التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

وبصدد ذلك ذكر أضداد الشّهداء تنويها بإخلاصهم ، فقال تعالى : والله يعاقب الظالمين الكافرين ، بسبب ظلمهم أنفسهم وفسادهم في الأرض ، وبغيهم على الناس ، ويعجل زوال دولتهم وسلطتهم ، لأن الظلم لا بقاء له.

ثم أكّد الله تعالى أنّ المعارك مجالات كشف وإبراز وتطهير ، ففيها يتميّز المؤمنون الصادقون عن المنافقين ، وبها عرف صدق الإيمان وصلابة العزيمة والثبات عند الابتلاء ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [آل عمران ٣ / ١٤٣] ، ففي غزوة أحد تراجع المنافقون ولا ذوا بالفرار ، بل إن بعض المؤمنين في أثناء المعركة هرب ، وثبت الآخرون حول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتبيّن أن تمنيات اللقاء مع العدو مجرد آمال لا قرار ولا ثبات لها ، وقد ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف».

ومن فوائد المعارك أيضا تبيان حال الكفار ، فهم إن ظفروا كما في أحد بغوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم ، فلا بقاء ولا استمرار لهم ، ولا ثبات لأحوالهم أمام المؤمنين الصادقين. وإذا هزموا كما في بدر عاجلهم الله بالدّمار والفناء ، والعاقبة للمتّقين.

وقد وردت آيات كثيرة في معنى هذه الآيات منها : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ ، وَزُلْزِلُوا ...) [البقرة ٢ / ٢١٤] ، ومنها : (الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ١ ـ ٢] ، ومنها الآية التالية : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران ٣ / ١٤٢].

١٠١

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع هذه الآيات بتعبير العصر : تقوية الرّوح المعنوية للمؤمنين ، وجعلها عالية سامية لا تتأثر ولا تهتز بأحداث المعارك والقتال. وفي تعبير المفسّرين : هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين.

وهي تذكرهم بسنّة الله الدّائمة في الكون ، وهي ارتباط الأسباب بالمسببات ، مع الإيمان بالقدرة المطلقة لله في إيجاد ما يشاء ، إنها تذكير بهلاك من كذب قبلنا أنبياءهم كعاد وثمود ، والعاقبة أي آخر الأمر للمؤمنين ، فإن انتصر المشركون يوم أحد ، فهذا إمهال واستدراج ، وسيكتب النّصر النهائي للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وسيهلك أعداؤهم الكافرون.

ثمّ عزّى الله المؤمنين وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح ، وحثّهم على قتال عدوّهم ، ونهاهم عن العجز والفشل والقعود عن جهاد الأعداء ، فإن الهزيمة أو المصيبة تذكر بضرورة تصحيح الأخطاء ، وتهيئ لدراسة عميقة لمستقبل الأحداث ، وتخطط لمعارك كثيرة ، يكون الماضي خير درس وعبرة فيها ، وعندئذ تكون العاقبة بالنصر والظفر للمؤمنين إذا أحسنوا الإعداد ، واستفادوا من أخطاء الماضي.

وتحقق وعد الله للمؤمنين بأنهم الأعلون أي الغالبون على الأعداء بعد أحد ، فكان النّصر والظّفر في المعارك المتوالية ، في عهد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي عهد الصحابة من بعده أيضا. وهذا دليل على فضل هذه الأمّة : لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه ، فقال لموسى عليه‌السلام : (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه ٢٠ / ٦٨] ، وقال لهذه الأمّة : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).

وتداول الأيام بين الناس في الحرب ، فيكون النّصر مرّة للمؤمنين لنصر الله عزوجل ، ومرّة للكافرين إذا عصى المؤمنون ، إنما هو ليرى المؤمن من المنافق ،

١٠٢

فيميز بعضهم من بعض ، كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ، فَبِإِذْنِ اللهِ ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) [آل عمران ٣ / ١٦٦].

ومن فوائد المداولة : إكرام قوم بالشّهادة ، فيقتلون ، فيكونون شهداء على النّاس بأعمالهم ، وليصيروا مشهودا لهم بالجنّة ، وللشهادة فضل عظيم ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ..) [التوبة ٩ / ١١١] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) إلى قوله : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصّف ٦١ / ١٠ ـ ١٢]. وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة».

ودلّ قوله : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) على أن الإرادة غير الأمر ، كما يقول أهل السّنة ، فإن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين : حمزة وأصحابه ، وأراد قتلهم ، ونهى آدم عن أكل الشجرة ، وأراده ، فواقعه آدم ، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده ، فامتنع منه ، وأشار تعالى لذلك : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة ٩ / ٤٦]. وأمر تعالى الجميع بالجهاد ، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير ، فقعدوا.

ودلّ قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي المشركين على أنه تعالى وإن حقق نصر الكفار على المؤمنين مرة ، فهو لا يحبّهم ويعاقبهم ، وإن أوقع ألما بالمؤمنين فإنه يحبّهم ويثيبهم.

وتتلخّص نتيجة المداولة بين المؤمنين والكفار في الحروب : أن الله شرع اللقاء ليبتلي المؤمنين ويثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم ، ويستأصل الكافرين بالهلاك.

١٠٣

وللجنة ثمن وبدل ثمين ، فهل حسبتم يا من انهزموا يوم أحد أن تدخلوا الجنّة ، كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل ، من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟! لا.

عتاب لبعض أهل أحد بقدسية الجهاد وضرورة الثبات على المبدأ

وتذكير بأن الموت بإذن الله

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))

١٠٤

الإعراب :

(أَمْ حَسِبْتُمْ) أم هاهنا المنقطعة ، لأنها ليس قبلها همزة. (وَلَمَّا) حرف لنفي ما قرب من الحال. (يَعْلَمِ) مجزوم بلما ، وكسرت لالتقاء الساكنين ، و (يَعْلَمِ) : هاهنا بمعنى يعرف ، ولهذا تعدّت إلى مفعول واحد وهو الذين. (وَيَعْلَمَ) منصوب بتقدير أن ، أي لم يجتمع العلم بالمجاهدين والصابرين. (أَنْ تَلْقَوْهُ) في موضع بإضافة (قَبْلِ) إليه ، والهاء تعود على الموت ، وكذا هاء : (رَأَيْتُمُوهُ) أي رأيتم أسبابه ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(أَنْ تَمُوتَ) أن وصلتها في تأويل مصدر في موضع رفع اسم كان. (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) خبر كان. (كِتاباً مُؤَجَّلاً) منصوب على المصدر. (نُؤْتِهِ مِنْها) قرئ بالإشباع وهو أحسن من الاختلاس والإسكان ، لأنه الأصل ، ثم الاختلاس ثم الإسكان وهو أضعفها. (وَكَأَيِّنْ) بمنزلة «كم» في الدّلالة على العدد الكثير ، وأصلها «أي» أدخلت عليها كاف التّشبيه. (رِبِّيُّونَ) فاعل مرفوع لقاتل ، والجملة في موضع جر صفة لنبيّ. وخبر (كَأَيِّنْ) مقدر ، وتقديره : في الدّنيا ، أو في الوجود وما أشبه ذلك.

البلاغة :

(فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) يعني الموت ، شاهدتموه ، فيه ما يسمى بالتخييل : وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس ، كما تتخيّل الشاة صداقة الكبش ، وعداوة الذئب.

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) قصر موصوف على صفة.

(انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) استعارة ، شبّه سبحانه الرّجوع عن الدّين في الارتياب بالرّجوع على الأعقاب.

المفردات اللغوية :

(أَمْ) بل. (وَلَمَّا) لم ، لكن لنفي قريب الحصول. (يَعْلَمِ) علم ظهور. (جاهَدُوا) الجهاد : تحمّل المشاق ومكافحة الشدائد ، وهو يشمل جهاد النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء بالنفس دفاعا عن الدّين وأهله وإعلاء كلمته (الجهاد الأصغر) ، والجهاد بالمال للدّين والأمة ، ومجاهدة الباطل ونصرة الحق.

١٠٥

(تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي تتمنون الشهادة في سبيل الله. (تَلْقَوْهُ) تشاهدوا أهواله وتروا مخاطره. (رَأَيْتُمُوهُ) رأيتم أسباب الموت من لقاء الشجعان ومصاولة الفرسان. (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) تتأملون وتبصرون الحال كيف هي ، فلم انهزمتم. ونزل في هزيمتهم لما أشيع أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل ، وقال لهم المنافقون : إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم.

(انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أصل معناه : رجعتم إلى الوراء ، والمراد هنا رجعتم كفارا بعد إيمانكم.

وهذه الجملة استفهام إنكاري ، أي ما كان محمد معبودا فترجعوا إلى الكفر.

(إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بقضائه. (كِتاباً) مصدر أي كتب الله ذلك. (مُؤَجَّلاً) ذا أجل مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر ، والأجل : المدّة المضروبة للشيء.

(وَكَأَيِّنْ) كلمة بمعنى كم ، تفيد كثرة ما دخلت عليه. (رِبِّيُّونَ) جماعات كثيرة ، واحدهم ربّي : وهو الجماعة. (فَما وَهَنُوا وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) وهنوا : ضعفوا وجبنوا ، والوهن : ضعف يصيب القلب ، والضعف : اختلال قوة الجسم ، والاستكانة : الاستسلام والخضوع للعدو ليفعل ما يريد.

(وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) يثيبهم ، والصبر : احتمال الشدائد وتحمل المكاره. (وَإِسْرافَنا) الإسراف : تجاوز الحدّ في كلّ شيء ، كما قال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف ٧ / ٣١].

(وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) بتقوية قلوبنا على الجهاد وإزالة الوساوس من صدورنا.

سبب النزول :

نزول الآية (١٤٣):

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس : أنّ رجالا من الصحابة ، كانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ، أو ليت لنا يوما كيوم بدر ، نقاتل فيه المشركين ، ونبلي فيه خيرا ، أو نلتمس الشهادة والجنة ، أو الحياة والرزق ، فأشهدهم الله أحدا ، فلم يلبثوا إلا من شاء منهم ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الآية.

١٠٦

نزول الآية (١٤٤):

أخرج ابن المنذر عن عمر ، قال : تفرقنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، فصعدت الجبل ، فسمعت اليهود تقول : قتل محمد ، فقلت : لا أسمع أحدا يقول : قتل محمد إلا ضربت عنقه ، فنظرت فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والناس يتراجعون ، فنزلت هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن الرّبيع قال : لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح ، وتداعوا نبي الله ، قالوا : قد قتل ، فقال أناس : لو كان نبيّا ما قتل ، وقال أناس : قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به ، فأنزل الله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) الآية.

وقال عطية العوفي : لما كان يوم أحد ، انهزم الناس ، فقال بعض الناس : قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم ، فإنما هم إخوانكم ؛ وقال بعضهم : إن كان محمد قد أصيب ، ألا ما تمضون على ما مضى عليه نبيّكم ، حتى تلحقوا به ، فأنزل الله تعالى في ذلك : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ..) الآية.

وأخرج ابن راهويه في مسنده عن الزّهري : أنّ الشيطان صاح يوم أحد ، إن محمدا قد قتل ، قال كعب بن مالك : وأنا أول من عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأيت عينيه من تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) الآية.

المناسبة :

ما يزال الكلام عن أهل غزوة أحد ، ففي الآيات السابقة إرشاد إلى أنه لا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يضعفوا ، وأنّ ما أصابهم من المحنة والبلاء ، جاء على سنّة الله الثابتة في المداولة بين الناس ، ولتمحيص أهل الحق والإيمان ، وكان فيها

١٠٧

تقوية معنوية وتسلية للمؤمنين كي يتربّوا على حبّ الجهاد والتّحلي بالصفات التي ينالون بها النصر. وهذه الآيات تبيّن أن طريق السعادة في الآخرة بالجهاد والصّبر ، وفي الدّنيا بالثبات على المبدأ والالتفاف حول النّبي في المعركة ، والتضحية والإحسان ، وملازمة الحق والعدل والإنصاف.

التفسير والبيان :

هل ظننتم دخول الجنة وأنتم لم تجاهدوا في سبيل الله ، ولم تصبروا في القتال؟ لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا وتختبروا ، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله ، والصابرين على مقاومة الأعداء. وهذا مثل قوله تعالى : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا ، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ١ ـ ٢].

ويلاحظ أن (أَمْ) منقطعة بمعنى بل ، ومعنى الهمزة فيها الإنكار.

وللجهاد أنواع : جهاد النفس والهوى والشيطان ، وخاصة في عهد الشباب ، وجهاد العدوّ بالنفس لإعلاء كلمة الله والدّفاع عن البلاد والأوطان ، والجهاد بالمال في سبيل الدّين والأمّة والمصلحة العامة ، وجهاد الباطل ومدافعته ونصرة الحق.

والصبر مطلوب عند أداء التكاليف الشرعية الدائمة والمؤقتة ، وطاعة الله والرّسول ، وفي وقت البلاء والشدة والمحنة ، وعند مقاومة الأعداء.

والمراد بنفي العلم من الله عدم ظهوره ووقوعه ، فهو دليل على عدم وقوع الجهاد والصبر منكم ، أما في الحقيقة فالله يعلم ذلك منذ الأزل ، ولكن المراد إقامة الدّليل والبرهان على الناس بصدور ما يوجب لهم الجنة والمغفرة.

ثم خاطب الله بعض المؤمنين الذين لم يشهدوا بدرا ، وكانوا يتمنون أن

١٠٨

يحضروا مشهدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر ، وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخروج إلى المشركين ، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة. فقال الله لهم : قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو ، وتحترقون عليه ، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم ، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه ، فدونكم فقاتلوا وصابروا.

فلما كان يوم أحد ولّى جماعة منهم ، فعاتبهم الله على ذلك. روي عن الحسن البصري أنه قال : بلغني أنّ رجالا من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون : لئن لقينا مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فابتلوا بذلك ، فلا والله ، ما كلّهم صدق ، فأنزل الله عزوجل : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ).

وتمني الموت : معناه تمني الشهادة في سبيل الله. ولقد تمنى الشهادة جماعة لم يشهدوا بدرا ، حتى إذا دارت معركة القتال مع الأعداء في أحد ، وشهدوا أسباب الموت من اشتباك الرّماح ، وظهور الأسنة ، واصطفاف الرجال للقتال ، جبنوا وضعفوا ، وتركوا رسول الله يتلقى السهام ، وهو يدعوهم إلى الوقوف بجانبه ، ويدعوهم إلى عبادة الله ، وصدق اللقاء والثبات.

فمعنى قوله : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي رأيتم الموت ، أي أسبابه ، معاينين مشاهدين له ، حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم ، وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت ، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه ، وقلة ثباتهم عنده.

ولما انهزم المسلمون يوم أحد ، وقتل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمدا قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين ، فقال لهم : قتلت محمدا ، وإنما كان ضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشجه في رأسه ، فظنّ الكثيرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، فأنزل الله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الآية ، أي

١٠٩

له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه ، فقد توفي موسى وعيسى عليهما‌السلام ، وقتل زكريا ويحيى عليهما‌السلام ، ومع هذا ظلّت ديانتهم كما هي ، وأتباعهم متمسكون بها ، فعليكم الثبات على الدين والمبدأ كما كنتم ولو مات أو قتل ، فالرّسول بشر كسائر الأنبياء ، له مهمة تنتهي بانتهاء أجله ، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حيّ باق لا يموت.

ثم أنكر الله تعالى على من حصل له ضعف بأن من يرجع عن دينه والجهاد في سبيل الله ومقاومة الأعداء ، فلن يضرّ الله شيئا بما فعل ، بل يضرّ نفسه. وسيجزي الله الشاكرين نعمه الذين قاموا بطاعته ، وقاتلوا عن دينه ، واتّبعوا رسوله حيّا وميّتا بأن يمنحهم من فضله ورحمته في الدّنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم. وكانت هذه تمهيدا لموت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتذكيرا لأمثال عمر رضي‌الله‌عنه. وهذا يعني أن المصائب التي تحلّ بالإنسان لا مدخل لها في كونه على حق أو باطل.

قال أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك في ساعة اشتداد الأزمة على المسلمين في أحد ، وحين شاع بين الناس أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، وظهر على لسان بعض ضعفاء المؤمنين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ ، فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وقال بعض المنافقين : إن كان محمد قد قتل ، فالحقوا بدينكم الأول ، قال : «إن كان محمد قد قتل ، فإن ربّ محمد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه».

ثم قال : «اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء» ، ثم شدّ بسيفه ، فقاتل حتى قتل رضي‌الله‌عنه (١).

وقال البخاري : عن أبي سلمة أن عائشة رضي‌الله‌عنها أخبرته : أنّ أبا بكر

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ٢٢١ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤١٣

١١٠

رضي‌الله‌عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسّنح (١) ، حتى نزل ، فدخل المسجد ، فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة ، فتيمم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مغطّى (مغشى) بثوب حبرة (برد يمان) ، فكشف عن وجهه ، ثم أكبّ عليه وقبّله وبكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع الله عليك موتتين : أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها.

وقال الزّهري : وحدثني أبو سلمة عن ابن عبّاس أن أبا بكر خرج ، وعمر يكلّم الناس ، وقال : اجلس يا عمر ، قال أبو بكر : أما بعد ، من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإنّ الله حيّ لا يموت ، قال الله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ـ إلى قوله ـ (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) قال : فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر ، فتلاها منه الناس كلّهم ، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. وروى ابن ماجه عن عائشة مثل ذلك (٢).

وقال الزّهري أيضا : وأخبرني سعيد بن المسيّب أن عمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعرقت حتى ما تقلني رجالي ، وحتى هويت إلى الأرض.

وقال أبو القاسم الطبري بسنده ـ فيما حدثوا به ـ عن ابن عبّاس : أنّ عليّا كان يقول في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) : والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل ، لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه ، فمن أحق به منّي (٣)؟

__________________

(١) موضع بعوالي المدينة ، وهي منازل بني الحارث بن الخزرج ، بينهما وبين منزل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميل.

(٢) تفسير القرطبي : ٤ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣

(٣) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٠٩ ـ ٤١٠

١١١

ثم أخبر تعالى أنه لا يموت أحد إلا بقدر الله ، وحتى يستوفي المدة التي حددها الله له ، ولذا قال : (كِتاباً مُؤَجَّلاً) أي أثبته الله مقرونا بأجل معين ، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر ، فقد يظل الشجاع الذي تعرض لأهوال الحرب حيّا ، ويموت الجبان الذي تخبأ في مأواه. وهذا مثل قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر ٣٥ / ١١] ، وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام ٦ / ٢] ، وقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل ١٦ / ٦١].

فالأعمار محدودة ، والآجال محتومة ، والأقدار هي الحاكمة ، والله وحده هو المتصرف في كل شيء ، فيأذن بقبض كل نفس على وفق علمه دون تأخير ولا تقديم ، سواء في الحرب أو في السلم.

وفي هذه الآية تشجيع للجبناء ، وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه ، فكيف يسوغ الجبن والضعف ما دام العمر بيد الله ، وانقضاؤه بمشيئة الله؟

ثم بيّن الله تعالى غاية البشر : وهي إما إرادة الدّنيا ، وإما إرادة الآخرة. فمن قصد بعمله التوصل للدّنيا فقط ، ناله منها ما قدره الله له ، ولم يكن له في الآخرة من نصيب ، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله من ثوابها وما قسم له من الدّنيا ، كما قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى ٤٢ / ٢٠] ، وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٨ ـ ١٩] ، وآخر هذه الآية يطابق ما هاهنا : (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أي سنعطيهم من

١١٢

فضلنا ورحمتنا في الدّنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم ، ونؤتيهم الثواب الأبدي على ترك الانهزام.

أما أنتم يا من قصدتم الدنيا وهرعتم لجمع الغنائم وخالفتم أمر نبيكم وقائدكم في أحد ، بإمكانكم الحصول على الدنيا ، ولكنكم ضيعتم ما يدعوكم إليه نبيكم وهو الدنيا والآخرة. ففي الآية تعريض بهؤلاء الذين شغلتهم الغنائم يوم أحد ، وفيها إشارة بقوله (يُرِدْ) إلى أن الإرادة الشخصية هي التي تحدد طبيعة العمل من خير أو شر ، وهذا مطابق لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه الشيخان عن عمر : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».

ثم قال الله تعالى مسليا المؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ ...) أي أن كثيرا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله ، وقاتل معهم كثير من أصحابهم الذين آمنوا بهم لإعلاء كلمة الله ، وكانوا هداة معلمين فما ضعفوا بعد ما قتلوا وقتل نبيهم ، ولا وهنت عزائمهم عن الجهاد بعدئذ ، ولا استسلموا للأعداء ، ولا خضعوا للدنيا ومتاعها ، ولا ولّوا الأدبار ، بل ثبتوا وصبروا بعد قتل نبيهم ، كما ثبتوا في حال الحياة ، والله يحب الصابرين الذين صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله ، فهو يديهم ويرشدهم ويثيبهم أجزل الثواب ، وهذه نبذة من مفاخر أفعالهم ، وتعريض بما أصاب المسلمين من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا الأمان من أبي سفيان.

أما محاسن أقوالهم أي الربيين فهي أنهم قالوا عند نزول الكارثة : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واستر عيوبنا وتجاوزنا أمرك ، وثبّت أقدامنا في مواطن الحرب ولقاء العدو ، وانصرنا على القوم الكافرين.

وطلبهم المغفرة من الذنوب وغيرها مع كونهم ربانيين إشعار لأنفسهم

١١٣

بالتقصير ، وكان دعاؤهم بالاستغفار مقدما على طلب تثبيت الأقدام في أثناء المعركة ، بقصد جعل طلبهم إلى ربهم عن تزكية نفس وطهارة وخضوع أقرب إلى الاستجابة.

فآتاهم الله ثواب الدنيا بالنصر والظفر على الأعداء والعزة وطيب السمعة ، وحسن ثواب الآخرة بتحصيلهم رضوان الله ورحمته والقرب منه في دار الكرامة ، ونحو ذلك مما أخبر به تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة ٣٢ / ١٧] وأخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ؛ ولا خطر على قلب بشر».

ثم وصفهم الله بأنهم محسنون أعمالهم على وفق ما يرضي الله ، فهم الذين يقيمون سننه في أرضه ، والله يثيبهم على حسن فعلهم.

وإنما جمع لهم بين الثوابين لأنهم مؤمنون عملوا الصالحات وأرادوا تحقيق سعادتي الدنيا والآخرة ، كشأن المؤمن الصالح : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة ٢ / ٢٠١].

وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه وأنه هو المعتد به عند الله تعالى.

ورتبت أوصافهم بالتوفيق على الطاعة ، ثم إثابتهم عليها ، ثم تسميتهم محسنين لتوجيه العبد إلى أن ذلك كله بعناية الله وفضله ، وتوفيقه وإحسانه.

وفي هذه الآية تربية لأصحاب محمد ولفت نظر إلى أنهم أولى بهذا كله ، وما عليهم إلا الاعتبار بأحوال أولئك الرّبيين ، والصبر على الأعداء كما صبروا ، والاقتداء بأعمالهم الصالحة والقول مثلهم ، فإن دين الله واحد ، وسنته في خلقه واحدة.

١١٤

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أحكام كثيرة لصيقة بنفسية الإنسان وتطلعاته ومواقفه التي يمر بها في الحياة من خوف وضعف ، وتردد وإدبار ، وانهزام وسطحية في التفكير ، بالرغم من وجود أصل الإيمان الذي ينبغي أن يكون مذكرا بالثبات والجرأة والشجاعة والحرص على انتزاع النصر ، وقطع طريق العودة إلى سبيل الكفر والكافرين ، وعدم التأثر بموت القائد أو النبي ؛ لأن الاستقامة أبدية دائمة ليست موقوتة بحياة النبي ولا من أجل شخصية النبي.

١ ـ إن دخول الجنة مرهون بسلوك طريق المجاهدين المخلصين الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح ، وضحوا بأنفسهم في سبيل الله.

٢ ـ إن الظفر بشرف الشهادة في سبيل الله لا يكون بالأماني والتمنيات ، وإنما بالثبات والصبر على الجهاد.

وتمني الموت يرجع من المسلمين إلى تمني الشهادة بالوصف السابق ، لا تمني قتل الكفار لهم ، فذلك معصية وكفر ، ولا يجوز إرادة المعصية ، وهذا هو مراد المسلمين وسؤالهم من الله أن يرزقهم الشهادة ، فهم يسألون الصبر على الجهاد ، وإن أدى إلى القتل.

٣ ـ إن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا ، وإنما يجب التمسك بما أتت به الرسل ، وإن فقد الرسول بموت أو قتل ، وأما من حاول الردة إلى الكفر بعد الإيمان ، فلن يضر الله شيئا ، بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة ، والله تعالى لغناه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ، وسيجزي الله الشاكرين الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا.

وكل هذه الأحكام عتاب للمنهزمين يوم أحد ، وهو درس لأمثالهم. وإن

١١٥

موقف أبي بكر الصديق يوم وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدل دليل على شجاعته وجرأته ، فإن الشجاعة والجرأة : هما ثبوت القلب عند حلول المصائب ، ولا مصيبة أعظم من موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي ثباته واستدلاله بالآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) تثبيت للمؤمنين ، وقطع لدابر الفتنة ، واستئصال لأوهام ومقالات الجاهلين.

وأما تأخر الصحابة عن دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع أن السنة تعجيل الدفن فلأمور ثلاثة : عدم اتفاقهم على موته ، وعدم علمهم بمكان دفنه ، حتى أخبرهم أبو بكر بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما دفن نبي إلا حيث يموت» (١) ، واشتغالهم بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة ، حتى انتهوا إلى بيعة أبي بكر رضي‌الله‌عنه في مبدأ الأمر ، ثم بايعوه في الغد عن رضا واتفاق شامل.

ثم نظروا في دفنه عليه الصلاة والسلام وغسّلوه وكفنوه ، ثم صلوا عليه فرادى ، أخرج ابن ماجه بإسناد حسن صحيح عن ابن عباس : «فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء ، وضع على سريره في بيته ، ثم دخل الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسالا (٢) يصلّون عليه ، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء ، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان ، ولم يؤمّ الناس على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد.

٤ ـ إن محمدا بشر كسائر الأنبياء ، وهم قد ماتوا ، وإن مهمة كل نبي وهي تبليغ الدين تنتهي بتحقيق الغرض المقصود ، ولا يلزم من ارتحالهم نقض رسالتهم. وإن المصائب التي تنزل بالإنسان لا صلة لها بكونه على حق أو باطل ، فقد يبتلى الطائع بأنواع المصائب ، والعاصي بأصناف النعم.

٥ ـ الموت أمر حتمي مقضي به في أجل معين لا يتجاوزه ولا يتقدم عنه لحظة ، وكل إنسان مقتول أو غير مقتول ميّت إذا بلغ أجله المكتوب له ، وهذا

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه والموطأ وغيرهما.

(٢) أرسالا : أفواجا وفرقا متقطعة ، بعضهم يتلو بعضهم ، واحدهم : رسل.

١١٦

معنى قوله : (كِتاباً مُؤَجَّلاً). وأما معنى قوله (بِإِذْنِ اللهِ) أي بقضاء الله وقدّره. وأجل الموت : هو الوقت الذي في معلومه سبحانه أن روح الحي تفارق جسده ، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله ، ولا يصح أن يقال : لو لم يقتل لعاش ، لقوله تعالى : (كِتاباً مُؤَجَّلاً إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس ١٠ / ٤٩] (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) [العنكبوت ٢٩ / ٥] (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد ١٣ / ٣٨].

ودلت الآية (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ ..) على الحض على الجهاد ، وعلى أن الموت لا بد منه ، وأن كل إنسان يموت بأجله ، والقتيل يموت بأجله.

٦ ـ من قصر رغبته وعمله على الدنيا دون الآخرة ، آتاه الله منها ما قسم له ، ومن جعل رغبته في الآخرة من تضعيف الحسنات لمن يشاء ، آتاه الله الآخرة والدنيا معا.

٧ ـ دلت آية (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ ..) على غاية التجرد والموضوعية والعدالة وإنصاف الحقائق ، فليس العمل الصالح والجهاد في سبيل الله والثبات والصبر في الحرب مقصورا على أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكثير من أتباع الأنبياء السابقين كانت لهم مواقف رائعة ، وبطولات خارقة ، فجاهدوا وقاتلوا ، وصبروا وقتلوا ، وما لانت لهم قناة ، ولا خارت لهم عزيمة ، ولا ذلوا ولا خضعوا لما أصابهم في الجهاد ، وكان فعلهم هذا مقرونا بقولهم الدال على قوة إيمانهم ، وطهارة نفوسهم ، وإخلاصهم في طلب رضوان الله ، فتضرعوا إلى ربهم وقت الشدة والمحنة وعند لقاء العدو ، فاستحقوا إنعام الله عليهم في الدنيا بالنصر والظفر على عدوهم ، وفي الآخرة بالجنة ، ووصفوا بالإحسان ، وأوتوا ثوابا عظيما دائما لا يحده حصر.

وفي موقفهم المهيب بالابتهال والتضرع والدعاء والاستغفار دليل على أن إجابة الدعاء تتطلب الإخلاص وطهارة النفس وخشوعها لله ، وأن الذنوب

١١٧

والمعاصي من عوامل الخذلان والهزيمة ، وأن الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والغلبة.

٨ ـ والدعاء المفضل يكون بالمأثور لبلاغته وجمعه معاني كثيرة قد لا يدركها الإنسان ، مثل المذكور في دعاء الرّبيين : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء : «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني».

التحذير من طاعة الكافرين

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))

الإعراب :

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أي ناصركم لا تحتاجون إلى نصرة أحد وولايته ، مبتدأ وخبر. وقرئ بالنصب على تقدير فعل محذوف هو : بل أطيعوا الله مولاكم.

البلاغة :

(يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي يرجعوكم من الإيمان إلى الكفر ، فيه استعارة الرجوع إلى الوراء إلى الرجوع إلى الكفر ، بتشبيه الثاني بالأول. ويوجد طباق بين (آمَنُوا) و (كَفَرُوا).

١١٨

(وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) لم يقل : مثواهم ، بل وضع الظاهر مكان الضمير للتغليظ والتهويل. والمخصوص بالذم محذوف : أي بئس النار.

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني مشركي العرب : أبا سفيان وأصحابه ، وقيل : اليهود والنصارى ، وقال علي رضي‌الله‌عنه : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة في أحد : ارجعوا إلى دين آبائكم (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان (خاسِرِينَ) الدنيا بانقيادكم للأعداء واستبدالكم ذلة الكفر بعزة الإسلام ، والآخرة بحرمانكم من نعيم الله وثوابه ووقوعكم في العذاب.

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومعينكم. (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) أي فأطيعوه دونهم.

(الرُّعْبَ) شدة الخوف التي تملأ القلب ، وكان المشركون قد عزموا بعد ارتحالهم من أحد على العود واستئصال المسلمين ، فرعبوا ولم يرجعوا (بِما أَشْرَكُوا) بسبب إشراكهم. (سُلْطاناً) حجة وبرهانا ، والمقصود بما لم ينزل به سلطانا أي حجة على عبادته وهو الأصنام. (مَثْوَى) مأوى. (الظَّالِمِينَ) الكافرين.

سبب النزول :

نزول الآية (١٤٩):

قال علي رضي‌الله‌عنه : نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم ، وادخلوا في دينهم. وعن الحسن البصري رضي‌الله‌عنه : إن تستنصحوا اليهود والنصارى ، وتقبلوا منهم ؛ لأنهم كانوا يستغوونكم ويوقعون لكم الشبه في الدين ، ويقولون : لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس ، يوما له ويوما عليه.

وعن السدي : إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينكم.

نزول الآية (١٥١):

قال السدي : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة ،

١١٩

انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ، ثم إنهم ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا ، قتلناهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب ، حتى رجعوا عما هموا به ، وأنزل الله تعالى هذه الآية : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ).

المناسبة :

تستمر الآيات في تبيان عظات غزوة أحد والدروس المستفادة منها ، فلما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء ، حذّر من طاعة الكافرين وهم مشركو العرب واليهود والنصارى والمنافقون الذين تآمروا على الدعوة الإسلامية بتثبيط عزائم المؤمنين.

التفسير والبيان :

يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين ، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة ، لذا قال : يا أيها المؤمنون إن تطيعوا الذين كفروا بدينكم وجحدوا نبوة نبيكم كأبي سفيان وأصحابه وعبد الله بن أبي زعيم المنافقين وأتباعه ، ورؤوس اليهود والنصارى ، يردوكم كافرين بعد الإيمان ، فتصبحوا خاسرين في الدنيا بذل الكفر بعد عزة الإسلام ، وتحكم العدو فيكم ، وحرمانكم من متعة الملك والتمكين في الأرض ، المذكورين في وعد الله المؤمنين الصادقين : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور ٢٤ / ٥٥] وخاسرين في الآخرين أيضا بحرمانكم من نعيم الله وثوابه وتعرضكم لعذاب الله وعقابه في النار.

فلا تأبهوا بمناصرة وعون الكفار وإغوائهم ، فإن الله هو ناصركم ومعينكم ، كما في آية أخرى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال ٨ / ٤٠]

١٢٠