التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

يَمْسَسْهُمْ) من قتل أو جرح. (إِنَّما ذلِكُمُ) أي القائل لكم المثبط : إن الناس. (الشَّيْطانُ) المراد بالشيطان نعيم بن مسعود أو أبو سفيان. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف بمعنى : إن ذلكم قول الشيطان أي قول إبليس لعنه الله ، وهو الأولى.

(يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) يخوفكم أنصاره من المشركين ، وهم أبو سفيان وأصحابه. (وَخافُونِ) في ترك أمري. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦٩):

(وَلا تَحْسَبَنَ) : روى أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ، لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) الآية وما بعدها ، وروى الترمذي عن جابر نحوه.

نزول الآية (١٧٢):

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا) : أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب بعد الذي كان منه يوم أحد ، فرجع إلى مكة ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب ، وكانت وقعة أحد في شوال ، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد ، وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك ، فندب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ، لينطلقوا معه ، فجاء الشيطان فخوف أولياءه ، فقال : إن الناس قد جمعوا لكم ، فأبي عليه الناس أن يتبعوه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١٦١

«إني ذاهب ، وإن لم يتبعني أحد» فانتدب معه أبا بكر وعمر وعثمان وعليا والزبير وسعدا وطلحة وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبا عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا ، فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآية.

وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما رجع المشركون من أحد ، قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواكب أردفتم ، بئس ما صنعتم ، ارجعوا ، فسمع رسول الله ، فندب المسلمين ، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد ، أو بئر أبي عتبة ، فأنزل الله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآية. وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا ، فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال ، فأتوه ، فلم يجدوا به أحدا ، وتسوقوا فأنزل الله : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) الآية.

وأخرج ابن مردويه عن أبي رافع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان ، فلقيهم أعرابي من خزاعة ، فقال : إن القوم قد جمعوا لكم ، قالوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فنزل هذه الآية.

تاريخ غزوة حمراء الأسد :

روي أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد ، فبلغوا الرّوحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا وهمّوا بالرجوع ، حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين ، فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب أصحابه للخروج في إثر أبي سفيان وقال : لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جماعة من أصحابه ، حتى بلغوا حمراء الأسد (موضع على ثمانية أميال من المدينة) وكان بأصحابه القراح (الجراح)

١٦٢

فتحاملوا على أنفسهم ، حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين ، فذهبوا إلى مكة مسرعين ، فنزلت الآية.

وتسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد ، وهي تابعة لغزوة أحد.

تاريخ غزوة بدر الصغرى :

روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن آية (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) نزلت في غزوة بدر الصغرى.

وهي أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاك بيننا وبينك إن شاء الله ، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل (مجنّة) من ناحية (مرّ الظهران) فألقى الله الرعب في قلبه ، فبدا له الرجوع ، فلقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا ، فقال له أبو سفيان :

إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ، ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن أرجع ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج ، فيزيدهم ذلك جرأة ، فالحق بالمدينة فثبّطهم ، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي سهيل بن عمرو.

فأتى نعيم المدينة ، فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان ، فقال لهم : ما هذا بالرأي ، أتوكم في دياركم وقراركم ، ولم يفلت منكم إلا شريد ، فتريدون أن تخرجوا إليهم ، وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم ، فو الله لا يفلت منكم أحد ، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذين نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي» فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى وافى بدرا

١٦٣

الصغرى «بدر الموعد» فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان ، فلم يلق أحدا ؛ لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة ، وكان معه ألفا رجل ، قسماه أهل مكة : «جيش السويق» وقالوا لهم : إنما خرجتم لتشربوا السويق.

ووافي المسلمون سوق بدر ، وكانت معهم نفقات وتجارات ، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا ، فربحوا وأصابوا بالدرهم الدرهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.

المناسبة :

هذه الآيات متصلة بما قبلها ، فبعد أن ذكر الله تثبيط المنافقين للراغبين في الجهاد ، وقولهم : لو قعدوا في المدينة ما قتلوا : والرد عليهم بأن الموت يحدث بقضاء الله وقدره ، أبان هنا منزلة الشهداء ، حتى لا يتأثر أحد بأقوال المنافقين ، وليكون ذلك حثا على الجهاد في سبيل الله.

التفسير والبيان :

الآية في شهداء أحد.

يخبر الله تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في الدنيا ، فإن أرواحهم حية مرزوقة في الدار الآخرة ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ، والمعنى : لا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين المتقدم أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا لا يجازون على أعمالهم التي قدموها ، بل هم أحياء في عالم آخر ، مقربون عند ربهم ، ذوو زلفى ، كقوله تعالى : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [فصلت ٤١ / ٣٨] ، يرزقون مثلما يرزق سائر الأحياء ، يأكلون ويشربون ، وهو تأكيد لكونهم أحياء ، ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله.

فالعندية (عند الله) هنا عنديّة كرامة ومكانة وتشريف ، وهي تقتضي

١٦٤

غاية القرب ، لا عندية مكان ومسافة وقرب وحدود. والحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية ، لا ندرك حقيقتها ، ونؤمن بها كما أخبر القرآن ، وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فيه حذف مضاف : تقديره : عند كرامة ربهم.

وهؤلاء الشهداء مسرورون بما رأوه من نعيم مقيم وفضل كبير ، وتفضيل على غيرهم ، بسبب الشهادة ، وهم مسرورون أيضا بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله ، وإنما هم على الطريق سائرون يقتفون أثر من تقدمهم من قوافل الشهداء ، حينما رأوا ما أعد لهم من الجزاء الحسن ، وهو الحياة الأبدية والنعيم الدائم الذي لا يكدره خوف من مكروه ولا حزن على ما فات.

وهم يفرحون أيضا بما يتجدد لهم من الثواب على عملهم والرزق والفضل الإلهي الذي يؤتيهم الله من الجنة ونعيمها ـ والفضل في هذه الآية : هو النعيم المذكور ـ وأن الله يأجرهم ، أي أنهم يستبشرون بنعمة من الله ، ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.

وهذه الجملة بيان وتفسير لما تقدمها : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ؛ لأن من كان في نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا ، ومن كانت أعماله مدخرا ثوابها لا يخاف العاقبة.

وذلك تحريض على الجهاد وترغيب في الاستشهاد. روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أصيب إخوانكم يوم أحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب ، في ظل العرش ..» إلخ الحديث المتقدم.

ثم وصفهم الله بحسن أعمالهم الذي هو سبب زيادة ثوابهم ، فأخبر تعالى أن هؤلاء المجاهدين الذين استجابوا لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذهاب للقاء أبي سفيان في

١٦٥

غزوة حمراء الأسد عقب غزوة أحد ، بالرغم مما كانوا عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد ، فلهم أجر عظيم يتناسب مع جهادهم وشجاعتهم.

وأشار بقوله : (مِنْهُمْ) إلى أن من استجاب حظي بهذا الفضل والأجر ، وأما الباقون فكانت لهم موانع وأعذار في أنفسهم أو أهليهم.

ثم أشاد تعالى أيضا بمن شارك في غزوة بدر الصغرى في العام المقبل بعد أحد ، بالرغم مما قال لهم الناس : أي نعيم بن مسعود الأشجعي الذي كان ما يزال مشركا : إن الناس أي أبا سفيان وأعوانه جمعوا لكم الجموع لقتالكم ، فاخشوهم وخافوهم ، ولا تخرجوا إليهم.

فزادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة بوعده ، وثباتا على دينه ، إذ إنهم خافوه ، ولم يخافوا تلك الجموع ، واعتمدوا على تأييد الله وعونه ونصره ، بعد أن صدقت نياتهم ، واشتدت عزائمهم للقاء المشركين مهما كانت النتائج ، وذلك مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين في غزوة الخندق (الأحزاب) : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب ٣٣ / ٢٢].

وقالوا معبّرين عن صدق إيمانهم بالله : الله كافينا ما يهمنا من أمر الجموع ، ونعم الوكيل الذي فوضنا أمورنا إليه ، نعم المولى ونعم النصير. وهي الكلمة التي قالها إبراهيمعليه‌السلام حين ألقي في النار (١) ، وقالها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال أحد الناس : إن الناس (المشركين) قد جمعوا لكم فاخشوهم. ويستحب قولها عند الغم والمصيبة وإحاطة الداهية.

__________________

(١) روى البخاري عن ابن عباس قال : «كان آخر قول إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار : حسبنا الله ونعم الوكيل».

١٦٦

أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا وقعتم في الأمر العظيم ، فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل» (١).

وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي‌الله‌عنها : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتد غمّه ، مسح بيده على رأسه ولحيته ، ثم تنفس الصّعداء ، وقال : حسبي الله ونعم الوكيل».

ولما فوضوا أمورهم إلى الله واتكلوا عليه ، عادوا بأربعة جزاءات : النعمة من الله ، والفضل ، وصرف السوء ، واتباع ما يرضي الله فرضي عنهم ، أي لما توكلوا على الله وخرجوا للقاء عدوهم ، كفاهم ما أهمهم ، ورد عنهم بأس من أراد كيدهم ، وربحوا في تجارتهم ، ولم يصبهم قتل ولا أذى ، واتصفوا بطاعة رسولهم ورضا ربهم الذي هو أساس النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة ، والله صاحب الفضل العظيم عليهم إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان ، والتوفيق إلى الجهاد ، والحفظ من السوء الذي يضمره لهم عدوهم.

وفي هذا إشارة إلى خسارة القاعدين المتخلفين ؛ إذ حرموا ما حظي به غيرهم ، وهو معنى قوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ).

روى البيهقي عن ابن عباس في قول الله : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) قال : «النعمة : أنهم سلموا ، والفضل : أن عيرا مرت في أيام الموسم ، فاشتراها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فربح فيها مالا ، فقسمه بين أصحابه».

وأخرج الطبري عن السدي قال : «أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خرج في بدر الصغرى أصحابه دراهم ، ابتاعوا بها في الموسم ، فأصابوا ربحا كثيرا».

ثم قال تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي يخوفكم أولياءه ،

__________________

(١) هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وله مؤيدات كثيرة (انظر تفسير ابن كثير : ١ / ٤٣٠).

١٦٧

ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة ، فليس القول الذي قيل لكم : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) إلا من الشيطان الذي يخوفكم أنصاره المشركين ، ويوهمكم أنهم ذوو عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد ، فلا تخرجوا إليهم.

ولكن عليكم أيها المؤمنون إذا سول لكم الشيطان أمرا وأوهمكم ، فتوكلوا علي ، والجؤوا إلي ، فإني كافيكم وناصركم ، كما قال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) إلى قوله : (قُلْ : حَسْبِيَ اللهُ ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر ٣٩ / ٣٦ ـ ٣٨] وقال : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقال : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج ٢٢ / ٤٠] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٧] وقال أيضا : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر ٤٠ / ٥١ ـ ٥٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت آية الشهداء : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ..) وما بعدها على ما يأتي :

١ ـ إن من لم ينهزم أمام العدو ، وصبر وثبت ، وقاتل حتى قتل ، له منزلة عالية عند الله ، وهي منزلة الشهداء ، وهي الكرامة والحياة عند الله. فهم أحياء في الجنة يرزقون ، وأرواحهم حيّة كأرواح سائر المؤمنين ، وإن ماتوا ودفنت أجسادهم في التراب. وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم.

والذي عليه معظم المفسرين أن حياة الشهداء محققة ، ولكنها من نوع خاص ، فإما أن ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فينعّمون ، وإما أنهم يرزقون من

١٦٨

ثمر الجنة ، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وقيل : إن هذا مجاز ، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة.

والصحيح من الأقوال : أرواحهم في أجواف طير خضر ، وأنهم يرزقون في الجنة ، ويأكلون ويتنعمون.

٢ ـ غسل الشهداء وتكفينهم والصلاة عليهم : للعلماء رأيان :

قال الحنفية : يكفن الشهيد بثيابه ، ويصلى عليه ، ولا يغسل إذا كان مكلفا طاهرا ، وأما الجنب والحائض والنفساء إذا استشهدوا ، فيغسلون عند أبي حنيفة ، كما يغسل الصبي والمجنون ، وقال الصاحبان : لا يغسّلون. والدليل على عدم التكفين وعدم الغسل حديث جابر عند البخاري : «ادفنوهم بدمائهم» وفي رواية الشافعي وأحمد والبيهقي والنسائي : «زمّلوهم بدمائهم» يعني يوم أحد ولم يغسّلهم. وقد صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شهداء أحد اثنتين وسبعين صلاة.

وقال الجمهور : لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه ، ولكن تزال النجاسة الحاصلة من غير الدم ؛ لأنها ليست من أثر الشهادة بدليل حديث جابر المتفق عليه : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ، ولم يغسلهم ، ولم يصل عليهم».

وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا ، ولم يمت في المعترك ، وعاش وأكل ، فإنه يصلّى عليه ، كما قد صنع بعمر رضي‌الله‌عنه.

وأما من قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطرق وشبه ذلك ، فقال أبو حنيفة والثوري : كل من قتل مظلوما لم يغسّل ، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد. وقال الجمهور : يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب.

وأما إذا صبّح العدو قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم ، فيغسلون ويكفنون ويصلى عليهم ؛ لأنهم لم يقتلوا في المعترك بين الصفين.

٣ ـ القتل في سبيل الله والشهادة فيه له ثواب عظيم عند الله ، حتى إنه يكفّر

١٦٩

الذنوب ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدّين» (١) وهذا تنبيه على ما في معنى الدين من الحقوق الشخصية المتعلقة بالذمم ، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحة وغير ذلك من التّبعات ، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدّين ، فإنه أشد ، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات ، حسبما وردت به السنة الثابتة ، منها حديث مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتدرون ما المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : إن المفلس من أمتي : من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم ، فطرحت عليه ، ثم طرح في النار». وفي حديث صحيح آخر رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نفس المؤمن معلّقة ما كان عليه دين».

والدّين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة ـ والله أعلم ـ : هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به ، أو قدر على الأداء فلم يؤدّه ، أو ادّانه في سرف ، أو في سفه ، ومات ولم يوفّه. وأما من ادّان في حق واجب لفاقة وعسر ، ومات ولم يترك وفاء ، فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله ؛ لأن على السلطان فرضا أن يؤدّي عنه دينه ، إما من جملة الصدقات ، أو من سهم الغارمين ، أو من الفيء الراجع على المسلمين ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة : «من ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فعلى الله ورسوله ، ومن ترك مالا فلورثته».

٤ ـ الرزق في قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) هو الرزق المعروف في العادات ، وهو المعنى الحقيقي للفظ. ومن قال : هي حياة الذكر ، قال : يرزقون الثناء الجميل ، وهو معنى مجازي.

__________________

(١) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بلفظ «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّين».

١٧٠

٥ ـ قال السدي في آية (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ ..) : يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه ، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم : استبشارهم بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا ، يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم ، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه ، فيسرّون ويفرحون لهم بذلك.

٦ ـ الفضل في قوله تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ..) لزيادة البيان ، والفضل داخل في النعمة ، وفيه دليل على اتساعها ، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل : جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد. روى الترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للشهيد عند الله ست خصال (١) : يغفر له في أول دفعة (٢) ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار : الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفّع في سبعين من أقاربه» قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب. وما تضمنه الحديث تفسير للنعمة والفضل.

٧ ـ أشارت آية : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا ..) إلى أن الصحابة الذين تابعوا القتال ومطاردة أبي سفيان وجماعته في «حمراء الأسد» لإرهاب العدو ، وكان عددهم سبعين رجلا ، استحقوا المديح والثناء من الله تعالى لسببين : إطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ندبهم إليه من الخروج معه ، وتحاملهم على أنفسهم بالرغم مما فيهم من جراح وآلام شديدة مبرّحة أصابتهم في وقعة أحد.

__________________

(١) كذا في الترمذي وابن ماجه : «ست» وهي في العدد : سبع ، وفي حاشية السندي على ابن ماجه : قوله : ست خصال ، المذكورات سبع إلا أن يجعل الإجازة والأمن من الفزع واحدة.

(٢) الدفعة بالضم مثل الدفقة : ما دفع من إناء أو سقاء ، فانصب بمرة واحدة.

١٧١

٨ ـ أرشدت آية : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا ، فالجبن لا يجتمع مع الإيمان ؛ لأن علته : الخوف من الموت والحرص على الحياة ، وهما بعيدان عن المؤمن ، وكان الصحابة الذين ذهبوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العام التالي لأحد في بدر الصغرى مثلا عالية للشجاعة والتضحية والجرأة في سبيل الله.

٩ ـ ودلت هذه الآية أيضا على أن المؤمن يمكنه التخلص من عوامل الخوف ، فيقول : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي كافينا الله.

١٠ ـ قوله تعالى : (فَزادَهُمْ إِيماناً) أي فزادهم قول الناس إيمانا ، أي تصديقا ويقينا في دينهم ، وقوة وجرأة واستعدادا ، يومئ إلى أن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة.

ويرى العلماء في زيادة الإيمان ونقصه : أن أصل الإيمان وجوهره وهو التصديق شيء واحد ، لا يدخل فيه زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال. وأما الزيادة والنقصان ففي متعلّقاته دون ذاته. والذي عليه الجمهور : أن الإيمان يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه ، لحديث مسلم والترمذي : «الإيمان بضع وسبعون بابا ، فأعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» وهذه الزيادة في رواية مسلم فقط.

١١ ـ وآية (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) يراد بها كما قال العلماء : لما فوضوا أمورهم إليه ، واعتمدوا بقلوبهم عليه ، أعطاهم من الجزاء أربعة معان : النعمة ، والفضل ، وصرف السوء ، واتباع الرضا ، فرضّاهم عنه ، ورضي عنهم.

١٢ ـ يشير قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ ..) إلى أن الخوف يجب أن يكون من الله فقط ، لا من الأعداء ، وأن أولياء الله لا يخافون الشيطان إذا خوّفهم ، وإنما يخوف أولياءه المنافقين ، ليقعدوا عن قتال المشركين.

١٧٢

فالإيمان الصادق يحمل صاحبه على الخوف من الله وحده ، وقد مدح الله المؤمنين بالخوف ، فقال : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل ١٦ / ٥٠]. وفي سنن ابن ماجه عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطّت (١) السماء ، وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله ، والله لو تعلمون ما أعلم ، لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ، ولخرجتم إلى الصّعدات (٢) تجأرون (٣) إلى الله» قال أبو ذر : «والله لوددت أني كنت شجرة تعضد (٤)».

إزالة الحزن من قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أحد ومناقشة الكفار

والبخلاء وتمييز الخبيث من الطيب

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ

__________________

(١) أطت السماء : صوتت.

(٢) الصعدات : الطرق.

(٣) تجأرون : رفع الأصوات بالدعاء متضرعين.

(٤) تعضد : تقطع بالمعضد كالمنجل.

١٧٣

وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

الإعراب :

(وَلا يَحْزُنْكَ) قرئ بفتح الياء وضمها ، فمن قرأ بالفتح جعله من حزنه وهو فعل ثلاثي ، ومن قرأ بالضم جعله من أحزنه ، وهو فعل رباعي.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَحْسَبَنَ) : قرئ بالياء والتاء ، فمن قرأ بالياء كان (الَّذِينَ كَفَرُوا) في موضع رفع بأنه فاعل (يَحْسَبَنَ) ، وتقديره : ولا يحسبن الكافرون. و (الَّذِينَ) اسم موصول ، والهاء المحذوفة من (نُمْلِي) هي العائد إليه. و (خَيْرٌ) خبر أن ، وأن وما عملت فيه سدت مسدّ المفعولين. ومن قرأ بالتاء كان (الَّذِينَ) المفعول الأول ، و (أَنَّما) وما بعدها بدلا من (الَّذِينَ) وسدّ مسد المفعول الثاني ، وما بمعنى الذي ، وتكون ما ونملي مصدرا.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يَحْسَبَنَ) : قرئ بالياء والتاء ، فمن قرأ بالياء فموضع (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) رفع ؛ لأنه فاعل حسب ، وحذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه. و (هُوَ) ضمير فصل عند البصريين ، وعماد عند الكوفيين. و (خَيْراً) مفعول ثاني منصوب. وتقديره : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله البخل خيرا لهم. ومن قرأ بالتاء فموضع (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) نصب ؛ لأنه مفعول أول على تقدير حذف مضاف تقديره : ولا تحسبن بخل الذين يبخلون. و (هُوَ) فصل. و (خَيْراً) هو المفعول الثاني.

البلاغة :

يوجد استعارة في (اشْتَرَوُا الْكُفْرَ) وفي (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) وفي (الْخَبِيثَ) و (الطَّيِّبِ) إذ يراد به المؤمن والمنافق. ويوجد طباق في (الْكُفْرَ ، بِالْإِيْمانِ)

المفردات اللغوية :

(وَلا يَحْزُنْكَ) يكدرك ويؤلمك ، من حزن بمعنى أحزن (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يبادرون

١٧٤

في نصرته ، وهم أهل مكة أو المنافقون ، أي لا تهتم لكفرهم. (حَظًّا) نصيبا من الثواب (فِي الْآخِرَةِ) في الجنة ، فلذلك خذلهم.

(اشْتَرَوُا الْكُفْرَ) أخذوا الكفر بدل الإيمان ، كما يفعل المشتري بمبادلة المبيع بالثمن.

(نُمْلِي) نمهل ، والإملاء : الإمهال (لَهُمْ) بتطويل الأعمار وتأخيرهم.

(لِيَزْدادُوا إِثْماً) بكثرة المعاصي أي لتكون عاقبتهم زيادة الإثم. (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ذو إهانة في الآخرة.

(يَمِيزَ) أي يميّز ويفرز ويفصل (الْخَبِيثَ) المنافق (مِنَ الطَّيِّبِ) المؤمن ، أي ليظهر الفارق الواضح بين المنافق والمؤمن بالتكاليف الشاقة ، كما في يوم أحد.

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز.

(يَجْتَبِي) يختار ويصطفي (مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على غيبه ، كما أطلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حال المنافقين (وَتَتَّقُوا) النفاق (آتاهُمُ) أعطاهم من مال غيره (سَيُطَوَّقُونَ) أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق (ما بَخِلُوا بِهِ) أي بزكاته (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما ورد في الحديث. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يرثهما بعد فناء أهلهما والميراث : ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم به.

سبب النزول :

نزول الآية (١٧٩):

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) : قال السدي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم ، وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر ، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا وقالوا : يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ، ونحن معه ولا يعرفنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الكلبي : قال قريش : تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار ، والله عليه غضبان ، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة ، والله عنه راض ، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

١٧٥

وقال أبو العالية : سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرق بها بين المؤمن والمنافق ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

سبب نزول الآية (١٨٠):

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ..) جمهور المفسرين على أنها أنزلت في مانعي الزكاة. وروى عطية عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوّته ، وأراد بالبخل : كتمان العلم الذي آتاهم الله تعالى (٢).

المناسبة :

أدى انتصار المشركين في أحد وإصابة المؤمنين بشيء كثير من الأذى ، إلى استغلال المنافقين تلك النتيجة ، فصاروا يقولون : لو كان محمد نبيا ما قتل ولا هزم ، وإنما هو طالب ملك ، فتارة ينتصر وتارة ينهزم ، وبادروا في نصرة الكفار وتثبيط المؤمنين عن القتال ، فتألم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحزن ، فنزلت هذه الآيات تسري عنه وتزيل الحزن من نفسه ، كما سرّى عنه حينما أعرض الكافرون عن الإيمان ، وطعنوا في القرآن أو شخصه ، في قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس ١٠ / ٦٥] وقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف ١٨ / ٦].

التفسير والبيان :

يخاطب الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشدة حرصه على الناس : لا يحزنك أيها الرسول مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق ومناصرة الكفر ، كأبي سفيان وغيره من أهل مكة ، واليهود والمنافقين.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٧٥ ـ ٧٦

(٢) المرجع السابق : ص ٧٦

١٧٦

إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحته شيئا من الضرر ، وإنما يضرون أنفسهم ، ويحاربون الله تعالى ويستعدونه عليهم والدائرة تكون عليهم ، ويحرمون من ثواب الله تعالى في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم لا يعرف قدره ، والله يعاقبهم على فعلهم لا يظلمهم ، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وضلالهم ومناصرتهم ملة الكفر ومقاومة المؤمنين : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). [فاطر ٣٥ / ٤٣] وهذا يدل على أنه لا يؤبه بهم ولا يخشى خطرهم.

وهي مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ، لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ، مِنَ الَّذِينَ قالُوا : آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة ٥ / ٤١].

وهذا لا يقتصر عليهم ، وإنما هو حكم عام مقرر يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان ، لذا قال : إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ، ولكن يضرون أنفسهم ، ولهم عذاب مؤلم شديد الألم في الدنيا والآخرة.

وهي تشبه آية (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٥٥] وآية : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم ٦٨ / ٤٤] وآية : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا ، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ٩ / ٨٥].

ثم بيّن تعالى استدراج الكافرين وإمهالهم لوقت معين ، فأخبر أنه لا يحسبن هؤلاء الكفار أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم ؛ لأنهم لا يستغلون العمر في عمل الخير ، وإنما يستغلونه في الشر ، فتكون عاقبتهم ازدياد الإثم على الإثم ، والمبالغة في الباطل والبهتان ، ولهم عذاب مهين : ذو إهانة وإذلال لهم ، أي إنما هو معدّ لهم.

ولا يظنن الكفار أن إمهالنا يقصد به ازدياد الإثم كما يفعلون ، وإنما الإمهال

١٧٧

لهم هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان ، لا لزيادة الإثم وللتعذيب ، فيكون الإملاء خيرا لهم ، ولكن علم الله سابقا أن بعضهم لن يعود إلى دائرة الحق والخير والرشاد ، فهؤلاء لهم عذاب مهين.

قال الزمخشري في قوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) : ما : هذه حقها أن تكتب متصلة ؛ لأنها كافة ، دون الأولى. وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيرا لهم؟ فقيل : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً).

فإن قلت : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم؟ قلت : هو علة للإملاء ، وما كل علة بغرض ، فلو قلت : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشر ، ليس شيء منها بغرض لك ، وإنما هي علل وأسباب ، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسببا فيه.

فإن قلت : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء ، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت : لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما ، فكأن الإملاء وقع من أجله وبسببه ، على طريق المجاز (١).

والخلاصة : إن هذا الإمهال والتأخير ليس عناية من الله بهم ، وإنما هو قد جرى على سنته في الخلق : بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر ، فإنما هو ثمرة عمله. ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يغتر الإنسان بهذا الإمهال ، ويسترسل في فجوره ، فيوقعه ذلك في الإثم ، الذي يترتب عليه العذاب المهين (٢).

ثم بيّن الله تعالى أن المحن والشدائد تظهر صدق الإيمان ، وأنه لا بد من أن

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٣٦٤

(٢) تفسير المنار : ٤ / ٢٠٥ ، تفسير المراغي : ٤ / ١٤١

١٧٨

يعقد شيئا من المحنة ، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه ، فلا يترك الناس على مثل حالتهم يوم أحد ، حتى يميز المؤمن من المنافق ، ويعرف المؤمن الصابر والمنافق الفاجر ، كما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد ٤٧ / ٣١].

يقصد به أن يوم أحد كان اختبارا امتحن الله به المؤمنين ، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهتك به ستار المنافقين ، فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد ، وخيانتهم لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد يفكر بعض الناس أن تمييز المؤمن الصادق من المنافق يحدث بالوحي وبأن يطلع الله المؤمنين على الغيب ، فأجاب الله تعالى : لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب ، وإنما خلق الإنسان وقدر له أن يصل إلى مراده بعمله الكسبي الذي ترشد إليه الفطرة ويهدي إليه الدين وتدل عليه النبوة ، فهو تعالى يختار من رسله من يشاء ، ويطلعه على بعض المغيبات ، كما قال سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧] ثم يخبر الرسول بعض الناس بنفاق رجل وإخلاص آخر ، فيكون مصدر ذلك الخبر هو اطلاع الله على كفر أناس وإيمانهم ، لا أنه يطلعه على ما في القلوب اطلاع الله.

ثم يترك الناس لتمييز المؤمن منهم والمنافق بواسطة الأسباب الكاشفة عن ذلك.

لذا يجب عليكم الإيمان بالله والرسل ومنهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإطاعة الله والرسول واتباعه فيما شرع لكم ، والاعتقاد بأن الرسل لا يخبرون عن شيء إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب. وهذا رد على الكافرين ، قال السّدّي : قال الكافرون : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر ، فنزلت.

١٧٩

وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب ، وتتقوا الله بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه ، فلكم ثواب عظيم لا يستطيع أحد تحديد مقداره.

ويلاحظ أن القرآن يقرن دائما بين الإيمان والتقوى ، كما يقرن بين الصلاة والزكاة ، لتلازمهما والاعلام بأن الإيمان لا يكتمل إلا بهما ، ويقرن أيضا بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال.

وبما أن الآيات السابقة كانت في الحث على الجهاد والتحريض على بذل النفس ، أعقب ذلك الحث على بذل المال في الجهاد.

فلا يظننّ أحد أن بخل البخلاء خير لهم بكنز المال وادخاره ، وأن الجود والإنفاق يفقر ، وإنما هو شر عظيم على الأمة والفرد في الدنيا والآخرة ، والمراد بالبخل : حجب الزكاة المفروضة عن المستحقين ، وعدم الصدقة عند رؤية حاجات المحتاجين.

أما ضرر البخل في الدنيا فتعريض مال الغني للضياع والنهب والسرقة والأحقاد ، وفي عصرنا وغيره ظهور الحملات الشنيعة على الأغنياء المترفين ، وانتشار الأفكار والنظريات المسماة بالاشتراكية التي ظهرت لتقويض أركان الرأسمالية.

وأما ضرره في الآخرة والدين : فهو ما أخبر عنه تعالى بأنهم سيلزمون وبال بخلهم وعاقبة شحهم إلزام الطوق في العنق ، فلا يجدون مناصا ولا مهربا من توجيه اللوم والسؤال والعقاب على فعلهم. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آتاه الله مالا ، فلم يؤد زكاته ، مثّل له شجاعا أقرع له زبيبتان ، يطوّقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه ـ أي شدقيه ـ ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك» ثم تلا هذه الآية : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ..) إلى آخر الآية.

١٨٠