التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

وأجمع العلماء أيضا على أنه لا حدّ لكثير المهر ، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً).

٢ ـ التنازل عن المهر : يجوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها أو جزءا منه ، سواء أكان مقبوضا معينا أم كان في الذمة ، فشمل ذلك الهبة والإبراء. ولكن ينبغي للأزواج الاحتياط فيما أعطت نساؤهم ، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال : (فَإِنْ طِبْنَ) ولم يقل : فإن وهبن ، إعلاما بأن المراعى في ذلك التنازل عن المهر طيبة به نفسها من غير إكراه مادي أو أدبي ، أو سوء معاشرة ، أو خديعة.

ويدلّ عموم قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ) على أن هبة المرأة صداقها لزوجها جائزة ، سواء أكانت بكرا أم ثيّبا. وبه قال جمهور الفقهاء. ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها ، وجعل ذلك للولي ، مع أن الملك لها.

واتّفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها ، نفذ ذلك عليها ، ولا رجوع لها فيه.

وإن تنازلت المرأة عن شيء من صداقها بشرط عند عقد النّكاح ألّا يتزوّج عليها ، ثمّ تزوّج عليها ، فلا شيء لها في رواية ابن القاسم عن مالك ؛ لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه.

وقال ابن عبد الحكم : إن خالف هذا الشرط ، رجعت عليه بتمام صداق مثلها ؛ لأنه شرط عليه نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا ، كان لها واجبا أخذه منه ، فوجب عليه الوفاء ، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه الحاكم عن أنس وعائشة : المسلمون عند شروطهم».

٣ ـ إباحة أخذ الزّوج المهر : يحلّ للزّوج أخذ ما وهبت زوجته بالشّرط السابق : «طيب النّفس» من غير أن يكون عليه تبعة في الدّنيا والآخرة.

٢٤١

وليس المقصود من قوله : (فَكُلُوهُ) صورة الأكل ، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان. وهو معنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ليس المراد نفس الأكل ؛ إلّا أن الأكل لما كان أوفى أنواع التمتّع بالمال عبّر عن «التّصرفات» بالأكل.

ونظيره قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة ٦٢ / ٩] إن صورة البيع غير مقصودة ، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النّكاح وغيره ، ولكن ذكر البيع ؛ لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى.

٤ ـ إيجاب المهر في الخلوة الصحيحة : احتجّ الجصاص (١) بقوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) على إيجاب المهر كاملا للمخلو بها خلوة صحيحة ، ولو طلقت قبل الدخول (المساس). ويلاحظ أن الآية عامة في كلّ النساء ، سواء المخلو بها وغيرها ؛ إلّا أن قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يدلّ على أنه لا يجب للمخلو بها إلّا نصف المهر ، وهذه الآية خاصة ، والخاص مقدم على العام.

الحكمة من تعدد الزوجات :

الوضع الطبيعي وهو الأشرف والأفضل أن يكون للرجل زوجة واحدة ، لأن الغيرة مشتركة بين الزوج والزوجة ، فكما أن الزوج يغار على زوجته ، كذلك الزوجة تغار على زوجها.

ولكن الإسلام أباح التعدّد لضرورة أو حاجة وقيّده بقيود : القدرة على الإنفاق ، والعدل بين الزّوجات ، والمعاشرة بالمعروف. والإباحة لأحوال استثنائية منها :

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٥٧

٢٤٢

١ ـ عقم الزوجة : الرّجل بالفطرة يحبّ ٧ نجاب الولد وأن تذهب ثروته ونتيجة جهوده لأولاده فإذا كانت المرأة عاقرا لا تلد ، فأيهما أولى : الطلاق أم تعدد الزوجات؟ لا شك بأن الزواج من امرأة ثانية أخفّ ضررا على الزوجة الأولى بشرط صون كرامتها ، وأداء حقوقها كاملة غير منقوصة.

٢ ـ كثرة النساء : إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في غالب البلاد ، وقد تكثر النساء ويقل الرجال عقب أزمات الحروب ، فيكون الأفضل تعدد الزوجات تحقيقا لعفاف المرأة وصونا لها عن ارتكاب الفاحشة ، وتطهيرا للمجتمع من آثار الزنى وما يعقبه من انتشار الأمراض وكثرة المشردين واللقطاء.

٣ ـ الحالة الجنسية : قد تصاب المرأة بالبرود الجنسي ولا سيما عقب بلوغ سن اليأس أو قبله عند استئصال الرحم بسبب مرض. وقد يكون الرجل ذا قدرة جنسية زائدة أو شبق دائم مستمر ، وهو لا يكتفي بامرأة واحدة ، لعدم استجابتها أحيانا ، أو لطروء الحيض عليها أسبوعا في كل شهر على الأقل ، فيكون اللجوء للتزوج بزوجة ثانية حاجزا له عن الوقوع في الزنى الذي يضيّع الدّين والمال والصّحة ، ويسيء إلى السّمعة.

أما إساءة استعمال بعض المسلمين إباحة تعدّد الزوجات كالانتقام من الزوجة السابقة ، أو لمجرّد الشّهوة ، لا لهدف مما ذكر ، فهو تصرّف شخصي لا يسيء إلى الأصول والمبادئ الإسلامية التي أباحت التعدّد مقيّدا بقيود معينة. وعلى كلّ حال ، نادى كثير من فلاسفة الغرب بتعدّد الزّوجات ، وهو لا شكّ أفضل بكثير من تعدّد العشيقات والمخادنات ، وأما الطلاق فهو واقع في كلّ ديار الغرب لأسباب كثيرة بل تافهة يترفّع المسلمون عن مجاراتهم فيها.

أسباب تعدّد زوجات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لم يعدد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجاته إلى تسع بقصد شهواني أو لمتعة جنسية ، واقتصر

٢٤٣

على واحدة هي السيّدة خديجة أم المؤمنين إلى نهاية الكهولة وهي سنّ الرابعة والخمسين من عمره الشريف ، وبعد هذه السّن تقل الرّغبة بالنّساء عادة ، وكان أكثرهن ثيّبات لا أبكارا.

وإنما كان تعدّد زوجاته لأغراض إنسانيّة واجتماعيّة وإسلاميّة ، فقد يتزوّج امرأة بتزويج الله له كزينب بنت جحش لإبطال عادة التّبني ، وقد يتزوّج امرأة لتعويضها عن زوجها الذي فقدته بسبب الهجرة أو الجهاد في سبيل الله ، وقد يتزوّج من القبائل لتقوية رابطتهم بالإسلام ، وربّما كان زواجه أحيانا بقصد نشر الإسلام بين القبائل العربية ، فتكون مصاهرته لقبيلة مثل زواجه بجويرية بنت الحارث سببا في اعتناقها الإسلام ، فدخل بنو المصطلق في الإسلام بسبب جويرية ، وكان في هذا التعدّد فوائد كثيرة من أهمها تعليم نساء المسلمين الأحكام الخاصة بالنّساء أو الخاصة بين الزّوجين ، وجعلهنّ قدوة في تطبيق الأحكام الإسلامية المتعلّقة بالأسرة وغيرها ؛ لأنه عليه الصلاة والسّلام القدوة الحسنة للمسلمين في أخلاقه ومعاشرته وسلوكه وعبادته ونحو ذلك.

والخلاصة : إن تعدّد الزّوجات في الإسلام أمر تلجئ إليه الضرورة ، أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة ، وإصلاح مفاسده أولى من إلغائه ، ولا يجرأ أحد على الإلغاء ؛ لأن النصوص الشرعية تدلّ صراحة على إباحته ، وتعطيل النّص أو الخروج عليه أمر منكر حرام في شرع الله ودينه.

والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم راعى الحكمة البالغة والمصلحة الإسلامية في اختيار كل زوجة من زوجاته ، فأما خديجة فهي الزوجة الأولى التي رزق منها الأولاد ، وذلك متّفق مع سنّة الفطرة. وأما سودة بنت زمعة ، فلتعويضها عن زوجها بعد رجوعها من هجرة الحبشة الثانية ، وهي من المهاجرات الأوليّات ، فلو عادت إلى أهلها لعذّبوها وفتنوها عن دينها ، وأما عائشة وحفصة فلإكرام صاحبيه ووزيريه :

٢٤٤

أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما. وأما زينب بنت جحش فلإبطال توابع عادة التّبنّي مثل تحريم التّزوج بزوجة المتبنّى. وأما جويرية بنت الحارث سيّد قومه بني المصطلق فمن أجل إعتاق الأسرى ، وكان ذلك سببا في إسلام بني المصطلق. وأما زينت بنت خزيمة الملقبة أم المساكين فلتعويضها عن زوجها وهو عبد الله بن جحش الذي قتل في أحد ، فلم يدعها أرملة تقاسي المتاعب والأحزان.

وكذلك زواجه بأم سلمة (واسمها هند) كان لتعزيتها بفقد زوجها أبي سلمة ، ولفضلها وجودة رأيها يوم الحديبية.

وأما زواجه بأم حبيبة : رملة بنت أبي سفيان بن حرب فلتأليف قلوب قومها وإدخالهم في الإسلام ، بعد أن هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة الهجرة الثانية ، فتنصّر هناك ، وثبتت هي على الإسلام.

وأما زواجه بصفية بنت حيي بن أخطب سيّدة بني قريظة والنّضير من سبي خيبر ، فمن أجل تحريرها من الأسر وإعتاقها.

وأما ميمونة بنت الحارث الهلالية (وكان اسمها برّة) آخر أزواجه بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى ، فلتشعب قرابتها في بني هاشم وبني مخزوم (١).

__________________

(١) تفسير المنار : ٤ / ٣٠٣ ـ ٣٠٥

٢٤٥

الحجر على السفهاء والصغار ونحوهم

وعدم تسليم المال إليهم إلا بالرشد

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

الإعراب :

(الَّتِي) إنما قال التي بلفظ المفرد ولم يقل : اللائي بلفظ الجمع ؛ لأنها جمع ما لا يعقل ، مثل : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) [مريم ١٩ / ٦١] ومثل : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) [هود ١١ / ١٠١]. ولو كان جمع من يعقل (العقلاء) لقال : اللاتي مثل : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي) وقد تجيء التي في جمع العقلاء ، واللاتي في جمع غير العقلاء.

(إِسْرافاً وَبِداراً) منصوبان لأنهما مفعولان لأجله ، أو لأنهما مصدران في موضع الحال ، أي : لا تأكلوها مسرفين مبادرين. (أَنْ يَكْبَرُوا) أن المصدرية وصلتها في موضع نصب ب (بدار) أي مبادرين كبرهم. وجملة (وَلا تَأْكُلُوها) معطوفة على جملة : (وَابْتَلُوا الْيَتامى).

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي كفاك الله حسيبا ، فالكاف المفعول محذوفة ، والباء زائدة ، والجار والمجرور في موضع رفع فاعل كفى ، مثل : ما جاءني من أحد ، والتقدير : كفى الله حسيبا. وحسيبا : منصوب على التمييز ، أو منصوب على الحال.

البلاغة :

(غَنِيًّا) و (فَقِيراً) : طباق ، ويوجد مقابلة بين (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ .. وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ). ويوجد جناس مغاير في (دَفَعْتُمْ فَادْفَعُوا) وفي (قُولُوا

٢٤٦

قَوْلاً). ويوجد أيضا إطناب في (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وقوله : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ). وأضاف تعالى أموال السفهاء إلى الأوصياء للحث على حفظها وعدم تضييعها ؛ لأن مال السفيه مال الأمة.

المفردات اللغوية :

(السُّفَهاءَ) جمع سفيه ، وهو المبذر من الرجال والنساء والصبيان الذي ينفق ماله فيما لا ينبغي ، ولا يحسن التصرف فيه. وأصل السفه : الاضطراب في العقل والسلوك. (أَمْوالَكُمُ) أي أموالهم التي في أيديكم ، وأضيفت إلى الأوصياء للحث على حفظها كما يحفظون أموالهم. (قِياماً) مصدر (قام) أي تقوم بها أمور معاشكم وصلاح أودكم. (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أطعموهم منها. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا. والقول المعروف : ما تطيب به النفوس وتألفه.

(وَابْتَلُوا) اختبروا. (الْيَتامى) أي اختبروهم قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أموالهم. (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) صاروا أهلا له بالاحتلام أو السن وهو استكمال خمس عشرة سنة عند الشافعي وأحمد. (آنَسْتُمْ) أبصرتم وتبينتم. (رُشْداً) أي صلاحا في التصرف في الأموال. والرشد عند الإمام الشافعي : صلاح الدين والمال. (إِسْرافاً) مجاوزة الحد في التصرف في المال. (وَبِداراً) مبادرة ومسارعة إلى الشيء ، أي مبادرين إلى إنفاق الأموال قبل بلوغ الكبر. (أَنْ يَكْبَرُوا) يصبحوا راشدين فيلزمكم تسليم أموالهم إليهم. (فَلْيَسْتَعْفِفْ) أي يعف عن مال اليتيم ويمتنع عن أكله. والعفة : ترك ما لا ينبغي من الشهوات. (بِالْمَعْرُوفِ) بقدر أجرة عمله. (حَسِيباً) رقيبا حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٦):

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) : نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهو صغير ، فأتى عم ثابت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحلّ لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

٢٤٧

المناسبة :

أمر الله تعالى فيما سبق بإيتاء اليتامى أموالهم وبإعطاء النساء مهورهن ، وهنا شرط للإيتاء شرطين يشملان الأمرين معا وهما : عدم السفه ، والاختبار محافظة على أموالهم.

التفسير والبيان :

ينهى الله تعالى عن تمكين السفهاء المبذرين من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس طريق لتقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها ، ويدل النهي على الحجر على السفهاء إما بسبب الصغر ، وإما بسبب الجنون ، وإما بسبب سوء التصرف لنقص العقل أو الدين ، وإما بسبب الفلس : وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها ، فإذا طلب الغرماء من الحاكم الحجر عليه ، حجر عليه.

واختلف العلماء في تعيين المخاطبين بالآية وفي المراد من السفهاء ، على أقوال أشهرها :

إن المخاطبين بمنع السفهاء أموالهم إما أولياء اليتامى ، والسفهاء : هم اليتامى مطلقا أو المبذرون بالفعل أموالهم ؛ وإما مجموع الأمة ، ويشمل النهي كل سفيه ، قال ابن عباس وابن مسعود رضي‌الله‌عنهم : إن الخطاب لكل عاقل من الناس جميعا ، وإن المراد من السفهاء : النساء والصغار. والمقصود النهي عن إيتاء المال لمن لا رشد له من هؤلاء ، فيشمل الصبي والمجنون والمحجور عليه للتبذير.

وتكون إضافة الأموال على الرأي الأول إلى ضمير الأولياء المخاطبين ، مع أنها أموال اليتامى للمبالغة في حملهم على المحافظة عليها ، بتنزيل أموال اليتامى منزلة أموال الأولياء ، لما بين الولي واليتيم من رابطة النسب.

٢٤٨

وتكون إضافة الأموال على الرأي الثاني إلى ضمير المخاطبين على حقيقتها.

ومعنى قوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) : أن الأموال قوام الحياة ، وسبب إصلاح المعاش ، وانتظام الأمور ، فبالمال تتقدم الأمم وتبني صرح الحضارة ، وبالمال يسعد الفرد والجماعة ، وبه أيضا يتحقق النصر على الأعداء. وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن احتاج إلى الناس. وعن سفيان ، وكانت له بضاعة يتاجر بها ، وقيل له : إنها تدنيك من الدنيا فقال : لئن أدنتني من الدنيا ، لقد صانتني عنها. وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا ، إنكم في زمان إذا احتاج أحدكم ، كان أوّل ما يأكل دينه (١).

وجعل الأموال وسيلة إصلاح شؤون الحياة يقتضي تثميرها وتشغيلها وتنميتها لا اكتنازها وادخارها ، كما يقتضي إدارتها بحكمة والاقتصاد في الإنفاق منها ، كما سنّ القرآن للمؤمنين بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٧]. وحث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاقتصاد ، روى أحمد عن ابن مسعود : «ما عال من اقتصد» وروى الطبراني والبيهقي عن ابن عمر : «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة ، والتودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن العقل نصف العلم».

ومعنى قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) : اجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم وكسوتهم ، بأن تتجروا فيها ، فتكون النفقة من ثمرتها وربحها ، لا من أصل رأس المال ، لئلا يأكله الإنفاق. وهذا مفهوم من جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة ، فقال : (فِيها) ولم يقل : «منها».

ومعنى قوله : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) : أن يقول كل ولي للمولى عليه

__________________

(١) تفسير الكشاف : ١ / ٣٧٧

٢٤٩

كلاما طيبا تطيب به نفسه ، ويعده وعدا حسنا ، كأن يقول للصغير : المال مالك ، وما أنا إلا وكيل أمين عليه ، وإذا كبرت رددته إليك. وإذا كان سفيها وعظه ونصحه ، ورغبه في ترك التبذير والإسراف ، وعرفه أن عاقبة ذلك الفقر والحاجة إلى الناس. والقول المعروف : كل ما اطمأنت إليه النفس لحسنه شرعا ، أو عقلا من قول أو عمل. وأما المنكر : فهو ما أنكرته النفس لقبحه شرعا أو عقلا.

ثم بعد الأمر بإيتاء أموال اليتامى بيّن تعالى وقت الإيتاء ومقدماته ، وهي الاختبار ، فأمرنا أن نختبر اليتامى قبل الإيتاء ، فإن بلغوا سن النكاح وهو بلوغ الحلم ، كما قال تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) أي الوصول إلى حد البلوغ وهو حد التكليف والتزام الأحكام الشرعية ، وذلك إمام بالاحتلام ، أو مجيء الحيض عند الأنثى ، أو بالسن وهو اكتمال خمس عشرة سنة في رأي الشافعي وأحمد ، إذا بلغوا ذلك وأصبحوا راشدين أي يحسنون التصرف في أموالهم حفظا وإدارة وتنمية ، فسلموهم أموالهم ، وإلا فاستمروا على الابتلاء (الاختبار) حتى تأنسوا منهم الرشد ، ورأى أبو حنيفة : أنه يدفع المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد ، للآية المتقدمة : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ولأن من بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره ، فمنع ماله عنه أشبه شيء بالظلم ، وفيه إهدار لكرامته الإنسانية وآدميته.

لكن ظاهر الآية أنه لا تدفع إليهم أموالهم ، ولو بلغوا ، ما لم يؤنس منهم الرشد ، وهو مذهب الجمهور.

والاختبار في رأي أبي حنيفة والشافعي يكون قبل البلوغ بدليل الغاية : (حَتَّى). وفي رأي مالك : يكون بعد البلوغ.

ورتب أبو حنيفة على ذلك أن تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة ؛ لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولي في البيع والشراء مثلا ، وذلك يقتضي صحة التصرف.

٢٥٠

وقال الشافعي : الاختبار لا يقتضي الإذن في التصرف ولا يتوقف عليه ، بل يكون الاختبار بدون التصرف على حسب ما يليق بحال الصبي ، فابن التاجر مثلا يختبر بالبيع والشراء إلى ما قبل إبرام العقد ، وحينئذ يعقد الولي إن أراد. ولو جاز إذن الصبي في التصرف بالفعل لجاز دفع المال إليه وهو صبي ؛ لأن سبب منع ماله عنه يقتضي عدم صحة تصرفه. وأيضا تصرف الصبي في ماله يتوقف على دفعه إليه ، ودفعه إليه متوقف على شرطين : بلوغه ثم رشده.

والرشد عند الشافعي : صلاح الدين والمال. وعند الجمهور : صلاح المال فقط.

ثم نهى الله تعالى الأولياء فقال : ولا تأكلوا أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية مبادرة ومسارعة قبل بلوغهم ، أي مسابقين الكبر في السن التي بها يأخذون أموالهم منكم.

أما من كان محتاجا مضطرا إلى الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذه قبل البلوغ ، مقابل عمله وإشرافه : فإن كان غنيا غير محتاج إلى شيء من مال اليتيم الذي تحت ولايته ، فليعفّ عن الأكل من ماله ، ومن كان فقيرا فليأكل من مال اليتيم بقدر حاجته الضرورية من سد الجوعة ، وستر العورة. ويؤيده ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ليس لي مال ، ولي يتيم؟ فقال : «كل من مال يتيمكم غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ، ومن غير أن تقي مالك ـ أو قال ـ تفدي مالك بماله».

واستدل الجصاص (١) بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) على أن اليتيم إذا صار في حد الكبر ، استحق المال إذا كان عاقلا ، من غير شرط إيناس الرشد ؛ لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ. واستدل بالآية

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٦٣ وما بعدها.

٢٥١

أيضا على أنه لا يجوز للولي إمساك مال اليتيم بعد ما يصير في حد الكبر ، ولو لا ذلك لما كان لذكر الكبر هاهنا معنى ، إذ كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده ، فهذا يدل على أنه إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه. وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة ؛ لأن مثله يكون جدّا ، ومحال أن يكون جدا ، ولا يكون في حد الكبار.

وقال الشافعية : إن المراد من قوله : (أَنْ يَكْبَرُوا) أن يبلغوا راشدين عملا بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وعبر عن ذلك بالكبر ؛ لأن الغالب أن من بلغ حد الرجال ، كان رشيدا.

وتساءل العلماء ، هل ما يأكله الولي من مال اليتيم يعد أجرة أو لا؟ يرى الحنفية أنه ليس بأجرة. وقال آخرون : إنه أجرة ولم يفرق بين الغني والفقير ، كما هو القياس في كل عمل يقابل بأجر ، وحينئذ يكون الأمر في قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) محمولا على الندب ، كما هو اللائق بمحاسن العادات. والقاعدة الفقهية تقتضي أن تكون هذه الأجرة مقدرة بأجر المثل ، سواء أكفت الولي أم لا (١).

ثم بين الله تعالى طريقة الدفع وهي : فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء الأموال إلى اليتامى ، فأشهدوا عليهم بقبضها ، وبراءة ذمتكم منها ؛ لأن هذا الإشهاد ـ بعد رعاية الشرطين السابقين : البلوغ ثم الرشد ـ أبعد عن التهمة ، وأنفى للخصومة ، وأدخل في الأمانة.

وهذا الإشهاد عملا بظاهر الآية واجب عند المالكية والشافعية ؛ إذ أن تركه يؤدي إلى التخاصم والتقاضي ، والأمر يقتضي الوجوب ، وجعله الحنفية مندوبا ،

__________________

(١) تفسير الآلوسي : ٤ / ١٨٨

٢٥٢

وصرفه عن الوجوب أن الوصي أمين ، والأمين إذا ادعى الرد على من ائتمنه صدّق بيمينه. وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) يشهد لهم في عدم لزوم البينة ، فإن معناه : أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم ، وهذا مروي عن سعيد بن جبير.

وهل يصدّق الوصي إذا ادعى أنه دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ ، وهل يصدق فيما ينفقه حال الصغر؟

قال الإمامان مالك والشافعي : لا يصدق ؛ لأن الوصي غير مالك. وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه : يصدق ؛ لأن الوصي أمين ، والأمين يصدق بيمينه ما دام أمينا.

ثم ختم تعالى الآية بتقرير رقابته على كل الأمور صغيرها وكبيرها ، فذكر أنه كفى الله حسيبا أي رقيبا عليكم ، يحاسبكم على ما تسرون وما تعلنون.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) على ما يأتي :

١ ـ النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره ، وحسن القيام عليه ، حيث قد جعله الله تعالى سببا في إصلاح المعاش وانتظام الأمور.

٢ ـ وجوب الحجر على السفهاء المبذرين من وجهين :

أحدهما ـ منعهم من أموالهم ، وعدم جواز دفع أموالهم إليهم.

والثاني ـ إجازة تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم من أموالهم وشراء أقواتهم وكسوتهم ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [البقرة ٢ / ٢٨٢] فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف.

٢٥٣

٣ ـ السفهاء إما اليتامى أو المبذرون بالفعل ، وإما النساء والصبيان ، والمعنى الجامع المروي عن أبي موسى الأشعري : كل من يستحق الحجر ، وهو كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال وحسن التصرف فيه ، ويدخل فيه الصبي والمجنون والمحجور عليه للتبذير.

واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه ، فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم : إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده ، وهو قول الشافعي وأبي يوسف.

وقال ابن القاسم : أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب الإمام على يده.

واختلفوا في الحجر على الكبير ، فقال جمهور الفقهاء : يحجر عليه.

وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله ، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، فإذا بلغها سلّم إليه بكل حال ، سواء كان مفسدا أو غير مفسد ؛ لأنه يمكن أن يتزوج لاثنتي عشرة سنة ، وتحمل زوجته ، ثم يولد له لستة أشهر ، فيصير جدّا وأبا ، وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّا.

ويرده ما رواه الدارقطني عن عثمان أنه أجاز الحجر على الكبير وهو عبد الله بن جعفر الذي ولدته أمه بأرض الحبشة ، وهو أول مولود ولد في الإسلام بها ، وقدم مع أبيه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام خيبر ، فسمع منه وحفظ عنه ، وكانت خيبر سنة سبع من الهجرة.

٤ ـ دل قول الله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) على وجوب نفقة الولد على الوالد ، والزوجة على زوجها. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصدقة ما ترك غنى ، واليد العليا خير من

٢٥٤

اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة : إما أن تطعمني ، وإما أن تطلّقني ، ويقول العبد : أطعمني واستعملني ، ويقول الابن : أطعمني إلى من تدعني» قال المهلّب : النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع.

قال ابن المنذر : واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب ، فقالت طائفة : على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا ، وعلى النساء حتى يتزوّجن ويدخل بهن. فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها ، وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها.

وقال مالك : ولا نفقة لولد الولد على الجدّ. وقالت طائفة : ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض ، ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى ، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال. وهذا قول الشافعي.

وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد ، لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام لهند فيما رواه الأئمة عن عائشة : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».

٥ ـ القول المعروف للمولى عليهم : وهو تليين الخطاب والوعد الجميل أو الحسن بأن ينصحهم الولي ويعظهم ، ويقول لهم : إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم.

وأرشدت الآية : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) إلى ما يأتي :

١ ـ اختبار الأيتام وتدريبهم على حسن التصرف بالأموال قبل دفع أموالهم إليهم. والاختبار يكون قبل البلوغ في رأي أبي حنيفة والشافعي. وبعد البلوغ في رأي مالك.

ومعنى الاختبار قيل فيه : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ، ويستمع إلى أغراضه ، فيحصل له العلم بنجابته ، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله ،

٢٥٥

والإهمال لذلك. فإذا توسم الخير فلا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه ، فإن نمّاه وحسّن النظر فيه فقد وقع الاختبار ، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده. وقال الحسن ومجاهد وغيرهم : اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم.

٢ ـ إيناس الرشد بعد البلوغ ، والبلوغ يكون بخمسة أشياء : ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء وهي الاحتلام والسن والإنبات ، واثنان يختصان بالنساء ، وهما الحيض والحبل ، فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنهما بلوغ ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما. واختلفوا في الثلاث :

فأما الإنبات والسن فقال الأوزاعي والشافعي وابن حنبل : خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم ، بدليل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما أخرجه مسلم ـ أجاز ابن عمر في الجهاد يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة ، ولم يجزه يوم أحد ؛ لأنه كان ابن أربع عشرة سنة.

وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم ، وذلك سبع عشرة سنة ؛ فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يوجب عليه الحد. وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة وهي الأشهر : تسع عشرة سنة.

وأما الإنبات فمنهم من قال : يستدل به على البلوغ ، وهو قول أحمد ، وأحد قولي الشافعي ومالك. والقول الآخر : لا بد من اجتماع الإنبات والبلوغ ، قال أبو حنيفة : لا يثبت بالإنبات حكم ، وليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ.

٣ ـ الرشد : هو في رأي الحسن البصري وقتادة وغيرهما : صلاح في العقل والدين. وفي رأي ابن عباس والسّدّي والثوري : صلاح في العقل وحفظ المال. وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم ، وإن شاخ لا يزول الحجر عنه ، وهو مذهب الجمهور.

٢٥٦

وقال أبو حنيفة وزفر والنخعي : لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال ، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا ، واحتجوا بحديث أنس أن حبّان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته (١) ضعف ، فقيل : يا رسول الله ، احجر عليه : فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف ، فاستدعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا تبع ، فقال : لا أصبر ، فقال له : «فإذا بايعت فقل : لا خلابة (٢) ، ولك الخيار ثلاثا» فلم يحجر عليه مع أنه كان يغبن ، فثبت أن الحجر لا يجوز.

ورد القرطبي بقوله : وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه مخصوص بذلك ، فغيره بخلافه.

وقال الشافعي : إن كان مفسدا لماله ودينه ، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه ، والأظهر أنه إن كان مفسدا لدينه ، مصلحا لماله ، حجر عليه أيضا.

٤ ـ إن دفع المال للمحجور عليهم يكون بشرطين : إيناس الرشد والبلوغ ، فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال إليهم ، بنص الآية ، وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي ، فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة ، قال أبو حنيفة: لكونه جدا.

ورد ابن العربي (٣) بقوله : هذا ضعيف ؛ لأنه إذا كان جدا ، ولم يكن ذا جدّ (٤) ، فما ذا ينفعه جدّ النسب ، وجدّ البخت فائت؟!

واختلف العلماء في دفع المال إلى المحجور عليه ، هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة : لا بد من رفعه إلى السلطان ، ويثبت عنده رشده ثم يدفع

__________________

(١) أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه.

(٢) أي لا خديعة.

(٣) أحكام القرآن : ١ / ٣٢٢

(٤) الجد هنا الحظ والبخت.

٢٥٧

إليه ماله. وقالت فرقة : ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان.

وإذا سلّم المال إليه بوجود الرشد ، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عند المالكية ، وعند الشافعية في قول. وقال أبو حنيفة : لا يعود ؛ لأنه بالغ عاقل ، بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليل الرأي الأول قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) وقوله عزوجل : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [البقرة ٢ / ٢٨٢].

ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارة وشراء وبيع ، وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله ، ويؤدي عنه أروش (تعويضات) الجنايات وقيم المتلفات ، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة ، ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق.

٥ ـ نهى الله تعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم ، فلا يجوز لهم الإسراف والتبذير : وهو الإفراط ومجاوزة الحد.

٦ ـ أمر الله تعالى الغني بالإمساك عن أخذ شيء من مال اليتيم ، وأباح للوصي أن يأكل من مال موليه بالمعروف. والأكل بالمعروف كما قال الحسن البصري : أن يأكل ما يسدّ جوعته ، ويكتسي ما يستر عورته ، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. بدليل إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف ؛ لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله.

٧ ـ أمر الله تعالى بالإشهاد عند دفع المال تنبيها على التحصين وزوالا للتّهم. وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء ؛ فإن القول قول الوصي ؛ لأنه أمين. وقالت طائفة : هو فرض عملا بظاهر الآية ، وليس بأمين فيقبل قوله.

٢٥٨

٨ ـ كما أن على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه وتثميره ، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه ، فالمال يحفظه بضبطه ، والبدن يحفظه بأدبه. روي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن في حجري يتيما أأكل من ماله؟ قال : «نعم غير متأثل (١) مالا ، ولا واق مالك بماله» قال : يا رسول الله ، أفأضربه؟ قال : «ما كنت ضاربا منه ولدك» (٢).

٩ ـ كفى الله حاسبا لأعمال الناس ومجازيا بها ، وفي هذا وعيد لكل جاحد حق.

حقوق الورثة في التّركة

وحقوق المحتاجين والأيتام والقرابة غير الوارثين

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

__________________

(١) متأثل : جامع.

(٢) قال ابن العربي (أحكام القرآن : ١ / ٣٢٧) : وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا ، أي منصرفا.

٢٥٩

الإعراب :

(نَصِيباً مَفْرُوضاً) منصوب بفعل مقدر دلّ عليه الكلام ؛ لأن قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ) معناه : جعل الله لهم نصيبا مفروضا. ويصح كونه حالا ، وهو أولى من التقدير. (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) الهاء في (مِنْهُ) تعود إلى القسمة ، وإن كانت القسمة مؤنثة ؛ لأنها بمعنى المقسوم ، فلهذا عاد إليها الضمير بالتذكير ، حملا على المعنى ، وهذا كثير في كلام العرب.

البلاغة :

يوجد طباق بين قوله : (قَلَ) و (كَثُرَ).

ويوجد إطناب في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ .. وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ).

المفردات اللغوية :

(لِلرِّجالِ) الأولاد والأقرباء. (نَصِيبٌ) حظ. (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) المتوفون. (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) أي من المال. (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي جعله الله نصيبا مقطوعا بتسليمه إليهم. (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) للميراث. (أُولُوا الْقُرْبى) ذوو القرابة غير الوارثين. (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) شيئا قبل القسمة. (وَقُولُوا لَهُمْ) أيها الأولياء للورثة الصغار. (قَوْلاً مَعْرُوفاً) جميلا بأن تعتذروا إليهم أنكم لا تملكونه ، وأنه للصغار. وهذا الإعطاء ندب ، وعن ابن عبّاس : واجب.

(وَلْيَخْشَ) ليخف على اليتامى ، الخشية : الخوف مع تعظيم المخوف حال الأمن. (لَوْ تَرَكُوا) أي قاربوا أن يتركوا. (مِنْ خَلْفِهِمْ) أي بعد موتهم. (ذُرِّيَّةً ضِعافاً) أولادا صغارا. (خافُوا عَلَيْهِمْ) الضياع. (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في أمر اليتامى وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم. (وَلْيَقُولُوا) لمن حضرته الوفاة. (سَدِيداً) صوابا محكما ، والمراد موافقا للدين (١). (ظُلْماً) بغير حق. (وَسَيَصْلَوْنَ) سيحرقون ، من أصلاه : أراد إحراقه ، ومنه صلى اللحم : شواه ، وصلى يده : أدفأها ، واصطلى : استدفأ. (سَعِيراً) نارا مستعرة مشتعلة.

__________________

(١) والسّداد (بالكسر) : ما يسد به الشيء كالثغر (موضع الخوف من العدو) والقارورة. ومن قولهم : فيها سداد من عوز : أي فيها الكفاية.

٢٦٠