التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

سبب النزول :

نزول الآية (٧):

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) : أخرج أبو الشيخ (أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهاني المولود سنة ٢٧٤ ه‍) وابن حبّان في كتاب الفرائض عن ابن عبّاس قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن الثابت ، وترك ابنتين وابنا صغيرا ، فجاء ابنا عمه : خالد وعرفطة (١) ، وهما عصبة ، فأخذا ميراثه كله ، فأتت امرأته أم كحلة (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت له ذلك ، فقال : ما أدري ما أقول ، فنزلت : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ).

وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عبّاس سببا آخر لنزول الآية مفاده أن الآية أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء أن يذكره بالوصية لذوي قرابته الذين لا يرثون ، يوصي لهم بالخمس أو الربع ، ولا يأمره بالتصدق من ماله ، أو بالإعطاء منه في سبيل الله.

نزول الآية (١٠):

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ) : قال مقاتل بن حيان : نزلت في رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه ، وهو يتيم صغير ، فأكله ، فأنزل الله فيه هذه الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا ،

__________________

(١) في بعض الكتب كالقرطبي : عرفجة وسويد.

(٢) في تفسير ابن كثير : أم كحّة ، وفي تفسير القرطبي : أم كجّة.

٢٦١

أكّد تحريم أكلها ، وأوضح أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورّثون النساء والأولاد الصغار ، ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة. قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا ، فأنزل الله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ..).

التفسير والبيان :

إذا كان لليتامى مال مما تركه الوالدان والأقربون ، فهم فيه سواء ، لا فرق بين الذكور والإناث ، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا ، فالجميع فيه سواء في حكم الله تعالى مهما قلّ المال ، يستوون في أصل الوراثة ، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم ، بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية.

ثم أكد تعالى هذا الحق للجميع بقوله : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) للدلالة على أنه حق معين محتوم مقطوع به ، ليس لأحد إنقاصه.

ثم عالج القرآن الكريم ناحية نفسية وهي كراهية حضور الأقارب مجلس قسمة التركة ، فقرر أنه إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوي القربى للوارثين واليتامى والمساكين ، فأعطوهم شيئا من المال ولو قليلا ، وقولوا لهم قولا حسنا واعتذارا جميلا يهدئ النفوس ، وينتزع الحقد والسخيمة ، ويستأصل الحسد من النفس.

والمراد بالقسمة : قسمة التركة بين الورثة ، وأولو القربى : من لا يرثون لكونهم محجوبين أو لكونهم من ذوي الأرحام ، والمأمور بهذا هو الولي أو اليتيم عند البلوغ وتسلم المال. والضمير في قوله : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) يرجع إلى ما ترك الوالدان والأقربون ، أو إلى القسمة بمعنى المقسوم باعتبار معناها ، لا باعتبار

٢٦٢

لفظها مثل قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) [يوسف ١٢ / ٧٦] أي السقاية.

وذهب جمهور المفسرين منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة غير منسوخة ، وأن الأمر بالإعطاء للوجوب ، عملا بظاهر الأمر ، وقد هجره الناس ، كما هجروا الاستئذان عند دخول البيوت ، والمخاطب بهذا الوارث الكبير وولي الصغير.

وقال الحسن البصري والنّخعي : الأمر منصب على الأعيان المنقولة ، وأما الأرضون فلا يعطون منها شيئا ، وإنما يكتفى بالقول المعروف.

وذهب فقهاء الأمصار إلى أن هذا الإعطاء مندوب طولب به الكبار من الورثة ؛ لأنه لو كان لهؤلاء حقّ معين لبيّنه الله تعالى كما بيّن سائر الحقوق ، وحيث لم يبيّن علمنا أنه غير واجب. وأيضا لو كان واجبا لتوافرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين ، ولو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا ، أنه ليس بواجب.

وقال سعيد بن المسيب والضّحاك وابن عباس في رواية عطاء عنه : الآية منسوخة بآية المواريث : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ..) إلخ.

وعلاجا لمرض نفسي آخر وهو تحامل النفس كثيرا على اليتيم والقسوة عليه ، أمر الله الأولياء والأوصياء القائمين على اليتامى بالقول السديد لهم بأن يكلموهم كأولادهم بالأدب الحسن ، والمناداة لهم بكلمة : يا ابني أو يا ولدي ونحو ذلك ، وليتذكروا أنهم مقاربون أن يتركوا أولادهم من بعد موتهم ، ويخافوا عليهم الإهمال والضياع ، وليتقوا الله في اليتامى الذين يلونهم ، فيعاملونهم بمثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم الضعاف بعد وفاتهم.

٢٦٣

ويكون المقصود بالآية حث الأولياء على حفظ أموال اليتامى وإحسان القول إليهم ، بتذكيرهم حال أنفسهم وذرياتهم من بعدهم ليتصوروها ويعتبروا بها ، وذلك من أقوى البواعث على العظة والاعتبار ، فالإنسان كما يدين يدان ، وهو مطالب بأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به.

وتكون الآية مرتبطة بما قبلها ؛ لأن قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) في معنى الأمر للورثة ، أي أعطوهم حقهم ، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ، ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم.

ثمّ أكّد الله تعالى الأوامر والنواهي السابقة وقررها وذكّر بالعقاب الشديد لمن يأخذ مال اليتيم ظلما بغير حق ، وهو دخول النار وإحراقهم بها ، وهي نار مستعرة شديدة الإحراق ، وقودها الناس والحجارة ، وقانا الله منها.

وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها يقصد به إما ملء بطونهم نارا للنهاية ، وإما للتأكيد والمبالغة ، كما في قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران ٣ / ١٦٧] ، والقول لا يكون إلا بالفم ، وقوله : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج ٢٢ / ٤٦] ، والقلوب لا تكون إلا في الصدور ، وقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام ٦ / ٣٨] ، والطير لا يطير إلا بجناحين ، الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة ، كما أن فيه تبشيعا لأكل مال اليتيم في حالة الظلم.

وفي تقييد الأكل بحالة الظلم دلالة على مشروعية أخذ مال اليتيم بحق ، كأجرة العمل ، والقرض مثلا ، وذلك لا يعدّ ظلما ولا الآكل الآخذ ظالما.

والتعبير بالأكل يقصد به جميع وجوه الانتفاع والإتلاف والاستهلاك ، ولكن عبّر به لأنه أهم حالات الانتفاع.

٢٦٤

والتعبير بكلمة (ناراً) عند جمهور المفسرين على طريق المجاز المرسل ، من قبيل ذكر المسبب وإرادة السبب ؛ لأن الإشارة في الآية إلى أكل واحد.

وظاهر الآية أن الحكم عام لكل من يأكل ما اليتيم ، سواء أكان مؤمنا أم كافرا. وإذا قيل بأن الآية نزلت في أهل الشرك فخصوص السبب لا يخصص ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وورد في بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ، تحرّز الناس من مخالطة اليتامى ، حتى شق ذلك على اليتامى أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٢٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) على ما يأتي :

١ ـ قال المالكية : في هذه الآية فوائد ثلاث :

إحداها ـ بيان علّة الميراث وهي القرابة.

الثانية ـ عموم القرابة كيفما تصرّفت من قريب أو بعيد.

الثالثة ـ إجمال النصيب المفروض ، وذلك مبين في آية المواريث ؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم ، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي (١).

٢ ـ إثبات الحق المقرر في الميراث لكلّ من الرّجال والنّساء ، إبطالا لعادة أهل الجاهلية الذين كانوا يورثون الرّجال ، ويحرمون النساء والصغار ، فالمراد من الرّجال في الآية : الذكور البالغون ، والمقصود من الوالدين : الأب والأم بلا واسطة ، ومن النساء : الإناث البالغات. ويكون معنى الآية : للذكور

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٤٦

٢٦٥

البالغين نصيب مما ترك آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم كإخوتهم وأخواتهم وأعمامهم وعماتهم ، وللإناث البالغات كذلك نصيب مما ترك آباؤهن. فالإرث مشترك بين الرّجال والنّساء. وهذا القول فيه إبقاء للآية على ظاهرها ، ويكون القصد من الآية إلغاء عادة الجاهلية.

والتّنصيص على النساء اعتناء بشأنهن ، وتقرير لأصالتهن في استحقاق الإرث ، ومبالغة في إبطال حكم الجاهلية بتخصيص الإرث في الرّجال لأنهم المحاربون الغازون.

وعمم بعض العلماء الحكم في الرّجال والنّساء ، فجعل المراد من الرّجال : الذّكور مطلقا ، سواء أكانوا كبارا أم صغارا ، والمراد من النساء : الإناث مطلقا ، ويكون المراد التّسوية بين الذّكور والإناث في أن لكلّ منهما حقّا فيما ترك الوالدان والأقربون. وهذا ما أميل إليه.

٣ ـ تدلّ الآية للحنفيّة القائلين بتوريث ذوي الأرحام ؛ لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين ، فوجب إثبات حق الإرث لهم المقرر بقوله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ).

٤ ـ حق الإرث ثابت في قليل التركة وكثيرها ، وهو حق مشاع لجميع الورثة ، لا يختص بعضهم بشيء من الأموال كالسيف والخاتم والمصحف واللباس البدني.

ودلّ قوله تعالى أيضا : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) على إثبات حق الإرث للبنات ، وأما مقدار الحق ، فأبانته آيات المواريث الأخرى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء ٤ / ١١]. ولما نزلت آية : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) أرسل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرّقا من مال أوس شيئا ؛ فإن الله جعل لبناته نصيبا ، ولم يبيّن كم هو ، حتى أنظر ما ينزل ربّنا. فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ..)

٢٦٦

إلى قوله تعالى : (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، فأرسل إليهما : «أن أعطيا أم كجّة الثّمن مما ترك أوس ، ولبناته الثلثين ، ولكما بقية المال».

واستدلّ بعض المالكية والشافعية والحنفية بهذه الآية : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) على وجوب قسمة الشيء الصغير للقسمة كالحمام والبيت. ورأى ابن أبي ليلى وأبو ثور وابن القاسم : أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات ، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم : أن يباع ولا شفعة فيه ؛ لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد والبخاري عن جابر : «الشّفعة في كلّ ما لا يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» فجعل عليه الصلاة والسّلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود ، وعلّق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. وهذا الرأي هو المعقول دفعا للضرر ، قال ابن المنذر : وهو أصح القولين.

وأرشدت آية : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) إلى الآتي :

١ ـ كلّ من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة ، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون : يكرم ولا يحرم ، إن كان المال كثيرا ، والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ (١).

وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم ؛ درهم يسبق مائة ألف. فالآية على هذا القول محكمة ، كما قال ابن عبّاس.

وروي عن ابن عبّاس : أنها منسوخة ، نسخها قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ..) [النساء ٤ / ١١]. وقال سعيد بن المسيب : نسختها آية الميراث والوصية. قال القرطبي : والرأي الأول أصح ؛ فإنها مبيّنة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم.

__________________

(١) الرضخ هنا : العطاء القليل.

٢٦٧

٢ ـ إذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله ، فقالت طائفة : يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى. وقيل : لا يعطي ، بل يقول لمن حضر القسمة : ليس لي شيء من هذا المال ، إنما هو لليتيم ، فإذا بلغ عرّفته حقّكم ، فهذا هو القول المعروف. وهذا إذا لم يوص الميت له بشيء ، فإن أوصى يصرف له ما أوصى.

٣ ـ القول المعروف مطلوب مع جميع الناس ، ويتأكد طلبه مع الأقارب. وهو القول الجميل والاعتذار اللطيف.

وأومأت آية : (وَلْيَخْشَ) إلى ما يأتي :

١ ـ الآية تذكير بالمعاملة بالمثل مع أولاد الأوصياء ، فهذا كما قال ابن عبّاس وعظ للأوصياء ، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم ، ولهذا قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً).

٢ ـ القول السديد : وهو العدل والصواب من القول وهو مرغوب فيه في تربية اليتامى ، فلا ينهرهم الولي ولا يستخف بهم.

ودلّت آية : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ) على ما يأتي :

١ ـ تحريم أكل مال اليتامى ظلما ، فقد دلّ الكتاب والسّنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة : «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها : «وأكل مال اليتيم». ويفهم منه جواز الأكل بحق إن كان فقيرا ، فيأكل بالمعروف ، وله أخذ الأجرة على عمله.

٢ ـ عقاب آكل مال اليتيم ظلما هو دخول نار جهنم.

٣ ـ هذه آية من آيات الوعيد ، ولا حجة فيها لمن يكفّر بالذنوب. والذي

٢٦٨

يعتقده أهل السنة أن بعض العصاة يحترق في نار جهنم ويموت ، بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون.

والكلمة الأخيرة : إن اليتامى عاجزون ضعاف يستحقون كل عناية ورعاية لمصالحهم ، وتربية لهم تعوضهم عن فقد أبيهم ، لذا عني القرآن بشأنهم فأنزل الله فيهم تسع آيات متتابعات من أول سورة النساء إلى آخر الآية السابقة ، قرر فيها جميعا الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته ، وأكّد فيها النّهي عن أكل ماله وتضييع حقّه. كما أنه أنزل فيهم آيات أخرى متفرقة منها : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء ١٧ / ٣٤] ، ومنها : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء ٤ / ١٢٧] ، ومنها : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى ٩٣ / ٩] ، ومنها : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ، قُلْ : إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة ٢ / ٢٢٠] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد : «أنا وكافل اليتيم كهاتين ، وأشار بأصبعيه : السبابة والوسطى».

آيات المواريث

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ

٢٦٩

لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

الإعراب :

(كُنَّ نِساءً) كان واسمها وخبرها ، وتقديره : إن كانت المتروكات نساء فوق اثنتين. وإنما ثبت للبنتين الثلثان بالسّنة ، ودلالة النّص على أن الأختين لهما الثلثان في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) إذ ليس هاهنا في الآية نصّ يدلّ على ذلك.

(وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) خبر كان الناقصة ، وتقديره : فإن كان المتروك واحدة ، وقرئ بالرفع على أنه فاعل كان التامة ، وهي بمعنى : حدث ووقع.

(فَلِأُمِّهِ) من ضمها فعلى الأصل ، ومن كسرها فعلى الاتباع ، كقولهم : المغيرة في المغيرة.

(آباؤُكُمْ) مبتدأ ، خبره : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ).

(نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ نَفْعاً) : تمييز ، و (فَرِيضَةً) : منصوب على المصدر ، وتقديره : فرض الله ذلك فريضة.

٢٧٠

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً كانَ) هنا تامة ، و (رَجُلٌ) : فاعل ، و (يُورَثُ) : جملة فعلية صفة رجل ، و (كَلالَةً) : منصوب من أربعة أوجه : إما حال من ضمير (يُورَثُ) ، وإما تمييز ، والمراد بالكلالة في هذين الوجهين : الميت ، وإما صفة مصدر محذوف تقديره : يورث وراثة كلالة ، والمراد بالكلالة في هذا الوجه : المال ، وإما خبر كان ، والمراد بالكلالة في هذا الوجه اسم الورثة. وتقديره : ذا كلالة. (غَيْرَ مُضَارٍّ) حال من ضمير يوصى.

(وَصِيَّةٍ) منصوب على المصدر. وقوله : (وَلَهُ أَخٌ) يعود على الرجل ، وهذا في العطف بأو جائز.

البلاغة :

يوجد طباق في لفظ (الذكر) و (الْأُنْثَيَيْنِ) ، وفي (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ). ويوجد جناس اشتقاق في (وَصِيَّةٍ يُوصِي) ، وهناك إطناب في (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) و (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) للتأكيد. وقوله : (عَلِيمٌ حَلِيمٌ) للمبالغة.

المفردات اللغوية :

(يُوصِيكُمُ) أي يأمركم الله ويفرض عليكم. والوصية : ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل ، أي أمر له (حَظِّ) نصيب. (عَلِيماً) بخلقه. (حَكِيماً) فيما دبّره لهم. (كَلالَةً) مصدر وهو الإعياء ، ثم استعمل في القرابة البعيدة غير قرابة الأصول والفروع ، وهو من لا والد له ولا ولد أي له قرابة فقط من الحواشي. (عَلِيمٌ) بما دبّره لخلقه من الفرائض. (حَلِيمٌ) بتأخير العقوبة عمن خالفه.

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(يُوصِيكُمُ اللهُ) : أخرج الأئمة الستة عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين ، فوجدني النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أعقل شيئا ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم رش علي ، فأفقت ، فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي ، فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ).

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن جابر قال : جاءت امرأة

٢٧١

سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا ، وإنّ عمهما أخذ مالهما ، فلم يدع لهما مالا ، ولا تنكحان إلا ولهما مال ، فقال : يقضي الله في ذلك ، فنزلت آية الميراث : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمهما فقال : «أعط بنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك». قالوا : وهذه أول تركة قسمت في الإسلام.

قال الحافظ ابن حجر : تمسك بهذا من قال : إن الآية نزلت في قصة ابنتي سعد ، ولم تنزل في قصة جابر ، خصوصا أن جابرا لم يكن له يومئذ ولد ، قال : والجواب أنها نزلت في الأمرين معا ، ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين ، وآخرها وهو قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) في قصة جابر ، ويكون مراد جابر بقوله : فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية.

المناسبة :

ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة حكم ميراث القرابة إجمالا في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ثم فصّل في آيات المواريث أنصباء الورثة ، فبيّن حقوق الأولاد (الفروع) وحقوق الآباء والأمهات (الأصول) ، وحقوق الزوجين ، وحقوق الإخوة لأم ، أما الإخوة لأب فحكمهم في آخر السورة.

وكانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثا :

١ ـ النسب : للرجال المقاتلين ، وليس للنساء والصغار شيء.

٢ ـ التّبني : يعطى الولد المتبنى مثل الولد الأصلي في الميراث.

٢٧٢

٣ ـ الحلف والعهد : بأن يقول الرجل لآخر : «دمي دمك وهدمي هدمك (١) ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك».

فأقرّ الإسلام ما عدا التّبني الذي أبطله بقوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب ٣٣ / ٤]. وأما التوارث بالنّسب فأقره بقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء ٤ / ٣٣] ، وأما التوارث بالعهد فأجازه بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء ٤ / ٣٣].

وزاد الإسلام في مبدأ الأمر سببين آخرين هما الهجرة والمؤاخاة ، ثم نسخ العمل بهما بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال ٨ / ٧٥]. واستقر العمل على أن أسباب الإرث ثلاثة : النسب ، الزواج ، الولاء ، أي الإرث بسبب عتق السيد عبده أو أمته.

التفسير والبيان والأحكام :

حقوق الأولاد في الميراث :

بدأ الله تعالى بالأولاد ، لأنهم أحق بالعطف والعون لضعفهم ، أما الأصول فقد يكون لهم حق واجب على غير المتوفى ، أو لهم قدرة على الكسب. فقال : يعهد إليكم في ميراث أولادكم ، بمعنى يأمركم ويفرض عليكم في شأن أولادكم من بعدكم أو في ميراثهم ما يستحقون من أموالكم ، على أساس قاعدة : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي إذا مات الميت ، وترك ذكورا وإناثا ، فللذكر ضعف الأنثى ؛ لأن الرجل مطالب بالنفقة وبالعمل والتكسب وتحمل المشاق ودفع مهر زوجته ، ولا تطالب المرأة بالإنفاق على أحد ، سواء أكانت بنتا أم أختا أم أمّا أم زوجة أم عمة أم خالة ، وإنما بعد الكبر أو البلوغ تنفق على نفسها إن لم تكن زوجة.

__________________

(١) أي إذا أهدر دمي أهدر دمك.

٢٧٣

فإن كانت المتروكات نساء : بنات أو أخوات فوق اثنتين فلهما الثلثان مما ترك المتوفى ، وإن كانت المتروكة واحدة ليس معها ذكر يعصبها فلها النصف.

وقد وقع خلاف في ميراث البنتين إذا انفردتا عن أخ ذكر ، فقال ابن عباس : حكمهما كالبنت الواحدة ، لهما النصف ، لظاهر الآية : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ).

وقال الجمهور : البنتان كالأختين لهما الثلثان ، قياسا لهما على الأختين اللتين قال الله فيهما : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) ، ولأن البنت تأخذ مع أخيها الثلث ، فأولى أن تأخذه مع أختها ، ولأن ابن مسعود قضى في بنت وبنت ابن وأخت : بالسّدس لبنت الابن والنّصف للبنت تكملة الثلثين ، فجعل لبنت الابن مع البنت الثلثين ، فبالأحرى يكون للبنتين الثلثان. ويجوز أن يكون معنى قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) : فإن كنّ نساء اثنتين فما فوق ، مثل قوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال ٨ / ١٢] أي اضربوا الأعناق فما فوقها.

والخلاصة : إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا فللذكر ضعف الأنثى. وإذا كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف ، وإذا كان هناك أنثيان فأكثر ، كان لهن الثلثان في رأي الجمهور ، وإذا انفرد الولد الذكر يأخذ التركة ، وإذا كان معه أخ فأكثر اقتسموا التركة بالمساواة.

وأولاد الابن وأولادهم مثل الأبناء ، الأعلى يحجب الأدنى ، فإن كان الأعلى أنثى كبنت وابن ابن ، أخذت البنت النصف ، والباقي لابن الابن. وإن كان ولد الولي أنثى كان للعليا النصف ، وللسفلى السدس تكملة الثلثين. وإن كان الولد الأعلى بنتين أخذتا الثلثين ، ولم يبق للبنت السفلى شيء إلا إذا عصبها ذكر في درجتها أو أسفل منها.

٢٧٤

ميراث الوالدين :

لكل واحد من أبوي الميت السدس من التركة إن كان للولد الميت ولد ذكر أو أنثى ، واحد أو جماعة ، والباقي للأولاد على النحو السابق ، فإن لم يكن له ولد أصلا وورثه أبواه فلأمه الثلث. والسبب في تساوي الوالدين في الميراث مع وجود الأولاد : هو توفير احترامهما على السواء. وأما سبب كون نصيب الوالدين أقل من نصيب الأولاد فهو إما كبرهما وإما استغناؤهما ، وإما لوجود من تجب عليهما نفقتهما من أولاد أحياء. وأما الأولاد فبحاجة إلى نفقات كثيرة إما بسبب الصغر ، وإما بسبب الحاجة إلى الزواج وتحمل أعباء الحياة حال الكبر.

فإن كان للميت مع وجود أبويه إخوة جماعة ذكورا أم إناثا ، كان للأم السدس بدلا من الثلث ، سواء أكانت الإخوة أشقاء أم لأب أم لأم.

والاثنان من الإخوة كالثلاثة فأكثر ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدين قضوا بأن الأخوين والأختين يردان الأم من الثلث إلى السدس. أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه دخل على عثمان رضي‌الله‌عنهما ، فقال : لم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس ، وإنما قال الله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان رضي‌الله‌عنه : هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوارثه الناس ، ومضى في الأمصار؟

أي أن هناك إجماعا في الشرع على ذلك ، ويؤيده أنه ورد في اللغة إطلاق الجمع على الاثنين ، قال تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم ٦٦ / ٤] ، وقال : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [ص ٣٨ / ٢١] ، ثم قال : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) [ص ٣٨ / ٢٢].

والخلاصة : إن للأم الثلث إذا لم يكن معها فرع وارث أو اثنان فصاعدا من الإخوة أو الأخوات ، ولها السدس مع الفرع الوارث أو العدد من الإخوة أو

٢٧٥

الأخوات. وللأب السدس مع الفرع الوارث ، فإن كان الفرع بنتا أخذت النصف ، وأخذ الأب بالفرض والتعصيب ، وللأم ثلث الباقي إذا كان مع الأبوين أحد الزوجين ، وهي المسألة العمرية أو الغراء ، كما في زوج وأب وأم ، أو زوجة وأب وأم ، ففي الأولى : للزوج النصف ، وللأب الباقي تعصيبا ، وللأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج وهو سهم من ستة ، وفي الثانية : للزوجة الربع من ١٢ لعدم الفرع الوارث وللأب الباقي تعصيبا ، وهو ستة ، وللأم ثلث الباقي وهو ثلاثة أسهم.

تقديم الديون ثم الوصايا :

إن قسمة المواريث كلها بين الورثة مقدم عليه أولا إيفاء الديون المتعلقة بالتركة ، وتنفيذ الوصايا ، فالله تعالى يوصي ويأمر بقسمة المواريث على النحو الذي شرع من بعد وصية يوصى بها من الميت ، ومن بعد دين تعلق بذمة الميت قبل موته.

وقدمت الوصية على الدّين مع أن الواجب تقديم الدّين أولا في الوفاء ، حثّا على تنفيذها واهتماما بشأنها ومنعا من جحودها ، أما الدّين فمعلوم قوّته ، قدم أو لم يقدم. ثم إن (أَوْ) هاهنا للإباحة ، ولا تقتضي الترتيب. ودليل تقديم وفاء الدّين : ما رواه علي كرّم الله وجهه وأخرجه عنه جماعة كابن جرير الطبري : إنكم تقرؤون هذه الآية : من بعد وصية يوصى بها أو دين ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدّين قبل الوصية ، فليس لأحد من الورثة ولا من الموصى لهم حق في التركة إلا بعد قضاء الدّين. ولو استغرق الدّين التركة ، فليس لأحد شيء.

ويقدم على الدّين والوصية والميراث نفقات تكفين الميت وتجهيزه ودفنه ، تكريما لإنسانيته واحتراما لآدميته.

٢٧٦

وإنما يقدم الدّين على الوصية والميراث ؛ لأن ذمة الميت مرتهنة به ، وأداء الدين أولى من فعل الخير الذي يتقرب به.

وتقديم الوصية على الميراث في حدود ثلث التركة ؛ لأنه القدر المأذون بالإيصاء به في السّنة النّبوية فيما رواه الجماعة عن سعد : «الثلث والثلث كثير».

ثم أتى النّص القرآني بجملة معترضة للتنبيه على جهل المرء بعواقب الأمور ، فبيّن تعالى أن هؤلاء الذين أوصاكم الله بهم وقدر أنصباءهم ، هم آباؤكم وأبناؤكم ، فلا تجوروا في القسمة ولا تحرموا البعض كما كان يفعل العرب في الجاهلية ؛ إذ لا تدرون بمن هو أقرب لكم نفعا.

فرض الله ذلك فريضة محتمة ، وإن الله يعلم بما يصلح خلقه ، حكيم في تدبيره ، يضع الأمور في موضعها الصحيح المناسب ، ولا يشرع لكم إلّا ما فيه المنفعة لكم ، وقسم الميراث بينكم على أساس من الحق والعدل والمصلحة ، فالزموا قسمته ومنهجه ، واحذروا حرمان أحد من الورثة كالنساء والضعفاء كما كان أهل الجاهلية يفعلون.

ميراث الزوجين :

للزوج نصف تركة الزوجة إن لم يكن لها ولد ، سواء أكان منه أم من غيره ، وسواء أكان ذكرا أم أنثى ، واحدا أم أكثر ، منها مباشرة أم من بنيها أم من بني بنيها ، والباقي لأولادها ، ولا يشترط الدخول بالزوجة وإنما يكفي مجرد العقد. فإن كان لها ولد فللزوج الربع ، والباقي لأقاربها ذوي الفروض والعصبات ، أو ذوي الأرحام ـ في رأي الحنفية ـ أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر.

لكم ذلك في تركتهن من بعد وفاء الديون وتنفيذ الوصايا.

وللزوجة ربع تركة الزوج إن لم يكن له ولد ، ولها الثمن إن كان له ولد.

٢٧٧

فإن تعددت الزوجات اشتركن في الربع أو في الثمن من بعد الدين والوصية ، كما سبق.

ميراث الكلالة :

جعل الله الورثة في هذه الآيات أقساما ثلاثة : قسم يتصل بالميت بغير واسطة وإنما برابطة الدم وهم الأولاد والوالدان ، وقسم يتصل بالميت بغير واسطة وإنما بعقد الزوجية وهما الزوجان ، وقسم يتصل بالميت بواسطة وهم الكلالة : وهي ما عدا الوالد والولد. ونظرا لقوة القسم الأول قدمه تعالى في البيان ، ثم أتبعه بالقسم الثاني ، ثم ذكر القسم الثالث ، ولأن القسمين الأوليين لا يعرض لهما السقوط بحال ، بخلاف القسم الثالث ، فإنه قد يعرض له السقوط بالكلية.

والراجح أن الكلالة : من عدا الوالد والولد ، وهو تفسير أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، أخرج ابن جرير عن الشعبي قال : قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : إني رأيت في الكلالة رأيا ، فإن كان صوابا ، فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء ، إن الكلالة : ما خلا الوالد والولد.

ويؤكد تفسيره : اشتقاق الكلمة ، فهي مأخوذة من الضعف ، والقرابة لا من جهة الولادة قرابة ضعيفة ، وأما قرابة الولادة فهي قوية ، فلا يطلق عليها كلالة. ثم إن الله تعالى حكم بتوريث الإخوة والأخوات عند عدم وجود الأب ، فوجب ألا يكون الوالد من الكلالة.

وحكم إرث الكلالة بحسب النص : أنه إذا وجد أخ أو أخت لأم فلكل واحد منهما السدس ، فإن تعددوا فهم شركاء في الثلث ، وهم فيه سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم.

والدليل على أن المراد بالأخ والأخت في آية الكلالة الإخوة لأم : قراءة

٢٧٨

سعد بن أبي وقاص : «وله أخ أو أخت من أم» ولأن الأخوين من العصبة سيأتي حكمهما في آخر سورة النساء : (يَسْتَفْتُونَكَ ، قُلِ : اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [٤ / ١٧٦] فالمراد منهما هنا الإخوة الأشقاء أو لأب ، لهم المال كله إن انفردوا ، ويأخذون الباقي بعد ذوي الفروض.

ولأن الفرض هنا الثلث أو السدس وهو فرض الأم ، فناسب أن يكون فرض الإخوة الذين يدلون بها هم الإخوة لأم.

والخلاصة : للإخوة لأم حالتان :

١ ـ إذا انفرد الأخ أو الأخت لأم فلكل واحد منهما السدس.

٢ ـ إذا تعدد الإخوة لأم اشتركوا في قسمة الثلث بالتساوي ، ذكرهم مثل أنثاهم ؛ لأن مطلق التشريك يدلّ عليه.

وهذه القسمة للإخوة لأم من بعد إيفاء الدّين وتنفيذ الوصية اللذين لا إضرار فيهما بالورثة والدائنين ، والضرار في الدين والوصية له أحوال :

أولا ـ أن يقرّ الشخص بدين لأجنبي يستغرق المال كله أو بعضه ، بقصد إضرار الورثة ، ويظهر قصد الضرر كثيرا في الكلالة (الحواشي) ، أما في الوالدين والأولاد والأزواج فهو نادر.

ثانيا ـ أن يقرّ بأن الدين الذي كان له عند فلان قد استوفاه.

ثالثا ـ أن يوصي بأكثر من الثلث ، قال ابن عبّاس : الضرار في الوصية من الكبائر.

رابعا ـ أن يوصي بالثلث لا بقصد القربة إلى الله ، بل لإنقاص أنصباء الورثة.

٢٧٩

يوصيكم الله ويأمركم بذلك ويعهد إليكم به عهدا للعمل به وتنفيذه ، والله عليم حليم ، عليم بمصالح عباده وبمضارهم وبمن يستحق الميراث ومن لا يستحق ، وبمقدار المستحق ، حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه ، فأضرّ في الوصية بالورثة أو بالدّائنين ، أو حرم أحدا من النساء والأطفال حقه في الإرث.

وفي هذه الخاتمة المؤثرة بمن أصغى إليها وفهمها : إشارة إلى أنه تعالى شرع المواريث على هذا النحو ، وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة ، فمن الواجب الإذعان لوصايا الله وفرائضه ، والتزام منهجه وحدوده ، فلا ينبغي الاعتداء وهضم الحقوق ، أو التعديل في أنظمة الإرث كإعطاء المرأة مثل الرجل ، كما في بعض الدّول الإسلامية أخذا بأعراف فاسدة لمصادمتها للنصوص القرآنية القطعية ، أو محاكاة لأنظمة الغرب وقوانين البشر ، زعما بأن ذلك عدل يقتضي المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة ، لكن لا عدل بعد عدل الله ، ولا رحمة فوق رحمة الله ، فإن افتتاح الآيات بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) دليل على أنه تعالى أرحم بالناس من الوالدة بولدها ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، ويؤيده الحديث الصحيح : «لله أرحم بعباده من هذه بولدها».

أحكام أخرى من آيات المواريث :

١ ـ قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) بيان لما أجمل في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) و (لِلنِّساءِ نَصِيبٌ) فدل على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد الأحكام ، وأم من أمّهات الآيات ، فإن الفرائض عظيمة القدر ، حتى إنها ثلث العلم ، وروي نصف العلم ، وهو أول علم ينزع من الناس وينسى. أخرج الدار قطني عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تعلموا الفرائض وعلّموه الناس ، فإنه نصف العلم ، وهو أول شيء ينسى ، وهو أول شيء ينتزع من أمتي».

٢٨٠