التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك ، وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون.

ـ وشاورهم أيضا أين يكون المنزل ، حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم.

ـ وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو ، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم.

ـ وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ ، فأبى ذلك عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فترك ذلك.

ـ وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين ، فقال له الصدّيق : إنا لم نجئ لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال.

ـ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة الإفك : «أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي (١) ورموهم ، وايم الله ، ما علمت على أهلي من سوء ، وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه إلا خيرا».

ـ واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي‌الله‌عنها (٢).

وللشورى فوائد كثيرة أهمها تقدير المستشارين ، وإنضاج بحث الرأي المقترح بعد تقليب وجهات النظر ، واتحاد الناس على مسعى واحد ، واختيار الرأي الأصوب. جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المستشار مؤتمن».

__________________

(١) أبن فلان يؤبن بكذا : يذكر بقبيح.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٢٠

١٤١

فإذا عزمت فتوكل على الله ، أي إذا شاورتهم في الأمر ، وعزمت عليه ، فتوكل على الله فيه ، إن الله يحب المتوكلين عليه الواثقين به ، فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه الخير لهم. وليس معنى التوكل هو التواكل وإهمال الأسباب ، وإنما هو حسن الاعتماد على الله والثقة به وتفويض النتائج إليه ، بعد اتخاذ الأسباب.

قال الرازي : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال ، وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل ، بل التوكل عليه أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها ، بل يعول على عصمة الحكمة.

ففي الكسب والمعاش لا بد من السعي في الأرض ، كما قال تعالى : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك ٦٧ / ١٥].

وفي السياسة والحرب يجب الانتباه والحذر والإعداد المكافئ لقوى العدو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء ٤ / ٧١] (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال ٨ / ٦٠].

ومن أجل الدنيا والآخرة لا بد من الصلاح والاستقامة والتزود بالتقوى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة ٢ / ١٩٧].

وفي كل شيء يكون التوكل مقرونا بالسعي ، روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه : «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا» وأخرج ابن حبان في صحيحة : «حديث الرجل الذي جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأراد أن يترك ناقته ، وقال : أأعقلها وأتوكل ، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعقلها وتوكل».

ثم أعلن الله تعالى عن مصدر النصر في الحقيقة فأخبر أنه إن أراد الله أن ينصركم في أحد ، كما نصركم في بدر ، حين التزمتم الطاعة ، وثبتم ، واتكلتم على

١٤٢

توفيق الله ومعونته ، فلا غالب لكم من الناس. وإن يرد خذلانكم وهزيمتكم ويمنعكم تأييده بما كسبت أيديكم من الفشل والتنازع وعصيان القائد فيما أمركم به ، كما جرى يوم أحد ، فلا يملك لكم أحد تحقيق النصر. وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، وليثقوا به بعد اتخاذ الأسباب ؛ لأنه لا ناصر لهم سواه. وفي هذا ترغيب في التوكل على الله بعد المشاورة والاستعداد وعقد العزيمة الصادقة على فعل شيء مرغوب به شرعا.

فقه الحياة أو الأحكام :

إيراد هذه الأخلاق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصد به الاقتداء به فيها ؛ لأنه الأسوة الحسنة للمؤمنين ، وهو قائدهم وهاديهم بالقول والفعل والصفات. ودلت آية (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق ، وكان يجمع بين دواعي السمو كشرف النسب والحسب ، وطهر النفس ، والسخاء ، وفصاحة البيان ، وخاتم النبيين ، وبين التواضع التام ، فكان يرقع ثوبه ويخصف نعله ويجامل أهله والمستضعفين. قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، من لا يستشير أهل العلم والدين ، فعزله واجب. هذا مالا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى ٤٢ / ٣٨].

ودل قوله تعالى (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون ، مع إمكان الوحي ؛ فإن الله أذن لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك.

وهل الشورى ملزمة وواجبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ اختلف الفقهاء على قولين ، والظاهر القول الأول ؛ لما روي الإمام أحمد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر : «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العزم ، فقال : «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم».

١٤٣

وصفة المستشار ـ كما قال العلماء : إن كان في الأحكام أن يكون عالما ديّنا ، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. وصفة المستشار في أمور الدنيا : أن يكون عاقلا مجرّبا وادا في المستشير ، روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه النسائي الحديث المتقدم عن أبي هريرة : «المستشار مؤتمن».

والعزم في الآية ـ كما بينا ـ هو إمضاء الأمر وتنفيذه بعد المشاورة. ولا بد فيه من التوكل على الله ، والتوكل : الاعتماد على الله مع إظهار العجز. وقال قتادة : أمر الله تعالى نبيه عليه‌السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله ، لا على مشاورتهم.

والنصر مرهون بتنفيذ الأوامر وإطاعة الله والقائد ، والخذلان وهو ترك العون الإلهي منتظر عند العصيان والمخالفة ، والمخذول : المتروك لا يعبأ به. فعليه توكلوا فإنه سبحانه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغلبوا ، وإن يخذلكم ويترككم من معونته لا ينصركم أحد من بعد خذلانه إياكم.

والتوكل على الله محقق لأمرين :

أحدهما ـ محبة الله للعبد : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

الثاني ـ كفاية الرحمن للإنسان : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

عدالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قسمة الغنائم ومهامه في إصلاح أمته

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)

١٤٤

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

الإعراب :

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) : (أَنْ يَغُلَ) : اسم كان ، و (لِنَبِيٍ) خبر كان ، والمعنى : ما كان لنبي أن يخون.

(هُمْ دَرَجاتٌ) أي هم ذوو درجات عند الله ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

البلاغة :

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي ما شأنه ، ونفي الشأن أبلغ من نفي الفعل.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) استعارة ، جعل ما شرعه الله كدليل الهداية إلى رضوانه ، وجعل العاصي كمن أمر أن يتبع شيئا فامتنع.

(بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) التنكير للتهويل أي بسخط لا يوصف.

(هُمْ دَرَجاتٌ) على حذف مضاف أي ذوو درجات متفاوتة.

المفردات اللغوية :

(أَنْ يَغُلَ) يخون في الغنيمة ، فلا تظنوا به ذلك. أي ما كان من شأن أي نبي أن يغل : يأخذ شيئا من الغنيمة خفية ؛ لأن الله عصم أنبياءه من سفساف الأمور ، فلا يقع منهم ما لا يليق (يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) حاملا له على عنقه (اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي أطاع ولم يغل (كَمَنْ باءَ) رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) أي بغضب عظيم ، لمعصيته وغلوله. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المرجع هي

١٤٥

(هُمْ دَرَجاتٌ) أصحاب درجات (عِنْدَ اللهِ) أي مختلفو المنازل ، فلمن اتبع رضوانه الثواب ، ولمن باء بسخطه العقاب (وَاللهُ بَصِيرٌ) أي يشاهد ويرى كل شيء.

(لَقَدْ مَنَ) أنعم وتفضل (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) عربيا من جنسهم ، ليفقهوا كلامه ويشرفوا به. (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الذنوب وأدران الوثنية والعقيدة الفاسدة (الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) السنة النبوية (مِنْ قَبْلُ) أي قبل بعثته (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ضلال بيّن واضح لا ريب فيه.

سبب النزول :

أخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء ، افتقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها ، فأنزل الله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ).

وقال الكلبي ومقاتل : إن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، طلبا للغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أخذ شيئا من مغنم فهو له ، وألا يقسم الغنائم ، كما لم يقسمها يوم بدر ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا ، فقال لهم : بل ظننتم أنّا نغل ولا نقسم» (١).

التفسير والبيان :

تتابع الآيات في بيان صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومهامه في إصلاح أمته ، فما كان من شأنه أن يخون ، بل وما كان لنبي أن يخون ؛ لأن الله عصم أنبياءهم عما لا يليق بمقامهم ؛ لأن النبوة منزلة عالية تربأ بصاحبها عن فعل ما فيه دناءة وخسة ، مما يدل على هول الاتهام والخطأ الصادر من المنافقين بنسبة الخيانة والغلول من المغنم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو منه براء.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٧٢ ـ ٧٣

١٤٦

وكل من يخون فيأخذ شيئا من الغنائم خفية ، يأتي به يوم القيامة حاملا إياه على عنقه ، أي متحملا مسئولية فعله ووزر ما ارتكبه.

وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، أيدته السنة النبوية ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا ، فذكر الغلول وعظمه ، وعظم أمره ثم قال :

ألا لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول له : لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك.

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة (١) فيقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك.

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق (٢) ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك.

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (٣) ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» وهذا كله من قبيل تمثيل الذنب وثقله وفضيحة صاحبه ، وأنه يتحمل وزره يوم القيامة ، كما جاء في آية أخرى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [الأنعام ٦ / ٣١].

فأخذ أي شيء بغير حق يستوجب العقاب ، كما قال تعالى حكاية عن لقمان :

__________________

(١) حمحمة الفرس : صوته دون الصهيل. والثغاء : صياح الغنم.

(٢) الرقاع : هي التي يكتب عليها ، وأراد بها ما عليها من الحقوق المكتوبة ، وخفوقها : حركتها.

(٣) الصامت : الذهب والفضة ، خلاف الناطق وهو الحيوان.

١٤٧

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان ٣١ / ١٦].

ثم توفى كل نفس في الآخرة ما كسبت من خير أو شر ، فينال الغالّ وغيره جزاء فعله دون ظلم ، لا ينقص منه شيء ، كما قال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ ، لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ٤٩].

ثم بين سبحانه نفي المساواة بين المحسن والمسيء ، فأخبر أن من اتقى الله وعمل صالحا لا يستوي مع من عصى الله وعمل سوءا ، أي فلا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه ، فاستحقّ به رضوان وجزيل ثوابه وأمن العذاب ، ومن استحق غضب الله وألزم به ، فلا محيد له عنه ، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير. وهذا مثل قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ، لا يَسْتَوُونَ) [السجدة ٣٢ / ١٨] وقوله : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص ٣٨ / ٢٨].

وإن لكل من أهل الخير وأهل الشر درجات ومنازل ، يتفاوتون فيها ، فللمتقين الطائعين درجات في الجنة ، وللعصاة دركات في النار ، فهم يتفاوتون في الجزاء بسبب تفاوت أعمالهم في الدنيا.

فأعلى الدرجات درجة النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسفل الدركات درك المنافقين : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء ٤ / ١٤٥] والله تعالى بصير بأعمال العباد ، فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم بدءا من تزكية نفوسهم إلى أرفع الدرجات ، ومن إهمال التزكية إلى أسفل الدركات ، كما قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٩١ / ٩ ـ ١٠]. وسيوفيهم جزاء

١٤٨

أعمالهم ، لا يظلمهم خيرا ، ولا يزيدهم شرا ، بل يجازي كل عامل بعمله.

ثم بيّن تعالى ما امتن وتفضل به على الناس ، فأرسل نبيه محمدا متصفا بأوصاف ومكلفا بمهام هي :

ـ إنه عربي من ولد إسماعيل من جنس قومه ، مما يدعوهم إلى الاهتداء به والثقة برسالته ، فضلا عن أنهم شرفوا به ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٤] وتخصيصهم بالذكر يقتضيهم مزيد الانتفاع به ، وإن كان هو للناس كافة ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٧].

ـ إنه يتلو عليهم آيات الله الدالة على قدرته ووحدانيته وعلمه وكمال أوصافه ، كما أشار تعالى في آية : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران ٣ / ١٩٠].

ـ إنه يزكيهم ويطهرهم من زيف الوثنية وفساد العقيدة الجاهلية ، كاعتقادهم بتأثير الأصنام والأحجار ، وبدلالة الطير ، وغير ذلك من الأوهام والخرافات ، وينقلهم إلى معطيات العقل الصحيح والفكر الناضج ، والمدنية والحضارة ، وإقامة الدولة والإدارة والسياسة التي تفاخر العالم وتنافس المجتمع الدولي القائم ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم.

ـ إنه يعلمهم القرآن والسنة ، فيصبح منهم العلماء والكتاب والحكماء والقادة وأساتذة العلوم والمعارف والثقافات المتنوعة ، وإن كانوا من قبل هذا الرسول لفي غي وجهل ظاهر ، إذ كانوا أمة أمية ، فأصبحوا بنور الإسلام ، وعلم القرآن ، ومعرفة الحياة أمة متمدنة متحضرة نافست الأمم الأخرى وسبقتهم.

١٤٩

وهذا يومئ إلى أن معرفة القرآن والسنة كانت للعرب مفتاح النور والعلم وتعلم أصول الحياة الراقية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن الأنبياء على درجة عالية من السمو والأخلاق ، فما كان من شأن نبي أن يخون ، أو يجور في القسمة ، أو يأخذ شيئا من الغنائم بغير حق واضح ، فما كان من حقكم أن تتهموا نبيكم بتهمة باطلة. روى الطبراني عن عمرو بن عوف حديثا : «لا إغلال ولا إسلال» أي لا خيانة ولا سرقة.

ومن خان وبّخه الله سلفا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ، ويعاقب على ذنبه ، وجعل الله تعالى هذه العقوبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه.

والغلول كبيرة من الكبائر بدليل هذه الآية وحديث أبي هريرة المتقدم : أنه يحمله على عنقه.

وإذا غلّ الرجل في المغنم ووجد لديه ، أخذ منه ، وأدّب وعوقب بالتعزير.

وقال أحمد والأوزاعي وإسحاق : يحرق متاع الغالّ كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه ، ولا تنزع منه دابته ، ولا يحرق الشيء الذي غلّ ، عملا بحديث رواه أبو داود والترمذي عن عمر : «إذا وجدتم الرجل قد غلّ ، فأحرقوا متاعه ، واضربوه» لكن فيه صالح بن محمد بن زائدة ، وهو ضعيف لا يحتجّ به.

وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث : لا يحرق متاعه ، إذ لم يثبت ذلك في السنة النبوية.

١٥٠

وتجوز العقوبة في المال ، بدليل أن عمر رضي‌الله‌عنه أراق لبنا شيب بماء ، وإذا باع الذمي خمرا لمسلم أريقت على المسلم ، وينزع الثمن من الذمي عقوبة له ، لئلا يبيع الخمر من المسلمين.

وأجمع العلماء على أن للغالّ أن يرد جميع ما غلّ إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى الرد ، وأنه إذا فعل ذلك فهي توبة له ، وخروج عن ذنبه. فإن افترق العسكر دفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي في رأي مالك والأوزاعي.

وفي تحريم الغلول دليل على اشتراك الغانمين في الغنيمة ، فلا يحل لأحد أن يستأثر بشيء منها دون الآخر ، فمن غصب شيئا منها أدّب اتفاقا.

ومن الغلول : هدايا العمال أو الولاة ، وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغالّ ، بدليل حديث ابن اللتبية عند مسلم في صحيحة وأبي داود الذي فيه : «لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء ، وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تبعر (١)» وروى أبو داود عن بريدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا ، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول».

ومن الغلول : حبس الكتب عن أصحابها ، ويدخل غيرها في معناها.

٢ ـ من اتبع شرع الله بترك الغلول والصبر على الجهاد له في الجنة رتبة ، وتتفاوت درجات الطائعين. ومن عصى الله بكفر أو غلول أو تولى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحرب ، له في النار رتبة ، وتتفاوت دركات العصاة.

٣ ـ إن بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدل على عظيم منّة الله تعالى ، وخصائص النبي

__________________

(١) العيار : صوت الغنم والمعزى.

١٥١

ومهامه تقتضي مبادرة العرب خاصة والناس كافة إلى الإيمان برسالته واتباع شريعته ، فهو من أقحاح العرب من بني إسماعيل ، وهو معلّم الكتاب والحكمة ، وهو مزكي النفوس ومطهرها من أدناس الجاهلية وأرجاسها في العقيدة والأخلاق ونظام الحياة. وليس أدل على فضله من تحول العرب بدعوته من الجاهلية الجهلاء إلى نور العلم والعرفان.

بعض أخطاء المؤمنين في غزوة أحد وبعض قبائح المنافقين

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

الإعراب :

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ الَّذِينَ) : إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم الذين أو منصوب من ثلاثة أوجه : أن يكون وصفا للذين في قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أو بدلا منهم ، أو على تقدير : أعني.

١٥٢

البلاغة :

(أَنَّى هذا) استفهام إنكاري.

يوجد طباق بين (لِلْكُفْرِ) و (لِلْإِيمانِ).

ويوجد جناس اشتقاق في قوله : (أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ).

المفردات اللغوية :

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) : ما أصابهم بأحد من غلبة المشركين عليهم وقتل سبعين منهم أي من المسلمين (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) أي ما وقع لهم ببدر بقتل سبعين من المشركين ، وأسر سبعين منهم. (قُلْتُمْ) متعجبين. (أَنَّى) أي من أين لنا هذا ، وهو تركيب يفيد التعجب ، أي كيف يكون لنا هذا الخذلان ، ونحن مسلمون ، ورسول الله فينا؟ ويراد بهذه الجملة الاستفهام الإنكاري.

(قُلْ) لهم. (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي من شؤم معصيتكم ، لأنكم تركتم المركز فخذلتم. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه النصر ، وقد جازاكم ، بسبب مخالفتكم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(الْجَمْعانِ) جمع المؤمنين ، وجمع المشركين. (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته الأزلية وقضائه السابق بارتباط الأسباب بمسبباتها. (فَادْرَؤُا) فادفعوا عن أنفسكم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دفع المكاره بالحذر وأن القعود ينجي من الموت.

سبب النزول :

نزول الآية (١٦٥):

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ ...) : أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال : عوقبوا يوم أحد بما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون ، وفرّ أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة (الخوذة) على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الآية ، إلى قوله : (قُلْ : هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) قال : بأخذ الفداء.

المناسبة :

تستمر الآيات في بيان الأخطاء يوم أحد ، ففي الآيات السابقة أبان سبحانه

١٥٣

نسبة المنافقين الخيانة والغلول من المغنم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم تبرئته من ذلك ، وهذه الآيات تبين أخطاء الغزاة قبل هذه الوقعة وبعدها وتصوراتهم المنافية للواقع وأقوالهم وأفعالهم المغلوطة.

التفسير والبيان :

هذه الآية معطوفة على ما مضى من قصة أحد من قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ). ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، كأنه قيل : أفعلتم كذا ، وقلتم حينئذ كذا : أنى هذا ، من أين هذا ، وهو كقوله تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا) [آل عمران ٣ / ٣٧].

والمعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة أو لتخليتكم المركز في جبل الرماة ، وعن علي رضي‌الله‌عنه : لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم.

والهمزة في قوله : (أَوَلَمَّا) للتقرير والتقريع ، فلا ينبغي لكم أيها المنافقون والغزاة أن تعترضوا وتقولوا تعجبا : كيف ومن أين جرى علينا هذا أو من أين حدث لنا هذا المصاب؟ وهو ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم ، كأنهم يظنون أن النصر دائما في جانب المسلمين مهما عصوا وخالفوا أوامر الله ، مع أنهم أصابوا من المشركين في بدر ضعفي هذا العدد ، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين.

ثم أجابهم سبحانه وتعالى عن تساؤلهم موبخا ومقرعا : إن ما وقع حدث بشؤم معصيتكم ، وبسبب عصيانكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمركم ألا تبرحوا مكانكم ، فعصيتم أيها الرماة.

وكانت أوجه العصيان كثيرة : الخروج من المدينة وكان من رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البقاء فيها ، وفشلكم وضعف رأيكم ، وتنازعكم ، وعصيانكم أوامر الرسول عليه

١٥٤

الصلاة والسلام بمفارقة المكان الذي طلب منكم الوقوف فيه لحماية ظهور المقاتلين. ومن المعلوم أن العقوبات نتائج لازمة للأعمال ، وأن الله وعدكم النصر بشرط ترك المعصية واتباع أوامر الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٧].

إن الله على كل شيء قدير ، أي يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم ، وهو القادر على حجب النصر عنكم إن خالفتم وعصيتم ، وذلك كله خاضع لقانون ربط الأسباب بالمسببات ، وليس هناك شيء خارج عن القدرة الإلهية.

ثم أشار الله تعالى معزيا ومسليا إلى أن كل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقاء الجمعين : جمع المسلمين وجمع المشركين في أحد ، فبإذن الله وإرادته وقضائه وقدره ، وله الحكمة في ذلك ، فما من شيء في الوجود إلا وهو خاضع لإرادته وحكمته.

ومن مظاهر الحكمة : أن يظهر الله علمه بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه ، والصبر والثبات وعدمه ، فيعلم الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا ، ويعلم المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي بن سلول الذين رجعوا معه في الطريق ، وكانوا ثلاثمائة رجل.

هؤلاء المنافقون إذا دعوا إلى القتال في سبيل الله ، أو إلى الدفاع عن النفس والأهل والوطن ، أجابوا : لو نعلم أنكم تلقون قتالا في غزوتكم لاتبعناكم وسرنا معكم ، ولكننا نعلم أنكم لا تقاتلون. وهذا يدل على تأصل النفاق في قلوبهم ، وأن غايتهم التلبيس والتدليس والاستهزاء وتعمية الحقائق ، مع أن جمع المشركين في أحد وخروج المسلمين لمقابلتهم قرينة قاطعة على إرادة القتال. روي أن الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة

١٥٥

الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رجعوا من الطريق ، وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين ويوقعوا فيهم الهزيمة.

إنهم بمقالتهم هذه : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً) أقرب إلى الكفر يومئذ منهم إلى الإيمان ، لظهور القرائن والأمارات برجوعهم وتصميمهم على إيقاع الهزيمة بالمسلمين ، فإن من يتخاذل عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأوطان عند هجوم الأعداء ليس من المؤمنين ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات ٤٩ / ١٥].

واستدلوا بآية (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال ، فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي حال أقرب إلى الإيمان.

إنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته ، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، وهذا شأن المنافقين ، ومنه قولهم : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) فإنهم ـ كما بينا ـ يعلمون أن جندا من المشركين قد جاؤوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من أشرافهم يوم بدر ، وهم أضعاف المسلمين ، ويعلمون أنه كائن بينهم قتال لا محالة ؛ مما يدل على أنهم كاذبون في كل ما يقولون. ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من الكفر والكيد للمسلمين ، وهذا تهديد واضح وافتضاح علني أنه لا ينفعهم النفاق ، فهو بضاعة مزجاة ؛ لأن الله أعلم بسرائرهم ونواياهم.

ومن أقوالهم أيضا بعد القتال في أحد أنهم قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في وقعة أحد : لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل ، وفي هذا دلالة على أنهم نصحوهم بالتراجع. أخرج ابن جرير الطبري عن السّدّي قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ألف رجل ، وقد وعدهم بالفتح إن

١٥٦

صبروا ، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبيّ في ثلاثمائة ، فتبعهم أبو جابر السّلمي يدعوهم ، فقالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا ، فنعى الله عليهم ذلك بقوله : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ ...).

فرد الله تعالى قولهم : قل يا محمد لهم : إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت ، فينبغي أنكم لا تموتون ، والموت لا بد آت إليكم ، ولو كنتم في بروج مشيدة ، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه.

فقه الحياة أو الأحكام :

تعقد الآية (١٦٥) مقارنة بين نتائج غزوتي بدر وأحد ، محورها أن المسلمين أصيبوا إصابة شديدة يوم أحد بقتل سبعين منهم ، مع أنهم يوم بدر أصابوا من المشركين ضعفي ذلك العدد ، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ، والأسير في حكم المقتول ؛ لأن الأسر يقتل أسيره للضرورة إن أراد ، وقد هزموا المشركين يوم بدر ، ويوم أحد أيضا في ابتداء المعركة ، وقتلوا منهم في يومين قريبا من عشرين.

ومن الخطأ قولهم : من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ، ونحن نقاتل في سبيل الله ، ونحن مسلمون ، وفينا النبي والوحي ، وهم مشركون! والسبب أن هزيمتهم كانت بسبب من أنفسهم ، وهو مخالفة الرماة ، وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا ؛ لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله ، وحزب الله هم الغالبون.

ومصابهم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة إنما هو بعلم الله وقضائه وقدره لحكمة في ذلك ، وهي تربيتهم وتحذيرهم من المخالفة ، وتمييز المؤمنين من المنافقين.

١٥٧

والإشارة بقوله : (نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ) إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين انصرفوا معه عن نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا ثلاثمائة ، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، أبو جابر بن عبد الله ، فقال لهم : اتقوا الله ولا تتركوا نبيّكم ، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، ونحو هذا من القول. فقال له ابن أبيّ : ما أرى أن يكون قتال ، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم. فلما يئس منهم عبد الله قال : اذهبوا أعداء الله ، فسيغني الله رسوله عنكم ، ومضى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستشهد رحمه‌الله تعالى.

ودل قوله : (أَوِ ادْفَعُوا) على أن الدفاع عن الأوطان مثل القتال في سبيل الله ، وعلى أن تكثير سواد المسلمين وإن لم يقاتلوا معهم ، يكون دفعا وقمعا للعدو ، فإن السواد إذا كثر حصل دفع العدو.

ويؤكده أن المرابط المستعد للقتال في ثغر إسلامي مدافع ؛ لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاء إليها العدو.

وكان موقف المنافقين هذا سببا في ظهور أمرين :

الأول ـ تبيان حالهم والكشف عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون ، فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال ، وإن كانوا كافرين على الحقيقة : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ).

الثاني ـ إظهار كذبهم وعدم استحيائهم في الإتيان بالمغالطات ، فهم أظهروا الإيمان ، وأضمروا الكفر : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).

ومن دلائل عدم إيمانهم أنهم قالوا لأجل إخوانهم ـ وهم الشهداء المقتولون من الخزرج ، وهم إخوة نسب ومجاورة ، لا إخوة دين ـ : لو قعدوا بالمدينة ما قتلوا.

١٥٨

وكان الرد القرآني مفحما لهم : إن صدقتم مع أنكم قاعدون في المدينة ، فادفعوا الموت عن أنفسكم ، وهذا يدل على أن الحذر لا يمنع القدر ، وأن المقتول يقتل بأجله ، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة. قال أبو الليث السمرقندي : سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول : لما نزلت الآية : (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) : مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين.

منزلة الشهداء المجاهدين في سبيل الله

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

الإعراب :

(فَرِحِينَ) حال منصوب من ضمير (يُرْزَقُونَ). (أَلَّا خَوْفٌ) بدل من (بِالَّذِينَ).

١٥٩

(وَأَنَّ اللهَ) قرئ بفتح أن وكسرها ، فمن فتحها عطفها على قوله : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ومن كسرها جعلها مبتدأة مستأنفة (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) مبتدأ ، وخبره : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا). (الَّذِينَ قالَ) بدل من (الَّذِينَ) قبله ، أو نعت.

(يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) تقديره : يخوفكم بأوليائه ، فحذف المفعول الأول وهو «كم» والباء من المفعول الثاني ، مثل قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً) [الكهف ١٨ / ٢] وتقديره: لينذركم ببأس شديد.

البلاغة :

يوجد إطناب في (يَسْتَبْشِرُونَ) وفي (لَنْ يَضُرُّوا) وفي اسم الجلالة في مواضع ، ويوجد طباق في (أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ).

المفردات اللغوية :

(فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل دينه. (يُرْزَقُونَ) يأكلون من ثمار الجنة. (يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون ، الاستبشار : السرور الحاصل بالبشارة. (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) هم الذين بقوا في الدنيا من إخوانهم المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله. (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي يفرحون بألا خوف على الذين لم يلحقوا بهم. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة ، المعنى يفرحون بأمنهم وفرحهم (فَرِحِينَ) مسرورين. (بِنِعْمَةٍ) ثواب. (وَفَضْلٍ) زيادة عليه. (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) بل يأجرهم.

(اسْتَجابُوا) أجابوا وأطاعوا (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي أجابوا دعاءه بالخروج للقتال ، لما أراد أبو سفيان ، وأصحابه العود ، وتواعدوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه سوق بدر العام المقبل من يوم أحد (الْقَرْحُ) الألم الشديد والجراح في يوم أحد. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بطاعته ، والإحسان : إتقان العمل على أكمل وجه. (وَاتَّقَوْا) مخالفته. (أَجْرٌ عَظِيمٌ) هو الجنة.

(قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أي نعيم بن مسعود الأشجعي. (إِنَّ النَّاسَ) أبا سفيان وأصحابه. (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الجموع ليستأصلوكم. (فَاخْشَوْهُمْ) ولا تأتوهم. (فَزادَهُمْ) ذلك القول. (إِيماناً) تصديقا بالله ويقينا.

(حَسْبُنَا اللهُ) كافينا أمرهم. (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) المفوض إليه الأمر ، وقد خرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوافوا سوق بدر ، وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه ، فلم يأتوا ، وكان معهم تجارات فباعوا وربحوا.

(فَانْقَلَبُوا) رجعوا بسرعة ، أي من بدر. (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) بسلامة وربح. (لَمْ

١٦٠