التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

امرأة : كبيشة بنت معن الأنصارية ، فطرح ابن له من غيرها يقال له : حصن ثوبه عليها ، فورث نكاحها ثم تركها ، فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها لتفتدي منه بمالها ، فاشتكت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لها : اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

التفسير والبيان :

كانت المرأة قبل الإسلام مهضومة الحق ، فقرر لها الله تعالى حقوقا في شؤون الزواج ، ونهى عن الاعتداء عليها.

الحق الأول ـ تحريم إرث ذات النساء :

ليست المرأة متاعا يورث ، فلا تورث زوجة المتوفى ، ولا يحل لكم أيها المؤمنون تقليد أهل الجاهلية ، فترثون المرأة كما ترثون الأموال والأمتعة ، وتتصرفون فيها كما تشاؤون ، وهن كارهات لذلك ، فإن شاء أحدكم تزوجها ، وإن شاء زوجها غيره ، وإن شاء منعها الزواج.

الحق الثاني ـ عضل المرأة :

أي منعها من الزواج والتضييق عليها : ولا يحل لكم إرث النساء ولا التضييق عليهن حتى تفتدي المرأة نفسها منكم بالمال من ميراث أو صداق ونحو ذلك. أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي الشهود فيكتب ذلك عليها ، فإذا خطبها خاطب ، فإن أعطته وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها ، وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال.

والخطاب إلى الذين نهوا عن العضل إما الأزواج ، وإما أولياء الميت الذين يرثون زوجته ويمنعونها من الزواج حتى تموت فيرثوها ، وإما أولياء المرأة ،

٣٠١

وهذا غير مقبول ؛ لأن أولياءها لم يؤتوها شيئا ثم يذهبوا ببعض ما آتوه لها. والمراد بقوله : (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) ألا تضاروهن في العشرة لتترك لكم ما أصدقتموها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليكم ، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والإضرار.

ثم استثنى الله تعالى حالا واحدة يجوز فيها العضل أي الحبس والتضييق وهي حالة إتيان الفاحشة المبينة كالزنى والسرقة والنشوز عن الطاعة ، ونحو ذلك من الأمور الممقوتة شرعا وعرفا ، ففي هذه الحال يجوز العضل لاسترداد ما أعطوه من صداق وغيره من المال ؛ لأن الإساءة من جانبها ، واشتراط كون الفاحشة مبينة أي ظاهرة ثابتة إنما هو لمنع عضلها بمجرد سوء الظن والتّهمة بسبب غيرة الرجل الشديدة وتسرعه في الحكم على الزوجة البريئة ، أو المرأة العفيفة ، فيقع الرجل في الظلم حينئذ.

الحق الثالث ـ المعاشرة بالمعروف :

أي تطييب القول وتحسين الأفعال والهيئات والإنصاف بالنفقة والمبيت ، فإن المرأة ذات عواطف ومشاعر وحساسية مرهفة ، وهي تحب من الرجل مثل ما يحب هو منها ، كما قال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة ٢ / ٢٢٨] وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن عساكر عن علي : «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقته ، ويضاحك نساءه ، حتى إنه كان يسابق عائشة رضي‌الله‌عنها يتودد إليها بذلك ، ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها ، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يؤانسهم بذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ

٣٠٢

حَسَنَةٌ) [الأحزاب ٣٣ / ٢١] وكان عليه الصلاة والسلام يقول فيما رواه ابن عمر في خطبة الوداع : «استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، ومن حقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يعصينكم في معروف ، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف».

وأمره تعالى بقوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) للرد على ما كان في الجاهلية ، إذ كان الرجال يسيئون عشرة النساء ، فيغلظون لهن القول ، ويضاروهن.

فإن كرهتموهن لعيب في أخلاقهن أو قبح في خلقهن ، أو لتقصير في عمل واجب عليهن كخدمة البيت ، أو لميل منكم إلى غيرهن ، فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن ، فربما يجعل الله فيهن خيرا كثيرا ، فيجعل منهن زوجات رضيات يصلحن أحوالكم ، أو يرزقكم منهن بأولاد نجباء صالحين ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقا ، رضي منها آخر» المعنى : لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها ، فلا ينبغي له ذلك ، بل يعفو ويصفح ويتغاضي عما يكره لما يحب. ولو تعقل الرجل الآية والحديث وعمل بهما شعر بالسعادة وأسعد الأسرة وتجنب كل ما قد يحدث من منازعات تؤدي إلى أبغض الحلال ، وتوقع في الشقاء والخسران.

الحق الرابع ـ حق المرأة في كامل المهر :

الظلم قديم في الإنسان وفي طبعه ، والرجل الظالم يعتمد على قوته عادة وعلى كون الطلاق بيده ، وكان من ظلم الرجال للنساء ، وأطماعهم أن الرجل إذا أراد تطليق امرأته ، استرد ما دفعه لها من مهر ، متذرعا بوسائل كثيرة ومضايقات متنوعة منها الرمي بالفاحشة ، فنهى الله عن ذلك في آيتي : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ

٣٠٣

اسْتِبْدالَ ..) و (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ..) وجعله بهتانا وإثما مبينا ، ووبخهم وأنكر عليهم ذلك بعد الإفضاء إلى المرأة وأخذ الميثاق الغليظ منهم ، فقال :

وإذا أردتم استبدال زوج مكان زوج كرهتموها ، فاصبروا وأحسنوا المفارقة ، ولا تتهموها بالفاحشة الظاهرة ، ولا تأخذوا شيئا من المهر الذي دفعتموه ، ولو كان المدفوع قنطارا : مالا كثيرا ثم أنكر عليهم ذلك وبخهم بقوله :

أ ـ (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي باهتين مبطلين ظالمين آثمين. ومناسبة البهتان : وهو افتراء الكذب إما بإطلاق البهتان على كل باطل محيّر في بطلانه ، وإما لإلصاق تهمة الفاحشة بالمرأة وهو طعن بها وظلم ، وإما لرميها بتهمة باطلة لأخذ المهر.

ب ـ وكيف تأخذونه وتستحلون أخذ مهور النساء لا لذنب ولا لتقصير في التزام حدود الله ، وقد حدث بينكم ما حدث من استمتاع أو جماع ، أو إفضاء متبادل ، وملابسة قد يتسبب منها إنجاب الولد ، كيف تقطعون هذه الصلة ، وتهتكون ستر المرأة ، وتسيئون إلى سمعتها ، ظلما وغضبا وطمعا في مالها ، وأنتم أهل القدرة على العمل واكتساب الأموال.

ج ـ وأخذن منكم ميثاقا غليظا أي عهدا مؤكدا والتزاما بحق الصحبة والمعاشرة بالمعروف. قال قتادة ومجاهد : هذا الميثاق : هو ما أخذ الله للنساء على الرجال بقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة ٢ / ٢٢٩]. ووصفه الله بالغلظة لقوته وعظمته. وقالوا : صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟

إن هذا الفعل قطع لصلة الود والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم ٣٠ / ٢١].

٣٠٤

فقه الحياة أو الأحكام :

نهى الله الأولياء عن إرث النساء كرها ، والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهنّ. وإبطال لعادة الجاهلية القبيحة بإطلاق حق التصرف بزوجة الميت لأوليائه ، وجعلهم أحق بامرأته ، وهذا مناف للكرامة الإنسانية وإخلال باحترام المرأة وجعلها متاعا يورث ، وإساءة لزوجها السابق.

كذلك نهى الله الأزواج وأولياء الميت عن عضل المرأة أي منعها من الزواج بمن تشاء ، وحبسها والتضييق عليها ، إلا في حال التلبس بفاحشة مبينة كالزنى والنشوز وغيرهما ، بقصد أن يأخذوا بعض ما آتاه الزوج لها من مهر. أما في حال النشوز أو الزنى فيحل للرجل أخذ جميع المال الذي قدم مهرا للمرأة.

ثم أمر الله بمعاشرة المرأة بالمعروف جميع الأزواج والأولياء ، وإن كان المراد في الأغلب الأزواج ، وهو مثل قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) بأن يوفيها حقها من المهر والنفقة ، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب ، وأن يكون منطلقا في القول ، لا فظّا ولا غليظا ، ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والعشرة : المخالطة والممازجة. والمقصود من هذا الأمر الإلهي بحسن صحبة النساء بعد الزواج توفير مناخ السعادة والهدوء والاستقرار وهناءة العيش ، لكل من الزوجين ، وهذا واجب ديانة على الزوج ، ولا يلزمه في القضاء. وتأثير الواجب ديانة بما يذكر بمراقبة الله وخشيته والعرض عليه في الحساب أوقع في نفس المؤمن من حسبان حساب القضاء.

واستدل المالكية بقوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها ، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد ، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٩٧

٣٠٥

وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزم إلا خادم واحد ، وذلك يكفيها خدمة نفسها ، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها.

وفي حالة طروء كراهية للزوجة لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز ، يندب للرجل الصبر والاحتمال ، فعسى أن تتبدل الأحوال وتحسن المرأة عشرة زوجها ، ويرزقه الله منها أولادا صالحين.

وبعد أن بيّن الله حكم الفراق الذي سببه المرأة ، وأن للزوج أخذ المال منها حال الزنى أو النشوز مثلا ، أتبعه بذكر الفراق الذي سببه الزوج ، وأنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة ، فليس له أن يطلب منها مالا.

ودل قوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) على جواز المغالاة في المهور ؛ لأن الله تعالى لا يمثّل إلا بمباح ، والقنطار : المال الكثير الوزن. وقد فهم الناس ذلك من الآية بدليل قصة عمر والمرأة : خطب عمر رضي‌الله‌عنه فقال : ألا لا تغالوا في صدقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً).

فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية : فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر! وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الإنكار (١).

وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور ؛ لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة ، كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد. وهذا كقوله

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٩٩

٣٠٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد عن ابن عباس : «من بنى لله مسجدا ، ولو كمفحص قطاة لبيضها ، بنى الله له بيتا في الجنة» ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة. وقد ورد في السنة وفعل الصحابة الإقلال من المهور ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن أبي حدرد ، وقد جاء يستعينه في مهره ، فسأل عنه ، فقال : مائتين ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرّة (١) أو جبل».

وأرشد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يسر المهور وعدم التعالي في أحاديث أخرى منها : ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة : «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها ، وتيسير صداقها».

وأجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق ؛ لقوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) واختلفوا في أقله ، وسيأتي عند قوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ).

والصحيح أن قوله تعالى : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) وقوله في سورة البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) [٢ / ٢٢٩] محكم غير منسوخ ، لا يتعارض مع جواز أخذ عوض الخلع الذي تبذله المرأة بطواعية ورضا نفس ، وهو المنصوص عليه في قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ..) [البقرة ٢ / ٢٢٩].

قال أبو بكر الجصاص الرازي : ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول. فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة ، فقد منعت الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق ؛ لأن قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) قد أفاد الفرقة والطلاق. وسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول (٢).

__________________

(١) الحرة : أرض ذات حجارة نخرة سوداء.

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ١١١

٣٠٧

يفهم منه أن الرازي استدل بهذه الآية (٢٠) على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر ؛ لأن الله تعالى منع الزوج أن يأخذ منها شيئا من المهر ، وهذا المنع مطلق ، ترك العمل به قبل الخلوة ، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة.

أما الفقهاء فاختلفوا في ذلك ، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المهر يتقرر بالخلوة ، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه يتقرر بالجماع ، لا بالخلوة ، لكن قرر المالكية المهر أيضا بإقامة الزوجة سنة في بيت الزوج بعد الزفاف بلا وطء ؛ لأن الإقامة المذكورة تقوم مقام الوقاع أو الوطء.

والقائلون بأن المهر لا يتقرر بالخلوة رأوا أن هذه الآية مختصة بما بعد الجماع ، بدليل قوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) وإفضاء بعضهم إلى بعض : هو الجماع.

المحارم من النساء

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ

٣٠٨

فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣))

الإعراب :

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) في موضع نصب ؛ لأنه استثناء منقطع ، يقدر البصريون إلا بلكن ويقدره الكوفيون بسوى.

(وَساءَ سَبِيلاً) سبيلا : تمييز منصوب.

البلاغة :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) فيه حذف مضاف ، أي حرم الله عليكم نكاح الأمهات.

(اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) كناية عن الجماع ، مثل قولهم : بنى بها أو عليها.

(تَنْكِحُوا ما نَكَحَ) جناس ناقص.

المفردات اللغوية :

(سَلَفَ) مضى (فاحِشَةً) قبيحا (وَمَقْتاً) سببا للمقت من الله وهو أشد البغض ، وكانوا يسمونه نكاح المقت (وَساءَ) بئس (سَبِيلاً) طريقا إلى ذلك.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) أن تنكحوهن ، وشملت الجدات من جهة الأب أو الأم (وَرَبائِبُكُمُ) جمع ربيبة : وهي بنت الزوجة من غيره (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) أي تربونهن في بيوتكم ، وهي صفة موافقة للغالب من كون بنت الزوجة تعيش غالبا مع أمها في بيت زوج الأم ، فلا مفهوم له ، أي تحرم بنت الزوجة ولو لم تكن تتربى في بيت زوج الأم. (دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي جامعتموهن. (فَلا جُناحَ) أي لا إثم ولا تضييق في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن ، ومن هنا استنبط العلماء قاعدة شرعية هي : «العقد على البنات يحرم الأمهات ، والدخول بالأمهات يحرم البنات».

(وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أي تحرم زوجات الأبناء ، بخلاف زوجات الأولاد بالتبني ، فلكم نكاحهن.

٣٠٩

سبب النزول :

نزول الآية (٢٢):

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ) : نزلت في حصن بن أبي قيس ، تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن ، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه ، وصفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه : فاختة بنت الأسود بن عبد المطلب ، وفي منصور بن مازن تزوج امرأة أبيه : مليكة بنت خارجة.

قال أشعث بن سوار : توفي أبو قيس ، وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه ، فقالت : إني أعدّك ولدا!! ولكني آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أستأمره ، فأتته فأخبرته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ).

وذكر النضر بن شميل في كتاب (المثالب) أن حاجب بن زرارة من العرب تمجّس وتزوج ابنته ، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة.

المناسبة :

بيّن الله تعالى سابقا حكم نكاح اليتامى ، وعدد من يحل من النساء بشرط العدل والنفقة ، وأوصى بحسن معاشرة الزوجات ، وحذر من أخذ مهورهن ظلما بغير حق ، ثم عقبه هنا بذكر النساء اللاتي لا يجوز التزوج بهن بسبب قرابة النسب أو المصاهرة أو الرضاع.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٨٤ ، تفسير القرطبي : ٥ / ١٠٤

٣١٠

التفسير والبيان :

اشتملت الآية على تحريم زوجة الأب ، والأقارب بسبب النسب أو المصاهرة أو الرضاع.

أولا ـ النكاح المقت :

حرم الله تعالى في آية : (وَلا تَنْكِحُوا ..) امرأة الأب ؛ لأنها تشبه الأم ، ولأنه فعل قبيح شنيع لا تألفه الطباع السليمة ، ولأنه مقت مبغوض مكروه عند ذوي العقول الراجحة ، لذا سماه العرب : «النكاح المقت» ويسمى ولد الرجل من امرأة أبيه : «مقيتا» ، ولأنه بئس الطريق ذلك ، كما قال تعالى : (وَساءَ سَبِيلاً) وهو معطوف على خبر كان بتقدير : مقولا فيه ذلك ؛ لأنه إنشاء لا خبر.

والمراد بالنكاح في قوله : (ما نَكَحَ) : العقد ، كما قال ابن عباس ، روى ابن جرير الطبري والبيهقي عنه أنه قال : «كل امرأة تزوجها أبوك ، دخل بها أو لم يدخل بها ، فهي حرام». والمراد بالآباء : ما يشمل الأجداد إجماعا.

لكن نكاح ما مضى قبل نزول الآية لا مؤاخذة فيه ، أي أن هذا النكاح يستحق فاعله العقاب إلّا ما قد سلف ومضى ، فإنه لا ذنب فيه ، ومعفو عنه. والاستثناء منقطع ، والمعنى : لكن ما قد سلف فلا تثريب عليكم فيه. وما هنا عبارة عن النساء ، فقد وقعت على العاقل ، وقيل : إنها مصدرية ، والمعنى : لا تنكحوا نكاحا مثل ما نكح آباؤكم من أنكحة الجاهلية الفاسدة.

ثانيا ـ المحرمات بسبب قرابة النسب أو المصاهرة أو الرضاع :

بيّن الله تعالى أنواع المحرمات من النساء ، لمنافاتها ما في النكاح من الصلة المتبادلة بين الجنسين ، وهي ستة أقسام :

٣١١

١ ـ نكاح الأصول : أي الأمهات والجدات ، لقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) والمراد بالأم : ما يشمل الجدات.

٢ ـ نكاح الفروع : أي البنات وبنات الأولاد من الأبناء والبنات ، لقوله تعالى : (وَبَناتُكُمْ) والمراد : بنات الصلب وبنات الأولاد ، ممن كن سببا في ولادتهن.

٣ ـ نكاح الحواشي القريبة والبعيدة :

القريبة : نكاح الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم ؛ لقوله تعالى : (وَأَخَواتُكُمْ). والبعيدة من جهة الأب والأم وهي نكاح العمات والخالات ؛ لقوله تعالى : (وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) وذلك يشمل أولاد الأجداد وإن علوا ، وأولاد الجدات وإن علون.

ومن القرابة البعيدة : الحواشي من جهة الإخوة ، لقوله تعالى : (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) من جهة أحد الأبوين أو كليهما.

وهذه الأنواع الثلاثة : ما يحرم من جهة النسب.

٤ ـ ما يحرم بسبب الرضاع :

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) ، فكل أقارب الأم المرضع أقارب للرضيع ، فالمرضعة تصبح أما للرضيع ، وبنتها أخته ، وزوجها أبوه ، وأولادها إخوته. روى البخاري ومسلم عن ابن عباسرضي‌الله‌عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة قال : «إنها لا تحل لي ، إنها ابنة أخي من الرضاعة ، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» وروى البخاري أيضا عن ابن عباس «أنه سئل

٣١٢

عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما ، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ قال : لا ، اللقاح واحد».

وظاهر الآية أن قليل الرضاع ككثيره ، وهو رأي الحنفية والمالكية. وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم وغيره قال : «لا تحرّم المصّة والمصّتان ولا الإملاجة والإملاجتان». وهو مروي عن الإمام أحمد.

وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات ؛ لما رواه مالك وغيره عن عائشة قالت : كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات ، فنسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهن مما يقرأ من القرآن.

ورد الحنفية على الحديث بأنه لا يجوز تخصيص آية التحريم هذه بخبر الواحد ؛ لأنها محكمة ظاهرة المعنى ، بينة المراد. وأخرج أبو بكر الرازي عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقال : إن الناس يقولون : لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ، قال : قد كان ذاك ، أما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم.

ولا يحرم الرضاع إلا في سن الصغر وهو ضمن الحولين ؛ لقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وروى الدارقطني عن ابن عباس قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا رضاع إلا ما كان في الحولين».

وهل لبن الفحل يحرّم أو لا؟ كأن يتزوج رجل امرأتين ، فتلد منه ، وترضع إحداهما صبية ، والأخرى غلاما ، فمن ذهب إلى أن لبن الفحل يحرم وهو مذهب أكثر الأئمة ، حرم الصبية على الغلام ؛ لأنهما أخوان من الرضاع لأب. وهذا هو المنصوص عليه ، لما ثبت في البخاري عن عائشة : أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب ، فقالت عائشة : والله

٣١٣

لا آذن لأفلح حتى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني ، إنما أرضعتني المرأة! قالت عائشة : فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : يا رسول الله ، إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن علي ، فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك ، فقال : إنه عمك ، فليلج عليك.

٥ ـ ما يحرم بسبب المصاهرة :

حرم الله بسبب المصاهرة ثلاثة أنواع تكريما لتلك الرابطة كتكريم رابطة النسب :

الأول ـ أم الزوجة التي دخل بها الزوج أو عقد عليها ، والجدة كالأم ، لقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) أي أمهات الزوجات. ولا يشترط في تحريم أم المرأة الدخول بالبنت ، بل يكفي مجرد العقد. وهو رأي الجماهير.

الثاني ـ الربيبة : وهي ابنة الزوجة من غيره ، بشرط الدخول بأمها ، وكذا يحرم أولاد أولادها ، فإن لم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها ؛ لقوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي إن مجرد العقد على امرأة دون دخول لا يحرم عليه بناتها.

وقال الحنفية : إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها ، وكذا إذا لمسها بشهوة أو قبّلها أو نظر إلى فرجها بشهوة ، أو لمس يد أم امرأته بشهوة. وتحرم عليه امرأته تحريما مؤبدا.

وخالفهم باقي الأئمة وقالوا : الزنا لا يحرم أصول المزني بها ولا فروعها.

الثالث ـ زوجة الابن وابن الابن : تحرم على الأب والجد ؛ لقوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) والحلائل جمع حليلة : وهي الزوجة.

٣١٤

ويقال للرجل : حليل ، لحلول الزوجين في مكان واحد وفراش واحد.

ومثلها زوجة الابن من الرضاعة ، للحديث المتقدم : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

ويلاحظ أن قيد كون الربيبة في حجر الزوج خرج مخرج الغالب ، لا أنه قيد في التحريم، والربيبة حرام على زوج أمها سواء كانت في حجره أو لم تكن في حجره. ولا تحرم زوجة الابن بالتبني لإبطاله وتحريمه في الإسلام ، لقوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٧] وقوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) [الأحزاب ٣٣ / ٥].

٦ ـ ما يحرم بسبب عارض :

وهو الجمع بين الأختين أو بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها ، والضابط : كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكر ، لحرم عليه نكاح الأخرى ، بل تظل الحرمة قائمة لو طلق إحداهما حتى تنتهي عدتها.

ويدل لذلك ما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها» وفي رواية الترمذي وغيره : «لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا العمة على بنت أخيها ، ولا المرأة على خالتها ، ولا الخالة على بنت أختها ، لا الكبرى على الصغرى ، ولا الصغرى على الكبرى» وهذا الحديث خصص عموم قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء ٤ / ٢٤]. ويؤكده ما أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلق أيتهما شئت».

وأشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية ابن حبان وغيره : «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» أي أن تحريم الجمع بين الأختين أو بين المرأة وقريباتها : لوجود الكراهة والبغضاء بين الضرائر عادة.

٣١٥

هذا التحريم لا يشمل ما قد سلف قبل التحريم ، فما مضى لا مؤاخذة فيه.

إن الله كان وما يزال غفورا رحيما يغفر لكم ما قد سلف من آثار أعمالكم السيئة ، ويغفر لكم ذنوبكم بالتوبة والإنابة ، ويرحمكم بتشريع أحكام الزواج التي فيها الخير والمصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم.

فقه الحياة أو الأحكام :

وضح في أثناء التفسير كثير من الأحكام الشرعية ، وأوجزها هنا مع الإشارة إلى أحكام أخرى.

دلت الآية : (وَلا تَنْكِحُوا) على تحريم منكوحة الأب أو الجد ، إلا ما قد سلف ، والاستثناء منقطع ، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه ولا إثم فيه ، فهو كما وصف سبحانه : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) وهو دليل على أنه فعل في غاية من القبح ، لذا سماه العرب نكاح المقت : وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها. ويقال للولد إذا ولدته : المقتيّ. وأصل المقت : البغض.

واختلف العلماء فيمن زنى بها الأب ، أتحرم على ولده كما حرمت عليه زوجته ، أم لا تحرم ، فيكون الوطء الحرام غير ناشر للحرمة كالوطء الحلال. واختلفوا في الزنى بأم الزوجة ، أيحرم الزوجة أم لا يحرمها؟

ذهب إلى الرأي الأول الحنفية والأوزاعي والثوري ومالك في رواية ابن القاسم عنه ، وذهب إلى الثاني الليث والشافعي ومالك في رواية الموطأ عنه ، وهو الراجح لدى المالكية.

وسبب الخلاف : الاشتراك في لفظ النكاح ، فهو يطلق على الوطء وعلى العقد ، فمن قال : إن المراد به في الآية الوطء ، حرم من وطئت ولو بزنا. ومن

٣١٦

إطلاقه على الوطء قوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة ٢ / ٢٣٠] (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور ٢٤ / ٣] إذ لو كان العقد للزم الكذب ، وقوله : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) [النساء ٤ / ٦] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث ضعيف : «ناكح اليد ملعون».

ومن قال : المراد به العقد لم يحرم بالزنا. ومن إطلاقه على العقد قوله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [الأحزاب ٣٣ / ٤٩] وقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور ٢٤ / ٣٢] وقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء ٤ / ٣] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن ماجه : «النكاح من سنتي» أي العقد ، وقوله في الحديث الثابت : «أنا من نكاح ولست من سفاح».

فما الراجح أن تحمل عليه الآية أهو الوطء أم العقد؟ ذهب الحنفية : إلى أن الراجح أن يكون المراد بالنكاح في الآية الوطء ؛ لأن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد ، والحمل على الحقيقة أولى ، حتى يقوم الدليل على الحمل على المجاز ، وإذا كان المراد به الوطء ، فلا فرق بين الوطء الحلال والوطء الحرام. والوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد ؛ لأنا لم نجد وطئا مباحا إلا وهو موجب للتحريم كالوطء بملك اليمين ونكاح الشبهة ، وقد وجدنا وطئا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت ، ولو وطئها حرمت ، فعلمنا أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم ، فكيفما وجد ينبغي أن يحرم ، سواء كان مباحا أو محظورا.

ورأى الشافعية : أن النكاح وإن كان مجازا في العقد ، ولكنه اشتهر فيه ، حتى صار حقيقة فيه ، كالعقيقة كانت اسما لشعر المولود ، ثم أطلقت على الشاة التي تذبح عند حلقة مجازا ، واشتهر ذلك حتى صارت حقيقة فيها ، تفهم منها عند الإطلاق. وقد عبر الله بجانب هذه المحرمات بما يفيد الزوجية كقوله :

٣١٧

(وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ). ثم إنه كيف يجعل للزنا حرمة وهو فاحشة ومقت؟ ثم إن النسب لا يثبت بالزنا ، فكذلك التحريم لا يثبت بالزنا. وهذا هو الراجح.

ودلت آية : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ...) على تحريم سبع من النسب وهي : الأم ومثلها الجدات وان علون ، والبنت ومثلها بنت الأولاد وإن سفلن ، والأخت ، والعمة ، والخالة ، وبنت الأخ ، وبنت الأخت.

وتحريم الأم من الآية ؛ لأن الأم حقيقة في الأم مباشرة ، مجاز في الجدة ، ويكون تحريم الجدات من الإجماع ، وقال بعضهم : من الآية ؛ لأن الأم تطلق على الأم المباشرة والجدة من باب المشترك المعنوي.

وأما البنت من الزنى فهل هي داخلة في قوله : (وَبَناتُكُمْ)؟ قال أبو حنيفة : إنها داخلة في الآية ولها حرمة البنت الشرعية ؛ لأنها متخلقة من مائه وبضعة منه ، فحرمها عليه ، فهو قد نظر إلى الحقيقة. وقال الشافعي : ليست داخلة في الآية ، فلا تكون حراما ، وليس لها حرمة البنت الشرعية ؛ لأن الشارع لم يعطها حكم البنتيه ، فلم يورثها منها ، ولم يبح الخلوة بها ، ولم يجعل له عليها ولاية ، وليس له أن يستلحقها به لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة : «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

ورجح بعض علماء العصر رأي أبي حنيفة قياسا على ولد الزنا ، فإنه تحرم عليه أمه ؛ لأنه متخلق منها. ورأى آخرون ترجيح رأي المالكية والشافعية ، حتى لا يجعل الزنى في مرتبة القرابة والمصاهرة والرضاع ، والقاعدة الشرعية تقرر أن النقمة لا تكون طريقا إلى النعمة.

ودلت الآية على تحريم ست بغير النسب وهم :

الأم من الرضاع ، والأخت من الرضاع ، ومثلهما جميع أصول وفروع

٣١٨

المرضع. وأمهات الزوجات ، والربائب المدخول بأمهن ، وزوجات الأبناء ، والجمع بين الأختين ، ومثل الأخت : العمة والخالة وابنة الأخ وابنة الأخت.

وأما زوجة الابن المتبنى فأحلها الإسلام ، خلافا لما كان عليه العرب في الجاهلية ، وتزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش زوج زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه عليه الصلاة والسلام ، عملا بقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٧] وقوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) [الأحزاب ٣٣ / ٥].

وقد استنبط العلماء من قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ..) القاعدة الشرعية وهي : «العقد على البنات يحرّم الأمهات ، والدخول بالأمهات يحرم البنات» فأم المرأة تحرم بمجرد العقد على بنتها ، سواء دخل بها أو لم يدخل بها. وأما الربيبة : وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد حتى يدخل بأمها ، فإن طلق الأم قبل الدخول بها ، جاز له أن يتزوج بنتها.

ودل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) على أن تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه. وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات ، فهو تحريم مؤبد دائم.

والتحريم بالرضاع مثل التحريم بالنسب تماما ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتقدم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». ويجوز للمرأة أن يحج معها أخوها من الرضاعة ، كما صرح الإمام مالك رحمه‌الله.

وأجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء ، سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا

٣١٩

ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) وقوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ). فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح ؛ لأن النكاح الفاسد إن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه ، وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلّق بالصحيح ؛ لاحتمال أن يكون نكاحا ، فيدخل تحت مطلق اللفظ ، والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلّب التحريم. قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطأ بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه ، وعلى أجداده وولد ولده.

أما الوطء بالزنى فهو يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال في رأي الحنفية ، بدليل قصة جريج ، وقوله : «يا غلام ، من أبوك؟ قال : فلان الراعي» فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرّم الوطء الحلال.

وقال المالكية والشافعية : إن الزنى لا حكم له ؛ لأن الله تعالى قال : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وليست التي زنى بها من أمّهات نسائه ، ولا ابنتها من ربائبه ، روى الدارقطني عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: «لا يحرم الحرام الحلال ، إنما يحرم ما كان بنكاح».

وأما اللائط : فقال مالك والشافعي والحنفية : لا يحرم النكاح باللواط.

وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها : أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة.

واختلفوا إذا طلقها طلاقا بائنا لا يملك رجعتها ، فقال الحنفية والحنابلة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلّق. وقال المالكية والشافعية : له أن ينكح أختها وأربعا سواها.

٣٢٠