التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

«قوامة الرجل» وأنها ليست سلطة استبدادية ، وإنما هي غرم ومسئولية وتبعة ولتسيير شؤون هذه المؤسسة الصغيرة.

ثم أوضحت السورة ميزان الروابط الاجتماعية وأنها قائمة على أساس التناصح والتكافل ، والتراحم والتعاون ، لتقوية بنية الأمة.

وتكاملت أنماط وصور علاقة هذا المجتمع بالمجتمعات الأخرى ، سواء مع الجماعات أو الدول ، فحددت السورة قواعد الأخلاق والمعاملات الدولية ، وبعض أحكام السلم والحرب ، ونواحي محاجة أهل الكتاب ومناقشتهم ، وما يستتبع ذلك من الحملة المركزة على المنافقين. وذلك كله من أجل إقامة المجتمع الفاضل في دار الإسلام وتطهيره من زيغ العقيدة وانحرافها عن «عقيدة التوحيد» العقلية الصافية إلى فكرة التثليث النصرانية المعقدة البعيدة عن حيّز الإقناع العقلي والاطمئنان النفسي ، كما قال تعالى : (وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ، إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء ٤ / ١٧١].

وحدة الأصل الإنساني ووحدة الزوجين ورابطة الأسرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

الإعراب :

(وَالْأَرْحامَ) : معطوف على اسم الله تعالى ، وتقديره : واتقوا الله واتقوا الأرحام أن

٢٢١

تقطعوها. ومن قرأه بالجر فقد قال الكوفيون : إنه معطوف على الهاء في (بِهِ) وأباه البصريون وقالوا : ولا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ؛ لأن المضمر المجرور كالتنوين ، ولا يعطف على التنوين. ومنهم من قال : إنه مجرور بباء مقدرة لدلالة الأولى عليها.

البلاغة :

يوجد طباق بين قوله : (رِجالاً وَنِساءً) ويوجد إيجاز في قوله : (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) أي ونساء كثيرات.

المفردات اللغوية :

(النَّاسُ) اسم للجنس البشري ، واحده من غير لفظه : إنسان. (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي اتقوا عقابه بأن تطيعوه (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) آدم (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) حواء ، من ضلع من أضلاعه اليسرى (وَبَثَ) فرق ونشر (مِنْهُما) من آدم وحواء من طريق التناسل والتوالد (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) كثيرات (تَسائَلُونَ) أي تتساءلون ، أي يسأل بعضكم بعضا بأن يقول : سألتك بالله أن تفعل كذا ، وأسألك بالله ، وأنشدك بالله (وَالْأَرْحامَ) جمع رحم ، وهي هنا القرابة من جهة الأب أو الأم ، أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، والمراد : خافوا حق إضاعة الأرحام. ومن قرأ بالجر عطفه على الضمير في (بِهِ) وكانوا يتناشدون بالرحم (رَقِيباً) أي مشرفا والمراد : حافظا لأعمالكم ، فيجازيكم بها ، وهو لا يزال متصفا بذلك ، فهو الحفيظ المطلع العالم بكل شيء.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى الناس العقلاء بتقواه بامتثال الأوامر واجتناب المنهيات في كل ماله صلة بعبادته وحده لا شريك له وبحقوق العباد ، ويؤكد الأمر بالتقوى بما يحمل على الامتثال ، بذكر الربوبية المضافة إلى المخاطبين التي تربيهم بنعمه وتفيض عليهم من إحسانه ، ثم ذكر لفظ الله في الأمر الثاني بالتقوى ، لأن الله علم المهابة والجلالة ، ثم التذكير بأنه خالقهم ، والتنبيه على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، فهم من أصل واحد كلهم لآدم وآدم من تراب ، وأنه خلق من تلك النفس زوجها وتناسل منهما البشر ذكورا وإناثا ، وجعل من تلك الذرية رابطة الأسرة القائمة على الرحم وصلة الدم والقرابة مما يدعوهم إلى التراحم

٢٢٢

والتعاون. وكل ذلك دليل على القدرة الإلهية الباهرة التي تستوجب التقوى ، وتحذر من العقاب ، كما أن نعمة القرابة تدعو إليها عرفانا بالوفاء وقياما بحق الشكر ؛ لأن القرابة دعم وصلة وتعاطف وود ومحبة تشعر الإنسان بالسعادة ، وتجعله يحس بالقوة المعنوية في المجتمع ، فيسر بسرور أسرته ويحزن بحزنها ، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والحاكم عن المسور : «فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها ..».

وفي التذكير بالأصل الإنساني الواحد دلالة على وجوب التزام حدود الإنسانية ، وأن الإنسان أخ الإنسان أحب أم كره ، والأخوة تقتضي المسالمة والتعاون ونبذ المحاربة والخصومة والتقاطع.

والمقصود بالنفس الواحدة في رأي جمهور العلماء : آدم عليه‌السلام الذي هو أبو البشر ، وأنه ليس هناك سوى آدم واحد ، أما من يدعي وجود أوادم قبله ، فهو يصادم ظواهر القرآن الكريم.

والمقصود بالزوج هو حواء ، وقد خلقت من ضلع آدم الأيسر ، وهو نائم ، فاستيقظ ، فرآها فأعجبته ، وأنس إليها وأنست إليه ، بدليل الحديث الصحيح عند الشيخين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن خلقن من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج».

وذهب بعض العلماء كأبي مسلم الأصفهاني إلى أن المراد : أنه خلق من جنسها زوجها ، فهما من جنس واحد ، وطبيعة واحدة ، وأي فائدة من خلقها من الضلع ؛ لأنه سبحانه وتعالى قادر على خلقها كآدم من التراب؟ واستدل بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [الروم ٣٠ / ٢١] أي من جنسكم ، مثل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة ٦٢ / ٢] أي من جنسهم ، ومثل : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة ٩ / ١٢٨].

٢٢٣

ويرد عليه بأن ذلك مخالف لما دل عليه الحديث الصحيح المتقدم ، وتكون الحكمة هي إظهار قدرة الله على أن يخلق حيا من حي ، لا على سبيل التوالد ، كقدرته على أن يخلق حيا من جماد.

ثم بين الله تعالى طريق تكاثر النوع الإنساني ، فذكر أنه نشر وفرق من آدم وحواء نوعي جنس البشر وهما الذكور والإناث التي تفرع منهما الإنسان الذي سكن الأرض وعمرها.

ثم أكد تعالى الأمر السابق بالتقوى من طريق سؤال الناس بعضهم بعضا بالله لقضاء حوائجهم ، فذلك السؤال بالله يدل على الإيمان به وتعظيمه ، فيقول : سألتك بالله أن تقضي هذه الحاجة ، راجيا إجابة طلبه ، فهذا القول من موجبات امتثال أوامر الله ، ومن امتثل ذلك اتقى الله وحذر مخالفة أوامره واجتنب نواهيه.

وكما يجب اتقاء الله يجب اتقاء قطع الأرحام ، أي اتقوا الله الذي تتساءلون باسمه إيمانا به وتعظيما له ، واتقوا الأرحام ، أي صلوها بالود والإحسان ولا تقطعوها ، فإن قطعها مما يجب أن يتقى.

ثم ختم تعالى الآية بإعلامه أنه مطلع على كل شيء رقيب حفيظ لكل عمل وحال ، فلا يشرع لنا إلا ما به حفظنا ومصلحتنا ، وهو البصير بأحوالنا. وهذا في موضع التعليل للأمر بالتقوى ووجوب الامتثال. وهذه الخاتمة مثل قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة ٥٨ / ٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى أحكام كثيرة :

١ ـ وجوب التزام التقوى التي هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات. وقد أكد تعالى الأمر بها حثا عليها ، فعبّر أولا للترغيب بلفظ (الرب) الذي

٢٢٤

يدل على التربية والعناية والإنعام والإحسان ، ثم للترهيب بلفظ (اللهَ) الذي يدل على الهيبة والجلال ، وهو مصداق قوله تعالى : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) هذا بالإضافة لمؤكدات أخرى كالسؤال بالله على سبيل الاستعطاف مما يدل على الإيمان بالله وتعظيمه ، وكرقابة الله واطلاعه على جميع أحوال الناس وأعمالهم ، مما يقتضي الاتقاء والحذر من العصيان والمخالفة للأوامر والنواهي.

٢ ـ كون البشرية من أصل واحد ومنشأ واحد ، أبوهم آدم وآدم من تراب ، فهي النفس الواحدة ، ووحدتها تقتضي جعل الأسرة الإنسانية متراحمة متعاونة متحابة غير متعادية ولا متخاصمة ولا متقاطعة.

٣ ـ المراد بالنفس الواحدة آدم أبو البشر عليه‌السلام ، والنفس هنا هي الجسم والروح. وللجسم أو الجسد وظائف عضوية مادية ، وللنفس وظائف روحية ومعنوية ، وآثار محسوسة مثل العقل والحفظ والتذكير.

واختلف العلماء المسلمون في حقيقة النفس أو الروح على رأيين : رأي يقول : إنها حالة تعرض للجسم ما دام حيا ، والرأي الأشهر : أنها جسم نوراني علويّ خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ، ويسري فيها سريان الماء في النبات ، منفصل عن الجسم ، متصل به في حال الحياة.

وافتتاح السورة ب (أَيُّهَا النَّاسُ) بالرغم من أن السورة مدنية براعة استهلال لما في السورة من أحكام الزواج والمواريث والحقوق الزوجية ، وأحكام المصاهرة والرضاع وغيرها من أحكام الرابطة الإنسانية. والغالب إذا كان الخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وكان الخطاب للكافرين فقط أو معهم غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية ، وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم.

٤ ـ المرأة جزء حقيقي من الرجل ، منه خلقت ، وإليه تعود ، يأنس كل منهما بالآخر ، ويألفه ويحن إليه ، سواء أكانت المرأة أما أم أختا أم بنتا أم

٢٢٥

زوجة ، مما يوجب دوام التعاون بينهما في مسيرة الحياة ، ويدل على تكامل الكون بوجود عنصري الذكورة والأنوثة ، ويبرهن على أنهما مصدر بقاء النوع الإنساني ، كما جاء في الآية : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

٥ ـ جواز المساءلة بالله تعالى ، روي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم : «من سألكم بالله فأعطوه».

٦ ـ تعظيم رابطة القرابة وحق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها ، سواء أكانت من جهة الأب أم من جهة الأم ؛ إذ قرن الله الأرحام باسمه تعالى ، وحذر من قطيعة الرحم في آية أخرى هي : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٢٢] فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض.

واتفق المسلمون على أن صلة الرحم واجبة ، وأن قطيعتها محرّمة ، وقد صح أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأسماء ، وقد سألته : «أأصل أمي» : «نعم صلي أمك» فأمرها بصلتها وهي كافرة مشركة. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : أما ترضين أني أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى ، قال : فذلك لك».

والرحم هنا : اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم كالأخت والخالة وغيره ، كابن العم.

وتدل الآية أيضا على جواز التساؤل بالأرحام ، على قراءة إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة : «الأرحام» بالجر ، وليس في ذلك حلف بغير الله ؛ لأن قول الرجل لصاحبه : أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف والتأكيد ، فهو ليس بيمين ، فلا يكون من المنهي عنه في حديث الشيخين عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».

٢٢٦

٧ ـ دل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) على مراقبة الله في السر والعلن ، فهو إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ، ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض ويحثهم على ضعفائهم. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر ـ وهم مجتابو النمار أي من عريهم وفقرهم ـ قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر ، فقال في خطبته : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) حتى ختم الآية ، ثم قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر ٥٩ / ١٨] ثم حضهم على الصدقة فقال : «تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من صاع بره ، من صاع تمره» الحديث. وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود.

إيتاء اليتامى أموالهم وتحريم أكلها

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

البلاغة :

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) مجاز مرسل باعتبار ما كان ، أي أتوا الذين كانوا يتامى.

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) : الباء داخلة على المتروك ، كما هو المقرر لغة ، وفيهما طباق.

المفردات اللغوية :

(الْيَتامى) جمع يتيم : وهو من فقد أباه ، وهو شرعا وعرفا مختص بمن كان دون البلوغ ،

٢٢٧

ويكون المراد : آتوا الصغار الذين لا أب لهم (أَمْوالَهُمْ) إذا بلغوا (الْخَبِيثَ) الحرام (بِالطَّيِّبِ) الحلال ، أي لا تأخذوا بدل الطيب الحلال مالا حراما ، كما تفعلون من أخذ الجيد من مال اليتيم ، وجعل الرديء من مالكم مكانه.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي لا تجعلوها مضمومة إليها (إِنَّهُ) أي أكلها (كانَ حُوباً كَبِيراً) إثما وذنبا عظيما.

سبب النزول :

قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال ، فمنعه عمه ، فترافعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع إليه ماله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يوق شح نفسه ورجع به هكذا ، فإنه يحلّ داره ، يعني جنته ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله تعالى ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا أنه ثبت الأجر ، فكيف بقي الوزر ، وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال : ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده (١).

التفسير والبيان :

موضوع الآية : يأمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة ، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم. والخطاب للأوصياء ما دام المال بأيديهم واليتامى عندهم.

وهذا شروع في بيان أحوال التقوى ، وأولها الحفاظ على مال الأيتام الضعفاء ، بعد تذكير الله بصلة الرحم والقرابة.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٨١

٢٢٨

والمعنى : يا أيها الأوصياء على اليتامى ، أعطوا الأيتام أموالهم بعد البلوغ كاملة غير منقوصة ، وأنفقوا عليهم في حال أصغر من أموالهم ، ولا تضموا شيئا منها إلى أموالكم ، وعبر بالأكل عن سائر التصرفات المتلفة للأموال وسائر وجوه الانتفاع ؛ لأن معظم ما يقع من التصرفات لأجل الأكل. وقوله : (إِلى) بمعنى «مع» أو بمعناها الحقيقي أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل. فإنكم إن فعلتم ذلك استبدلتم بالحلال وهو مالكم المكتسب من فضل الله ، الحرام وهو مال الأيتام ، ويكون هذا الأكل ذنبا عظيما وإثما كبيرا. روي أنهم كانوا يضعون الشاة الهزيلة ويأخذون بدلها شاة سمينة ، فنهوا عن ذلك.

واليتيم : من مات أبوه مطلقا ، ولكن خصص في الشرع والعرف كما بينت بالصغير ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه أبو داود عن علي رضي‌الله‌عنه ـ : «لا يتم بعد احتلام».

وليست الآية في إيتاء اليتامى أموالهم على ظاهرها ، فلا يعطونها قبل البلوغ ، ويكون إيتاء الأموال مجازا عن تركها سالمة من غير أن يتعرض لها بسوء ، بدليل الآية الأخرى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) أي اختبروا صلاحيتهم لتسلم أموالهم عند البلوغ ، فهذه الآية حث على تسليم المال فعلا عند حصول البلوغ والرشد ، وأما الآية : (وَآتُوا الْيَتامى) فهي حث على حفظ أموال اليتامى لتسلم لهم عند بلوغهم ورشدهم.

والأولى أن يكون الإيتاء مستعملا بمعناه الحقيقي وهو الإعطاء بالفعل ، وتكون كلمة (الْيَتامى) مجازا باعتبار ما كان ، وعبر باليتامى لقرب العهد بالصغر ، وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم ؛ لأن اليتم ضعف ، وهو يستدعي الرحمة والعفة ، حتى كأن اسم اليتم باق بعد البلوغ ، وهذا المعنى يسمى في أصول الفقه بإشارة النص.

٢٢٩

فقه الحياة أو الأحكام :

قال مجاهد : وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها ، فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ بقوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٢٠].

وليس المراد بالآية إيتاء اليتامى أموالهم في حال اليتم ، وإلا تعرضت للضياع ، وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ، عملا بالآية التالية : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء ٤ / ٦]. قال الجصاص الرازي الحنفي : أطلق الله تعالى في آية : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) إيجاب دفع المال من غير قرينة الرشد ، ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم ، والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة ، وأمكن استعمالهما على فائدتهما ، لم يجز لنا الاقتصار بهما على فائدة إحداهما ، وإسقاط فائدة الأخرى.

ثم ذكر الجصاص رأي أبي حنيفة : وهو وجوب تسليم المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة على أي حال كان ، فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد ، وجب دفع المال إليه ، لقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره ، وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد ، لاتفاق أهل العلم على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه (١).

وقال أبو حنيفة : لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدّا ، فإذا صار يصلح أن يكون جدا ، فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتم؟! وهل ذلك إلا في غاية البعد؟

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٤٩

٢٣٠

ورد ابن العربي على ذلك الرأي فقال : الحكم بخمس وعشرين سنة لا وجه له ، لا سيما وأبو حنيفة يرى المقدّرات لا تثبت قياسا ، وإنما تؤخذ من جهة النص ، وليس في هذه المسألة نص ولا قول من جميع وجوهه ، ولا يشهد له المعنى (١).

والخلاصة : دلت الآية على أمرين :

١ ـ وجوب دفع أموال اليتامى لهم عند توافر الأهلية الملائمة لإدارة الأموال.

٢ ـ كل وجوه الانتفاع ومنها الأكل بمال اليتيم حرام ومن كبائر الذنوب العظيمة إلا عند الحاجة ، عملا بالآية التالية : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء ٤ / ٦].

إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ووجوب إيتاء المهر

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

الإعراب :

(فِي الْيَتامى) أي في نكاح اليتامى ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) منصوب على البدل من (ما) للعدل والوصف ، أي أن الكلمات الثلاث من ألفاظ العدد ، معدولة عن اثنين وثلاثة وأربعة ، وتدل كل واحدة منها على المكرر من نوعها ، فمثنى

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٣٠٩

٢٣١

تدل على اثنين اثنين ، وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة ، ورباع تدل على أربعة أربعة. ويصح كونها منصوبا على الحال من فاعل طاب أو من مرجعه.

(فَواحِدَةً) أي فانكحوا واحدة ، وهو جواب الشرط في قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) وقرئ بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره : فهي واحدة ، أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : فامرأة واحدة تقنع ، والأول أولى.

(نِحْلَةً) منصوب على المصدر (نَفْساً) منصوب على التمييز (هَنِيئاً مَرِيئاً) : حالان من هاء (فَكُلُوهُ) وهي تعود على شيء. والواو في (فَكُلُوهُ) تعود على الأولياء أو على الأزواج.

المفردات اللغوية :

(تُقْسِطُوا) تعدلوا ولم تظلموا ، من أقسط : عدل ، مثل قوله تعالى : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). وأما قسط : فمعناه جار ، قال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). (ما طابَ لَكُمْ) ما مال إليه القلب منهن. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) هذه ألفاظ عدد معدولة عن اثنتين اثنتين ، وثلاث ثلاث ، وأربع أربع (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) فيهن بالنفقة والقسم في المبيت والمعاملة (فَواحِدَةً) أي انكحوا واحدة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) اقتصروا على ما ملكتم من الإماء ، إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات.

(ذلِكَ) أي نكاح الأربع فقط أو الواحدة أو التسري (أَدْنى) أقرب إلى (أَلَّا تَعْدِلُوا) تجوروا ، أي ذلك أقرب إلى عدم العول والجور.

(وَآتُوا) أعطوا (صَدُقاتِهِنَ) مهورهن ، جمع صدقة (نِحْلَةً) عطية وهبة عن طيب نفس (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) تمييز محول عن الفاعل ، أي طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق ، فوهبنه لكم (هَنِيئاً مَرِيئاً) الهنيء : ما يستلذه الآكل ، والمريء : ما تحسن عاقبته وهضمه وتغذيته ، أي أنه محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة.

سبب النزول :

نزول الآية (٣):

(وَإِنْ خِفْتُمْ) : روى الصحيحان والنسائي والبيهقي وغيرهم عن عروة بن الزّبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين رضي‌الله‌عنها عن هذه الآية ،

٢٣٢

فقالت : يا ابن أختي ، هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها ، يشركها في مالها ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد أن يتزوّجها من غير أن يقسط في صداقها ؛ فلا يعطيها مثل ما يعطى أترابها من الصداق ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع.

وقال سعيد بن جبير وقتادة والرّبيع والضّحّاك والسّدّي : كانوا يتحرّجون عن أموال اليتامى ويترخّصون في النّساء ، ويتزوّجون ما شاؤوا ، فربّما عدلوا وربما لم يعدلوا ، فلما سألوا عن اليتامى ، فنزلت آية اليتامى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الآية ، أنزل الله تعالى أيضا : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) يقول : كما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهنّ ، فلا تتزوّجوا أكثر ما يمكنكم القيام بحقهنّ ؛ لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز. وهذا قول ابن عبّاس في رواية الوالبي (علي بن ربيعة بن نضلة ثقة من كبار الثالثة).

نزول الآية (٤):

(وَآتُوا النِّساءَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوّج ابنته أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ، فأنزل : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً).

التفسير والبيان :

موضوع الآية يتحدد بحسب النزول فهو إما في التزوّج بالنساء غير اليتيمات ، أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، فليعدل إلى ما سواها من النساء ، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه.

وإما في العدل بين النساء ومنع إلحاق الظلم بهنّ حالة التعدد ، أي أنه لما نزلت آية : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) تحرج الأولياء من ولايتهم مع أنهم كانوا

٢٣٣

لا يتحرّجون من ترك العدل في حقوق النساء ، حيث كان تحت الرجل عشرة منهن ، لا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى ، فتحرجتم ، فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء ، وقللوا عدد المنكوحات منهن ؛ لأن من تحرّج من ذنب ، وهو مرتكب مثله ، فهو غير متحرج.

والمراد من الخوف : العلم ، عبر بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا.

أي إن علمتم وأحسستم من أنفسكم إلحاق الظلم باليتامى بعدم إعطائهن مهورهن ، أو بأكل أموال الأيتام بالباطل ، فعليكم ألا تتزوّجوا باليتيمة ، وتزوّجوا بغيرها من النساء واحدة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا ، أو عليكم أن تعدلوا بين النساء حال التعدد ، فلا تتزوجوا بأكثر من أربع لتتمكنوا من العدل والقسم بينهن ، وتكون أحوال الرجال زمرا متنوعة ، فمنهم من يتزوّج اثنتين ، ومنهم من يتزوّج ثلاثا ، ومنهم من يتزوّج أربعا ، وعدد الأربع هو الحدّ الأقصى الذي يمكن معه العدل بين الزوجات.

والأمر في قوله : (فَانْكِحُوا) للإباحة ، مثل قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة ٢ / ١٨٧ وغيرها] ، وقيل : للوجوب أي وجوب الاقتصار على العدد المأخوذ من قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لا وجوب أصل النكاح.

وقوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) تدلّ كلّ كلمة منها على المكرر من نوعها ، فمثنى تدلّ على اثنين اثنين ، وثلاث تدلّ على ثلاثة ثلاثة ، ورباع تدلّ على أربعة أربعة ، والمراد منها الإذن لكلّ من يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور ، متّفقين فيه أو مختلفين.

ثمّ أكّد الله تعالى ضرورة التزام العدل بين الزوجات المتعددات ، المفهوم من قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا ...) فذكر أنه إن خفتم ألا تعدلوا حال تعدّد الزوّجات ،

٢٣٤

فعليكم أن تلزموا الزوّاج بواحدة ، فإن الذي يباح له التعدّد هو من يثق بنفسه بتحقيق العدل المأمور به صراحة في قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) [النساء ٤ / ١٢٩]. وقد يحمل هذا على العدل في ميل القلب ، ولولا ذلك لكان مجموع الآيتين منتجا عدم جواز التعدّد بوجه ما.

والخوف من عدم العدل يشمل حال الظنّ والشّك في ذلك. فإما أن تقتصروا على واحدة من الحرائر أو تقتصروا على الاستمتاع بما تشاؤون من الإماء (السّراري) بطريق التّسري لا بطريق النكاح لعدم وجوب العدل بينهن ، وإنما المطلوب فقط حقّ الكفاية في نفقة المعيشة بحسب العرف.

ذلك أي اختيار الواحدة أو التّسري أقرب إلى الوقوع في عدم الجور والظلم ، فالمراد من قوله : (أَلَّا تَعُولُوا) ألا تجوروا. وحكي عن الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه أنه فسّر (أَلَّا تَعُولُوا) بألا تكثر عيالكم ، نقل الكسائي والأصمعي والأزهري عن فصحاء العرب : عال يعول : إذا كثرت عياله.

والخلاصة : إن البعد عن الجور سبب في تشريع الاقتصار على واحدة أو على التّسري ، وفيه إشارة إلى اشتراط العدل بين الزوجات. والعدل المطلوب بين النساء هو العدل المادي أي القسم بينهن في المبيت ، والتّسوية في نفقات المعيشة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن. أما العدل المعنوي أو الأمر القلبي وهو الميل والحبّ فغير مطلوب ؛ لأنه ليس في وسع الإنسان ولا يدخل في حدود طاقته. لذا كان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان يميل إلى عائشة أكثر من غيرها يقول فيما ذكرته السنن عن عائشة : «اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك» أي من ميل القلب. وإذا خاف الشخص عدم العدل حرم عليه أن يتزوّج أكثر من واحدة.

ثم خاطب الله الأزواج فأمرهم بإعطاء الزّوجات مهورهن عن طيب نفس دون تلكؤ ، رمزا للمودّة التي تقوم بين الزّوجين ، وعنوانا على المحبة وتكريم

٢٣٥

المرأة. ذهب ابن عبّاس إلى أن الخطاب في هذه الآية : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) للأزواج ، وكان الرجل يتزوّج بلا مهر ، يقول : أرثك وترثينني ، فتقول : نعم ، فأمروا أن يسرعوا إلى إيتاء المهور.

وقيل : الخطاب للأولياء ، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الرّجل إذا زوّج أيّما (وهي المرأة التي لا زوج لها) أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ، ونزلت : (وَآتُوا النِّساءَ).

فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا من المهر من غير ضرار ولا خديعة ، فكلوه هنيئا مريئا ، أي يحلّ لكم ذلك ولا ذنب عليكم في أخذه ، لا تخافون في الدّنيا مطالبة ، ولا في الآخرة تبعة.

وعبر بالأكل وأراد حلّ التصرّف فيه ، وخصّ الأكل بالذّكر ؛ لأنه معظم وجوه التّصرفات المالية ، كما في قوله تعالى المتقدم : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت آية : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) على ما يأتي :

١ ـ وجوب التزام العدل في كلّ شيء ، سواء في الإشراف على أموال اليتامى ، أو في الزّواج بهن ، أو في أثناء تعدّد الزوجات من غير اليتيمات ، قال ابن عبّاس وابن جبير وغيرهما : المعنى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، فكذلك خافوا في النّساء ؛ لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ، ولا يتحرّجون في النّساء.

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ

٢٣٦

فِيهِنَّ ، وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ ، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) قالت : وقوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) المراد منه هذه الآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) والمعنى : وإن علمتم ألا تعدلوا في نكاح اليتامى اللاتي تلونهن ، فانكحوا ، ما مالت إليه نفوسكم من النّساء غيرهنّ. والمقصود النّهي عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل.

٢ ـ الآية على تأويل عائشة هذا تشهد لمن قال : إن لغير الأب والجدّ أن يزوّج الصغيرة أو يتزوّجها ؛ لأنها على هذا التأويل نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها ، فيرغب في مالها وجمالها ، ولا يقسط لها في الصداق ، وأقرب ولي تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوّجها هو «ابن العم».

وعليه تكون الآية متضمنة جواز أن يتزوّج ابن العم اليتيمة التي في حجره. وإذا جاز له أن يتزوّجها ، فإما أن يلي هو النكاح بنفسه ، وإما أن يزوّجه إياها أخوها مثلا. وأيّا ما كان فلغير الأب والجدّ أن يزوّج الصغيرة.

وأما من قال من الأئمة : لا يزوج الصغيرة إلا الأب أو الجد ، يحمل الآية على أحد التّأويلين الآخرين (عدم الإقساط في مهرها ، أو التّحرّج في ولاية الأيتام) أو يحمل اليتامى على الكبار منهن ، وعلى طريق المجاز المرسل باعتبار ما كان لقرب عهدهن باليتيم.

٣ ـ تعلّق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ ، وقال : إنما تكون يتيمة قبل البلوغ ، وبعد البلوغ هي المرأة مطلقة لا يتيمة ، بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطّها عن صداق مثلها ؛ لأنها تختار ذلك ، فيجوز إجماعا.

وذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ

٢٣٧

وتستأمر ، لقوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) والنساء اسم ينطلق على الكبار الرجال في الذكور ، واسم الرجل لا يتناول الصغير ، فكذلك اسم النساء ، والمرأة لا يتناول الصغيرة. وقد قال : (فِي يَتامَى النِّساءِ) والمراد به هناك : اليتامى هنا ، كما قالت عائشةرضي‌الله‌عنها ، فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية ، فلا تزوّج إلا بإذنها ، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها ، فإذا بلغت جاز نكاحها ، لكن لا تزوّج إلا بإذنها ، كما رواه الدّارقطني عن ابن عمر ، قال : زوّجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون ، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها ، فأرغبها في المال وخطبها إليها ، فرفع شأنها إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال قدامة : يا رسول الله ، ابنة أخي ، وأنا وصي أبيها ، ولم أقصّر بها ، زوّجتها من قد علمت فضله وقرابته. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها» فنزعت مني وزوّجها المغيرة بن شعبة.

٤ ـ دلّ تفسير عائشة للآية على وجوب صداق المثل إذا فسد تعيين الصداق ووقع الغبن في مقداره ، لقولها : «بأدنى من سنّة صداقها».

٥ ـ إذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها ، جاز له أن يتزوّجها ، ويكون هو النكاح والمنكح ، على ما فسّرته عائشة. وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور ، أي أنه يمكن انعقاد الزواج بعاقد واحد.

وقال زفر والشافعي : لا يجوز له أن يتزوّجها إلا بإذن السلطان ، أو يزوجها منه وليّ لها غيره ؛ لأن الولاية شرط من شروط العقد ، لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه البيهقي عن عمران وعن عائشة : «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب ، أي لا بدّ من تعدد العاقد.

٦ ـ في الآية دلالة على جواز تعدد الزوجات إلى أربع ، وأنه لا يجوز التّزوج بأكثر من أربعة مجتمعات في عصمة رجل واحد ؛ لأن هذا العدد قد ذكر في مقام

٢٣٨

التوسعة على المخاطبين ، فلو كان وراء هذا العدد مباح ، لاقتضى المقام ذكره.

ولا يدلّ هذا العدد : مثنى وثلاث ورباع على إباحة تسع ، وعضد ذلك بأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نكح تسعا ، وجمع بينهن في عصمته.

ويرده إجماع الصحابة والتابعين على الاقتصار على أربع ، ولم يخالف في ذلك أحد ، وأخرج مالك في موطئه والنسائي والدّارقطني في سننهما أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لغيلان بن أميّة الثقفي ، وقد أسلم وتحته عشر نسوة : «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن».

٧ ـ وتمسّك الإمام مالك وداود الظاهري والطبري بظاهر هذه الآية في مشروعية نكاح الأربع للأحرار والعبيد ، على حدّ سواء ، فالعبيد داخلون في الخطاب بقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ..) فيجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار ، ولا يتوقّف نكاحهم على الإذن ؛ لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح.

وذهب الحنفية والشافعية إلى أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين ، لما روى الليث عن الحكم قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين. قالوا : والخطاب في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ..) لا يتناول العبيد ؛ لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها ، والعبد لا يملك ذلك ؛ لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه ابن ماجه عن ابن عمر : «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر». ولأن قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) لا يمكن أن يدخل فيه العبيد ، لعدم الملك ، وكذلك قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ ..) لا يشمل العبيد ؛ لأن العبد لا يتملك ، بل يكون الشيء الموهوب له لسيّده ، فيكون الآكل السيّد لا العبد.

٢٣٩

وما عقوبة الذي يتزوّج خامسة وعنده أربع؟

اختلف العلماء ، فقال مالك والشافعي وأبو ثور : عليه الحدّ إن كان عالما.

وقال الزّهري : يرجم إذا كان عالما ، وإن كان جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد ، ولها مهرها ، ويفرّق بينهما ولا يجتمعان أبدا.

وقال أبو حنيفة : لا حدّ عليه في شيء من ذلك.

وقال أبو حنيفة : لا حدّ عليه في شيء من ذلك.

وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) : يحدّ في ذات الزواج المحرّم ولا يحدّ في غير ذلك من النّكاح ، مثل أن يتزوّج مجوسية أو خمسة في عقد ، أو تزوّج متعة أو تزوّج بغير شهود ، أو أمة تزوّجها بغير إذن مولاها.

٧ ـ الاقتصار على امرأة واحدة واجب عند خوف الظلم ؛ لأن معنى قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) : إن خفتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن ، كما قال تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) فمن خاف من ذلك ، فليقتصر على واحدة أو على الجواري السّراري ، فإنه لا يجب قسم بينهن ، ولكن يستحب ، فمن فعل فحسن ، ومن لا فلا حرج.

وأرشدت الآية : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) إلى ما يأتي :

١ ـ وجوب المهر للزّوجة : إن الفروج لا تستباح إلا بصداق يلزم ، سواء أسمي ذلك في العقد أم لم يسمّ. وإن الصداق ليس في مقابلة الانتفاع بالبضع ؛ لأن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركة بين الزوجين ، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزّوجة المهر ، فكان ذلك عطية من الله ابتداء. وهذا مجمع عليه ولا خلاف فيه : ونظير الآية قوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء ٤ / ٢٥] أي أعطوهن مهورهن.

٢٤٠