التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

والانحراف. (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) عالمون بأن الدين المرضي القيم دين الإسلام ، كما في كتابكم. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الكفر والتكذيب ، وإنما يؤخركم إلى وقتكم ، ليجازيكم.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري عن زيد بن أسلم قال : مرّ شاس بن قيس اليهودي ـ وكان شيخا قد غبر في الجاهلية عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام ، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة ، فقال :

قد اجتمع ملأ بني قيلة (الأوس والخزرج) بهذه البلاد ، لا والله ، مالنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار.

فأمر شابا من اليهود كان معه ، فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم ذكّرهم يوم بعاث (١) وما كان فيه ، وأنشدهم بعض ما كان تقاولوا فيه من الأشعار. وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج.

ففعل ، فتكم القوم عند ذلك ، فتنازعوا وتفاخروا ، حتى تواثب رجلان من الحيين : أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس ، وجابر بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، وقال أحدهما لصاحبه :

إن شئت رددتها جذعا (٢)

وغضب الفريقان جميعا وقالا : ارجعا ، السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة (٣) ، وهي حرّة ، فخرجوا إليها ، فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى

__________________

(١) أحد أيام الجاهلية التي وقع فيها حرب طاحنة بين الأوس والخزرج.

(٢) أي شابة فتية ، يعنون الحرب.

(٣) وهي الحرة : وهي أرض مستوية بظاهر المدينة. والحرة : ذات حجارة سود.

٢١

بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية.

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم ، فقال: يا معشر المسلمين ، أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم ، بعد أن أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، وألّف بينكم ، فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ، الله الله ، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا ، وعانق بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سامعين مطيعين.

فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ يعني الأوس والخزرج ـ (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ـ يعني شاسا وأصحابه ـ (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ).

قال جابر بن عبد الله : ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأومأ إلينا بيده ، فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا ، فما كان شخص أحبّ إلينا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم (١).

المناسبة :

بعد أن أورد الله تعالى أدلة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتراضهم على ذلك ، وإبطال شبهاتهم ومزاعمهم ، وبخهم على إصرارهم على الكفر ، وصدهم عن دين الله ، مستعملا الخطاب بأهل الكتاب ، ليدعوهم باللين إلى تغيير موقفهم من دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيمانهم برسالته ، مع علمهم بصدقه وصحة ما جاء به.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٦٦ وما بعدها ، البحر المحيط : ٣ / ١٣

٢٢

التفسير والبيان :

قل لهم يا محمد : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ، وما سبب ذلك ، وما دليلكم على موقفكم الرافض دعوة الإسلام ، ولأي سبب تصرفون المؤمنين عن جادة الإيمان الذي يرقى بالعقل عن طريق إعمال النظر في الكون ، ويزكي الروح بالأخلاق ، ويرفع مستوى الإنسان بالأعمال الطيبة الصالحة؟

إنكم بهذا الموقف المعاند القائم على الحسد والاستعلاء والكبر وإلقاء الشبهات الباطلة ، تريدون الانحراف عن منهج الحق ، والزيغ عن سبيل الاستقامة على الهدى ، وأنتم عارفون معرفة تامة بصدق محمد في نبوته ، وتقدم البشارة به ، وقد غيّرتم وبدّلتم صفاته ، وكذبتم على الله ، وما الله بغافل عن أعمالكم ومكائدكم ، فمجازيكم عليها.

والسبب في ختم الآية الأولى بقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ ...) : هو أن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود ، وأما سبب ختم الآية الثانية بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ ...) فهو أن الصد عن الإسلام كان عن طريق المكر والاحتيال.

وتكرر الخطاب بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) للتوبيخ بلطف ولين ، ولحملهم على الانضمام لدعوة الإسلام المتفقة مع أصول كتبهم الصحيحة.

والآية الأولى لكفهم عن الضلال ، والثانية لكفهم عن الإضلال (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

إن أصول الأديان واحدة ، وغاياتها واحدة ، وطريقها بالدعوة إلى التوحيد الإلهي ، وسمو الأخلاق والفضائل ، وعبادة الله واحدة أيضا ، فما على أتباع الأديان إلا أن ينضم بعضهم إلى بعض ، دون تمسك بما لديه ، وبما أن الإسلام خاتم

__________________

(١) تفسير المراغي : ٤ / ١٤

٢٣

الرسالات السماوية ، فعلى المتقدمين من أتباع الملل الأخرى الانضمام تحت لوائه ، ليكون جند الإيمان في خندق واحد وصف واحد أمام معسكر الشرك والوثنية ، وأما المسلمون فهم مؤمنون بكل الرسل دون تفرقة بين أحد منهم ، وبما أنزل عليهم من كتب وصحف ووصايا.

وهذا ما ركز عليه القرآن بدعوة أهل الكتاب بالكف عن عنادهم وحسدهم ، وقبولهم سراعا دعوة القرآن. وهاتان الآيتان لون من ألوان التعنيف والتوبيخ من الله تعالى بلطف ولين لأهل الكتاب على عنادهم للحق ، وكفرهم بآيات الله (وهي القرآن وما اشتمل عليه من دلائل نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وصدّهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم ، ومكرهم ، مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله ، وبما عندهم من بشائر الأنبياء المتقدمين بالنبي محمد.

واستحقوا في هاتين الآيتين التهديد والوعيد ، والإعلان الصريح عن إحباط المؤامرات ، وكشف أنواع الخداع ، وإلقاء الشبهات ، وألوان المكر ؛ لأن الله تعالى شهيد على صنيعهم ذلك ، غير غافل عن مكائدهم ، وسيجازيهم على سوء أعمالهم ومواقفهم المستغربة المتسمة بالتكذيب والجحود والعناد.

أجل! إنه إنذار في الدنيا قبل فوات الأوان ، وإعلام بالحق لئلا يضل الناس ، وتحذير من الميل مع أهواء النفوس التي من أخصها الحسد والعناد والكبر التي حملت أصحابها على الضلال بأنفسهم ومحاولة الإضلال لغيرهم.

توجيه المؤمنين إلى الحفاظ على الشخصية

والاعتصام بالقرآن والإسلام

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ

٢٤

إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))

الإعراب :

(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا) الجار والمجرور في موضع نصب ؛ لأنه خبر كان. و (شَفا) : أصله شفو ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقبلت ألفا.

البلاغة :

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) استفهام تعجب وتوبيخ واستبعاد وقوع الكفر منهم مع تلاوة القرآن ووجود الرسول فيهم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) استعارة تصريحية ، شبه القرآن بالحبل ، وأستعير اسم المشبه به وهو الحبل للمشبه وهو القرآن ، بجامع النجاة في كل منهما.

(شَفا حُفْرَةٍ) استعارة تمثيلية ، شبه حالهم في الجاهلية بحال المشرف على حفرة عميقة.

المفردات اللغوية :

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) تجحدون ، وهو استفهام تعجب وتوبيخ (يَعْتَصِمْ) يتمسك به (حَقَّ تُقاتِهِ) الحق : الوجوب والثبوت ، والتقاة : التقوى ، والأصل فيه : اتقاء حقا ، أي اتقوه التقوى الواجبة : بأن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، فقالوا : يا رسول الله ، ومن يقوى على هذا ، فنسخ بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

(وَاعْتَصِمُوا) تمسكوا (بِحَبْلِ اللهِ) هو العهد أو الدين أو القرآن أو الإسلام ، وكل ذلك مترادف المعنى (شَفا حُفْرَةٍ) طرف حفرة ، وأشفى على الشيء : أشرف عليه. وهو مثل يضرب في القرب من الهلاك. وأريد به هنا القرب من النار أي ليس بينكم وبين الوقوع في النار إلا أن تموتوا كفارا (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالإيمان (كَذلِكَ) كما بيّن لكم ما ذكر يبين لكم الآيات.

٢٥

سبب النزول :

أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر ، فبينما هم جلوس ، ذكروا ما بينهم حتى غضبوا ، وقام بعضهم إلى بعض بالسلاح ، فنزلت : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) الآية والآيتان بعدها. وهذا مؤيد لما ذكر في بيان سبب نزول الآيتين المتقدمتين.

التفسير والبيان :

حذر الله المؤمنين من إطاعة الكافرين وإغوائهم وإضلالهم ، بعد أن وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله ، وذلك من أجل تماسك الشخصية الإسلامية والحفاظ على تميزها واستقلالها ، بعد أن انحرف أهل الكتاب عن صراط الله المستقيم ، وتبيان ذلك فيما يأتي :

أيها المؤمنون إذا أطعتم هؤلاء اليهود فيما يثير الفتنة ويؤجج نار الجاهلية العمياء ، ردّوكم إلى الكفر بعد الإيمان ، وإلى التفرق بعد الوحدة ، وإلى الكراهية والحقد والضغينة بعد المحبة والصفاء والوداد ، كما قال تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة ٢ / ١٠٩] والكفر مهلكة في الدين بخسارة الآخرة وسوء الحال في الدنيا والمعاش ، ومهلكة في الدنيا بإثارة الفتنة والعداوة والبغضاء.

وكيف تكفرون بالله وحاشاكم منه وكيف تطيعون الكفرة فيما يشيرون به؟ والحال أن فيكم أمرين : الأول ـ تلاوة آيات الله التي تنزل على رسوله ليلا ونهارا ، وهو يتلوها عليكم ، ويبلّغها إليكم ، وهو القرآن الظاهر الإعجاز ، كقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الحديد ٥٧ / ٨].

والثاني ـ وجود الرسول فيكم الذي ظهرت على يديه الخوارق المؤيدة

٢٦

لدعوته. ووجود هاتين الحالتين ينافي الكفر ، وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر ، فوبخوا على وقوعه ؛ لأنهم مؤمنون ، ولذلك نودوا بوصف الإيمان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)(١).

ومن يعتصم بالله وكتابه ويتمسك بدينه ويتوكل عليه ، فقد أحرز الهداية ، وابتعد عن الغواية ، وسار في طريق الرشاد والسداد وتحقيق المراد.

ثم أمر الله تعالى المؤمنين بالتزام التقوى حقا ، بأن يؤدوا الواجبات ويجتنبوا المنهيات ، وذلك باجتناب المعاصي كلها ، واتباع الأوامر قدر المستطاع ، كما قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن ٦٤ / ١٦] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» (٢) وقال ابن مسعود : «حق تقاته : أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر» (٣) وقال ابن عباس : هو ألّا يعصى طرفة عين.

وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، من يقوى على هذا؟ وشقّ عليهم ، فأنزل الله عزوجل : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت هذه الآية. قال مقاتل : وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية. والأصوب أن قوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بيان لهذه الآية. والمعنى : فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم ؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع ، والجمع ممكن فهو أولى.

ثم نهاهم بقوله : ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله ، أي : ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت. وهذا حث على المبادرة إلى الإسلام ابتداء

__________________

(١) البحر المحيط : ٣ / ١٤

(٢) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.

(٣) إسناده صحيح موقوف رواه البخاري.

٢٧

واستمرارا ، والمحافظة عليه في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه ، وليس معناه النهي عن الموت حتى يسلموا ، وإنما المطلوب هو التدين بالإسلام قبل مفاجأة الموت.

ثم أمر بالاعتصام بكتاب الله وعهده الذي عهد به إلى الناس ، ونهى عن التفرق عنه أبدا ، والتزام الألفة والاجتماع على طاعة الله والرسول. وحبل الله : هو الإيمان والطاعة والعمل بالقرآن ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيما أخرجه الترمذي : «القرآن : حبل الله المتين ، ونوره المبين ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به ، هدي إلى صراط مستقيم».

ثم ذكّرهم بالنعمة العظمى التي أنعم بها على العرب وهي نعمة الوحدة والتجمع بعد التفرق ، والألفة بعد العداوة والخصام ، وقتل بعضهم بعضا ، وتسلط القوي على الضعيف ، والأخوة الإيمانية : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات ٤٩ / ١٠] بعد الكفر والشرك ، والإشراف على حافة النار والهلاك بسبب الشرك والوثنية ، فصاروا سادة البشر وأساتذة العالم ، وأنقذهم الله بالإسلام من الدمار والهلاك : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم ١٤ / ٣٤].

وقد كان بين العرب ومنهم الأوس والخزرج حروب كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة ، وضغائن وإحن ، طال بسببها قتالهم واقتتالهم ، فلما جاء الله بالإسلام ، فدخل فيه من دخل ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال ٨ / ٦٣].

مثل هذا البيان الناصع الذي بيّنه لكم ربكم في هذه الآيات لما يضمره اليهود

٢٨

نحوكم ، ولما أمركم به ونهاكم عنه ، ولما كنتم عليه في الجاهلية ، وما صرتم إليه في الإسلام ، يبين سائر آياته وحججه في تنزيله على رسوله ، لتهتدوا هداية دائمة ، وتزدادوا هداية ، حتى لا تعودوا إلى أوضاع الجاهلية من التفرق والعدوان ، والوثنية والشرك ، والضلال في العقيدة والأخلاق والتعامل.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ الحفاظ على الشخصية الإسلامية وتميزها ، ورفض تبعتها لغير المسلمين ، والتحذير من الإصغاء لمشورتهم ، والتفكير العميق في آرائهم ، كيلا تؤدي إلى الضرر والشر والفساد ، أو الفرقة والخلاف والانقسام.

٢ ـ تحكيم القرآن والسنة فيما قد يقع فيه المسلمون من نزاع أو اختلاف في الرأي ، كما قال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) [الشورى ٤٢ / ١٠] (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء ٤ / ٥٩].

٣ ـ الاعتصام والتمسك بالقرآن وبدين الله تعالى وطاعته ، والالتفاف الموحد حول أحكام الله حلالها وحرامها ، واجتماع المسلمين على وحدة الهدف والغاية من أجل صون الحرمات والبلاد من عدوان المعتدين ؛ فإنه لم يتوافر لأمة مقومات تجمع بين شعوبها وأفرادها مثل ما توافر لأمة الإسلام ، وهي الآن مع الأسف أبعد الناس عن اجتماع الكلمة ووحدة الصف والغاية والمنهج ، وتلك المقومات واضحة في تلاوة آي القرآن وآثار رسول الله. قال قتادة : في هذه الآية علمان بيّنان : كتاب الله ونبيّ الله ؛ فأما نبي الله فقد مضى ، وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة ، فيه حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته.

٤ ـ ليس الاختلاف مذموما إذا كان في مجال مسائل الاجتهاد واستخراج

٢٩

الفرائض ودقائق معاني الشرع ، وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث ، وهم مع ذلك متآلفون ، ولا فيما كان أثناء تبادل الآراء فيما يحقق مصلحة الأمة بإخلاص ، فليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الجزئيات والفروع ، وتقدير المصالح العامة ، وإنما الخلاف المذموم هو في اتباع الأهواء والأغراض المختلفة ، وما يؤدي إليه من تقاطع وتدابر وتقاتل. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، أو اثنتين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (١) وأخرجه أيضا عن ابن عمر بزيادة : «كلهم في النار إلا ملة واحدة ، قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي».

٥ ـ أوجب الله تعالى علينا التّمسك بكتابه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرّجوع إليهما عند الاختلاف ، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسّنة اعتقادا وعملا ، وذلك سبب اتّفاق الكلمة ، وانتظام الشّتات الذي يتمّ به مصالح الدّنيا والدّين ، والسّلامة من الاختلاف ، كما بيّنا. وقرن ذلك بأمره تعالى بتذكّر نعمه وأعظمها الإسلام واتّباع نبيّه محمد عليه الصّلاة والسّلام ، فإن به زالت العداوة والفرقة ، وكانت المحبّة والألفة.

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وتأكيد النّهي عن التّفرّق

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ

__________________

(١) قال الترمذي : هذا حديث صحيح.

٣٠

لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))

الإعراب :

(يَوْمَ تَبْيَضُ) يوم : منصوب إما بمحذوف مقدر بفعل ، تقديره : اذكر يا محمد يوم تبيض وجوه ، وإما بقوله : (لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي استقر لهم هذا العذاب في يوم تبيض وجوه. (أَكَفَرْتُمْ) فيه محذوف مقدر تقديره : فيقال لهم : أكفرتم ، وحذف لدلالة الكلام عليه ، وحذفت الفاء تبعا للقول ، وحذف القول كثير في كلامهم. والهمزة : همزة استفهام ومعناها التّوبيخ والإنكار.

البلاغة :

يوجد طباق مقابلة في قوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فيه قصر صفة على موصوف ، حيث قصر الفلاح عليهم.

ويوجد طباق أيضا بين كلمتي (تَبْيَضُ) و (تَسْوَدُّ).

(فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) مجاز مرسل ، من باب إطلاق الحال وإرادة المحل ، أي في الجنة ؛ لأنها مكان تنزل الرّحمات.

أما معنى المقابلة الذي جعله بعض البلغاء من أنواع الطباق : فهو أن يؤتي بمعنيين متوافقين أو أكثر ، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.

٣١

المفردات اللغوية :

(مِنْكُمْ) من للتبعيض ؛ لأن ما ذكر فرض كفاية ، لا يلزم كلّ الأمّة ، ولا يليق بكلّ أحد كالجاهل. (أُمَّةٌ) جماعة تربطهم رابطة معينة تجمعهم. (إِلَى الْخَيْرِ) ما فيه المنفعة وصلاح الناس في الدين والدنيا. (بِالْمَعْرُوفِ) ما استحسنه الشرع والعقل. (الْمُنْكَرِ) ما استقبحه الشرع والعقل. (الْمُفْلِحُونَ) الفائزون. (تَبْيَضُ) تشرق وتسرّ. (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) تكتئب وتحزن ، وذلك يوم القيامة. (بِالْحَقِ) أي بالأمر الذي له ثبوت وتحقق ولا شبهة فيه. (ظُلْماً) الظّلم : وضع الشيء في غير موضعه ، إما بالنّقص أو الزّيادة أو بالتعديل في وقته أو مكانه.

المناسبة :

هذه الآيات كالشّرح لقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) فشرح الاعتصام بحبل الله بقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) وشرح (وَلا تَفَرَّقُوا) بقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا)(١). أمرنا تعالى بالاعتصام بالقرآن والتّمسك بالدّين ، ونهانا عن التّفرّق والاختلاف ، ثمّ بيّن لنا سبيل الاعتصام بالدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، فهذه تذكّر بالله وباليوم الآخر ، وترشد إلى الإسلام ، وتعصم من الزّيغ والانحراف ، بقصد الحفاظ على وحدة الأمة ، وترشد أبنائها ، وتكثير سوادها بالأتباع الذين يؤمنون بدعوة الإسلام ، وتضامن الأفراد في كلّ ما هو حضاري يؤدّي إلى القوة والتقدّم والسّمو ، روى مسلم وأحمد حديثا معروفا عن النّعمان بن بشير هو : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر السجد بالحمّى والسّهر».

وروى البخاري ومسلم والتّرمذي والنّسائي عن أبي موسى الأشعري : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا».

__________________

(١) البحر المحيط : ٣ / ٢١

٣٢

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى الأمة الإسلامية بأن يكون منها جماعة متخصصة بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وأولئك الكمّل هم المفلحون في الدّنيا والآخرة.

وتخصص هذه الفئة بما ذكر لا يمنع كون الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجبا على كلّ فرد من أفراد الأمّة بحسبه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» ، وفي رواية : «وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل». وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي‌الله‌عنه أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم ، عقابا من عنده ، ثّم لتدعنّه فلا يستجيب لكم».

وكان الواحد من السّلف الصالح لا يتوانى في هذا الواجب ، ولا يخشى في الله لومة لائم ، فقد خطب عمر على المنبر قائلا : «إذا رأيتم فيّ اعوجاجا فقوّموه» فقام أحد رعاة الإبل ، وقال : لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا.

ولا تكونوا أيّها المؤمنون كأهل الكتاب الذين تفرّقوا ، في الدّين ، وكانوا شيعا ، واختلفوا اختلافا كثيرا ، من بعد ما جاءتهم الأدلّة الواضحات التي تهديهم إلى السبيل لو اتّبعوها ، لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، فاستحقّوا العذاب العظيم في الدّينا والآخرة ، أما في الدّنيا فيجعل بأسهم بينهم شديدا ، ويذيقهم الخزي والنّكال ، وأما في الآخرة ففي جهنم هم فيها خالدون ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة ٥ / ٧٨ ـ ٧٩].

٣٣

وهذا الوعيد لأهل الكتاب يقابل الوعد بالفلاح والنّجاة والفوز لأهل الإيمان ، والاختلاف المنهي إنما هو الاختلاف في أصول الدّين وتحكيم الهوى والمصلحة الشخصية في القضايا العامة. أما الاختلاف في الفروع المذهبية والاجتهادات الجزئية ، كاختلاف المذاهب في كثير من تفاصيل العبادات والمعاملات ، فليس مذموما لتعدد المفاهيم المستوحاة من النّصّ القرآني ، وتعدّد أفعال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيفيّة ثبوت الأخبار والرّوايات.

وزمان العذاب للكفار هو يوم القيامة ، يوم تبيضّ وتشرق وتسرّ وجوه المؤمنين كما في آية أخرى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣] وتسودّ وجوه المختلفين الذين لم يتواصوا بالحقّ والصّبر من أهل الكتاب والمنافقين حينما يرون ما أعدّ لهم من العذاب الدّائم ، وذلك مثل قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهافاقِرَةٌ) [القيامة ٧٥ / ٢٤ ـ ٢٥] ، وقوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس ٨٠ / ٤٠ ـ ٤١] ، وقوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) [يونس ١٠ / ٢٧].

ثمّ أوضح الله تعالى مصير الفريقين ، فبيّن سوء حال الفريق الثاني ثمّ حال الفريق الأوّل على طريقة اللّف والنّشر المشوش ، أمّا الذين اسودّت وجوههم بسبب تفرّقهم واختلافهم ، فيوبخهم تعالى ويؤنّبهم بقوله : أكفرتم بالرّسول محمد بعد إيمانكم به ، فقد كنتم على علم ببعثته ، ولديكم أوصافه والبشارة به؟ ولكن كفرتم به حسدا وحقدا ، فكان جزاؤكم أن تذوقوا العذاب بكفركم.

وأمّا الذين ابيضّت وجوههم باتّحاد الكلمة وعدم التّفرق في الدّين ، فهم خالدون في رحمة الله ، أي ماكثون في الجنّة أبدا ، لا يبغون عنها حولا.

هذه الآيات : آيات الله وحججه وبيّناته نتلوها عليك يا محمد مقررة ما هو

٣٤

الحقّ الثابت الذي لا شبهة فيه ، كاشفة حقيقة الأمر في الدّنيا والآخرة.

والله لا يريد ظلما للعباد ، أي ليس بظالم ، بل هو الحاكم العدل الذي لا يجوز ؛ لأنه القادر على كلّ شيء ، العالم بكلّ شيء ، ولأن الظلم يصادم الحكمة والكمال في النّظام وفي التّشريع ، فلا يحتاج إلى ظلم أحد من خلقه ، وأما ما يأمر به وينهى عنه ، فإنما يريد هدايتهم إلى أقوم الطّرق ، فإذا خرجوا عن حدود الطّاعة وفسقوا كانوا هم الظالمين لأنفسهم ، والظالم هو الذي سبب لنفسه العقاب ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢] ، وقال : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ ، وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) [هود ١١ / ١١٧].

ومما يدلّ على عدم احتياج الله لظلم أحد من خلقه : أن جميع ما في السموات والأرض من مخلوقات وكائنات ملك له وعبيد له ، وأنهم إليه راجعون ، فهو الحاكم المتصرّف في الدّنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أوّلا ـ إنّ الدعوة إلى الإسلام ونشرها في آفاق العالم والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من فروض الإسلام الكفائية ، لقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٢].

ويجب أن يكون الدّعاة علماء بما يدعون الناس إليه ، وقائمين بفرائض الدّين ، وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ، وَآتَوُا الزَّكاةَ ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج ٢٢ / ٤١] ، والسبب أن الدّاعية هو القدوة الحسنة والمثل الصالح

٣٥

الذي يحتذي به ، ويقلّده الآخرون ويتأثّرون به ، وتحليل تلك الضوابط يتجلّى في الشروط الآتية المطلوبة في الدّعاة :

١ ـ العلم بالقرآن والسّنّة والسّيرة النّبويّة وسيرة الرّاشدين.

٢ ـ تعلّم لغة القوم الذين يراد دعوتهم إلى الدّين ، إذ يتعذّر تحقيق الغاية بدون ذلك ، وقد أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض الصحابة بتعلّم العبريّة لمحاورة اليهود.

٣ ـ معرفة الثقافة الحديثة والعلوم العامة وأحوال الأقوام وأخلاقهم وطبائعهم ، والملل والنحل ، وشبهات التّيارات والمبادئ الاقتصادية والاجتماعية السائدة في العالم المعاصر ، وموقف الإسلام منها.

ثانيا ـ إن التّفرق في الدّين وسياسة الأمة العامة أمر حرام ومنكر عظيم مؤذن بتدمير المصلحة العامة والقضاء على وجود الدولة المسلمة والأمة المؤمنة ، وقد عدّ القرآن المتفرقين في الدين من الكفار والمشركين ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ، وَكانُوا شِيَعاً ، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم ٣٠ / ٣٢] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام ٦ / ١٥٩].

ومن خرج عن حدود الدين ومقاصده كان ظالما ، ومن لازم الظلم كان كافرا ، كما قال تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٥٤].

ومن ترك الاعتصام بالقرآن والإسلام ورد الأمر المتنازع فيه إلى غير الكتاب والسنة كان أيضا من الكافرين.

هذا .. والاختلاف المحظور إنما هو الاختلاف في العقيدة وأصول الدين ، وأما اختلاف الفقهاء في الفروع الاجتهادية فهو محمود غير مذموم ومن يسر الشريعة.

٣٦

ثالثا ـ إن أهل الطاعة لله عزوجل والوفاء بعهده هم الذين تبيض وجوههم وتسر يوم القيامة ، ولهم الخلود في الجنة ودار الكرامة ، جعلنا الله منهم ، وجنبنا الضلالة بعد الهدى.

وأما أهل المعصية الذين كفروا بعد الإيمان فلهم سوء العذاب بسبب كفرهم. وكل من بدل أو غيّر أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه ، ولم يأذن به الله فهو من المسوّدي الوجوه ، وأشدهم طردا وإبعادا من رحمة الله من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم ، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم ، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي ، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال ذرة من خير أو حبة من إيمان.

رابعا ـ كل ما في الكون وكل ما في السموات والأرض ملك لله تعالى وعبيد له ، يتصرف بهم كيفما شاء ، ولا يشاء إلا ما فيه الحكمة والخير ومصلحة العباد ، فهو قادر على كل شيء ، وغني عن الظلم ، لكون كل شيء في قبضته وتصرفه ، فلا يصح لأحد من الخلق أن يسأل غير الله أو يعبد غير الله ، وعليهم أن يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.

سبب خيرية الأمة الإسلامية وضرب الذلة والمسكنة على اليهود

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ

٣٧

يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))

الإعراب :

(أُخْرِجَتْ) جملة فعلية في موضع جر ؛ لأنها صفة لأمة. (لِلنَّاسِ) جار ومجرور في موضع نصب ، ويتعلق إما ب (أُخْرِجَتْ) أو ب (خَيْرَ) وقوله : (تَأْمُرُونَ ..) كلام مستأنف أبان به كونهم خير أمة.

(إِلَّا أَذىً) منصوب ؛ لأنه استثناء منقطع ، وكذلك قوله (إِلَّا بِحَبْلٍ) أي ولكن قد يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس ، فيأمنون على أنفسهم وأموالهم.

والجملتان وهما (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) و (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) واردتان على طريق الاستطراد ، بمناسبة الكلام عن أهل الكتاب.

البلاغة :

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) استعارة تبعية حيث شبه الذل بالخباء المضروب على أصحابه ، ثم حذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو الضرب.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ) نكّر كلمة الغضب للتفخيم والتهويل.

(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) تساءل الزمخشري قائلا : هلا جزم المعطوف في قوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)؟ ثم أجاب بقوله : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون ، أي لا يكون لهم نصر من أحد ، ولا يمنعون منكم. والفرق بين الجزم والرفع : أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا (الكشاف : ١ / ٣٤٢).

المفردات اللغوية :

(كُنْتُمْ) أي وجدتم وخلقتم خير أمة ، أي في الماضي ، وقد تستعمل للأزلية والدوام كما في

٣٨

صفاته تعالى مثل : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (أُخْرِجَتْ) أي أظهرت. (أَذىً) أي ضررا يسيرا كالسب باللسان والوعيد. (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) كناية عن الانهزام أي يكونوا منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) وعد مطلق من الله للمسلمين في الماضي ، كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم أنهم بعد التولي مخذولون غير منصورين ، لا تنهض لهم قوة بعدها ، ولا يستقيم لهم أمر ، وكان ذلك كما أخبر في هزيمة طوائف اليهود في المدينة وهم «بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع» ويهود خيبر. والتراخي في (ثُمَ) هو في المرتبة.

(الذِّلَّةُ) الذل الذي يحدث في النفوس من فقد السلطة ، وضربها عليهم : إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم ، كضرب السكة بما ينقض فيها. (ثُقِفُوا) حيثما وجدوا. (بِحَبْلِ) أي عهد ، وهو تأمينهم وعهد المؤمنين إليهم بالأمان على أداء الجزية ، أي لا عصمة لهم غير ذلك ، وتظل صفة الذل بهم ، سواء كانوا حربا أو أهل ذمة.

(وَباؤُ) رجعوا ، من البوء وهو المكان أي حلوا فيه (يَعْتَدُونَ) يتجاوزون الحد.

سبب النزول :

نزول الآية (١١٠):

قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم : إن ديننا خير مما تدعونا إليه ، ونحن خير وأفضل منكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

نزول الآية (١١١):

قال مقاتل : إن رؤوس اليهود : وهم كعب ويحرى والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنهم : عبد الله بن سلام وأصحابه ، فآذوهم لإسلامهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة :

هذه الآيات تثبيت للمؤمنين على ما هم عليه من الاعتصام بالله والاتفاق على

٣٩

الحق والدعوة إلى الخير ، وهي أيضا ترغيب لهم في المحافظة على مزيتهم باتباع الأوامر وترك النواهي ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، وأعقب ذلك بمقارنتهم بحال أهل الكتاب وبيان سبب إلحاق صفة الذل بهم والغضب عليهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن الأمة الإسلامية بأنها خير الأمم في الوجود الآن ، ما دامت تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وتؤمن بالله إيمانا صحيحا صادقا كاملا. وإنما قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ؛ لأنهما أدل على بيان فضل المسلمين على غيرهم ، ولأن الإيمان يدعيه غيرهم ، وتظل الخيرية والفضيلة لهذه الأمة ما دامت تؤمن بالله حق الإيمان وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

وأما الأمم الأخرى فقد غلب عليهم تشوية حقيقة الإيمان ، وشاع فيهم الشر والفساد ، فلا يؤمنون إيمانا صحيحا ، ولا يأمرون بمعروف ، ولا ينهون عن منكر.

والإيمان المطلوب : هو الموصوف بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات ٤٩ / ١٥] وقوله أيضا : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ ، زادَتْهُمْ إِيماناً ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال ٨ / ٢].

وفي قوله : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله ؛ لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك ، لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله ، كما قال تعالى : (وَيَقُولُونَ : نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ، وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ

٤٠