التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

والحقيقة أن لله ما في السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فكيف يصح لقوم يبخلون عليه بملكه ، ولا ينفقونه في سبيله. وهذا مثل قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد ٥٧ / ٧] فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عزوجل ، فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم ، والله خبير بنياتكم وضمائركم وأعمالكم ، لا تخفى عليه خافية منها ، ويجازي كل نفس بما كسبت من خير أو سوء.

فقه الحياة أو الأحكام :

لا داعي للغم والحزن على مناصرة الكفار واليهود والمنافقين ألوان الكفر ، فهم لن يضروا إلا أنفسهم ، بتعريضها للعذاب الشديد ، وبالإعلام عن سوء تصرفهم وسخف عقولهم وخطأ رأيهم ، ولن يضروا بالتأكيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن المطلوب منه هو الإبلاغ ، والله مؤيده وناصره وحافظه وعاصمه من الناس.

لكن قال القشيري : والحزن على كفر الكافر طاعة ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفرط في الحزن على كفر قومه ، فنهي عن ذلك ، كما قال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٣٥ / ٨] وقال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف ١٨ / ٦].

ولن يضروا الله شيئا أي لا ينقصون من ملك الله وسلطانه شيئا بكفرهم. وقد أكد تعالى هذا المعنى في كلتا الآيتين (١٧٦ ، ١٧٧) فهم سواء بادروا إلى نصرة الكفر ، أو أخذوا الكفر بدلا عن الإيمان ، لن يضروا الله شيئا قليلا ولا كثيرا ، وإنما يضرّون أنفسهم بما أوجبوا لها من العذاب الأليم.

والله تعالى لا يعجل أحدا بعقوبة على ذنب ولو كان الذنب كالكفر كبيرا ، وإنما يمهله ويزيد في عمره ويوفر له رغد العيش ليتوب ويتمكن من العمل الصالح ، فكأن شأن الإمهال وإطالة العمر أن يحقق الأثر المنشود وهو الإيمان

١٨١

وطاعة الله والرسول وزيادة الحسنات ، والإقلال من السيئات ، ولكن الأمر في واقع الناس مفهوم خطأ ، فاستمروا في غيهم وضلالهم وكفرهم ، وتوهموا أن زيادة العمر ورغد العيش وإرجاء العذاب عنهم هو خير لهم ، مع أنه شر مستطير وسبب لزيادة الإثم والذنب ، واستحقاق العذاب الأليم جزاء وفاقا.

لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين ويشككونهم في جدوى الإيمان والعمل الصالح أنهم يفعلون خيرا ، فإن الله قادر على إهلاكهم ، ولا يظنون أن ما أصابوه من ظفر يوم أحد كان خيرا لهم ، وإنما كان ذلك سببا في زيادة عقوبتهم. قال ابن مسعود : ما من أحد برّ ولا فاجر إلا والموت خير له ؛ لأنه إن كان برّا فقد قال الله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [آل عمران ٣ / ١٩٨] وإن كان فاجرا فقد قال الله : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً).

وفي الشدائد والمحن اختبار مدى صدق الإيمان ، فبها يتميز المؤمن والمنافق ، وحينئذ ينكشف حال المنافقين فيحذرهم المسلمون ، ويقدرون مدى ما لديهم من القوة الصحيحة التي يمكن الاعتماد عليها ، بل إن المحنة توضح مدى إيمان المؤمن ، فلا يغتر بالظواهر ، ويقف على حقيقة حاله من ضعف في الاعتقاد ، وفساد في الأخلاق ، ومرض في النفس.

والاطلاع على الغيب مقصور على الأنبياء والرسل ، فهم أهل الكرامة والمرتبة العالية التي تؤهلهم لذلك الاطلاع ، وما على الناس إلا أن يؤمنوا بما جاء به الرسل من أخبار الغيب ، ويتقوا الله حق تقاته بامتثال المأمورات وترك المنهيات والمحظورات. ولا يشتغل الكفار بما لا يعنيهم من تعريفهم بمن يؤمن منهم ومن لا يؤمن ، وعليهم الاشتغال بما يعنيهم وهو الإيمان أي التصديق واليقين لا التشوف إلى اطلاع الغيب ، فإن آمنوا واتقوا لهم الجنة.

ودلت آية (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ..) على ما يأتي :

١٨٢

١ ـ لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم ، بل هو شر لهم ؛ لأنهم ببخلهم يعرّضون أموالهم للضياع والتلف والسرقة وغيرها ، ويضرون أمتهم لتقصيرهم بما يجب عليهم من التكافل الاجتماعي والتعاون على القضاء على ظاهرة الفقر ، والفقر يضر بالأمة جمعاء ، وحياة الأمم متوقفة على بذل النفس والمال.

والفرق بين البخل والشح : أن الأول : هو الامتناع من إخراج ما حصل عندك ، والثاني : الحرص على تحصيل ما ليس عندك. والصحيح أن الشح هو البخل مع حرص ، لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم».

٢ ـ (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدل على بقاء الله تعالى ودوام ملكه ، وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين ، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم ، فتبقى الأملاك والأموال لا مدّعى فيها ، فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق ، وهو ليس بميراث في الحقيقة ، لأن الوارث في الحقيقة : هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل ، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم ١٩ / ٤٠] والمعنى في الآيتين : أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى ، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.

٣ ـ علم الله تعالى واسع ودقيق ، فهو يعلم صغار الأشياء والأعمال وكبارها ، ويعلم ما دقّ وخفي من الأعمال ، بل يعلم السر وأخفى ، فيجازي كل عامل بما عمل ، ويكافئه بحسب نيته ، كما جاء في الحديث المشهور عن عمر لدى الشيخين : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».

١٨٣

بعض قبائح اليهود من نسبة الفقر إلى الله وتكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

الإعراب :

(سَنَكْتُبُ ما ما) : مفعول به ، و (قَتْلَهُمُ) : معطوف منصوب على (ما) و (الْأَنْبِياءَ) منصوب بالمصدر المضاف وهو (قَتْلَهُمُ) ، وقرئ سيكتب بالبناء للمجهول ، وحينئذ تكون (ما) مرفوعا نائب فاعل.

البلاغة :

(إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أكد اليهود نسبة الفقر إلى الله على سبيل المبالغة والإغراق في الكفر ، ووصفوا أنفسهم بالغنى بجملة اسمية دون تأكيد للدلالة على أن الغنى وصف لازم لهم لا يحتاج لمؤكد.

(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) الله لا يكتب وإنما يأمر بالكتابة ملائكته ، فأسند الفعل إليه من قبيل المجاز العقلي.

١٨٤

(قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل ، وذكر الأيدي بالذات لكثرة تداول الأعمال بهن.

(تَأْكُلُهُ النَّارُ) إسناد الأكل إلى النار من طريق الاستعارة ؛ لأن حقيقة الأكل تكون للإنسان والحيوان. يوجد طباق بين (فَقِيرٌ) و (أَغْنِياءُ) وجناس مغاير في (قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) وفي (كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ). (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ليست للمبالغة وإنما هي للنسب مثل عطار ونجار.

المفردات اللغوية :

(سَنَكْتُبُ) نأمر بكتب (ما قالُوا) أي نأمر بكتب أقوالهم في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه ، والمراد : أننا سنعاقبهم عليه (ذُوقُوا) أصل الذوق : إدراك الطعم في الفم ، ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات ، وهو المراد هنا (الْحَرِيقِ) المحرق والمؤلم ، والحريق : اسم للملتهبة من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة والمراد عذاب هو المحرق والمؤلم ، وهو النار ، فعذاب الحريق يراد به عذاب هو الحريق ، أي سننتقم منهم (عَهِدَ إِلَيْنا) أي أمرنا في التوراة وأوصانا به.

(بِقُرْبانٍ) هو ما يتقرب به إلى الله من حيوان ونقد وغيرهما ، أي فلا نؤمن لك حتى تأتينا به ، والمراد من النار : النار التي تنزل من السماء. (قُلْ) لهم توبيخا (بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحة (وَالزُّبُرِ) جمع زبور وهو الكتاب ، مثل صحف إبراهيم (الْمُنِيرِ) الواضح ، وهو التوراة والإنجيل ، أي إذا كذبك الناس فتكذيب الرسل أمر شائع فيمن قبلك ، فاصبر كما صبروا.

سبب النزول :

نزول الآية (١٨١):

(لَقَدْ سَمِعَ) : أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر بيت المدارس (١) ، فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له (فنحاص) فقال له : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا ، كما يزعم صاحبكم ، فغضب أبو بكر ، فضرب

__________________

(١) المدراس والمدرس : الموضع الذي يدرس فيه ، والمدرس أيضا : الكتاب.

١٨٥

وجهه ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد ، انظر ما صنع صاحبك بي ، فقال :

يا أبا بكر ، ما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رسول الله ، قال قولا عظيما ، يزعم أن الله فقير ، وأنهم عنه أغنياء ، فجحد فنحاص ، فأنزل الله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزل الله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فقالوا : يا محمد ، افتقر ربك ، يسأل عباده ، فأنزل الله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ ..) الآية.

المناسبة :

تناولت الآيات السابقة أحداث معركة أحد ، وما صاحبها من مكائد المنافقين ودسائسهم ومحاولاتهم تثبيط عزائم المسلمين عن الجهاد. وبدأت هذه الآيات ببيان دسائس اليهود في محاربة المسلمين ، ليحذرهم الله منها كما حذرهم من المنافقين. غير أن أفعال اليهود كبائر ومخازي لا تحتمل ، مثل نسبتهم الفقر إلى الله ، ونقضهم العهود ، وقتلهم الأنبياء ، وخيانة الأمانة.

هذه الآيات تسجيل لبعض قبائح اليهود ، فإنه تعالى سمع قولهم الشنيع وسيعاقبهم عليه أشد العقاب ، وهو تهديد ووعيد على مقالتهم ، وهي نسبة الفقر إلى الله والغنى إلى أنفسهم ، ولكنه تعالى سيجازيهم على ذلك ، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه إنزال العقوبة عليه.

ومن جرائمهم الشنيعة قتلهم الأنبياء قديما بغير حق ولا ذنب ، ونسبة القتل إلى اليهود المعاصرين في زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع أنه كان من أجدادهم ؛ لأنهم كانوا راضين عنه ، مقرين بما ارتكبوا ، متعاطفين مع بني جنسهم ، مما يدل على أن

١٨٦

الأمة متكافلة متضامنة فيما بينها في القضايا العامة ، وأنها تؤخذ بجريرة وذنب أفرادها ، إذا كانوا مقرين أفعالهم ولم ينكروها عليهم.

لذا قال تعالى : (وَنَقُولُ : ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار ، أي سيجازيهم الله على ذلك شر الجزاء ، وإن هذا العذاب المحرق المؤلم بسبب أعمالكم في الدنيا وبما سلف من الذنوب كقتل الأنبياء ، ووصف الله بالفقر ، ومناصرة الكفر وغير ذلك. وأضيف العمل إلى الأيدي ؛ لأن أكثر أعمال الناس تكون بالأيدي ، وللدلالة على أن العذاب بسبب عملهم الصادر منهم حقيقة ، ولتوليهم الفعل ومباشرته ، بل إنهم حاولوا قتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإلقاء الجدار عليه في المدينة ، وبدس السم في شاة في خيبر.

وليس هذا العذاب في غير محله ، وإنما هو في غاية العدل والحكمة ؛ لأن الله لا يظلم أحدا ، ولأنه لا يعقل التسوية بين العاصي والطائع ، وبين الكافر والمؤمن ، كما قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية ٤٥ / ٢١]. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) [القلم ٦٨ / ٣٥ ـ ٣٦] (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨].

يقال لهم تلك المقالات : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) تقريعا وتوبيخا ، وتحقيرا وتصغيرا ، وتبيانا لبشاعة جرائمهم ، وذلك إما في جهنم ، أو عند الموت ، أو عند الحساب ، والقائل إما الله أو الملائكة.

ثم يقول تعالى تكذيبا لليهود أيضا الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا لرسول ، حتى يكون من معجزاته : أن من تصدق بصدقة من أمته أي قربان ، فتقبلت منه : أن تنزل نار من السماء تأكلها.

١٨٧

والقربان : ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك (إراقة دم من المواشي) وصدقة وعمل صالح.

والقصد من زعمهم هذا عدم الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لم يأت بما قالوه ، ولو أتى به لآمنوا.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف ، وفنحاص بن عازوراء في جماعة آخرين ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ، تزعم أنك رسول الله ، وأنه تعالى أوحى إليك كتابا ، وقد عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، ويكون للنار دويّ خفيف حين تنزل من السماء ، فإن جئتنا بهذا صدقناك ، فنزلت الآية.

ولكن ادعاء هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم ، لذا ردّ الله تعالى موبخا لهم ومكذبا ، بأن نزول النار معجزة ، والمعجزة لتأييد الرسالة ، وإثبات صدق النبي المبعوث ، وقد جاءكم رسل كثيرون مثل زكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات أو بالبينات الواضحة الدالة على صدق نبوتهم ، فلم كذبتموهم؟ ولم تصدقوهم ، ولم قتلتموهم؟ إن كنتم صادقين أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.

وقد نسب هذا الفعل لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل القرآني ، مع أن تلك الجرائم كانت من أسلافهم ؛ لأنهم كما بينا سابقا رضوان عما فعلوه ، معتقدون أنهم على حق في ذلك ، والأمة أو القبيلة عادة تتأثر بصنع بعض أفرادها ، ويعيبها جرمه وانحرافه ، لنسبته إلى تلك الجماعة.

ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي معزّيا ومؤنسا له ، ومخففا عليه سوء موقف اليهود وأمثالهم وهم قومه ، وتكذيب الفريقين ، فأخبر : إن كذبوك بعد أن جئتهم بالدلائل ـ والمعجزات ، فقد كذّب رسل من قبلك ، جاؤوا بمثل ما جئت به من البينات والمعجزات ، والكتب ذات الأصل الإلهي كالصحف المنزلة

١٨٨

على المرسلين ، والكتاب المنير أي الواضح الجلي وهو التوراة والإنجيل والزبور ، فصبروا على الأذى والسخرية ، والمخالفة والمعاندة. وهذا من طبيعة البشر في كل زمن ، منهم من يصغي إلى الحق ، ومنهم من يقاومه ويهزأ بصاحبه ، فلا تعجب من مقاومة دعوتك ، فإن نفوسهم لا تنشد الوصول إلى الحق ، ولا تبغي الخير.

فقه الحياة أو الأحكام :

لم يرتكب شعب في الدنيا جرائم شنيعة مثل اليهود ، ولم يقتصر إجرامهم على البشرية ، وإنما تجاوز ذلك إلى الله والرسل ، فقالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، وقتلوا الأنبياء بغير حق ولا ذنب ، لذا قرعهم الله تعالى في القرآن الكريم وهددهم وأنذرهم بعذاب النار على أفعالهم.

والسلف والخلف منهم راضون بتلك الجرائم ، لذا صحت نسبة الجريمة إلى المتأخرين منهم ، وإضافتها إليهم مع أن القول السابق وقتل الأنبياء حدثا من أسلافهم ، وكان بينهم نحو سبعمائة سنة. وهذا يدل على أن الرضا بالمعصية معصية ، وقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا عملت الخطيئة في الأرض ، كان من شهدها فكرهها ـ وقال مرة : فأنكرها ـ كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها».

ومن جرائمهم : الكذب السافر على الله وافتراؤهم عليه أنه عهد إليهم وأنزل عليهم كتابا فيه : ألا يؤمنوا لرسول يزعم أنه من عند الله ، حتى يأتيهم بقربان تأكله النار. ويكون هذا من قبيل المعجزة الدالة على صدقه.

فرد الله تعالى عليهم أن معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليل قاطع في إبطال دعواهم ، وكذلك معجزات عيسى ، ومن علم صدقه وجب تصديقه.

والقضية قضية مخالفة ومعاندة ، وليست قضية قناعة وحجة وبرهان ،

١٨٩

فوضح الأمر وبان الطريق ، والناس في الماضي والحاضر وكل زمان : منهم من يصغي إلى الحق ويستجيب لندائه ، كما فعل الكثير من الناس ومنهم بعض اليهود الذين قبلوا بالإيمان بدعوة الإسلام والقرآن ، ومنهم من يجهر بمقاومة الحق ، ومناصرة الباطل ، والإعراض عن دعوة الله الخيّرة المحققة لنفع البشرية وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

الموت مصير كل نفس والثواب يوم القيامة والابتلاء في الدنيا

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

الإعراب :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) مبتدأ وخبر ، جملة تامة مفيدة.

(وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) : ما في (إِنَّما) كافة ، ولا يجوز أن تكون بمعنى الذي ؛ لأنها لو كانت بمعنى الذي لوجب رفع (أُجُورَكُمْ) على أنه الفاعل ، وتقديره : إن الذي توفّونه أجوركم.

البلاغة :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) استعارة مثل قوله (تَأْكُلُهُ النَّارُ) لأن حقيقة الذوق تكون بحاسّة اللسان ، كما أن حقيقة الأكل للإنسان والحيوان.

١٩٠

(زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) فيه ما يسمى في علم البديع بالمقابلة.

(مَتاعُ الْغُرُورِ) استعارة ، شبه الدنيا بالمتاع الذي يغرر به المشتري ثم يظهر فساده ، والمدلّس والمغرر هو الشيطان (١).

المفردات اللغوية :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي أن الموت مصير كل نفس ونهاية كل حي ، ولا يبقى إلا وجهه الكريم (تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) تعطون جزاء أعمالكم وافيا غير منقوص. ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها : أن كلكم تموتون ، ولا بد لكم من الموت ، ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم ، وإنما توفونها يوم قيامكم من قبوركم ، والتوفية : تكميل الأجور ، وما يكون قبل ذلك في القبر من روضة أو نعمة فبعض الأجور.

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) نحّي عنها وأبعد ، والزحزحة : التنحية والإبعاد.

(فَقَدْ فازَ) نال غاية مطلوبة ، وسعد ونجا أي تحقق له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به ، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله ، والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي العيش فيها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) المتاع : ما يتمتع وينتفع به مما يباع ويشترى ، والغرور : مصدر غره أي خدعه ، والغرور : الخداع والغش ، أي أن الدنيا مثل المتاع المشترى بسبب التغرير والغش والخداع ثم يتبين له فساده ورداءته. عن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فأما من طلب الآخرة بها ، فإنها متاع بلاغ.

(لَتُبْلَوُنَ) لتختبرن أي لتعاملن معاملة المختبر ، لتظهر حالتكم على حقيقتها.

(فِي أَمْوالِكُمْ) بإيجاب الزكاة المفروضة فيها والنفقة في سبيل الله ، وبالجوائح والآفات (وَأَنْفُسِكُمْ) بالقتل والأسر والجراح والمخاوف والمصائب في سبيل الله وبالعبادات المفروضة ، وبالأمراض وفقد الأحبة والأقارب.

(أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم مشركو العرب.

(أَذىً كَثِيراً) كالسب والطعن في الدين والافتراء على الله والرسول والتشبيب بنسائكم.

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك ، والصبر : حبس النفس على ما تكره وكظم الغيظ ومقاومة الجزع والشدة بالتقوى والرضا (وَتَتَّقُوا) الله بامتثال الأمر واجتناب النهي ، والتقوى : الابتعاد عن المعاصي والتزام المأمورات.

__________________

(١) الكشاف ١ / ٣٦٦

١٩١

(مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي من معزومات الأمور التي يعزم عليها لوجوبها. والمعنى : أن الصبر والتقوى من صواب التدبير ، وقوة الإرادة ، وكمال العقل والفكر ، ومن الأمور المحتمة التي لا يجوز التساهل فيها.

سبب النزول :

نزول الآية : (وَلَتَسْمَعُنَّ ..) : روى ابن أبي حاتم وابن المنذر بسند حسن عن ابن عباس أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص من قوله السابق : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ).

وذكر عبد الرزاق : أنها نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشعر ، ويحرض عليه كفار قريش في شعره.

المناسبة :

كانت الآيات السابقة تسلية وتعزية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستمرت هذه الآيات في زيادة تسليته بأن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية ، وكل آت قريب ، فلا تضجر ولا تحزن ، وإنهم سيجازون على أعمالهم يوم القيامة ، فإن أمد الدنيا قريب ، ويوم القيامة يوم الجزاء.

وهي أيضا خطاب للمؤمنين ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها ، حتى إذا فاجأتهم بغتة ، وهم مستعدون لتحملها ، لم يرهقهم شيء ، كما يرهق غير المؤمن فتضيق نفسه ويشمئز ويكره الحياة.

التفسير والبيان :

هذا إخبار عام من الله تعالى يعم جميع الخلائق بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن ٥٥ / ٢٦ ـ ٢٧] فكل الجن والإنس والملائكة وحملة العرش يموتون ، والله وحده الحي القيوم الذي لا يموت ، ينفرد بالديمومة والبقاء ، فيكون آخرا كما كان أولا.

١٩٢

وفي الآية تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض وفي السماء حتى يموت ، وتذوق كل نفس طعم مفارقة الروح البدن. ثم يوم القيامة توفى كل نفس بما عملت ، من خير أو شر ، وتعطى ثواب عملها الطيب كاملا غير منقوص ، ويجازى المسيء الجزاء الأوفى ، فلا تظلم نفس شيئا ، وإن كان مثقال ذرة.

وفي ذكر توفية الأجور على الطاعات والمعاصي إشارة إلى أن بعض الأجور من خير أو شر قد تصل إليهم في الدنيا أو في القبور ، بدليل ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».

فمن نحّي عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة ، فقد فاز بالمقصد الأسمى والمطلوب الأعلى الكامل ، ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته ، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه». وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها». اقرؤوا إن شئتم : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ). فاللهم وفقنا لما ندرك به الفوز بالجنة والنجاة من النار.

وما الحياة الدنيا التي نعيشها ونستمتع بها باللذات الجسدية من طعام وشراب والمعنوية من جاه ومنصب وسمو إلا كالمتاع المشترى بخداع وتغرير ، ثم يتبين فساده ورداءته ؛ لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع بها ، أو لأنها حقيرة متروكة فانية زائلة ، كما قال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى ٨٧ / ١٦ ـ ١٧] وقال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها ،

١٩٣

وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) [القصص ٢٨ / ٦٠] وفي الحديث : «والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع» (١).

وتهوين شأن الدنيا على هذا النحو لمن آثرها على الآخرة ، قال سعيد بن جبير : «إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ» (٢). فمن فضل الدنيا على الآخرة ، كان كمن اشترى صفقة خاسرة ، غشه فيها البائع ودلس عليه ، ثم تبين له فسادها ورداءتها.

ثم أراد تعالى بعد غزوة أحد توطين النفس وتربيتها على تحمل الأهوال والشدائد والمصائب ، فخاطب النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين مخبرا إياهم : أن الدنيا دار ابتلاء واختبار في الأنفس والأموال ؛ ففي الأنفس : بالقتل والأسر والجراح وأنواع المخاوف والمصائب ، وفي الأموال : بالإنفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات ، وهي مثل قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة ٢ / ١٥٥].

وأن المسلمين ونبيهم يسمعون ما يؤذيهم أذى كثيرا من اليهود والنصارى ومشركي العرب ، والأذى قد يتناول الدين والقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن الله تعالى قال للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما ينالهم من الأذى من هؤلاء ، وواصفا لهم العلاج الناجع وهو الصفح والصبر والعفو والتزام تقوى الله بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، فإن تحقق منهم ذلك آتاهم أجرين من رحمته ؛ لأن الصبر والتقوى من معزومات الأمور ، أي التي ينبغي أن يعزمها كل أحد.

__________________

(١) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن المستورد.

(٢) الكشاف : ١ / ٣٦٦

١٩٤

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الحقائق التالية :

١ ـ الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، وكل شيء هالك إلى وجه الله الكريم ، وكل حي سيموت ، وأن الآخرة دار الجزاء والحساب ، وأن السعادة كل السعادة ، في الفوز بالجنة ، والنجاة من النار.

ويسن عند احتضار الميت تلقينه الشهادة دون إعادة لئلا يضجر ، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي سعيد : «لقنوا موتاكم : لا إله إلا الله» لتكون آخر كلامه فيختم له بالشهادة. ويستحب قراءة (يس) ذلك الوقت ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «اقرؤوا يس على موتاكم» (١). وذكر الآجرّي من حديث أم الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هوّن عليه الموت».

ويغسل الميت إلا الشهيد ويكفّن ويصلى عليه ويدفن في التراب ، ويسن الإسراع في المشي بالجنازة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة : «أسرعوا بالجنازة ، فإن تك صالحة فخير تقدّمونها إليه ، وإن تكن غير ذلك فشرّ تضعونه عن رقابكم».

٢ ـ إن إيفاء الأجور على الطاعات والعقاب على السيئات مقره يوم القيامة ، فأجر المؤمن ثواب ، وأجر الكافر عقاب.

٣ ـ الدنيا غرارة تغر المؤمن وتخدعه ، فيظن طول البقاء وهي فانية. وهي أشبه بالمتاع الحقير الذي يتمتع وينتفع به كالفأس والقدر والدلو والقصعة ، ثم يزول ولا يبقى ملكه. وهذا رأي أكثر المفسرين في قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

__________________

(١) أخرجه أبو داود.

١٩٥

٤ ـ لا اطمئنان إلى نعيم الدنيا ولا إلى إعراضها وفقدها ، فالناس فيها في مرصد الاختبار والابتلاء في الأموال بالمصائب والأحداث ، والإنفاق في سبيل الله ، وسائر تكاليف الشرع ، وفي الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحباب.

وقد يتأذى المؤمن بطعن في قرآنه ودينه ونبيه ، فعليه الصبر والاعتصام بالتقوى ، والإعراض عن الطاعنين الكافرين ، والثبات على العقيدة ، وتحمل الشدائد والقتال في سبيل الله عند اللزوم ، فقد ندب الله عباده إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي من معزوماتها التي ينبغي أن يعزمها كل أحد ، وهي دليل على قوة الإرادة ، ومضاء العزيمة ، وعلو الهمة. قال القرطبي : عزم الأمور : شدها وصلابتها.

والأظهر أن هذه الآية ـ كما ذكر القرطبي ـ ليست بمنسوخة ، فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا ، مندوب إليها ، وكان عليه الصلاة والسلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم ، ويصفح عن المنافقين (١).

أخذ الميثاق على أهل الكتاب بالبيان للناس

ومحبتهم المدح بغير موجب

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ٣٠٤

١٩٦

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

الإعراب :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) هذه القراءة بالتاء ، ويكون (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) منصوبا على أنه مفعول أول ، وحذف المفعول الثاني لدلالة ما بعده عليه وهو قوله (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) ويكون قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) بدلا من (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) والفاء زائدة ، فلا تمنع البدل ، وهذا على هذه القراءة وعلى قراءة من قرأ بالياء.

ومن قرأ : (يحسبن) بالياء جعل (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) في موضع رفع فاعل ، و (الَّذِينَ) : اسم موصول ، و (يَفْرَحُونَ) : صلته ، و «هم» من قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) المفعول الأول. و (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) : في موضع المفعول الثاني ، وتقديره : فائزين. ومن قرأ الأول بالياء والثاني بالتاء فلا يجوز فيه البدل لاختلاف فاعليهما ، ولكن يكون مفعولا الأول قد حذفا لدلالة مفعولي الثاني عليهما.

البلاغة :

(فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) توجد استعارة في النبذ والاشتراء ، إذ شبه عدم التمسك بالميثاق بالشيء المنبوذ الملقى ، وشبه العمل بالبديل باشتراء عوض قليل من أموال الدنيا ، مقابل كتم آيات الله.

وتوجد مقابلة بين (لَتُبَيِّنُنَّهُ) و (وَلا تَكْتُمُونَهُ).

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ) اذكر إذ أخذ (مِيثاقَ) الميثاق : العهد المؤكد ، وهو العهد المأخوذ عليهم في التوراة بواسطة الأنبياء. (أُوتُوا الْكِتابَ) هم اليهود والنصارى. (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار بما فيها خبر نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى يعرفه الناس على وجهه الصحيح. (وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي لا تخفون الكتاب. (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) طرحوا الميثاق ولم يعتدّوا به.

(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أخذوا بدله من الدنيا عوضا حقيرا ، بسبب رياستهم في العلم ، فكتموه. (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) شراؤهم هذا.

١٩٧

(أَتَوْا) بما فعلوا في إضلال الناس. (أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) أن يحمدهم الناس بما لم يفعلوا من التمسك بالحق ، وهم على ضلال. (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد. (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) أي بمنجاة من العذاب في الآخرة ، بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم فيها.

سبب النزول :

نزول الآية (١٨٨):

(لا تَحْسَبَنَ) : روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف : أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا ، لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب ، سألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء ، فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.

وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو ، تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ، فإذا قدم اعتذروا إليه ، وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت الآية : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) الآية.

وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان ، فقال مروان : يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا)؟ قال رافع : نزلت في ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتذروا وقالوا : ما حسبنا عنكم إلا شغل ، فلوددنا أنا معكم ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، وكان مروان أنكر ذلك ، فجزع رافع من ذلك ، فقال

١٩٨

لزيد بن ثابت : أنشدك بالله ، هل تعلم ما أقول؟ قال : نعم.

قال الحافظ ابن حجر : يجمع بين هذا وبين قول ابن عباس بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا.

المناسبة :

تحدثت سورة آل عمران عن أهل الكتاب ، فناقشت النصارى ، وحكت أفعالا غريبة عن اليهود ومطاعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستتبع ذلك بيان غزوتي أحد وبدر ، وهنا ذكرت الآيات حالا عجيبة لليهود والنصارى وهي الطعن في الدين ، مع أنهم أمروا ببيان ما في كتابهم (التوراة والإنجيل) من دلائل ناطقة بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق رسالته.

التفسير والبيان :

هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ينوهوا بذكره في الناس ، فيكونوا على أهبة من أمره ، فكتموا ذلك ، وأخذوا عوضا زهيدا عنه ، وفاتهم ما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم.

وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم ، فيصيبهم ما أصابهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من سئل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (١).

وبيان معنى الآية : اذكر يا محمد حين أخذ الله العهد المؤكد (الميثاق) على أهل الكتاب من اليهود والنصارى بوساطة الأنبياء : أن يبينوا كتابهم للناس

__________________

(١) رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن أبي هريرة.

١٩٩

ويظهروه من غير كتمان شيء منه ، وألا تحريف أو تأويل لبعض نصوصه ، وتبيانه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم ، ولغير المؤمنين به لدعوتهم إليه.

لكنهم نبذوا كتابهم وراء ظهورهم ، وتركوا التوراة والإنجيل ، وكان منهم فئة يحملونه دون فهم ولا وعي لما جاء فيه ، وفئة أخرى حرّفوه وأولوه على غير وجهه الصحيح ، واشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا ، أي أخذوا عوضا عنه فائدة دنيوية حقيرة كالشهرة الزائفة ، والرياسة الظاهرة ، والمال الزائل ، فكانوا في الحقيقة مغبونين في هذا البيع أو المبادلة ، إذ تركوا الغالي الثمين في الدنيا والآخرة وهو الخير الذي وعدوا به ، وأخذوا التافه الحقير ، وهو الرشاوى والهبات والمنح المالية ليحافظوا على كيانهم ومراكزهم.

فبئس الشيء المشترى من شرائهم ؛ لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم.

وهذا يدل على وجوب نشر العلم وتعليمه للناس ، قال علي كرّم الله وجهه : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا. وقال الحسن البصري : لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.

ثم بيّن تعالى موقف المرائين المتكثرين من أهل الكتاب والمنافقين بما لم يعطوا ، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها ، لم يزده الله إلا قلّة» وفي الصحيحين أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور».

هذه حال أخرى من أحوال أهل الكتاب وغيرهم ، ليحذر الله المؤمنين منها ، فلا تظنن يا محمد أن الذين موّهوا الحقائق ، وكتموا العلم الصحيح ودلّسوا عليك ، وفرحوا بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب ، ورأوا لأنفسهم شرفا فيه وفضلا يستحقون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه ، ويشكروا على شيء بغير

٢٠٠