التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

موجب ولا داع للشكر ، أو على أنهم أخبروك بالصدق عما سألتهم عنه ، أو على ما فعل المنافقون في التخلف عن الغزو (الجهاد) وجاؤوا به من العذر ، وكل ما فعلوا أنهم حولوا الحق والنور والهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وعامة الناس.

فهؤلاء لا تظنن أنهم ناجون من العذاب ، بل لهم عذاب أليم شديد الألم في الدنيا بالخذلان والخسف والزلزال والطوفان وغير ذلك من الجوائح والمصائب العامة المدمرة ، وفي الآخرة بحشرهم في جهنم جزاء إفكهم وتحريفهم وتبديلهم وتغييرهم كتاب الله. وذلك كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود ١١ / ١٠٢].

ثم كان قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ) احتجاجا على الذين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ، وتكذيبا لهم ، فقال للمؤمنين : ولا تحزنوا أيها المؤمنون على عمل أهل الكتاب وعلى ما فاتكم من نصر ، ولا تضعفوا عن القيام بالواجب ، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا ، ولا تأخذوا عن حكم الله الصحيح عوضا مهما كثر ، فإنه قليل ، ولا تفرحوا على ما لم تعملوا ، فإن الله يكفيكم همومكم وينصركم على أعدائكم ، ويمدكم بالخير والفضل ؛ لأنه تعالى مالك كل شيء ، والقادر على كل شيء ، فلا يعجزه شيء ، فهابوه ولا تخالفوه ، واحذروا غضبه ونقمته ، فإنه الأعظم والأقدر من كل شيء في هذا الوجود.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات توبيخا ، وتحذيرا ، واحتجاجا وتكذيبا.

فهي توبيخ لأهل الكتاب الذين أمروا بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وبيان أمره ، فكتموا نعته. ويفهم من هذه الآية واجبات ثلاثة : توضيح العلماء كتاب الله وإفهامه للناس وإظهار ما فيه من عظة وأسرار في الأحكام العامة والخاصة ، وتبيين الدين للمسلمين حتى يفهموه على حقيقته ويعرفوا أنه طريق

٢٠١

الخلاص الوحيد من تخلف الأمة وضعفها وفسادها ، وتوضيح أحكام الدين لغير المسلمين ودعوة الناس إلى صراط مستقيم حتى يهتدوا به.

وهي أيضا تحذير من أفعال أهل الكتاب والمنافقين الذين يدلسون الحقائق ، ويزيفون معاني الكتب المنزلة ، ويتخلفون عن الجهاد بالأعذار الواهية.

وهي كذلك احتجاج على اليهود الذين نسبوا الفقر إلى الله والغنى لأنفسهم ، وتكذيب لهم ، ورد قاطع بأن الله مالك السموات والأرض ومن فيهن ، وله القدرة الباهرة على كل شيء ، والسلطان النافذ في كل شيء.

توجيه النفوس نحو التفكر في خلق السموات والأرض

وجزاء العاملين ذكورا وإناثا

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ

٢٠٢

عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

الإعراب :

(الَّذِينَ) إما في موضع جر صفة لأولي الألباب ، أو في موضع رفع مبتدأ ، وخبره: (رَبَّنا) على تقدير : يقولون : ربنا ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو في موضع نصب على تقدير فعل محذوف (قِياماً) حال منصوب من ضمير (يَذْكُرُونَ). (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) حال من ضمير (يَذْكُرُونَ). و (يَتَفَكَّرُونَ) : معطوف على (يَذْكُرُونَ). (باطِلاً) مفعول لأجله. (سُبْحانَكَ) اسم مصدر منصوب انتصاب المصادر.

(يُنادِي) جملة فعلية في موضع نصب لأنه صفة (مُنادِياً). (لِلْإِيمانِ) اللام إما بمعنى إلى الإيمان ، أو متعلق ب (مُنادِياً) أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي. (أَنْ آمِنُوا) منصوب ب (يُنادِي) أي ينادي بأن آمنوا ، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به. (مَعَ الْأَبْرارِ) أي أبرارا مع الأبرار ، وهو جمع بارّ أو برّ. (عَلى رُسُلِكَ) أي على ألسنة رسلك ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(أَنِّي لا أُضِيعُ) أي بأني ، فحذف حرف الجر. (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) مبتدأ ، وخبره (لَأُكَفِّرَنَ). (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) : عطف على عطف. (ثَواباً) إما منصوب على المصدر المؤكد لما قبله ، كأنه قال : لأثيبنهم ثوابا ، أو منصوب على القطع بتعبير الكوفيين وهو الحال عند البصريين ، أو منصوب على التمييز. والوجه الأول أوجه الأوجه. (وَاللهُ) مبتدأ ، و (حُسْنُ الثَّوابِ) مبتدأ ثان ، و (عِنْدِ) : خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول وهو اسم الله تعالى.

البلاغة :

(رَبَّنا) كرر خمس مرات مبالغة في التضرع من قبيل الإطناب. (وَما لِلظَّالِمِينَ) وضع الظاهر موضع المضمر لتخصيص الخزي بهم. وهناك طباق في قوله (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) و (اللَّيْلِ

٢٠٣

وَالنَّهارِ) و (قِياماً وَقُعُوداً) و (ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى). وهناك إيجاز بالحذف في (عَلى رُسُلِكَ) أي على ألسنة رسلك ، وفي قوله (وَيَتَفَكَّرُونَ .. رَبَّنا) أي قائلين ربنا.

وفي الآيات جناس مغاير في قوله (آمِنُوا .. فَآمَنَّا) وفي (عَمَلَ عامِلٍ) وفي (مُنادِياً يُنادِي). (لَآياتٍ ..) دخول اللام في خبر إن لزيادة التأكيد ، والتنكير للتفخيم.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ فِي خَلْقِ) الخلق : التقدير والترتيب الدال على النظام والإتقان. (السَّماواتِ) كل ما علاك مما تراه في الأعلى. (وَالْأَرْضِ) ما تعيش عليه ، وهو بشكل كروي ، كوكب دائر غير ثابت و (خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : إيجادهما من غير مثال سابق ، ويشمل كل ما فيهما من العجائب.

(اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تعاقبهما ومجيء كل منهما خلف الآخر ، مع زيادة ونقصان بحسب الفصول والموقع الجغرافي من الكرة الأرضية. (لَآياتٍ) لأدلة على وجود الله وقدرته ووحدانيته. (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول. (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) مضطجعين ، أي في كل حال. وعن ابن عباس : يصلون كذلك حسب الطاقة. (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليستدلوا به على قدرة صانعهما. (رَبَّنا) يقولون : ربنا. (باطِلاً) عبثا لا فائدة منه ، بل دليلا على قدرتك. (سُبْحانَكَ) تنزيها لك عن العبث وعما لا يليق بك.

(أَخْزَيْتَهُ) أهنته. (وَما لِلظَّالِمِينَ) الكافرين ، وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بتخصيص الخزي بهم. (مِنْ أَنْصارٍ) من زائدة ، أي مؤيدين يمنعونهم من عذاب الله تعالى.

(فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) استر معاصينا ، واحدها ذنب : وهو مخالفة الأوامر والنواهي الشرعية.

(وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) غطّ إساءاتنا ، أي الصغائر أو أنواع التقصير في حقوق العباد ، فلا تظهرها بالعقاب عليها.

(وَتَوَفَّنا) أمتنا أي اقبض أرواحنا. (مَعَ الْأَبْرارِ) في جملة الأخيار المحسنين أعمالهم وهم الأنبياء والصالحون.

(وَآتِنا) أعطنا. (عَلى رُسُلِكَ) أي على ألسنة رسلك من الرحمة والفضل.

ويلاحظ أن سؤال الناس تلك الأمور هو أن يجعلهم من مستحقيه ، وتكرار : (رَبَّنا) مبالغة في التضرع. (الْمِيعادَ) الوعد بالبعث والجزاء.

٢٠٤

(فَاسْتَجابَ) أجاب دعاءهم (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أي لا أترك ثوابه. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي بعضكم كائن من بعض أي الذكور من الإناث وبالعكس ، والجملة مؤكدة لما قبلها ، أي سواء في المجازاة بالأعمال وترك تضييعها. نزلت لما قالت أم سلمة : يا رسول الله ، إني لا أسمع النساء في الهجرة بشيء. (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي في مبدأ الإسلام من مكة إلى المدينة. (فِي سَبِيلِي) أي بسبب ديني وطاعتي وعبادتي. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أسترها بالمغفرة. (ثَواباً) مصدر مؤكد من معنى لأكفرن. (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيه التفات عن التكلم. (حُسْنُ الثَّوابِ) الجزاء.

سبب النزول :

نزول الآية (١٩٠):

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ ..) : أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : بم جاءكم موسى به من الآيات؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين ، وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ؛ فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ ..) فليتفكروا فيها. قال ابن كثير : وهذا مشكل ، فإن هذه الآية مدنية ، وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة (١).

نزول الآية (١٩٥):

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ) : أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والترمذي والحاكم وابن أبي حاتم عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ).

المناسبة :

ختمت سورة آل عمران بهذه الآيات ، بعد مجادلة الكفار والمنافقين

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ١ / ٤٣٨

٢٠٥

والمقصرين من المؤمنين وردّ الشبهات ، لتوجيه الأنظار نحو ما يثبت وجود الله ووحدانيته وعظمته وكبرياءه.

فضل هذه الآيات :

ورد في فضل هذه الآيات أحاديث كثيرة منها : ما رواه ابن مردويه وعبد بن حميد عن عطاء قال : انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي‌الله‌عنها ، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب ، فقالت : يا عبيد ؛ ما يمنعك من زيارتنا؟ قال : قول الشاعر : زر غبا تزدد حبا ، فقال ابن عمر : ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبكت ، وقالت : كل أمره كان عجبا ، أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي ، ثم قال : «ذريني أتعبد لربي عزوجل» قالت : فقلت ، والله ، إني لأحب قربك ، وإني أحب أن تعبد ربك ، فقام إلى القربة ، فتوضأ ، ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي ، فبكى حتى بلّ لحيته ، ثم سجد ، فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه ، فبكى ، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت : فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : «ويحك يا بلال ، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ثم قال : «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».

قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهن؟ قال : يقرءوهن وهو يعقلهن (١).

التفسير والبيان :

إن في إبداع السموات والأرض ، الأولى في ارتفاعها واتساعها ، والثانية في انخفاضها وكثافتها وصلاحيتها للحياة ، وما فيها من نظام بديع وأفلاك وكواكب

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٤٠ وما بعدها.

٢٠٦

ومجرّات ، وبحار وجبال وأنهار ، وزروع ونبات وأشجار مثمرة وغير مثمرة ، ومعادن وثروات ، وتعاقب الليل والنهار مع الطول والقصر والاعتدال على مدار العام وبحسب الفصول والموقع ، لأدلة دالة على وجود الله وكمال قدرته وعظمته ووحدانيته ، بشرط أن يكون من ذوي العقول التامة الناضجة التي تدرك الأشياء بحقائقها ، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون ، الذين قال الله فيهم : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها ، وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ، وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف ١٢ / ١٠٥ ـ ١٠٦].

ثم وصف الله تعالى أولي الألباب بأنهم يجمعون بين التذكر والتفكير ، يذكرون الله في مختلف أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع ، لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم.

ويتفكرون ويفهمون ما في السموات والأرض من أسرار ومنافع وحكم دالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه ورحمته.

والتفكر يكون في مصنوعات الخالق لا في الخالق ، لاستحالة الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته ، أخرج الأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ، وهم يتفكرون ، فقال : تفكروا في الخلق ، ولا تفكروا في الخالق ، فإنكم لا تقدرون الله قدره». وقال الحسن البصري : تفكر ساعة خير من قيام ليلة.

ويقول المتفكرون الذاكرون : ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا ولا أوجدته باطلا زائلا ، فأنت منزه عن الباطل والعبث ، وكل خلقك حق مشتمل على فائدة وحكمة وقدرة ، أي أن المؤمن المتفكر بعد أن تدبر ونظر ودقق وتفكر يتوجه إلى الله تعالى متضرعا معلنا قناعته بحكمة الله العليا في خلق المخلوقات ، فاجعل لنا وقاية وحاجزا من عذاب النار ، وأجرنا من عذابها ، ووفقنا للعمل الصالح

٢٠٧

والاعتقاد الجازم الثابت الصحيح. ومعنى (سُبْحانَ اللهِ) : تنزيه الله عن السوء ، كما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث موسى بن طلحة.

إن من أدخلته النار بعدلك وبسبب انحرافه وضلاله وخطئه ، فقد أهنته وجعلته ذليلا ؛ لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه ، وما للكافرين الظالمين أنفسهم بسبب جورهم وظلمهم أعوان ومؤيدون ينقذونهم من عذاب الله تعالى. فهو جزاء عادل لمحض الظلم وتجاوز الحدود ، وإعلام بأن من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها.

ربنا إننا سمعنا مناديا داعيا يدعو إلى الإيمان ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : آمنوا بربكم ، فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه ، أي أنهم مزجوا إيمانهم بالله وبقدرته ، بالإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرائع وأحكام وآداب وأخلاق.

ربنا فاستر ذنوبنا الكبائر ، وسيئاتنا الصغائر ، وأكرمنا بصحبة الأخيار الصالحين ، المعدودين في جملتهم ، العاملين بمثل أعمالهم ، كما قال تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) [النساء ٤ / ٦٩].

(رَبَّنا وَآتِنا) : أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، على ألسنة رسلك ، أو على الإيمان والتصديق برسلك. وفي هذا إشعار بتقصيرهم ، والاعتماد على توفيق الله وعنايته. ولا تفضحنا أمام الناس يوم القيامة ، إنك صادق الوعد ومنجزه على الإيمان والعمل الصالح ، سواء في الدنيا بالتقدم والتفوق والسيادة ، كما قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور ٢٤ / ٥٥] وفي الآخرة بالفوز بالجنة ، كما قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [التوبة ٩ / ٧٢].

٢٠٨

فأجاب الله دعاءهم ، لصدق إيمانهم ، وجازى كل عامل بعمله ، سواء أكان ذكرا أم أنثى ، فالذكور والإناث متساوون في الحقوق والواجبات ، وفي الجزاء على صالح الأعمال ، ولا غرابة في ذلك فهم من أصل واحد ، وكل واحد من الذكور والإناث من الآخر وبالعكس ، فالرجل مولود من الأنثى ، والأنثى مولودة من الرجل.

وبعد أن ربط الله الجزاء بالعمل أوضح مظاهر العمل ، منها الهجرة في مبدأ الإسلام من مكة إلى المدينة تأييدا لدعوة الإسلام ومؤازرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنها الإخراج والطرد من الديار ، ومنها الإيذاء في سبيل الله والقتال والقتل.

فهؤلاء المحسنون أعمالهم يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، أثابهم الله ثوابا من عنده جزاء العمل الصالح ، وليس عند الله إلا حسن الثواب والجزاء وهو الجنة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ على الإنسان النظر والتفكر والاستدلال بعجائب صنع السموات والأرض ، فهي ترشده إلى الإيمان الصحيح ، إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير غني عن العالمين ؛ لأن الإيمان يجب أن يستند إلى دليل يقيني يدل على تحققه ووجوده ، لا إلى التقليد أو محض الوراثة.

٢ ـ قال العلماء : يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه ، ويقرأ هذه الآيات العشر ، اقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، ثم يصلي فرض الصبح وسنته أو ما كتب له ، فيجمع بين التفكر والعمل ، وهو أفضل العمل. أخرج أبو نصر الوائلي السّجستاني الحافظ عن أبي هريرة أن

٢٠٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة.

٣ ـ المؤمن يلازم ذكر الله تعالى في كل أحواله ، من قيام وقعود واضطجاع وغيرها ، ليظل على صلة بربه ، فقال سبحانه : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٤١] وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة ٢ / ١٥٢].

ويدل هذا على أن المصلي يصلي قائما ، فإن لم يستطع فقاعدا ، فإن لم يستطع فعلى جنب ، كما ثبت لدى الأئمة الستة من حديث عمران بن حصين رضي‌الله‌عنه ، قال : «كانت بي بواسير ، فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة فقال : صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب» والقيام فرض على القادر في صلاة الفريضة ، وتصح صلاة النافلة حال القعود وأجره نصف أجر القائم ، والمضطجع نصف أجر القاعد ، ورد في حديث عمران بن حصين في رواية : «صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد». والذكر إما باللسان ، وإما بالصلاة فرضها ونفلها.

٤ ـ ويضم إلى الذكر عبادة أخرى هي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته لزيادة التبصر ، وتقوية الإيمان.

٥ ـ صيغ الدعاء في هذه الآيات تدل على الإيمان بالله والرسول ، وعلى الثقة بوعد الله ومصاحبة الأبرار ، وعلى كمال الطلب بمغفرة الذنوب وستر العيوب والبعد عن النار ، فإن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة ، فسألوا أن يكونوا ممن وعدوا بذلك دون الخزي والعقاب. والدعاء على هذا النحو على جهة العبادة ، والدعاء مخّ العبادة. وطلب النصر على العدو معجّلا لإعزاز الدين ، روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من وعده الله عزوجل على عمل ثوابا ، فهو منجزّ له رحمة ، ومن وعده على ذنب عقابا فهو فيه بالخيار».

ومعنى الدعاء بإنجاز ما وعد الله : طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب

٢١٠

إنجاز الميعاد ، أو هو من باب اللجوء إلى الله والخضوع له ، كما كان الأنبياء عليهم‌السلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع إليه.

٦ ـ تضمن وعد الله تعالى على صدق الإيمان وصلاح الأعمال أمورا ثلاثة :

أ ـ محو السيئات ومغفرة الذنوب ، لقوله تعالى : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ).

ب ـ الظفر بجنان الخلد ، لقوله تعالى : (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

ج ـ اقتران الثواب بالتكريم لقوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ).

٧ ـ الجزاء منوط بالعمل ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٨ ـ لا فرق بين الذكر والأنثى في العمل والثواب ، فهما من جنس واحد ، ومن نفس واحدة ، وبعضهم من بعض في التكليف والأحكام والطاعة والنصرة ونحو ذلك ، كقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة ٩ / ٧١].

٩ ـ تكرار النداء ب (رَبَّنا) خمس مرات للاستعطاف وإظهار فضل الله بالتربية والملك والإصلاح.

٢١١

الكافرون والأتقياء ومؤمنو أهل الكتاب وجزاء كل

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

الإعراب :

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : تقلبهم متاع قليل ، وحذف لدلالة ما تقدم وهو قوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ..).

(تَجْرِي) جملة فعلية في موضع رفع ؛ لأنها صفة لجنات ، أو في موضع نصب على الحال من الضمير : (لَهُمْ). (خالِدِينَ) منصوب على الحال من ضمير (لَهُمْ نُزُلاً) منصوب على المصدر ، والكلام عليه بمنزلة الكلام السابق على قوله : (ثَواباً).

(خاشِعِينَ) حال من ضمير (يُؤْمِنُ) المرفوع أو من ضمير (إِلَيْهِمْ) المجرور ، أو من ضمير (لا يَشْتَرُونَ) المرفوع ، أي لا يشترون خاشعين.

(اصْبِرُوا وَصابِرُوا) : لا يجوز أن تدغم هذه الواو الساكنة في الواو المفتوحة التي بعدها ؛ لأنها واو الضمير ، وهي تنزل منزلة ألف التثنية. وجاز الإدغام في (عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) لأن الواو متصل ، وأما واو (اصْبِرُوا وَصابِرُوا) فهو منفصل.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفلحون : جملة فعلية في موضع رفع خبر : «لعل».

٢١٢

البلاغة :

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ..) استعارة ، أستعير التقلب للضرب في الأرض بقصد التجارة وجلب المكاسب.

المفردات اللغوية :

(لا يَغُرَّنَّكَ) لا يخدعنك ظاهرهم من غير امتحان (تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) تصرفهم في التجارات والمكاسب في البلاد (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي شيء يتمتع به صاحبه تمتعا يسيرا في الدنيا ، ثم يفنى ويزول ، ووصف بالقلة ؛ لأنه قصير الأمد زائل ، وكل زائل قليل (مَأْواهُمْ) مصيرهم (جَهَنَّمُ) اسم لدار الجزاء للكفار في الآخرة (وَبِئْسَ الْمِهادُ) الفراش هي ، و (الْمِهادُ) : المكان الممهد الموطأ كالفراش ، والمراد به جهنم ، وسميت مهادا تهكما (نُزُلاً) هو ما أعد للضيف من الزاد وغيره (لِلْأَبْرارِ) جمع بارّ وهو التقي المبالغ في التقوى والبر ، أي ما عند الله من الثواب خير للصلحاء من متاع الدنيا.

(خاشِعِينَ) خاضعين (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) لا يستبدلون بما عندهم في التوراة والإنجيل من بعثة النبي عوضا من الدنيا (اصْبِرُوا) احبسوا أنفسكم عن الجزع مما ينالها ، وعلى امتثال التكاليف الدينية (وَصابِرُوا) اسبقوا الكفار في الصبر على شدائد الحرب ، فلا يكونوا أشد صبرا منكم. (وَرابِطُوا) أي أقيموا في الثغور للجهاد ، مترصدين لغزو العدو ومحصنين لها (وَاتَّقُوا اللهَ) أبعدوا أنفسكم عن غضب الله وسخطه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لتفلحوا أو راجين الفلاح : وهو الفوز بالجنة والنجاة من النار والظفر بالأمل المقصود من العمل.

سبب النزول :

نزول الآية (١٩٦):

(لا يَغُرَّنَّكَ) : نزلت في مشركي مكة ، فإنهم كانوا في رخاء ولين من العيش ، وكانوا يتجرون ويتنعمون ، فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت الآية.

نزول الآية (١٩٩):

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ) : روى النسائي عن أنس قال : لما جاء نعى النجاشي

٢١٣

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صلوا عليه ، قالوا : يا رسول الله ، نصلي على عبد حبشي ، فأنزل الله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ..) وكذلك قال جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة : نزلت في النجاشي.

نزول الآية (٢٠٠):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) : روى الحاكم في صحيحة : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ـ مخاطبا داود بن صالح ـ هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ..)؟ قال : قلت : لا ، قال : إنه يا ابن أخي ، لم يكن في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثغر يرابط فيه ، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة.

المناسبة :

لما وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم ، وكانوا في دنياهم فقراء ، والكفار في نعيم ورخاء ، ذكر تعالى في هذه الآية ما يسلّيهم ويصبرهم على تلك الشدة ، عن طريق المقارنة بين نعيمي الدنيا والآخرة ، فنعيم الدنيا فان زائل ، ونعيم الآخرة خالد باق.

التفسير والبيان :

لا تنظر إلى ما عليه الكفار من الترف والنعمة والسرور ، فإن هذا سيزول عنهم قريبا ، ويصبحون مرتبطين بأعمالهم السيئة ، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا ، وتنقلهم في البلاد للكسب والتجارة مجرد متاع قليل ، يتمتعون به فترة من الزمان ، ثم تصير جهنم مستقرهم ومأواهم ، وبئس المقر مقرهم في جهنم.

وهذا كقوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ..) غافر ٤٠ / ٤] وقوله : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ

٢١٤

لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ ، بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس ١٠ / ٦٩ ـ ٧٠] وقوله : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤] وقوله : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص ٢٨ / ٦١].

وبعد أن ذكر حال الكفار في الدنيا وأن مآلهم إلى النار ، ذكر حال المؤمنين المتقين : الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات ، ولهم جنات النعيم ، خالدين فيها أبدا ، تكريما من عند الله ، وما عند الله من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل مما يتمتع به الذين كفروا من متاع قليل فان. وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ، خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف ١٨ / ١٠٧ ـ ١٠٨]. روى ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما سمّوا الأبرار ؛ لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك عليك حقا ، كذا لولدك عليك حق». ثم أخبر الله تعالى عن طائفة من أهل الكتاب اهتدوا بالقرآن ، كما اهتدوا بما عندهم من هدي الأنبياء ، مثل عبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي ، وقد وصفهم الله بصفات ممتازة هي :

١ ـ الإيمان بالله إيمانا صادقا تاما.

٢ ـ الإيمان تفصيلا بالقرآن المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الكتاب الإلهي الوحيد الباقي السالم من التحريف.

٣ ـ الإيمان إجمالا بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل.

٤ ـ الخشوع لله وهو ثمرة الإيمان الصحيح ، ومتى خشع القلب لله خشعت النفس كلها.

٢١٥

٥ ـ عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله ، أي يحافظون على الوحي كما هو دون كتم شيء منه من البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وبعثته وصفة أمته دون تحريف ولا تبديل. فهؤلاء المتصفون بهذه الصفات سواء كانوا هودا أو نصارى لهم الثواب الكامل على أعمالهم وطاعاتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق ، والله سريع الحساب فهو سريع الإحصاء ، يحاسب الناس جميعا في وقت قصير حسابا لا خلل فيه ولا قصور ، ولا مهرب ولا معقب على حكم الله. وهذا كقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا : آمَنَّا بِهِ ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ، أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص ٢٨ / ٥٢ ـ ٥٤] وقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٩].

هذه الصفات وجدت في بعض اليهود وهم قلة مثل عبد الله بن سلام وأمثاله من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس ، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق ، كما قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى) إلى قوله تعالى : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) [المائدة ٥ / ٨٥].

ثم ختم الله تعالى هذه السورة بوصية عامة للمؤمنين تؤهلهم لإجابة الدعاء والنصر في الدنيا والثواب في الآخرة ، وتتضمن الوصية :

ـ الصبر على التكاليف الدينية ومنها الصلوات الخمس ، وعلى المصائب والشدائد من مرض وفقر وخوف.

ـ المصابرة للأعداء أي مسابقتهم إلى تحمل الشدائد والمكاره ، ومصابرة الأنفس والهوى.

٢١٦

ـ المرابطة في الثغور استعدادا للقاء العدو وفي المساجد ، وفي مواطن الاستعداد للجهاد على الحدود القريبة للأعداء ، روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» وفي صحيح مسلم عن سلمان قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتّان» أي الشيطان.

ـ تقوى الإله والخوف منه والحذر من عذابه ومراقبته في السر والعلن وامتثال المأمورات واجتناب المحظورات.

ولا شك أن من يلتزم بهذه الوصية يصل إلى الفلاح والفوز بالمأمول والنجاة والظفر في الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي وهي وصايا تصلح خلاصة لما تضمنته سورة آل عمران :

١ ـ عدم الاغترار بما عليه الكفار من سعة ورفاه ورغد عيش في الدنيا ، فذلك كله إلى زوال وعذابهم قريب في نار جهنم ، والباقي الخالد وهو نعيم الآخرة خير منه ، والإنعام على الإنسان مع بقائه على كفره ومعاصيه استدراج ، لا دليل الرضا عنه.

٢ ـ للأتقياء الطائعين جزاء حسن واف وهو الخلود في جنان الله الفسيحة ، إكراما لهم.

٣ ـ إن إقدام بعض أهل الكتاب على الإيمان بالقرآن هو استمرار للإيمان بكتبهم السابقة ، وهو خير لهم وأبقى.

٢١٧

٤ ـ الصبر على الطاعات ، ومصابرة العدو والنفس والهوى ، والمرابطة عند الثغور ، وتقوى الله طريق الفوز والنصر في الدنيا على الأعداء ، والنجاة من عذاب الله ، والظفر بنعيم الآخرة.

٢١٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النساء

مدنية وهي مائة وست وسبعون آية ، وهي السورة الرابعة من القرآن الكريم.

مدنيتها :

روى البخاري عن عائشة قال : «ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم». وبدأت حياتها مع النبي في شوال من السنة الأولى للهجرة.

فضلها :

روى الحاكم في مستدركه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) الآية ، و (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، و (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) و (لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الآية. ثم قال الحاكم : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه ، فقد اختلف في ذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وابن جرير الطبري عن ابن مسعود بعبارة مقاربة.

مناسبتها لآل عمران :

هناك أوجه شبه ووشائج صلة تربط بين السورتين أهمها :

٢١٩

١ ـ اختتام آل عمران بالأمر بالتقوى للمؤمنين ، وافتتاح هذه السورة بذلك للناس جميعا.

٢ ـ نزول آية (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ..) بمناسبة غزوة أحد ، مع نزول ستين آية في الغزوة في آل عمران.

٣ ـ نزول آية (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) بمناسبة غزوة حمراء الأسد بعد نزول آيات (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) في تلك الغزوة في آل عمران (١٧٢ ـ ١٧٥).

لتسمية :

سميت «سورة النساء الكبرى» لكثرة ما فيها من أحكام تتعلق بالنساء ، وسميت سورة الطلاق في مقابلها «سورة النساء القصرى».

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت السورة الكلام عن أحكام الأسرة الصغرى ـ الخلية الاجتماعية الأولى ، والأسرة الكبرى ـ المجتمع الإسلامي وعلاقته بالمجتمع الإنساني ، فأبانت بنحو رائع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني بكون الناس جميعا من نفس واحدة ، ووضعت رقيبا على العلاقة الاجتماعية العامة بالأمر بتقوى الله في النفس والغير وفي السر والعلن.

وتحدثت السورة بنحو مطول عن أحكام المرأة بنتا وزوجة ، وأوضحت كمال أهلية المرأة واستقلالها بذمتها المالية عن الرجل ولو كان زوجا ، وحقوقها الزوجية في الأسرة من مهر ونفقة وحسن عشرة وميراث من تركة أبيها أو زوجها ، وأحكام الزواج وتقديس العلاقة الزوجية ، ورابطة القرابة المحرمية والمصاهرة ، وكيفية فض النزاع بين الزوجين والحرص على عقدة النكاح ، وسبب

٢٢٠