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا إذا أراده بهم ، وخص الأموال والأولاد بالذكر ؛ لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال ، وتارة بالاستعانة بالأولاد ؛ لأنهم أقرب أنسابهم إليهم.

وأكد تعالى هذه المعنى في آيات كثيرة منها : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة ٢ / ٤٨] ومنها (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٨] ومنها (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً ، وَلَوِ افْتَدى بِهِ) [آل عمران ٣ / ٩١] ومنها : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ ٣٤ / ٣٧].

وأولئك هم الملازمون للنار لا ينفكون عنها ، وهم دائمون فيها بسبب كفرهم وفساد عقيدتهم.

وكما أن أموالهم لا تغني عنهم شيئا ، كذلك لا تجديهم أموالهم التي أنفقوها في أغراض الدنيا ولذاتها ، أو للرياء والسمعة والمفاخرة ، وكسب الثناء والشهرة ؛ لأنها لغير وجه الله ، وقد يكون منها للصد عن سبيل الله وعن اتباع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعداوته ومقاومته.

وما مثل أو صفة تلك الأموال التي أنفقوها في غير مرضاة الله ، إلا كمثل

٥١

ريح عاتية شديدة البرد أتت على نبات مزروع ، فأحرقته وأهلكته ، فلم يبق منه شيء ، وأعقب على صاحبه الحسرة والندامة ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣] وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور ٢٤ / ٣٩].

وهكذا يمحق الله ثواب وثمرة أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا ، كما يذهب ثمرة زرع بذنوب أصحابه ، وما ظلمهم الله بهذا بأن لم يقبل نفقاتهم بل جازاهم على عملهم الشر بالشر ، وكانوا هم الظالمين أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠].

وسبب إحباط أعمال الكفار يوم القيامة ولو كانت صدقة في الخيرات ، هو فقد الإيمان ، وبناؤهم العمل على قاعدة الكفر ، وتركهم النظر في الدلائل الموصلة إلى الحق والصواب.

فإن توافر الإيمان ، وصح اليقين ، وكان الإنفاق بقصد وجه الله تعالى ، لا للرياء والسمعة ، كان مقبولا عند الله ، لقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة ٥ / ٢٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

إن الكفر أساس بلاء الإنسان في الآخرة ، وهو سبب ضياع ثمرة أعماله التي عملها في الدنيا ، فيكون جزاء الكافرين النار خالدين فيها أبدا ، ولن تفيدهم نفقاتهم المنفقة في دنياهم إلا الحسرة والندامة ، وليس عدم قبول نفقاتهم ظلما من الله لهم ، وإنما هم الظالمون لأنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول فكفروا وعصوا ومنعوا حق الله تعالى ، وأنفقوا أموالهم رياء وسمعة ومفاخرة ، ولم يبتغوا بها وجه الله تعالى. وحالهم حال بؤس وشقاء وقلق واضطراب ، فهم كمن يزرع

٥٢

زرعا تأمّل منه خيرا ونفعا ورزقا يعيش منه طوال العام ، فأصابته ريح باردة ، فأحرقته ، فوقف مبهوتا حائرا ، خائب الظن ، خائر القوى لا يستطيع فعل شيء ، عافانا الله من السوء ، وألهمنا الرشد والصواب ، وثبت قلوبنا على الإيمان ، وجعل أعمالنا كلها ظاهرها وباطنها في سبيله ، ومن أجل رضوانه فقط.

الثقة بالكفار واطلاعهم على الأسرار

وموقفهم الثابت من المؤمنين

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))

الإعراب :

(لا يَأْلُونَكُمْ) صفة ل (بِطانَةً). (خَبالاً) تمييز منصوب (وَدُّوا) و (بَدَتِ

٥٣

الْبَغْضاءُ) : إما صفة (بِطانَةً) أو جملة مستأنفة (ما عَنِتُّمْ) ما : مصدرية ، وتقديره: ودوا عنتكم ، أي هلاككم (ها أَنْتُمْ أُولاءِ) ها : للتنبيه ، وأنتم : مبتدأ ، وأولاء : خبر أنتم ، (تُحِبُّونَهُمْ) حال من اسم الإشارة.

(لا يَضُرُّكُمْ) إنما ضمه وإن كان مجزوما لكونه جواب الشرط ؛ اتباعا لضمة ما قبله. (شَيْئاً) منصوب على المصدر.

البلاغة :

(لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) استعارة ، شبه فيها خواص الرجل بالبطانة ، لملازمتهم له ملازمة الثوب للجسم.

(عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) إما حقيقة تبين وصف المغتاظ والنادم ، وإما من مجاز التمثيل الذي يبين شدة الغيظ والتأسف على عدم إذاية المؤمنين. ويوجد مقابلة الحسنة بالسيئة والمساءة بالفرح في آية : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها). ويوجد جناس اشتقاق في (ظَلَمَهُمُ) و (يَظْلِمُونَ) وفي (الْغَيْظِ) و (بِغَيْظِكُمْ) وفي (تُؤْمِنُونَ) و (آمَنَّا).

المفردات اللغوية :

(بِطانَةً) بطانة الرجل : خاصته الذين يطلعهم على أسراره ، مأخوذ من بطانة الثوب : وهي القماش الرقيق الذي يبطن به الثوب من الداخل ، وعكسه الظهارة ، وهي تستعمل للواحد والجمع ، مذكرا ومؤنثا (مِنْ دُونِكُمْ) : من غيركم (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي لا يقصرون لكم في الفساد ، و (خَبالاً) : منصوب بنزع الخافض وهي مثل قوله تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) [التوبة ٩ / ٤٧] أي فسادا وضررا (وَدُّوا) تمنوا (ما عَنِتُّمْ) إيقاعكم في العنت وهو الهلاك والمشقة وشدة الضرر (قَدْ بَدَتِ) ظهرت (الْبَغْضاءُ) العداوة لكم (مِنْ أَفْواهِهِمْ) بالوقيعة فيكم واطلاع المشركين على سركم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من العداوة.

(الْأَنامِلَ) أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) من شدة الغضب لما يرون من ائتلافكم ، ويعبر عن شدة الغضب أو الندم بعض الأنامل مجازا ، وإن لم يكن ثمّ عض (قُلْ : مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أي ابقوا عليه إلى الموت ، فلن تروا ما يسركم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما في القلوب ، ومنه ما يضمره هؤلاء.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) إن تصبكم نعمة كنصر وغنيمة (تَسُؤْهُمْ) تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) كهزيمة وجدب ، يفرحوا بها ، وعبر أولا بالمس إشارة إلى أن الحسنة تسوء الأعداء ، ولو

٥٤

كانت بأيسر الأشياء ، وعبر ثانيا بالإصابة إشارة إلى أن السيئة تفرح الأعداء مهما كانت كبيرة وخطيرة (١). والحسنة : المنفعة المادية أو المعنوية مثل صحة البدن والفوز بالغنيمة ، وانتشار الإسلام ، وتألف المسلمين. والسيئة : الفقر والهزيمة والتفرقة.

والمعنى : أنهم متناهون في عداوتكم والحقد عليكم ، فلا توالوهم واجتنبوهم. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم (وَتَتَّقُوا) الله في موالاتهم وغيرها (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) لا يؤثر عليكم احتيالهم ، للإيقاع في المكروه ، (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) عالم ، فيجازيهم به ، مثل قوله تعالى : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) وقوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ).

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري وابن إسحاق عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود ، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله فيهم ، يتهاهم عن مباطنتهم ، تخوف الفتنة عليهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الآية. وروي مثل ذلك عن مجاهد.

المناسبة :

كانت الآيات السابقة في بيان صفات الكافرين من أهل الكتاب والمشركين وعقوباتهم في الآخرة ، وفي بيان أحوال المؤمنين وثوابهم.

وهذه الآيات تحذير للمؤمنين من عقد الصلات والصداقات العميقة مع الكافرين والمنافقين ؛ لأنها تؤدي إلى تسرب الأسرار ، والاطلاع على أحوال المسلمين ، مما تقضي المصلحة بكتمانه ، ويؤدي إلى مخاطر تؤثر على كيان الأمة الإسلامية ، وهذا التحذير في غاية الحكمة والتعقل وحماية المصالح العامة العليا ، شأن كل أمة لا تأتمن على أسرارها إلا خواصها.

__________________

(١) حاشية الكشاف : ١ / ٣٤٦ بتصرف.

٥٥

ولا يصح أن تكون القرابات والصداقات والعهود والمحالفات والجوار والرضاع والمصاهرة وغير ذلك سببا في توطيد الصلات والثقة بالأعداء.

التفسير والبيان :

أيها المؤمنون بالله ورسوله ، وشأن الإيمان السماع إلى الكلام ، لا تتخذوا الكافرين من اليهود والنصارى والمنافقين بطانة أي أصدقاء وخواص ومستشارين ، تطلعونهم على أسراركم ودخائلكم ، لأسباب عديدة هي :

١ ـ لا يقصرون في إضراركم وإفساد أموركم ، ما استطاعوا ذلك.

٢ ـ يتمنون إلحاق الضرر والمشقة والهلاك بكم في دينكم ودنياكم.

٣ ـ يظهرون لكم العداوة والبغضاء أثناء الكلام وعلى صفحات الوجوه وفلتات اللسان ، ويكذبون كتابكم ونبيكم.

٤ ـ ما تخفي صدورهم من الحسد والحقد والبغضاء للإسلام وأهله أشد وأكثر مما يظهرون.

وهذا النهي المطلق الذي له أمثال كثيرة في القرآن الكريم ، يوضحه ويقيده آيتا الممتحنة : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة ٦٠ / ٨ ـ ٩].

فإذا اطمأن الحاكم أو الإمام المسلم إلى موادة غير المسلمين ، ووثق بهم ، جاز التعاون معهم ، كما حدث من عون اليهود للمسلمين في فتوح الأندلس ، وكما وقع من القبط ، إذ عاونوا المسلمين في فتح مصر. وجاز توظيفهم في أعمال الدولة الإسلامية ، فقد جعل عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه رجال دواوينه من الروم ، وتابعه الخلفاء من بعده على هذا النهج ، وأناط العباسيون أعمال الدولة باليهود

٥٦

والنصارى ، وكان كثير من سفراء الدولة العثمانية من النصارى (١).

ثم عاد القرآن محذرا ومنبها المؤمنين قائلا لهم : قد بينا وأظهرنا لكم الدلائل والعبر التي ترشدكم إلى الخير ، وتهديكم إلى سواء السبيل ، إن كنتم تدركون هذه الحقائق التي ترشدكم إلى الخير ، وتهديكم إلى سواء السبيل ، إن كنتم تدركون هذه الحقائق التي ترشدكم إلى ضرورة التفرقة بين الأعداء والأولياء.

ثم أكد القرآن تحذيره السابق من اتخاذ الأعداء بطانة وموضع سر وثقة لأسباب ثلاثة أخرى ، كل منها يستدعي الامتناع عن المودة والمخالطة حال انعدام الثقة وهي :

الأول ـ إنكم تحبون أولئك الكفار ، وهم لا يحبونكم وإنما يعادونكم.

الثاني ـ إنكم تؤمنون بالكتب السماوية كلها ومنها كتابهم ، وتصدقون بكل الرسل والأنبياء ، ومنهم رسولهم ونبيهم ، وهم يجحدون بكتابكم ونبيكم.

الثالث ـ إذا لقوا المؤمنين لاطفوهم حذرا على أنفسهم ، وقالوا : آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا خلوا مع أنفسهم وشياطينهم ، أظهروا شدة الغيظ والحقد والعداوة لكم ، وتألموا وندموا وعضوا الأنامل على أنهم لا يستطيعون إلحاق الأذى بكم. ويكون عض الأنامل مجازا عن الغيظ والحقد أو الندم.

فأنتم مخطئون في موالاة المنافقين والكفار ، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ، كما قال الزمخشري ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) [النساء ٤ / ١٠٤].

ثم أمر الله نبيه محمدا بأن يقول لهم : موتوا بغيظكم ، إن الله عليم بذات الصدور ، أي مهما كنتم تحسدون المؤمنين ، ويغيظكم ذلك منهم ، فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه ، ومظهر له ، ومعل كلمته ، ومعز أهل

__________________

(١) تفسير المنار : ٤ / ٦٨ وما بعدها.

٥٧

الإسلام ، فموتوا أنتم بغيظكم ، والله عليم بما تنطوي عليه ضمائركم ، وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين ، وهو مجازيكم عليه في الدنيا ، بأن يريكم خلاف ما تأملون ، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها ، لا محيد لكم عنها ، ولا خروج لكم منها.

ثم أوضح الله تعالى حالا دالة على شدة عداوتهم للمؤمنين : وهو أنه إذا أصاب المؤمنين نعمة أو خير من خصب أو نصر وتأييد وكثرة وعزة أنصار ، ساء ذلك المنافقين ؛ وإن أصاب المسلمين شر كجدب أو تغلب الأعداء عليهم ـ لحكمة إلهية في ذلك كما جرى يوم أحد ـ فرح المنافقون بذلك. ويلاحظ فرق التعبير البلاغي في القرآن بين جملتي : مس الحسنة وإصابة السيئة ، فهم يستاءون عند أدنى مس للحسنة ، ولا يفرحون حتى تتمكن الإصابة بالسيئة.

ولكن الله تعالى ذكر للمؤمنين العلاج الناجع ، وأرشدهم إلى السلامة من شر الأشرار ، وكيد الفجار ، وهو استعمال الصبر ، والتقوى ، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم ، فلا حول ولا قوة لهم إلا به ، وهو الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ، ومن توكل عليه كفاه.

فإذا صبروا على أداء التكاليف الشرعية ، واتقوا ما نهاهم الله عنه ، لم يضرهم كيد الكفار واحتيالهم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق ٦٥ / ٢ ـ ٣].

والله تعالى عالم محيط علمه بعمل الفريقين ، فهو خبير بمكائد الأعداء وخفاياهم ، وسيحبطها لهم ويردها في نحورهم ، ويجازيهم على أفعالهم ، وعليم بالمؤمنين الذين يستعينون بالصبر ، ويتمسكون بالتقوى ، وهما شرط النجاح والغلبة على الأعداء.

٥٨

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية (١١٨) ـ آية اتخاذ البطانة (١) إلى أربعة أمور :

الأول ـ تأكيد الزجر عن الركون إلى الكفار ، وذلك للآية السابقة : (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ).

الثاني ـ نهي المؤمنين أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء مستشارين أمناء في إبداء الآراء المهمة ، وإسناد الأمور الخطيرة في الدولة إليهم. أما اتخاذ أهل الكتاب كتبة وموظفين في أعمال الحكومة مما لا يتصل بالقضايا الحساسة للدولة فيظهر من عمل الخلفاء أنه لا مانع منه. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بعث الله من نبي ، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، فالمعصوم : من عصم الله تعالى».

الثالث ـ دل قوله تعالى (مِنْ دُونِكُمْ) أي من سواكم على أن النهي موجه إلى استعمال غير المسلمين بطانة ، لأسباب ذكرتها الآية : وهي : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي لا يقصّرون في إفساد أموركم ؛ و (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي ودّوا عنتكم أي ما يشق عليكم ، والعنت : المشقة ؛ و (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواهم ؛ و (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم.

الرابع ـ في هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا تجوز ، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز ، وروي عن أبي حنيفة جواز ذلك.

ودلت الآية (١١٩) : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) أي المنافقين من أهل

__________________

(١) بطانة الرجل : خاصته الذين يستنبطون أمره.

٥٩

الكتاب ، بدليل قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا : آمَنَّا) على عدم التكافؤ في المواقف بين المسلمين والمنافقين ، فالمسلمون يصافونهم ، وهم لا يصافون المسلمين لنفاقهم ، وهي أيضا بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء ، والحال أن المسلمين يؤمنون بكتاب الكتابيين كله ، وهم مع ذلك يبغضون المسلمين ، فلم يحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابهم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب من المسلمين في حقهم!

وأما قوله : (قُلْ : مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) فهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به ، والمراد بزيادة الغيظ : زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله ، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والخسران. وربما يكون المعنى : أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون ، فإن الموت دون ذلك ، فيزول معنى الدعاء ، ويبقى معنى التقريع والإغاظة ، كما في قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) [الحج ٢٢ / ١٥].

وذكرت الآية (١٢٠) سببا آخر لعدم اتخاذ الأعداء بطانة : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ..) والمعنى من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين ، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة ، لا سيما في الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو ملاك الدنيا والآخرة.

لكن يلاحظ أن هذا فيمن كانت حاله مثل المنافقين في صدر الإسلام ، بدليل أن المذاهب الأربعة أجازت الاستعانة بالكفار في القتال ، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين ، أو عند الحاجة في رأي الشافعية (١).

__________________

(١) انظر القسطلاني شرح البخاري : ٥ / ١٧٠ ، نيل الأوطار : ٧ / ١٣٦ ، الفقه الإسلامي وأدلته للمؤلف : ٦ / ٤٢٤ ، ط أولى.

٦٠