التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

وقد كتب الله العزة لرسوله وللمؤمنين : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون ٦٣ / ٨] وجرت سنته في تولي الصالحين وخذلان الكافرين : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها. ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد ٤٧ / ١٠ ـ ١١].

ومن مظاهر مناصرته وعونه تعالى للمؤمنين إلقاء الرعب في قلوب الكافرين بسبب إشراكهم بالله ، واتخاذهم أصناما وحجارة ومعبودات تعبد من دون الله ، لم يقم برهان ولا حجة من عقل أو حس على صحة استحقاقها للعبادة ، وكونها واسطة بين الله وخلقه ، وحجتهم الوحيدة في عبادتها تقليدهم آباءهم الذين وجدوهم عابدين لها : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٢٣] وهم إنما يعتمدون في واقعهم على الأخيلة والأوهام ، والوساوس والهواجس أنها ذات تأثير ، مما يؤدي إلى اضطراب قلوبهم وعقولهم ، وفساد أفكارهم ، وضعف نفوسهم. ومسكنهم في النهاية والآخرة النار بسبب ظلمهم وكفرهم وعنادهم الحق وأهله ، وبئس المثوى والمأوى مثواهم ومأواهم ؛ فإنهم ظالمون لأنفسهم ، وللناس بسوء معاملتهم ، وفقد مقومات الحضارة والمدنية عندهم. وهم إن رأوا المؤمنين متمسكين بدينهم ، ازداد الشك في أنفسهم ، واستمر الخوف والرعب والقلق في نفوسهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

العبرة دائما بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهذه الآيات تحذير دائم للمؤمنين من طاعة الكافرين على مختلف أنواع كفرهم ، لعداوتهم وحقدهم وغشهم وعدم الثقة بنصحهم وأمانتهم.

والمؤمن بقوة إيمانه ، وثقة لقائه ربه ، واعتقاده بسلطان الله وتأييده

١٢١

ونصره ، يكون دائما قوي العزيمة ، شديد الشكيمة ، صلب الإرادة. فإن ظهرت فيه علائم الخوف من الكفرة كان مسلما بالوراثة والاسم الظاهر فقط ، وليس مؤمنا حقا.

والمشرك والكافر في قلق دائم ، واضطراب مستمر ، وخوف مستحكم في قلبه وفي أعماق نفسه ، إذ إن الكفر لا يلقي في نفسه شيئا صحيحا ثابتا من الطمأنينة والثقة ، وإنما هي موروثات وتقاليد يرددها ، وعصبية عمياء حجبته عن رؤية الحقائق ، وصدّته عن التفكير الصحيح بوحدانية الله وقدرته الشاملة وسلطانه القاهر في الدنيا والآخرة.

وآية إلقاء الرعب في قلوب الكفر دليل على بطلان الشرك عقلا وحسا ، وعلى سوء أثره في النفس ، إذ لا يلقي في النفس الثقة والأمان والطمأنينة ، وإنما على العكس يخلق الرعب ، وينشر الهلع والخوف في كل وقت.

وما أقوى وأشد تأثيرا من تهديدات القرآن وإنذاراته بالنار الحامية للكافرين ، ولو غضوا الطرف عنها ، فإنهم لا بد سامعون لها. ودل قوله : (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) المنبئ عن المكث الطويل على أنهم خالدون في النار ، ولا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم يخرجون منها ، ولو لراحة وقتية ، أو تنفس واستنشاق هواء عليل فترة ما ، يرد عليهم نسيم الحياة ، وحلاوتها العذبة الرقراقة.

أسباب انهزام المسلمين في أحد وتفرقهم بعد وعدهم بالنصر

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ

١٢٢

فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))

الإعراب :

(أَمَنَةً نُعاساً) في نصبهما وجهان : إما أن تكون (أَمَنَةً) منصوبا بأنزل ، و (نُعاساً) بدلا منه ، وإما أن تكون (أَمَنَةً) مفعولا لأجله ، و (نُعاساً) منصوبا بأنزل. (يَغْشى) أي النعاس ، ومن قرأ بالتاء ردّ إلى الأمنة. (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) مبتدأ وخبر ، والجملة منهما حال. والواو : إما واو الحال ، أو واو الابتداء ، أو بمعنى إذ.

١٢٣

(يَظُنُّونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (أَهَمَّتْهُمْ) أو في موضع رفع صفة لطائفة. (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) كلّه بالنصب تأكيد للأمر ، و (بِاللهِ) : خبر (إِنَ). ومن قرأ بالرفع : فهو مبتدأ ، و (بِاللهِ) : خبره ، والجملة منهما خبر (إِنَ). (وَلِيَبْتَلِيَ) لام كي ، متعلقة بفعل مقدر دل عليه الكلام وتقديره : وليبتلي ما في صدوركم أوجب عليكم القتال. (وَلِيُمَحِّصَ) : معطوف على (لِيَبْتَلِيَ).

البلاغة :

يوجد طباق بين (يُخْفُونَ) و (يُبْدُونَ) وبين (فاتَكُمْ) و (أَصابَكُمْ).

(وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) تنكير : فضل للتفخيم ، وإظهار (الْمُؤْمِنِينَ) في موضع الإضمار للتشريف. (يَظُنُّونَ بِاللهِ ظَنَ) و (فَتَوَكَّلْ) و (الْمُتَوَكِّلِينَ) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) إياكم بالنصر. (تَحُسُّونَهُمْ) تقتلونهم وتستأصلونهم ، مأخوذ من حسّه : أذهب القاتل حسّه بالقتل ، كما يقال : بطنه : أصاب بطنه. (بِإِذْنِهِ) بإرادته وأمره وتأييده وعونه. (فَشِلْتُمْ) جبنتم وضعفتم عن القتال. (وَتَنازَعْتُمْ) اختلفتم. (فِي الْأَمْرِ) أي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمقام في سفح الجبل للرمي ، فقال بعضكم : نذهب فقد نصر أصحابنا ، وبعضكم قال : لا نخالف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَعَصَيْتُمْ) أمره ، فتركتم المركز لطلب الغنيمة. (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) الله. (ما تُحِبُّونَ) من النصر.

وجواب (إِذا) : دل عليه ما قبل أي منعكم نصره.

(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) أي الغنيمة. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فثبت حتى قتل كعبد الله بن جبير وأصحابه. (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) ردّكم للهزيمة ، وهو عطف على جواب (إِذا) المقدر.

(عَنْهُمْ) أي الكفار. (لِيَبْتَلِيَكُمْ) ليمتحنكم ويختبركم ، فيظهر المخلص من غيره ، والمراد ليعاملكم معاملة من يختبر ويمتحن ، وإلا فالله عالم لا يحتاج إلى اختبار. (عَفا عَنْكُمْ) تاب عليكم لما ارتكبتموه. (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بالعفو.

(إِذْ تُصْعِدُونَ) اذكروا إذ تذهبون في الأرض أو الوادي وتبعدون هاربين. (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي لا تلتفتون لأحد. (أُخْراكُمْ) آخركم أو من ورائكم يقول : إليّ عباد الله ، إلي عباد الله. (فَأَثابَكُمْ) فجازاكم. (غَمًّا) بالهزيمة. (بِغَمٍ) بسبب غمكم ومضايقتكم للرسول بالمخالفة. والغم : ألم وضيق في الصدر من أمر محرج.

١٢٤

(أَمَنَةً) أي أمنا وهو ضد الخوف. (يَغْشى) يغطي ويستر. (يُبْدُونَ) يظهرون. (لَبَرَزَ) لخرج. (مَضاجِعِهِمْ) مصارعهم التي قدر قتلهم فيها.

(لِيَبْتَلِيَ) يختبر. (ما فِي صُدُورِكُمْ) قلوبكم من الإخلاص والنفاق. (وَلِيُمَحِّصَ) يميز. (بِذاتِ الصُّدُورِ) عليم بما في القلوب لا يخفى عليه شيء ، وإنما يبتلي ليظهر للناس.

(الْجَمْعانِ) جمع المؤمنين وجمع المشركين بأحد ، والذين تولوا : هم المسلمون إلا اثني عشر رجلا. (اسْتَزَلَّهُمُ) أزلهم الشيطان بوسوسته ، أي أوقعهم في الزلل والخطأ. (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من الذنوب ، وهو مخالفة أمر النبي ، فمنعوا التأييد والنصر الإلهي الذي كان وعدهم به ربهم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٥٢) :

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ...) : قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) الآية ـ إلى قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد (١).

نزول الآية (١٥٤):

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) : أخرج ابن راهويه عن الزبير قال : لقد رأيتني يوم أحد ، حتى اشتد علينا الخوف ، وأرسل علينا النوم ، فما منا أحد إلا ذقنه في صدره ، فو الله ، إني لأسمع كالحلم قول معتّب بن قشير : لو كان لنا من الأمر شيء ، ما قتلنا هاهنا ، فحفظتها فأنزل الله في ذلك : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) ـ إلى قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

ومعنى قوله : (ما قُتِلْنا هاهُنا) أي لو كان الاختيار إلينا لم نخرج ، فلم

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٧٢

١٢٥

نقتل ، لكنّا أخرجنا كرها. فرد الله عليهم : (قُلْ : لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ..) الآية ، أي أن من قدّر عليه القتل قاده أجله إلى الخروج في مكان فقتل فيه ، ولم ينجه قعوده في منزله ؛ لأن قضاءه تعالى كائن لا محالة.

التفسير والبيان :

والله لقد وفي لكم ربكم وعده النصر على العدو حين أخذتم تقتلونهم قتلا ذريعا وتفتكون بهم فتكا بتأييد الله ومعونته ومشيئته وإرادته.

صدقكم الله وعده ، حتى إذا جبنتم وضعفتم عن القتال واختلفتم في الرأي والعمل في تنفيذ أمر نبيكم بالثبات على جبل الرماة ، فقال بعضكم : فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون : لا نخالف أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا ، ولم يثبت إلا عبد الله بن جبير مع نفر من أصحابه ، لما حدث ذلك تأخر النصر وأحدقت الهزيمة بكم.

وبعبارة أخرى : فلما واجهتموهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام ، ولما اختلفتم وحصل ما حصل من عصيان الرماة ، وفشل بعض المقاتلة ، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة (١).

عن عروة بن الزبير قال : وكان الله عزوجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، وكان قد فعل ؛ فلما عصوا أمر الرسول ، وتركوا مصافّهم. وترك الرّماة عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم ، وأرادوا الدنيا ، رفع عنهم مدد الملائكة ، وأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) فصدق الله وعده ، وأراهم الفتح ، فلما عصوا أعقبهم البلاء (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٤١١ ـ ٤١٢

(٢) تفسير القرطبي : ٤ / ٢٣٥

١٢٦

فألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم ، ووجه التوبيخ لهم : أنهم رأوا مبادئ النصر ، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات ، لا في الانهزام.

ثم بين سبب التنازع فقال : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني الغنيمة ، قال ابن مسعود : ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الدنيا وعرضها ، حتى كان يوم أحد. وهؤلاء هم الذين تركوا أماكنهم على الجبل طلبا للغنيمة.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا في مركزهم ، ولم يخالفوا أمر نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أميرهم عبد الله بن جبير ، فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه ، وكانا يومئذ كافرين ، فقتلوه مع من بقي ، رحمهم‌الله.

والعتاب مع من انهزم ، لا مع من ثبت ، فإن من ثبت فاز بالثواب.

ثم بعد أن استوليتم عليهم ، ردكم عنهم بالانهزام ، فعل هذا ليمتحن إيمانكم ، ولقد عفا الله عنكم وغفر لكم ذلك الصنيع ، بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرطتم به ، والله ذو فضل على المؤمنين أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، وربما كان سبب العفو والفضل والرحمة كثيرة عدد العدو وعددهم ، وقلة عدد المسلمين وعددهم.

ثم ذكّر هم الله تعالى ، فقال : اذكروا وقت أن صرفكم عنهم حين أصعدتم في الجبل أي ذهبتم منهزمين ، وأنتم لا تلتفتون لأحد من الدهش والخوف والرعب ، والحال أن الرسول قد خلفتموه وراء ظهوركم ، يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء ، قائلا : «إلي عباد الله ، إلي عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكرّ فله الجنة» وقال ابن عباس وغيره : كان دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي عباد الله ارجعوا» فالرسول يدعوكم في آخركم ، جاء في البخاري : أخراكم : تأنيث آخركم. قال البراء بن عازب : جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الرّجّالة يوم أحد عبد الله بن جبير ، وأقبلوا منهزمين ، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. ولم يبق مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير اثني عشر رجلا.

١٢٧

وكان جزاؤكم غمّا بغمّ ، والغم الأول : إلحاق الهزيمة وحرمان الغنيمة والقتل بالصحابة ، والغم الثاني الذي سبّب الغم الأول : هو ما حدث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ألم وضيق بسبب عصيانكم أمره ، ومخالفتكم رأيه. وهذا أرجح الأقوال كما قال ابن جرير الطبري.

وقد فعل بكم ذلك كله لتتمرنوا على الشدائد ، وتتعودوا احتمال المكاره ، فإنها تصقل الأمم والأفراد ، ولئلا تحزنوا على ما فاتكم من المنافع والمغانم ، ولا على ما أصابكم من المضارّ من عدوكم ، كالجراح والقتل ، والله خبير بأعمالكم ، فمجازيكم عليها ، إذ العمل سبب النجاح والظفر ، وتكميل الإيمان والتحلي بالفضائل. وفي هذا ترغيب بالطاعة وزجر عن المعصية.

ثم ذكر الله تعالى ما امتنّ به على عباده من بعد الغم الذي اعتراهم ، وهو إنزال السكينة والأمن (١) وهو النعاس الذي غشيهم وغلبهم ، وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم ، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان ، ليستردوا ما فقدوه من القوة ، وما عرض لهم من الضعف ، كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) [الأنفال ٨ / ١١]. قال أبو طلحة : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد ، حتى سقط سيفي من يدي مرارا ، يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه (٢). وروى البخاري أيضا في التفسير عن أبي طلحة قال : غشينا النعاس ، ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه (٣).

وكان النعاس يغشى طائفة من الناس ـ والطائفة : تطلق على الواحد

__________________

(١) الأمن والأمنة سواء.

(٢) هكذا رواه البخاري في المغازي معلقا.

(٣) ورواه أيضا الترمذي والنسائي والحاكم بلفظ مقارب.

١٢٨

والجماعة ـ ، وهم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة في إيمانهم ، كما قال ابن عباس ، أو هم أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل على الله ، وهم الجازمون بأنّ الله سينصر رسوله ، وينجز مأموله.

وطائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم أي حملتهم على الهم ، وملأ الخوف قلوبهم ، لعدم ثقتهم بنصر الله ، ولعدم إيمانهم بالرسول ، وهم جماعة من المنافقين كعبد الله بن أبي ومعتّب بن قشير وأتباعهم ، لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف ، ولا يهتمون بأمر الرسول والدين ، وهم كما أخبر الله : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه ؛ إذ قالوا : لو كان محمد نبيا حقا ما تسلط عليه الكفار ، وهو قول أهل الشرك بالله.

وهذه الطائفة الثانية يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لنا من الأمر والنصر والفتح نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شيء ؛ لأنهم يعتقدون أن هذا ليس بحق. وهذا سبب خطئهم الفاحش ، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا ، والمهم تمام الأمر والعاقبة.

فرد الله تعالى عليهم : بأن كل أمر يجري فهو بحسب سنته تعالى في الخليقة ، تلك السنة القائمة على ربط الأسباب بالمسببات ، وأن الأمر والنصر كله لله ، لا لغيره ، وهو ناصر عباده المؤمنين كما وعدهم بقوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقوله : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧٣].

وهؤلاء المنافقون يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد ، ويتساءلون في الظاهر سؤال المؤمنين المسترشدين : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) لكنهم يبطنون الإنكار والتكذيب والنفاق.

ويقولون في أنفسهم أو لبعضهم بعضا منكرين لقولك لهم : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ

١٢٩

لِلَّهِ) : لو كان الأمر كما قال محمد : إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، فهم يربطون بين النبوة والنصر ، وأنه لو كان محمد نبيا ما هزم ، وفاتهم أن النصر من عند الله وتوفيقه ، وأن الهزيمة بسبب مخالفات المسلمين.

فرد الله عليهم بأن الآجال والأعمار بيد الله ، وأن النصر من عند الله ، وأن من كتب عليه القتل فلا بد أنه مقتول ، فلو كان في بيته وانتهى أجله ، لخرج إلى مكان مصرعه ، والحذر لا يمنع القدر ، والأمر كله بيد الله.

وقد فعل الله ما فعل من إلحاق الهزيمة بالمسلمين في نهاية غزوة أحد ، ليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص والثبات ، وليميز ما في القلوب من أمراض ووساوس الشيطان ، والله عليم بذات الصدور أي بالأسرار والخفيات ، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وإنما فعل هذا لينكشف حال الناس ، وتظهر الحقائق ، وتنجلي مواقف المؤمنين الصابرين والمنافقين المخادعين.

وإن المؤمنين الذين انهزموا أو تركوا أماكنهم يوم التقاء الجمعين من المسلمين والمشركين في أحد ، إنما أوقعهم الشيطان فريسة له في الزلل والخطأ ، بسبب بعض ما كسبوا من ذنوبهم ، ومعناه أن الذين انهزموا يرم أحد ، كان السبب في توليهم الأدبار : أنهم كانوا أطاعوا الشيطان ، فاقترفوا ذنوبا أدت بهم إلى منع التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وهذا يدل على أن الذنب يجز إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة ، وتكون لطفا فيها ، كما قال الزمخشري (١). وتكون المصائب والعقوبات ومنها الهزائم آثارا للأعمال السيئة ، فإن من جزاء السيئة السيئة بعدها ، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٣٥٦

١٣٠

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أي عما كان من الفرار ، ولم يؤاخذهم في الآخرة ، وجعل عقوبتهم في الدنيا درسا وتربية وتمحيصا ، وهذا يفتح أمامهم باب الأمل ، ويدفع استيلاء اليأس على نفوسهم.

إن الله غفور يغفر الذنوب جميعها صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتراف بالتقصير ، حليم لا يعجل بالعقوبة على الذنب ، وإنما يترك فرصة للعبد لتصحيح أخطائه ، ومعالجة تقصيره.

فقه الحياة أو الأحكام :

الناس في الماضي كالناس في الحاضر يعيشون في الأحلام والخيالات ، فهم ينتظرون النصر منحة إلهية خالصة للمؤمنين ، دون أن يقوموا بواجباتهم ويعملوا بما تقتضيه متطلبات الحروب مع العدو ، فهم المكلفون من الخلق بالجهاد وحمل الأمانة ، وإذا جاهدوا وصبروا وثبتوا ، أيدتهم العناية الإلهية ، وتحقق لهم النصر والفوز.

والله صادق الوعد بنصر المؤمنين ما داموا على الحق ثابتين ، وفي ميدان المعارك مجاهدين صابرين مطيعين متوحدين غير متفرقين ، وأما الجبن والضعف والتفرق والنزاع والأطماع الدنيوية فهي سبب الخذلان والهزيمة المنكرة ، وقد صدق الله وعده للمؤمنين في أحد ، وأراهم الفتح في بداية المعركة حين صرع صاحب لواء المشركين وقتل معه سبعة نفر ، فلما عصوا وخالفوا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات على جبل الرماة ، واشتغلوا بالغنيمة أعقبهم البلاء ، وأدى بهم إلى الجراح والقتل ، والهزيمة وفرار الناس من حول قائدهم النبي.

وتغير وجه المعركة من نصر إليه هزيمة ، فبعد أن استولى المسلمون على المشركين ردهم عنهم بالانهزام ، لقوله تعالى : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) وهذا دليل على أن المعصية مخلوقة لله تعالى.

١٣١

ولكن من لطف الله بعباده الذين أخطئوا هذه المرة أن عفا عنهم ، ولم يستأصلهم بالمعصية والمخالفة ، والله ذو فضل دائم على المؤمنين بالعفو والمغفرة ، قال ابن عباس : ما نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما نصر يوم أحد ، فأنكر الصحابة ذلك ، فقال لهم : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عزوجل ، إن الله عزوجل يقول في أحد : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) والحسّ : القتل.

ولم يكن فرار المسلمين في أحد مقبولا ؛ لأن القائد وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يزال صامدا يقاتل في قلب المعركة ، ويدعو الفارّين إلى العودة والكرّ ، فلما لم يرجعوا جازاهم الله بالغم والحزن وهو القتل والجراح وعدم الظفر بالغنيمة ، بسبب الغم والضيق الذي ملأ قلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمخالفتهم إياه. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا.

ولكن فضل الله ورحمته بالمؤمنين بعد هذا الغم ألقى عليهم النعاس أو النوم ليشعرهم بالأمن وليجددوا عزائمهم وترتاح نفوسهم من بعد هذه الهزيمة. أما المنافقون فظلوا في قلقهم واضطرابهم لا ينامون ولا يشعرون بالطمأنينة والأمن ، ويقولون : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) استفهام معناه الجحد والإنكار ، أي ما لنا شيء من أمر الخروج ، وإنما خرجنا كرها ، بدليل قولهم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) قال الزبير : أرسل علينا النوم ذلك اليوم ، وإني لأسمع قول معتّب بن قشير ، والنعاس يغشاني يقول : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا). وقيل : المعنى : يقول ليس لنا من الظّفر الذي وعدنا به محمد شيء.

فرد الله تعالى عليهم : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي النصر بيد الله ، ينصر من يشاء ، ويخذل من يشاء. والأجل والعمر بيد الله ، وما من ميت إلا ويموت بأجله ، سواء في الحرب وساحاتها ، أم في المنازل والمضاجع وغرفها وحدائقها. وهكذا كان أهل غزوة أحد بعد انتهائها فريقين :

١٣٢

١ ـ فريق ذكروا ما أصابهم ، فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم ، وذكروا وعد الله بنصرهم ، فاستغفروا لذنوبهم وآمنهم ربهم.

٢ ـ وفريق أذهلهم الخوف ، حتى شغلوا عن كل ما سواه ، إذ لم يثقوا بوعد الله ولم يؤمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما سبب انهزام المؤمنين يوم أحد فكان بتأثير الشيطان وإغوائه ووسوسته ، وبما اقترفوا من ذنوب سابقة ، فإنه ذكرهم خطايا سلفت منهم ، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا ، ولكن الله بفضله ورحمته عفا عنهم ولم يعاجلهم بالعقوبة. قال القرطبي : ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه‌السلام ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «فحجّ آدم موسى» أي غلبه بالحجة ؛ وذلك أن موسى عليه‌السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذرّيته من الجنة ، بسبب أكله من الشجرة ؛ فقال له آدم : «أفتلومني على أمر قدّره الله تعالى عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة ، تاب عليّ منه ، ومن تاب عليه ، فلا ذنب له ، ومن لا ذنب له ، لا يتوجّه عليه لوم». وكذلك من عفا الله عنه. وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك ، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه ، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم ، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم ، إذ لا علم لهم بذلك (١).

تحذير المؤمنين من أقوال المنافقين وترغيبهم في الجهاد وبيان فضله

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ٢٤٥

١٣٣

أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

الإعراب :

(إِذا ضَرَبُوا) أتى بالفعل الماضي بعد إذا التي هي للاستقبال ؛ لأن إذا بمنزلة إن ، و (إن) تنقل الفعل الماضي إلى معنى المستقبل.

(لِيَجْعَلَ) لام العاقبة ، ومعناه : لتصير عاقبتهم إلى أن يجعل الله جهاد المؤمنين وإصابة الغنيمة أو الفوز بالشهادة حسرة في قلوبهم ، مثل آية : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨].

(وَلَئِنْ مُتُّمْ) يقرأ ميم (مُتُّمْ) بالضم والكسر ، وهما لغتان. واللام في (لَئِنْ): عوض عن القسم. وإنما لم تدخل نون التوكيد مع اللام على فعل (تُحْشَرُونَ) الذي هو جواب القسم مثل : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَ) [الإسراء ١٧ / ٨٦] ؛ لأنه فصل بين اللام والفعل بالجار والمجرور. (لَمَغْفِرَةٌ) مبتدأ ، وخبره : (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

البلاغة :

(إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) استعارة ، شبّه المسافر برا بالضارب السابح في البحر.

المفردات اللغوية :

(كَالَّذِينَ كَفَرُوا) هم المنافقون بزعامة عبد الله بن أبي (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي في شأنهم ، والأخوة تشمل أخوة النسب والدين والمودة (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) سافروا في الأرض للتجارة والكسب.

١٣٤

(أَوْ كانُوا غُزًّى) أي مقاتلين في الحرب ، واحدهم غاز (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) القول في عاقبة أمرهم (حَسْرَةً) ندامة في قلوبهم. (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) فلا يمنع الموت قعود.

المناسبة :

حذر الله تعالى في الآية السابقة من وسوسة الشياطين التي أدت إلى الهزيمة يوم أحد ، وحذر هنا من وسواس المنافقين أعوان الشياطين.

التفسير والبيان :

ينهى الله تعالى عباده المؤمنين ويحذرهم من مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الذي وضح بقولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب : لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم.

يا أيها المؤمنون لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن إخوانهم حين سافروا في البلاد للتجارة فماتوا ، أو كانوا غزاة محاربين فقتلوا : لو كانوا باقين عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

لأن هذا جهل في الدين وضلال في الإيمان ؛ لأن الحياة والموت بيد الله ، كما قال : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران ٣ / ١٤٥].

والقضاء والقدر لا يجعلان الإنسان مجبورا على أفعاله ؛ لأن القضاء : معناه تعلق العلم الإلهي بالشيء ، والعلم انكشاف وإحاطة بالشيء لا يقتضي الإلزام ؛ والقدر : وقوع الشيء بحسب العلم ، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع ، وإلا كان جهلا. والإنسان مختار في أعماله ، لكنه ناقص القدرة والإرادة والعلم ، وله حدود لا يتعداها ، فقد يعزم على شيء أو يختار عملا ، ولكنه لا يحيط علما بأسباب الموت. ومتى وقع الشيء علم أن وقوعه لا بد منه ، وإذا كان الإنسان مؤمنا بمعونة الله وتأييده وأنه يوفقه إلى ما يجهل من أسباب سعادته ، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل وأبعد عن العثرات والفشل.

١٣٥

لا تكونوا كالذين كفروا الذين قالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا ، ليكون عاقبة ذلك القول حسرة في قلوبهم على من فقدوا ، تزيدهم ضعفا ، وتورثهم ندما ، فإذا كنتم مثلهم أصابكم من الحسرة مثل ما يصيبهم ، وتضعفون عن القتال كضعفهم.

فالله خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم. ثم رد الله تعالى عليهم بقوله : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي بيده الخلق والإيجاد ، وإليه يرجع الأمر والإعدام ، ولا يحيى أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره ، ولا يزاد في عمر أحد ، ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره.

والله بما تعلمون بصير ، أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه ، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ظاهرها وباطنها ، يعلم بما تكنّه النفوس وما تعتقده ، وإن لم تعبر عنه. وفي هذا ترغيب للمؤمنين وتهديد للكافرين.

والقتل في سبيل الله والموت أيضا وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه ، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجميع حطامها الفاني الذي يجمعونه.

فما أجدر المؤمن أن يؤثر مغفرة الله التي تمحو الذنوب ، ورحمته التي ترفع الدرجات على حظوظ الدنيا الفانية ، فما هو خالد باق خير مما هو مؤقت فان.

ثم حث سبحانه وتعالى على العمل في سبيل الله ؛ لأن المال إليه ، فأخبر بأن كل من مات أو قتل ، فمصيره ومرجعه إلى الله عزوجل ، فيجزيه بعمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فبأي سبب كان هلاككم فإلى الله مرجعكم ، وتحشرون ، أي تجمعون إليه لا إلى غيره.

وهذا حث على العمل وبث لروح التضحية والجهاد من أجل العقيدة ورفع لواء الإسلام والدفاع عن الأوطان ، ووعد قاطع بأن من يقتل في سبيل الله فهو حي يرزق عند ربه ، وله عند الناس أطيب الذكر والثناء الجميل.

١٣٦

فقه الحياة أو الأحكام :

يحرص القرآن الكريم على بروز الشخصية الذاتية للمسلمين ، وعلى تعهدهم بالرعاية والعناية ، وإيجاد الموقف المتميز لهم أمام خصوم الدعوة الإسلامية ، لذا حذرهم ونهاهم من أن يقولوا مثل قول المنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعثها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بئر معونة.

فالحياة والموت بيد الله ، والله واسع العلم نافذ البصر بأعمال الناس وخفاياهم ، فمن الخطأ القول بأن الشخص لو كان في منزله أو بلده ما مات ولا قتل ؛ لأن القعود عن الجهاد لا يحفظ الحياة ، وكذا التعرض لقتال الأعداء لا يسلب الحياة ولا يعجل بالموت.

لا تكونوا مثلهم ، ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم ؛ لأنه ظهر نفاقهم. والله يقدر أن يحيي من يخرج إلى القتال ، ويميت من أقام في أهله ، فذلك تهديد للمؤمنين حتى لا يتشبهوا بالكفار في أقوالهم وأفعالهم.

ثم أخبر الله تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا ، ثم وعظ المؤمنين بقوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) أي لا تفرّوا من القتال ومما أمركم به ، بل فرّوا من عقابه وأليم عذابه ، فإن مردّكم إليه ، لا يملك لكم أحد ضرّا ولا نفعا غيره.

والخلاصة : إن الآيات تضمنت تحذيرا أو تهديدا للمؤمنين ، ووعدا ، وحثا على العمل والجهاد. أما التحذير فهو من مشابهة الكافرين بأقوالهم وأفعالهم ، وأما الوعد فهو أن ما ينتظره المؤمن المقاتل في سبيل الله من مغفرة الذنوب ورحمة الله التي ترفع الدرجة خير له من الدنيا وما فيها من لذات وشهوات.

وأما الحث على العمل في سبيل الله وبث روح التضحية والجهاد فهو مفهوم

١٣٧

من المصير المنتظر لجميع الخلائق ، وهو حشرهم إلى الله لا إلى غيره ، فيجازي المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته ، ولا يرجى نفع من غيره ، ولا يدفع ضرر أو عقاب من سواه.

معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه بالرفق والعفو والمشاورة

والوعد بالنصر

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

الإعراب :

(فَبِما رَحْمَةٍ ..) : ما زائدة مؤكدة ، والتقدير : فبرحمة من الله ، وهي في موضع نصب ؛ لأن التقدير : لنت لهم برحمة من الله.

(يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) الهاء في : بعده إما عائدة على الله تعالى ، أو عائدة على الخذلان ، لدلالة قوله تعالى : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كقولهم : من كذب كان شرّا له ، أي كان الكذب شرا له.

البلاغة :

توجد مقابلة بين (إِنْ يَنْصُرْكُمُ ..) و (إِنْ يَخْذُلْكُمْ). (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ..) قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر.

١٣٨

لمفردات اللغوية :

(لِنْتَ لَهُمْ) اللين : الرفق والتساهل في المعاملة ، أي سهلت أخلاقك إذ خالفوك. (فَظًّا) سيء الخلق ، شرس الطباع (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيا جافيا لا يتأثر قلبه بشيء (لَانْفَضُّوا) تفرقوا من حولك (فَاعْفُ) تجاوز عما أتوه (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ذنبهم لأغفر لهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) تعرّف على آرائهم في سياسة الأمة في الحرب والسلم وشؤون الحياة الدنيوية تطييبا لقلوبهم ، وليستن بك ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير المشاورة لهم (فَإِذا عَزَمْتَ) على إمضاء ما تريد بعد المشاورة (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ثق به بعد المشاورة ، والتوكل : الاعتماد على الله في كل أمر.

المناسبة :

المناسبة واضحة ، فالآيات ما تزال تتحدث عن غزوة أحد وآثارها ، فبعد أن عفا الله عما بدر من المسلمين في أحد ، وحذرهم من التأثر بأقوال المنافقين ، أعقبه بعفو القائد المصطفى الذي ساءه هذا الموقف وما أدى إليه من الجراح والآلام ، فقد عاملهم بالرفق واللين والحلم ، وخاطبهم باللطف وحسن المعاشرة ، بل استشارهم في مستقبل الأحداث ومصالح الدنيا ؛ لما عرف عنه من سمو الأخلاق وحكمة القيادة ، فهو رحمة للعالمين ، ووصفه القرآن بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم ٦٨ / ٤].

التفسير والبيان :

خاطب الله نبيه بعد خطاب المؤمنين ، ممتنا عليه وعليهم فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره. فبرحمته تعالى وتوفيقه لك ولهم جعلك الله ليّن المعاملة ، رفيق المعاشرة ، لطيف اللفظ والكلام ، في إرشادهم وقبول عذرهم فيما فرط منهم في غزوة أحد.

وهذا إظهار لسمو القيادة ، وحكمة الرئاسة ، وأخلاق النبوة ، وهي مثل قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم ٦٨ / ٤] وقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ

١٣٩

رَحِيمٌ) [التوبة ٩ / ١٢٨]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حلم أحبّ إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه».

ولو كنت غليظ الكلام خشنا قاسي القلب جافّ الطبع في معاملتهم ، لتفرقوا من حولك ، وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم ، تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو : «إني أرى صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب المتقدمة أنه ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح» وروى محمد بن إسماعيل الترمذي عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أمرني بمداراة الناس ، كما أمرني بإقامة الفرائض» (١).

وإذا كنت يا محمد بهذه الأخلاق فاعف عنهم ، وتجاوز عما صدر منهم ، واطلب لهم المغفرة من الله حتى يغفر لهم ، وشاورهم في أمور السياسة العامة ومصالح الأمة في الحرب والسلم ، وكل شؤون المصالح الدنيوية.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلا يشاور أصحابه في الأمور كلها ، تطييبا لقلوبهم ، وليستن الناس بفعله ، قال الحسن رضي‌الله‌عنه : قد علم الله أن ما به إليهم حاجة ، ولكن أراد أن يستنّ به من بعدهم. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكره الماوردي : «ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم» وقال أبو هريرة رضي‌الله‌عنه فيما رواه الترمذي : «لم يكن أحد أكثر مشاورة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم».

ـ شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير ، فقالوا : يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا

__________________

(١) حديث غريب.

١٤٠