التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

٢ ـ قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) قال الشافعية : قول الله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) حقيقة في أولاد الصّلب ، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز ؛ فإذا حلف أن لا ولد له ، وله ولد ابن لم يحنث ؛ وإذا أوصى لولد فلان ، لم يدخل فيه ولد ولده. وأبو حنيفة يقول : إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب.

٣ ـ ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد ، المؤمن منهم والكافر ، فلما ثبت

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يرث المسلم الكافر» (١) علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض ، فلا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ، على ظاهر الحديث.

ودلت الأحاديث على أن موانع الإرث هي ثلاث : قتل ، واختلاف دين ، ورقّ ، لكن القتل الخطأ لا يمنع من الميراث عند الإمام مالك ، ويمنع كالقتل العمد عند باقي الأئمة.

ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله فيما رواه أحمد : «إنا لا نورث ما تركناه صدقة».

وقال النخعي : لا يرث الأسير ، وقال أغلب أهل العلم : إنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام ؛ لأن قوله تعالى : (فِي أَوْلادِكُمْ) دخل فيه الأسير في أيدي الكفار.

٤ ـ أصحاب الفرائض في الآيات يأخذون حقوقهم ، والباقي للعصبات ، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الأئمة : «ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقته الفرائض فلأولى رجل ذكر»يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى وهي ستة : النصف والربع والثمن ، والثلثان والثلث والسدس. وقوله : لأولى : أي لأقرب.

__________________

(١) روى الجماعة عن أسامة هذا الحديث بلفظ «لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر».

٢٨١

فالنصف فرض خمسة : ابنة الصلب ، وابنة الابن والأخت الشقيقة ، والأخت لأب ، والزوج ، إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه.

والربع : فرض الزوج مع الحاجب وهو الولد : وفرض الزوجة والزوجات مع عدم الحاجب.

والثمن : فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب.

والثلثان : فرض أربع : البنتان فصاعدا ، وبنات الابن ، والأخوات الشقيقات ، أو لأب ، إذا انفردن عمن يحجبهن عنه.

والثلث فرض صنفين ؛ الأم مع عدم الولد وولد الابن ، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات ، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم ، وهذا هو ثلث كل المال. فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة : زوج أو زوجة وأبوان ، فللأم فيها ثلث ما يبقى. وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم ، وكان ثلث ما يبقى أحظى له.

والسدس فرض سبعة : الأبوان والجد مع الولد وولد الابن ، والجدة والجدات إذا اجتمعن ، وبنات الابن مع بنت الصلب ، والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة ، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى. ويسقط ولد الأم مع الفرع الوارث والأصل الوارث المذكر.

وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجد والجدات ، فإنه مأخوذ من السنة ، ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى للجدة بالسدس.

٥ ـ لا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية ، كما بينت.

٦ ـ لما قال تعالى : (فِي أَوْلادِكُمْ) يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه ، من الطبقة الأولى أو بعدها ، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم.

٢٨٢

٧ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فرض الله تعالى للواحدة النصف بقوله : (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) ولما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت ، علمنا أن للاثنتين الثلثين. وقيل : (فَوْقَ) زائدة أي كن نساء اثنتين ، كقوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال ٨ / ١٢] أي الأعناق فما فوقها. وأقوى حجة في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول.

٨ ـ إذا كان مع البنت بنت ابن فللبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين. سئل ابن مسعود عن ذلك فقال : لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما

قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت.

٩ ـ إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى ، فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع. فإن خرج ميتا لم يرث ، وإن خرج حيا يرث ويورث. أما الخنثى وهو الذي له فرجان فأجمع العلماء على أنه يورّث من حيث يبول.

١٠ ـ قوله تعالى (وَلِأَبَوَيْهِ) الأبوان : تثنية الأب والأبه ، أو من قبيل التغليب عند العرب ، كقولهم للأب والأم : أبوان ، وللشمس والقمر : القمران ، ولليل والنهار : الملوان ، وكذلك العمران لأبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما.

١١ ـ للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم بإجماع العلماء ، وأجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأمّ الأب ، وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أم الأم.

ولا يرث في رأي مالك إلا جدّتان : أم الأم وأم الأب وأمهاتهما. ولا ترث الجدة أم أب الأم على حال.

١٢ ـ قوله تعالى (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) فرض تعالى لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس ، وأبهم الولد ، فكان الذكر والأنثى فيه سواء.

٢٨٣

١٣ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، وهذا هو حجب النقصان ، سواء كان الإخوة أشقاء أو للأب أو للأم ، ولا سهم لهم.

١٤ ـ الدين مقدم على الوصية ، بدليل ما روى الترمذي عن علي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدين قبل الوصية. وهذا مجمع عليه.

وتمسك الشافعي بالآية في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث ، فقال : إن الرجل إذا فرّط في زكاته ، وجب أخذ ذلك من رأس ماله ؛ لأنه حق من الحقوق ، فيلزم أداؤه عنه بعد الموت لحقوق الآدميين ، لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي. وقال أبو حنيفة ومالك : إن أوصى بها أديت من ثلثه ، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء ، حتى لا يترك الورثة فقراء.

١٥ ـ قوله تعالى : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) قيل : في الدنيا بالدعاء والصدقة ، كما جاء في الأثر : «إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده» وفي الحديث الصحيح عند مسلم وغيره : «إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث ـ فذكر ـ أو ولد صالح يدعو له». وقيل : في الآخرة ، فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه.

وفي الجملة : إن الآباء والأبناء ينفع بعضهم بعضا في الدنيا بالتناصر والمواساة ، وفي الآخرة بالشفاعة. وإذا تقرر ذلك في الآباء والأبناء تقرر ذلك في جميع الأقارب.

١٦ ـ ليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم ، وذلك في قوله تعالى : (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا.

٢٨٤

١٧ ـ الضرر والإضرار حرام وهو في الوصية من الكبائر ، وكذا في الدين ، قال تعالى: (غَيْرَ مُضَارٍّ) والإضرار راجع إلى الوصية والدين ، أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث ، فإن زاد فإنه يرد إلا أن يجيزه الورثة ؛ لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا. وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز.

وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها ، كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف ، فذلك لا يجوز. وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة.

فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين ، فقالت طائفة منهم الحنفية : يبدأ بدين الصحة. وقالت طائفة منهم الشافعي : هما سواء إذا كان لغير وارث.

قال ابن عباس : الإضرار في الوصية من الكبائر ، ورواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت ، فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار». ومشهور مذهب مالك: أن الموصي لا يعد فعله مضارّة في ثلثه ؛ لأن ذلك حقه ، فله التصرف فيه كيف شاء.

١٨ ـ قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) يعني عليم بأهل الميراث ، حليم على أهل الجهل منكم.

٢٨٥

حدود الله تعالى

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))

الإعراب :

(خالِدِينَ فِيها) حال من هاء (يُدْخِلْهُ) ، والهاء تعود على (مَنْ) و (مَنْ): تصلح للواحد والجماعة ، وإنما جمع حملا على المعنى.

(خالِداً فِيها) حال من هاء (يُدْخِلْهُ) ، والهاء تعود على (مَنْ). ووحّد (خالِداً) حملا على لفظ (مَنْ) وهم تارة يحملون على اللفظ وتارة على المعنى.

البلاغة :

يوجد طباق في (وَمَنْ يُطِعِ .. وَمَنْ يَعْصِ).

المفردات اللغوية :

(حُدُودُ اللهِ) جمع حد ، وهي هنا شرائع الله وأحكامه التي حدها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدوها. وقد تطلق الحدود على المحارم التي منعها الله ، ومنه سميت العقوبات المقدرة«حدودا». (مُهِينٌ) ذو إهانة وذل.

التفسير والبيان :

أكد سبحانه وتعالى مضمون الإنذار السابق في قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)

٢٨٦

بهذه الآيات ، منبها إلى أن تلك الأحكام المتقدمة من بيان أموال اليتامى وأحكام الأزواج وأحوال المواريث هي حدود الله أي فرائضه ومقاديره وأحكامه التي جعلها الله قانون الأسرة في شأن اليتامى والرابطة الزوجية وقسمة المواريث بين الورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه.

هي حدود الله وأحكامه فلا تعتدوها ولا تجاوزوها ، ولا يصح لمسلم أن يتخطاها ومن يطع الله باتباع ما شرعه من الدين وأنزله على رسوله الكريم ، ويطع الرسول باتباع ما بلّغ به عن ربه من أحكام وآيات ، فطاعة الرسول طاعة لله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء ٤ / ٨٠] ، من يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ، ونحن نؤمن بها ونعتقد أنها أرفع من كل نعيم في الدنيا ، وأن الطائعين خالدون فيها ، وذلك هو الفوز العظيم : وهو الظفر والفلاح الذي لا يماثله فوز في الدنيا.

ومن يتعدّ حدود الله ويعص الله ورسوله ويتجاوز حرمات الله يدخله نارا وقودها الناس والحجارة ، وهم خالدون فيها ، ولهم عذاب مقترن بالإهانة والإذلال ؛ لأنه ضادّ الله في حكمه ولم يرض بما قسم الله وحكم.

وفرق عظيم بين خلود أهل الجنة حيث يتمتعون بالنعيم الدائم والأنس مع بعضهم ، وبين خلود أهل النار حيث يذوقون أشد العذاب مع إيحاش النفوس ونفرتها كما قال تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٣٩].

وأما عصاة المؤمنين فيعذبون في النار بقدر ذنوبهم ، ثم يخرجون إلى الجنة ، والعصيان الموجب للعذاب هو المقترن بتعمد المعصية والإصرار عليها ، كما قال تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة ٢ / ٨١]. أما المذنب الذي تورط في المعصية ، ثم لام نفسه

٢٨٧

وتاب ، فهو من الناجين كما قال تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران ٣ / ١٣٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

من رحمة الله العظمى بعباده أن بيّن لهم الحلال والحرام وأوضح الشرائع والأحكام ، ورغّب وأرهب ، وحذّر وأنذر ، فمن أطاع أوامر الله والرسول واجتنب المعاصي والمنكرات فجزاؤه الجنة خالدا فيها أبدا. ومن عصى الله والرسول فإن أدى عصيانه إلى الكفر فهو خالد في النار أبدا ، وأما إن ظل مؤمنا وارتكب الكبائر وتجاوز أوامر الله فيستحق عذاب النار لمدة ما ، دون خلود ولا مكث.

جزاء الفاحشة في مبدأ التشريع

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

الإعراب :

(وَالَّذانِ) مبتدأ ، وخبره : (فَآذُوهُما).

٢٨٨

البلاغة :

(يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) مجاز عقلي ، والمراد يتوفاهن الله أو ملائكته. ويوجد جناس مغاير في : (فَإِنْ تابا .. تَوَّاباً).

المفردات اللغوية :

(يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) يفعلن الزنا. (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) من رجالكم المسلمين. (فَإِنْ شَهِدُوا) عليهن بها (فَأَمْسِكُوهُنَ) احبسوهن (فِي الْبُيُوتِ) امنعوهن من مخالطة الناس (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي يقبض أرواحهن ملك الموت (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) طريقا إلى الخروج منها.

المناسبة :

أبان سبحانه وتعالى سابقا حكم الرجال والنساء في الزواج والميراث ، وحذر من تخطي حدود الله ، ثم بيّن هنا حكم الحدود فيهن إذا ارتكبوا الفاحشة ، أو الحرام أو الزنا ؛ لأن ذلك من أقبح المعاصي التي يتخطى بها حدود الله ، ولئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف.

التفسير والبيان :

كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت وثبت زناها بالبينة العادلة وهي أربعة شهود ، حبست في بيت ، فلا تمكّن من الخروج منه حتى تموت. وكانت عقوبة الرجال الشتم والتعيير باللسان والضرب بالنعال ، وظل الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد للأبكار ، والرجم للمحصنين والمحصنات.

عقوبة الزانيات :

معنى الآية : النساء اللاتي يأتين أي يفعلن الفاحشة : وهي الفعلة القبيحة ، والمراد بها هنا الزنا ، فأشهدوا على زناهن أربعة من الرجال ، فإن شهدوا فاحبسوهن في البيوت حتى يتوفاهن ملك الموت ، أو يجعل الله لهن مخرجا مما أتين به.

٢٨٩

وكان ذلك في مبدأ الأمر ، ثم جعل الله لهن سبيلا : الجلد والرجم. أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) إلى قوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور ٢٤ / ٢] فإن كانا محصنين رجما ، فهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما.

وأخرج مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفظه : «خذوا عني ، خذوا عني ؛ قد جعل الله لهن سبيلا ؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ؛ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».

واستقر رأي العلماء على أن الشطر الأخير من حديث عبادة منسوخ ، وأن السبيل الذي جعل للثيب هو الرجم دون الجلد ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رجم ولم يجلد ، فاستدلوا بما صح من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قوله في حديث عبادة.

عقوبة الزناة :

معنى الآية : الرجلان الزانيان اللذان يأتيان الفاحشة ، وهذا قول مجاهد ، أو الرجل والمرأة البكران اللذان يأتيان الفاحشة ، وهذا قول السدي وابن زيد ، فآذوهما بالقول وعيروهما ووبخوهما على فعلهما إذا لم يتوبا ، فإن تابا وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما ، ورجعا عن فعل الفاحشة وندما ، فاتركوا إيذاءهما ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله : إن الله كان توابا على عباده ، رحيما بهم. وليس المراد بالإعراض : الهجر ، ولكن المتاركة احتقارا لهم بسبب المعصية المتقدمة.

والخطاب هنا لأولي الأمر الحكام ، والآية اشتملت على حكم الزانيات

٢٩٠

الثيبات ، وحكم الزاني والزانية البكرين ، ولم يذكر حكم الزاني الثيب ، ولعله مقيس على المرأة الثيب.

وهذا العقاب كان في مبدأ التشريع من قبيل التعزير المفوض أمره إلى الأمة في كيفيته ومقداره ، ثم نسخ ذلك بآية النور : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [٢٤ / ٢] وبالأحاديث السابقة.

ويرى أبو مسلم الأصفهاني الذي أنكر النسخ في القرآن : أن المراد بالآية الأولى المساحقات التي تحصل بين النساء ، وبالثانية : اللوطيان ، وعلى هذا فلا نسخ.

الأحكام :

هذه أولى عقوبات الزناة في الإسلام ، وكان هذا في ابتداء الإسلام ، كما قال عبادة بن الصامت والحسن البصري ومجاهد حتى نسخ بآية النور وبالرجم للثيب في الحديث.

وهل كان السجن في البيت حدا أو توعدا بالحد؟ على قولين : أحدهما ـ أنه توعد بالحد. والثاني ـ أنه حد ، قال ابن عباس والحسن البصري. وقال بعض العلماء : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد ؛ لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بالإجماع.

أما الاستشهاد على الزنا بأربعة رجال مسلمين عدول فحكمه باق لم ينسخ. أما كونهم من المسلمين الذكور فلقوله تعالى : (مِنْكُمْ) وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدّعي وسترا على العباد ، وتحديد الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور ٢٤ / ٤].

٢٩١

وأما اشتراط العدالة في الشهود ، فلأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة ، والزنا أعظم ، وهو بذلك أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل. ولا يصح كونهم من أهل الذمة ، وإن كان الحكم على ذمية.

وهل يجتمع النفي مع الجلد؟

الذي عليه الجمهور أنه ينفى الزاني مع الجلد ، لحديث عبادة المتقدم ، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، وحديث العسيف وفيه : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ، وجلد ابنه مائة وغرّبه عاما»(١).

وقال الحنفية : لا تغريب مع الجلد ؛ لأن النص الذي في القرآن إنما هو الجلد ، والزيادة على النص نسخ ، فيلزم عليه نسخ النص القاطع بخبر الواحد. وقد غرب عمر ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر ، فلحق بهرقل فتنصر ، فقال عمر : لا أغرّب مسلما بعد هذا. قالوا : ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر بعد.

والجواب : قولهم : الزيادة على النص نسخ ، ليس بمسلّم ، بل زيادة حكم آخر مع الأصل ، ثم إنهم زادوا الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح ، على الماء. واشترطوا الفقر في ذوي القربى (وهم بنو هاشم وبنو المطلب) في إعطائهم من خمس الغنيمة في آية : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنفال ٨ / ٤١].

وأما حديث عمر وقوله : «لا أغرب بعده مسلما» فيعني في الخمر ، لما أخرجه الترمذي والنسائي عن ابن عمر : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب وغرّب ، وأن أبا بكر ضرب وغرّب ، وأن عمر ضرب وغرّب».

__________________

(١) أخرجه الأئمة.

٢٩٢

والتغريب للذكر الحر ، ولا تغرب المرأة في رأي المالكية ؛ لأنها إذا غرّبت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت بسببه وهو الفاحشة ، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها ، ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل. فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار.

حالة قبول التوبة ووقتها

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

الإعراب :

(بِجَهالَةٍ) حال. (وَلَا الَّذِينَ) مجرور بالعطف على قوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ) وتقديره : وليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا الذين يموتون وهم كفار.

المفردات اللغوية :

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي التوبة التي كتب على نفسه قبولها بفضله (السُّوءَ) العمل القبيح أو المعصية. (بِجَهالَةٍ) جاهلين إذا عصوا ربهم. والمراد بالجهالة : الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل ، لا عدم العلم ، وذلك يكون عند ثورة الشهوة أو الغضب ، وكل من عصى الله فهو جاهل. (أَعْتَدْنا) هيأنا وأعددنا.

٢٩٣

المناسبة :

أشار الله تعالى في الآية السابقة إلى أن توبة اللذين أتيا الفاحشة توجب ترك العقوبة والتعنيف وإزالة الإيذاء ، فناسب أن يبين شروط قبول التوبة ووقتها.

التفسير والبيان :

إنما قبول التوبة والمغفرة متحقق على الله تفضلا وإحسانا للذين يتورّطون في ارتكاب المعصية ، ويقعون فيها جاهلين لا يقدرون الآثار والنتائج والمخاطر ، ولم يصرّوا على المعصية ؛ لأنهم فعلوها بدافع الهوى والشيطان ، ثم تابوا قبل الغرغرة ولو بعد معاينة الملك يقبض الروح.

وليس المقصود بالجهالة عدم العلم بالتحريم ؛ لأن كل مسلم مطالب بتعلم ما هو حرام شرعا ، وإنما المراد تغلب الطيش والسفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب.

قال مجاهد وغيره : كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب. وذكر قتادة عن أبي العالية : أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة (١). وقال عبد الرّزاق : أخبر معمر عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة ، عمدا كان أو غيره. بدليل قوله تعالى : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر ٣٩ / ٥٣] فليس المراد بالجهالة : أن يعمل السوء عالما به.

ويؤكد ذلك ما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه‌السلام : (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) [يوسف ١٢ / ٣٣] ، وقال تعالى لنوح : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود ١١ / ٤٦].

__________________

(١) رواه ابن جرير.

٢٩٤

والسّبب في تسمية العاصي جاهلا وإن عصى عن علم : أنّ العاصي لربّه لو قدر ما معه من العلم بالثواب والعقاب ، لما أقدم على المعصية ، إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد.

هذا هو الشرط الأول : إيقاع المعصية عن جهالة ، والشرط الثاني : أن يتوب الإنسان بعد الذنب بزمن قريب ، والزمن القريب كما قال ابن عباس : ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضّحاك : ما كان دون الموت فهو قريب. ومن : للتبعيض ، والمعنى : ثم يتوبون بعد وقت قريب. وسمي ما بين وقوع المعصية وبين حدوث الموت زمنا قريب ، ففي أي جزء من هذا تاب فهو تائب من قريب ، وإلا فهو تائب من بعيد.

ثم أكّد تعالى مبدأ قبول التوبة بالشرطين المذكورين فقال :

أولئك الذين فعلوا الذنب بجهالة ، وتابوا بعد زمن قريب ، يتوب الله عليهم ؛ لأنهم لم يصرّوا على ما فعلوا.

وكان الله عليما بضعف الإنسان أمام الشهوة والغضب ، حكيما في قبول توبة ذلك الضعيف.

وبعد بيان حال من تقبل توبتهم ، ذكر تعالى حال أضدادهم الذين لا تقبل توبتهم فقال :

أوّلا ـ لا توبة للذين يعملون السيئات ، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ، فلا أمل في الإصلاح حينئذ ، ولا فائدة من التوبة. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر ٤٠ / ٨٥] ، وقوله حكاية عن فرعون لما أدركه الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ، وَكُنْتَ مِنَ

٢٩٥

الْمُفْسِدِينَ) [يونس ١٠ / ٩٠ ـ ٩١] ، وقوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ : رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ، كَلَّا! إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون ٢٣ / ٩٩ ـ ١٠٠].

ثانيا ـ لا توبة أيضا للذين يموتون وهم كفار. وهذا يحتمل وجهين :

الأول ـ أن المراد بهم الذين قرب موتهم ، بمعنى أن الإيمان لا يقبل من الكافر عند حضور الموت.

الثاني ـ أن يكون المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر لا تقبل توبتهم.

أولئك أي الفريقان السابقان أعتدنا أي هيأنا وأعددنا لهم عذابا مؤلما موجعا ، جزاء لما كسبت أيديهم من السيئات ، مع إصرارهم عليها حتى الممات.

فقه الحياة أو الأحكام :

اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين ، لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) [النور ٢٤ / ٣١].

وقوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) قيل : هذه الآية عامّة لكلّ من عمل ذنبا.

وقيل : لمن جهل فقط ، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. وتصح التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه ، خلافا للمعتزلة في قولهم : لا يكون تائبا من أقام على ذنب ، ولا فرق بين معصية ومعصية. هذا مذهب أهل السنة.

وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها ، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المعتزلة ، لأن من شرط الموجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه ، والحق سبحانه خالق الخلق

٢٩٦

ومالكهم ، والمكلّف لهم ، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه ، تعالى الله عن ذلك.

لكن الله سبحانه قد أخبر في قرآنه أنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده ـ وهو الصادق في وعده ـ بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) [الشورى ٤٢ / ٢٥] وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة ٩ / ١٠٤] وقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) [طه ٢٠ / ٨٢] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء.

والخلاصة : العقيدة أنه لا يجب على الله شيء عقلا ، فأما النقل السمعي في القرآن فظاهره قبول توبة التائب.

٢ ـ التوبة تشمل كل أنواع السوء والمعاصي من كفر وغيره ، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته ، كما تقدم ، وأمور الدنيا كلها جهالة ، سواء وقعت عمدا أو جهلا.

٣ ـ التوبة في أثناء زمن قريب قبل المرض والموت ، وكل ما كان قبل الموت فهو قريب. قال المالكية : إنما صحت من العبد في هذا الوقت ، لأن الرجاء باق ، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل. روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» قال : هذا حديث حسن غريب. ومعنى : «ما لم يغرغر» : ما لم تبلغ روحه حلقومه ، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به.

٤ ـ نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين صنفان : الأول ـ من حضره الموت وصار في حين اليأس ، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق ، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان ، لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع ، لأنها حال زوال التكليف.

٢٩٧

والثاني ـ الكفار الذين يموتون على كفرهم ، فلا توبة لهم في الآخرة ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وهو الخلود. وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع ، فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه ، وهذا على تفسير السيئات بما دون الكفر ، أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ، ثم تاب عند الموت ، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة.

معاملة النساء في الإسلام

تحريم إرث النساء كرها والعضل عن الزواج وأخذ شيء من المهور

كرها والمعاشرة بالمعروف

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

٢٩٨

الإعراب :

(أَنْ تَرِثُوا) فاعل مرفوع لفعل (يحل). (كَرْهاً) منصوب على المصدر في موضع الحال. (لا تَعْضُلُوهُنَ) لا : إما نافية ، والفعل منصوب بالعطف على (أَنْ تَرِثُوا) وتقديره : لا يحل لكم أن ترثوا وأن تعضلوا ، وتكون (لا) تأكيدا للنفي غير عاملة. وإما ناهية ، فيكون (تَعْضُلُوهُنَ) مجزوما بلا.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ) في موضع نصب ، لأنه استثناء منقطع. (أَنْ تَكْرَهُوا) أن وصلتها في موضع رفع بعسى ، لأن معناه : قربت كراهتكم لشيء.

(أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) منصوب على المصدر في موضع الحال من واو. (تَأْخُذُونَهُ) وتقديره : تأخذونه مباهتين. (إِثْماً مُبِيناً) حال أيضا.

البلاغة :

(وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) استعارة تصريحية ، استعار لفظ الميثاق للعقد الشرعي. ويوجد جناس ناقص في : (فَإِنْ تابا ... تَوَّاباً) وفي (كَرِهْتُمُوهُنَّ ... أَنْ تَكْرَهُوا).

(وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) للمبالغة وتعظيم الشيء المعطى مهرا وأنه حق خالص للمرأة.

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) استفهام للتوبيخ والإنكار.

المفردات اللغوية :

(النِّساءَ) أي ذاتهن. (كَرْهاً) أي مكرهين على ذلك ، وهو فعل أهل الجاهلية ، كانوا يرثون نساء أقربائهم ، فإن شاؤوا تزوجوهن بلا صداق ، وإن شاؤوا زوجوهن وأخذوا صداقهن أو عضلوهن حتى يفتدين بما ورثنه ، أو يمتن ، فيرثوهن ، فنهوا عن ذلك.

(وَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم ، بإمساكهن ولا رغبة لكم فيهن ضررا. مأخوذ من العضل : وهو التضييق والمنع والحبس ومنه الداء العضال : الشديد الذي لا نجاة منه.

(بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) الفاحشة : الفعلة الشنيعة القبيحة أي الزنى أو النشوز ، والمبينة : بكسر الياء : أي هي بينة ظاهرة واضحة ، أو بفتح الياء أي بينت ، فحينئذ لكم أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإجمال في القول والنفقة والمبيت. والمعروف : ما تألفه الطباع السليمة ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا المروءة. (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) فاصبروا.

٢٩٩

(خَيْراً كَثِيراً) لعله أن يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا.

(اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) بأن طلقتموها وأردتم أخذ بدلها.

(قِنْطاراً) مالا كثيرا صداقا (بُهْتاناً) ظلما وكذبا يبهت المكذوب عليه. (وَإِثْماً مُبِيناً) حراما بينا.

(أَفْضى) وصل. (بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي وصل كل منهما بالآخر بالجماع المقرر للمهر ، كنى الله تعالى عن الجماع بلفظ الإفضاء لتعليم المؤمنين الأدب الرفيع ، قال ابن عباس : الإفضاء في هذه الآية الجماع ، ولكن الله كريم يكني. (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً) عهدا. (غَلِيظاً) شديدا. فالميثاق الغليظ : العهد المؤكد الذي يربط الرجل بالمرأة بأقوى رباط وأحكمه ، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

سبب النزول :

نزول الآية (١٩):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُ) : روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاؤوا زوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري بسند حسن عن أبي أمامة سهل بن حنيف قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

قال المفسرون : كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة ، جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته ، فألقى ثوبه على تلك المرأة ، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ، ولم يعطها شيئا ، وإن شاء عضلها وضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت ، أو تموت هي فيرثها. فلما توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري ، وترك

٣٠٠