التفسير المنير - ج ٤

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

الرّد على اليهود في تحريم بعض الأطعمة

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

البلاغة :

(قُلْ : فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ) الأمر للتوبيخ واللوم.

المفردات اللغوية :

(الطَّعامِ) المراد به هنا المطعومات كلها ، ويكثر استعماله في البرّ وفي الخبز. (حِلًّا) حلالا. (إِسْرائِيلَ) لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، ومعناه : الأمير المجاهد مع الله ، ثم أطلق على جميع ذريته ، فالمراد الآن شعب إسرائيل لا يعقوب نفسه. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) على موسى ، وذلك بعد إبراهيم ، ولم تكن المطعومات على عهده حراما كما زعموا. (افْتَرى) اختلق الكذب. (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ، لا من عهد إبراهيم. (الظَّالِمُونَ) المتجاوزون الحق إلى الباطل. (حَنِيفاً) مائلا عن الباطل إلى الحق.

المناسبة :

اشتملت سورة آل عمران من أولها إلى هنا على إقامة الدلائل على إثبات وحدانية الله، ونبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحاجّة أهل الكتاب وإبطال مزاعمهم وبدعهم وتقاليدهم. وجاءت هذه الآيات وما بعدها إلى الآية (٩٧) حول البيت الحرام للرّد على شبهتين لليهود :

الأولى ـ قولهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك تدّعي أنك على ملّة إبراهيم وذريته ، فكيف تستحلّ ما كان محرّما عندهم من الطعام كلحم الإبل؟ فنزلت الآية :

٥

(كُلُّ الطَّعامِ) ردّا عليهم. قال أبو روق والكلبي : نزلت حين قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه على ملّة إبراهيم ، فقالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان ذلك حلالا لإبراهيم ، فنحن نحلّه» ، فقالت اليهود : كلّ شيء أصبحنا اليوم نحرّمه ، فإنّه كان على نوح وإبراهيم ، حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله عزوجل تكذيبا لهم : (كُلُّ الطَّعامِ ..).

الثانية ـ قولهم أيضا : كيف تدّعي أنك على ملّة إبراهيم وأنك أولى الناس به؟ وإبراهيم وإسحاق وذريته من الأنبياء كان يعظمون بيت المقدس ويصلّون إليه ، فلو كنت على منهجهم لعظّمته ، ولما تحوّلت عنه إلى الكعبة ، فنزلت آية : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ...) للرّد عليهم. قال مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنه مهاجر الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة ، وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

التفسير والبيان :

كلّ الطعام بأنواعه الطّيبة المباحة كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبله إلا ما حرّم إسرائيل أو شعب إسرائيل على نفسه ، وهو لحوم الإبل وألبانها ، وذلك قبل أن تنزل التوراة على موسى ، والذي حرّم الله تعالى على شعب إسرائيل في التوراة هو بعض الطّيبات عقوبة لهم وتأديبا ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ٤ / ١٦٠] ، وقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا ، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام ٦ / ١٤٦]. والمراد في رأي بعضهم من

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي النيسابوري : ص ٦٥ ـ ٦٦

٦

(إِسْرائِيلَ) هنا ليس يعقوب عليه‌السلام الذي ذكرت بعض الرّوايات «أنه لما حصل له عرق النّسا ، فنذر إن شفي لا يأكل الإبل» لأنه كان بينه وبين نزول التوراة زمن طويل ، وإنما المراد شعب إسرائيل كما هو مستعمل عند اليهود ، والمعنى في تحريمهم أشياء على أنفسهم : أنهم كانوا سبب التحريم لارتكابهم الظلم واجتراح السيئات. هذا ما رجحه صاحب (تفسير المنار) (١).

أما الذي سار عليه جمهور المفسرين : فهو أن المراد بإسرائيل يعقوب عليه‌السلام ، روى التّرمذي عن ابن عباس : أنّ اليهود قالوا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرنا ، ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال : «كان يسكن البدو ، فاشتكى عرق النّساء ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها ، فلذلك حرّمها» قالوا : صدقت ، وذكر الحديث (٢).

وجاء في رواية الإمام أحمد أن اليهود سألوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء ، فقالوا : أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه؟ فقال : «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا ، وطال سقمه ، فنذر لله نذرا : لئن شفاه الله من سقمه ليحرّمنّ أحبّ الطّعام والشّراب إليه ، وكان أحبّ الطّعام إليه لحم الإبل ، وأحبّ الشّراب إليه ألبانها».

وخلاصة الجواب : كلّ أنواع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة ، وإلا ما حرّمه الله في التّوراة على شعب إسرائيل من مطعومات تأديبا وزجرا لهم بسبب جرائم ومخالفات ارتكبوها ، والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته لم يرتكبوا هذه السّيئات والمخالفات ، فلا تحرم عليهم هذه الطّيبات ، وإبراهيم لم يكن محرّما عليه شيء من هذا ؛ لأن التّحريم حصل بعد نزول التّوراة ، وكان كلّ طعام حلالا له.

__________________

(١) تفسير المنار : ٤ / ٤

(٢) تفسير القرطبي : ٤ / ١٣٤ ، تفسير الكشاف : ١ / ٣٣٥ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٣٨١

٧

ثم أمر الله نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاحتكام إلى التوراة كتاب اليهود لتكذيب دعواهم ، وقال لهم : فأتوا بالتوراة كتابكم فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم ، لا تخافون تكذيبها لكم ، ولو جئتم بها لوجدتم أن تحريم شيء على بني إسرائيل ما كان إلا عقوبة تأديبية زاجرة ، فيظل غير الجاني على أصل الحلّ ؛ لأن الأصل في الأطعمة الحلّ والإباحة.

فمن اخترع الكذب على الله ، وزعم أن التّحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التّوراة ، وادّعى ما لم ينزله الله في كتابه ، فأولئك هم الظالمون أنفسهم بطمس معالم الحق وإظهار الكذب على الله.

روي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة ، فبهتوا ، وفي ذلك دليل واضح على صحّة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يعلم بوحي من الله ما في التوراة ، وهو لم يقرأها لأمّيته المعروفة ، وأنها مؤيّدة لما في القرآن.

وإذ ظهر الحقّ واندحر الباطل ، قل لهم يا محمد : صدق الله فيما أخبرني به أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل ، وأنه لم يحرّم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة ، وأن ما حرّم الله على اليهود كان جزاء وتأديبا وعقوبة لهم بسبب أفعالهم القبيحة.

وإذ استبان الحق ، وظهرت الحجّة عليكم ، فعليكم اتّباع ملّة إبراهيم التي أدعوكم إليها ، والتي تبيح أكل لحوم الإبل وألبانها ، وهي الملّة الحنيفيّة السمحاء الوسط التي لا إفراط فيها ولا تفريط ، وهي التي شرعها الله في القرآن ، وكان إبراهيم حنيفيّا مائلا عن الأديان الأخرى الباطلة إلى الدّين الحقّ الذي يقوم على مبدأ التوحيد وإباحة الطّيبات ، وما كان مشركا يدعو مع الله إلها آخر ، أو يعبد سواه ، كما يفعل عبدة الأوثان ، ويدعيه اليهود أن عزيرا ابن الله ، ويعتقده النصارى أن المسيح ابن الله.

٨

فملّة إبراهيم القائمة على التوحيد : هي شرعة القرآن التي دعا إليها محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي الحقّ الذي لا مرية فيه ، كما قال تعالى : (قُلْ : إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ١٦١] ، وهو الذي أمره الله به صراحة ، كما جاء في آية أخرى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل ١٦ / ١٢٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

إن شريعة القرآن واضحة لا لبس فيها ولا غموض ، وهي التي تلتقي مع الشرائع السابقة في أصول الحلال والحرام ، فلذا اتّفقت مع ملّة إبراهيم ومع ما كان مقررا من إباحة أنواع المطعومات كلها على بني إسرائيل ، إلا أمرين :

الأول ـ ما حرّمه يعقوب (إسرائيل) على نفسه باجتهاد منه ، لا بإذن من الله تعالى ، على الصحيح ؛ لأن الله تعالى أضاف التّحريم إليه بقوله تعالى : (.. إِلَّا ما حَرَّمَ ..) ، وأنّ النّبي إذا أدّاه اجتهاده إلى شيء ، كان دينا يلزمنا اتّباعه ، لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. وقد حرّم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم العسل على نفسه ـ على الرواية الصحيحة ، أو خادمه (١) مارية ، فلم يقرّ الله تحريمه ، ونزل في القرآن : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم ٦٦ / ١] ، وهل عليه الكفارة بتحريم المباح؟ رأيان لعلمائنا : أو حنيفة أجراه مجرى اليمين وجعله أصلا في تحريم كلّ مباح ، والشافعي : لم يوجب فيه الكفارة ، وجعله مخصوصا بموضع النّص.

وأما سبب تحريم يعقوب لحوم الإبل فهو كما قال ابن عباس : «لما أصاب يعقوبعليه‌السلام عرق النّسا ، وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل ، فحرّمها على نفسه ، فقالت اليهود : إنما نحرّم على أنفسنا لحوم الإبل ؛ لأن يعقوب حرّمها ، وأنزل الله تحريمها في التّوراة ؛ فأنزل الله هذه الآية : (قُلْ : فَأْتُوا

__________________

(١) الخادم : الغلام أو الجارية.

٩

بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فلم يأتوا ، فقال عزوجل : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)».

قال الزّجاج : «في هذه الآية أعظم دلالة لنبوّة محمد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبرهم أنه ليس في كتابهم ، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة ، فأبوا ، يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي».

الثاني ـ ما حرّمه الله في التّوراة على بني إسرائيل من الأطعمة كالشحوم وغيرها عقوبة لهم على معاصيهم ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء ٤ / ١٦٠] ، وقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) إلى قوله: (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام ٦ / ١٤٦].

ويرى الكلبي : أنه لم يحرّم الله عزوجل لحوم الإبل في التوراة عليهم ، وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم ، وكان بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما ، حرم الله تعالى عليهم طعاما طيّبا ، أو صبّ عليهم رجزا وهو الموت ، فذلك قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ ...) وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا ...).

ودلّت الآيات صراحة على اتّفاق شريعة القرآن مع ملّة إبراهيم ، بل وملل الأنبياء قاطبة في الدّعوة إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ، ومحاربة الشرك والوثنية ، واتّباع الإسلام بالمعنى العام : وهو الخضوع والانقياد إلى الله تعالى في كلّ ما أمر به وما نهى عنه.

منزلة البيت الحرام وفرضية الحج

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

١٠

الإعراب :

(بِبَكَّةَ) صلة الذي ، وتقديره : استقرّ ببكّة. (مُبارَكاً وَهُدىً) منصوبان على الحال من ضمير : استقر. (مَقامُ إِبْراهِيمَ) مبتدأ وخبره محذوف تقديره : من الآيات مقام إبراهيم. وقيل : هو بدل من الآيات. (وَمَنْ دَخَلَهُ) معطوف على مقام. ويجوز كونه مبتدأ منقطعا عما قبله ، و (كانَ آمِناً) خبر المبتدأ. (مَنِ اسْتَطاعَ) إما بدل مجرور من الناس ، وإما مرفوع بالمصدر وهو : حج البيت ، وتقديره : أن يحج ، ويجوز إضافة المصدر إلى المفعول ، أو مرفوع على أن (مَنْ) شرطية مبتدأ ، واستطاع : مجزوم بمن ، وجواب الشرط محذوف تقديره ، فعليه الحج.

والهاء في (إِلَيْهِ) إما عائدة على الحج أو على البيت.

البلاغة :

(لَلَّذِي بِبَكَّةَ) حذف الموصول للتفخيم وتقديره : للبيت الذي ببكّة.

(وَمَنْ كَفَرَ) وضع موضع «ومن لم يحجّ» تأكيدا لوجوبه. وكان إيجاب الحج بالجملة الاسمية للدلالة على الثبات والاستمرار. وفي الآية تدرج من التعميم إلى التخصيص ، ومن الإبهام إلى التبيين ، ومن الإجمال إلى التفصيل.

المفردات اللغوية :

(بِبَكَّةَ) مكّة ، أبدلت ميمها باء ، والعرب كثيرا ما تبدل الباء ميما وبالعكس ، وسميت بذلك ؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها. (مُبارَكاً) أي ذا بركة وكثير الخيرات. (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) لأنه قبلتهم. (آياتٌ بَيِّناتٌ) علامات ودلائل. (مَقامُ إِبْراهِيمَ) موضع قيامه وعبادته ، وفيه الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت ، فأثر قدماه فيه ، وبقي إلى الآن ، مع تطاول الزمان ، وتداول الأيدي عليه. وهو من الآيات البينات ، التي منها تضعيف الحسنات فيه وأن الطير لا يعلوه. (حِجُّ الْبَيْتِ) الحج لغة : القصد ، شرعا : قصد بيت الله الحرام للنّسك. (سَبِيلاً) طريقا ، فسّره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الحاكم وغيره ـ بالزّاد والرّاحلة. (وَمَنْ كَفَرَ) بالله أو بما فرضه من الحجّ. (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) عن الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم.

سبب النزول :

نزول آية (وَمَنْ كَفَرَ) : أخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال : لما نزلت : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) الآية ، قالت اليهود : فنحن مسلمون ، فقال لهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فرض الله على المسلمين حجّ البيت» ، فقالوا :

١١

لم يكتب علينا ، وأبوا أن يحجّوا ، فأنزل الله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

وقد ذكرت عن مجاهد سبب نزول آية (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) في مقدّمة تفسير الآيات السابقة.

التفسير والبيان :

إنّ البيت الحرام قبلة المسلمين في الصلاة والدعاء : هو أوّل بيت وضع معبدا للناس ، بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام للعبادة : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) [البقرة ٢ / ١٢٧] ، ثمّ بني المسجد الأقصى بعد ذلك بقرون ، بناه سليمان بن داود سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد ، فكان جعله قبلة أولى ، فيكون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ملّة إبراهيم الذي كان يتّجه بعبادته إلى الكعبة المشرّفة.

فالبيت الحرام أول بيت عبادة ، وهي أولية زمان ، تستتبع أولية الشرف والمكانة ، وله مزايا عديدة هي :

١ ـ إنه مبارك كثير الخيرات ، فهو بالرغم من كونه في واد غير ذي زرع ، بصحراء جرداء ، كما قال تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص ٢٨ / ٥٧] ، ففيه الخضار والفواكه ومنتجات الدّنيا ، وهو أيضا كثير البركة في الثواب والأجر ، ففيه تضاعف الحسنات ، ويستجاب الدّعاء.

٢ ـ إنه مصدر هداية للناس ، يتّجه إليه المصلّون ، وتهواه الأفئدة ، ويزحف إليه الملايين مشاة وركبانا ، يأتون إليه من كلّ فجّ عميق ، لأداء مناسك الحجّ والعمرة ، ببركة دعوة إبراهيم عليه‌السلام : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ ، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم ١٤ / ٣٧] ، وقد

١٢

أجاب الله دعاء إبراهيم : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ...) الآية [الحجّ ٢٢ / ٢٧ ـ ٢٨].

٣ ـ فيه آيات واضحات ، منها مقام إبراهيم (موضع قيامه للصلاة والعبادة) تعرفه العرب بالنقل المتواتر جيلا عن جيل ، ويدلّ عليه أثر قدمه الشريف على الحجر.

٤ ـ ومن دخله كان آمنا على نفسه وماله من أي اعتداء وإيذاء ، فلا يسفك فيه دم حرام ، ولا يقتل الشخص فيه ولو كان مطلوبا للثأر أو القصاص ، لقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٧] ، وقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) [القصص ٢٨ / ٥٧] ، وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة ٢ / ١٢٥] ، وكما دعا إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة ٢ / ١٢٦]. وقال عمر بن الخطاب : «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه». وقال أبو حنيفة : «من وجب قتله في الحلّ بقصاص أو ردّة أو زنا ، فالتجأ إلى الحرم ، لم يتعرّض له ، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه». واتّفقت قبائل العرب على تعظيمه واحترامه ، بنسبته إلى الله ، حتى إن القاتل اللاجئ إلى الحرم يصير فيه آمنا ما دام فيه.

قال الجصاص الرازي : «هذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حظر قتل من لجأ إلى الحرم ، وإن كان مستحقا للقتل قبل دخوله ، ولما عبّر تارة بذكر البيت ، وتارة بذكر الحرم ، دلّ على أنّ الحرم في حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه» (١).

وقد أقرّ الإسلام ميزة البيت الحرام. وأما ما كان من فتح مكّة عنوة بالسّيف

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٣

١٣

فكان لضرورة تطهيره من الشّرك ، ولأجل أن يعبد الله وحده ، واستحلّ ساعة من نهار لم تحلّ لأحد بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أعلن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاء في السيرة : «من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

وأما ما حدث أيام الحجاج فهو شذوذ لم يقرّه عليه أحد ، ولم يعتقد أحد حل ما فعل بابن الزّبير ، وإنما هو ظلم وإلحاد فيه : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج ٢٢ / ٢٥].

وأما بعض حوادث الاعتداء على الأنفس والأموال فهو فعل الفجار الفساق الذين لم يرعوا لله حرمة في كعبة ولا غيرها.

وأما ما أجازه الإمامان مالك والشافعي من الاقتصاص من القاتل عمدا في الحرم كله فهو عقوبة حقّ وعدل أمر بها القرآن الكريم ، لا تجاوز فيها على أحد.

واتّفق أهل العلم على أنه إذا قاتل أحد في الحرم قتل ، قال الله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة ٢ / ١٩١] ، ففرّق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه. روي عن ابن عبّاس وبان عمر وغيرهما من الصّحابة والتابعين ، فيمن قتل غيره ثم لجأ إلى الحرم : إنه لا يقتل. قال ابن عبّاس : «ولكنه لا يجالس ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقتل ، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ» (١).

٥ ـ ومن مزايا البيت الحرام تجمع الحجيج فيه وجعل الحجّ واجبا على المسلمين ، فيجب الحجّ على المستطيع منهم ، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة ، وفي هذا تعظيم للبيت. واستطاعة السبيل إلى الشيء : إمكان الوصول إليه ، والسبيل عام يشمل الشيء البدني والمالي ، فالحج فريضة على كلّ مسلم ما لم يوجد مانع من

__________________

(١) المرجع السابق : ص ٢١

١٤

الوصول إلى الحرم ، سواء أكان بدنيا أم ماليا أم بدنيا وماليا ، فالبدني : كالمرض والخوف على النفس من العدو ومن السّباع ، أي ألا يكون الطريق مأمونا. والمالي كفقد الزّاد والرّاحلة إذا كان ممن يتعسّر عليه الوصول إلى البيت إلا بزاد وراحلة. والبدني والمالي معا : فقد الزّاد والراحلة والمرض أو عدم أمن الطريق.

وقد اتّفق أكثر العلماء على أنّ الزّاد والرّاحلة شرطان في الاستطاعة ، بدليل ما رواه علي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فيما رواه الترمذي من حديث ضعيف : «من ملك زادا وراحلة تبلّغه بيت الله ، ولم يحجّ ، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا» ، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). وفسّر الصحابة كابن عمر وغيره استطاعة السبيل : بالزّاد والرّاحلة.

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي من جحد كون هذا البيت أول بيت وضع للعبادة ، ولم يمتثل أمر الله في الحجّ ، فإن الله غير محتاج إليه ، إذ هو الغني عن جميع العالمين. والجمهور حملوا ذلك على تارك الحجّ إعراضا عنه مع توافر الاستطاعة ، بدليل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي وفيه ضعف : «من مات ولم يحجّ ، فليمت إن شاء يهوديّا أو نصرانيّا». وبدليل ما روي عن الضّحّاك في سبب النزول قال : لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الأديان الستّة : المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمشركين والمجوس وقال فيما رواه أحمد وسلم والنسائي : «إنّ الله كتب عليكم الحج ، فحجّوا» فآمن به المسلمون ، وكفر به الباقون ، وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلّي ولا نحجّ ، فأنزل الله قوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

والغرض من الآية والأخبار التنفير من ترك الحجّ والتغليظ على المستطيعين حتى يؤدّوا الفريضة.

١٥

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية الأولى إلى أن البيت الحرام أول بيت وضعه الله للعبادة ، بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام.

وهو يمتاز بمزايا عديدة هي وجود مقام إبراهيم عليه‌السلام ، وكونه ذا بركة وخير كثير ، ومصدر هداية للناس ، وسبب وحدة المسلمين لاتّجاههم إليهم في صلاتهم ، وموضع أمن وسلام لمن دخله في الدّنيا : بمنع قتله والاعتداء عليه ، وفي الآخرة : يكون آمنا من النّار ، لقضاء النّسك معظّما له ، عارفا بحقّه ، متقرّبا إلى الله تعالى.

وأرشدت الآية الثانية إلى فرضيّة الحجّ على المستطيع الذي لم يجد مانعا من الوصول إلى البيت الحرام ، وهو فرض في العمر مرّة ، وتكراره كل خمس سنوات سنّة ، لحديث في هذا المعنى أخرجه ابن حبّان في صحيحة والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل : إن عبدا صححت له جسمه ، ووسّعت عليه في المعيشة ، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ المحروم» أي من الأجر ومطرود من رضوان الله.

ودلّ الكتاب والسّنة على أنّ الحجّ على التّراخي ، لا على الفور ، وهو مذهب الشافعية ومحمد بن الحسن ، قال القرطبي : وهو الصحيح ؛ لأن الله تعالى قال : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) [الحج ٢٢ / ٢٧] وسورة الحج مكيّة ، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران ٣ / ٩٧] ، وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ، ولم يحجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سنة عشر. وورد في السّنة ما يدل على فرضية الحج مثل حديث ضمام بن ثعلبة السعدي قدم على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله عن الإسلام ، فذكر الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج.

واختلف في وقت قدومه ، فقيل : سنة خمس ، وقيل : سنة سبع ، وقيل : سنة تسع.

قال ابن عبد البرّ : ومن الدّليل على أن الحج على التراخي : إجماع العلماء

١٦

على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخّره العام والعامين ونحوهما ، وأنه إذا حجّ من بعد أعوام من حين استطاعته ، فقد أدّى الحجّ الواجب عليه في وقته ، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها ، فقضاها بعد خروج وقتها ، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه ، ولا كمن أفسد حجّه فقضاه ، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حجّ بعد أعوام من وقت استطاعته : أنت قاض لما وجب عليك ، علمنا أن وقت الحج موسّع فيه ، وأنه على التّراخي ، لا على الفور.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ، والمالكية في أرجح القولين ، والحنابلة : يجب الحجّ بعد توافر الاستطاعة وبقية شروط الوجوب على الفور في العام الأول ، أي في أول أوقات الإمكان ، فيفسق وتردّ شهادته بتأخيره سنينا ؛ لأنّ تأخيره معصية صغيرة ، وبارتكابه مرة لا يفسق إلا بالإصرار ، لأنّ الفورية ظنيّة ، بسبب كون دليلها ظنيّا ، كما ذكر الحنفيّة. واستدلّوا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، وقوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة ٢ / ١٩٦] ، والأمر على الفور. واستدلّوا أيضا بأحاديث منها : «حجّوا قبل أن لا تحجّوا» (١) ، ومنها : «تعجّلوا إلى الحجّ ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» (٢) ، ومنها : «من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر ، فلم يحجّ ، فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا» (٣) ورواية الترمذي المتقدمة : «من ملك زادا أو راحلة تبلّغه إلى بيت الله ، ولم يحجّ ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران ٣ / ٩٧]» (٤).

__________________

(١) حديث صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن علي.

(٢) رواه أحمد والأصبهاني عن ابن عباس ، وهو ضعيف.

(٣) رواه سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة مرفوعا ، وهو ضعيف.

(٤) قال الترمذي : غريب ، في إسناده مقال ، وفيه ضعف.

١٧

هذه الأخبار مع غيرها تدلّ على وجوب الحجّ على الفور ؛ فإنه ألحق الوعيد بمن أخّر الحجّ عن أوّل أوقات الإمكان ؛ لأنه قال : «من ملك .. فلم يحجّ» والفاء للتعقيب بلا فصل ، أي لم يحجّ عقب ملك الزاد والراحلة ، بلا فاصل.

وأجمع العلماء على أن الخطاب في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) عام في جميع الناس ، ذكرهم وأنثاهم ، ما عدا الصغار ؛ فإنهم غير مكلّفين.

وإذا وجدت الاستطاعة فقد يمنع مانع من الحجّ كالغريم يمنعه الدّائن عن الخروج حتى يؤدّي الدّين ، أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم ، فلا يلزمه الحجّ ، حتى يوفّر لهم النّفقة مدّة الغياب ، وتقديم العيال أولى ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عمرو : «كفى المرء إثما أن يضيّع من يقوت». وكذا الأبوان يخاف الضيعة عليهما ، ولم يكن له من يتلطف بهما ، فلا سبيل له إلى الحجّ ، فإن منعاه لأجل الشوق والوحشة ، فلا يلتفت إليه. وإذا منع الرجل زوجته من الحجّ ، لم تحجّ على الصّحيح.

وإذا لم يتوافر المحرم للمرأة أو الزّوج فلا يجب عليها الحجّ ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين عن ابن عمر : «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاث إلا مع ذي رحم محرم أو زوج» فليس للمرأة أن تحجّ إلا مع زوج أو ذي محرم.

وهل تكون الاستطاعة للبعيد عن البيت بالمشي؟ قال الشافعية والحنابلة : لا حجّ على الفقير البعيد عن البيت الذي لا يجد الزّاد والرّاحلة إذا أمكنه المشي ، وإن حجّ أجزأه ذلك عن حجّة الإسلام.

وحكي عن مالك : أن عليه الحجّ إذا أمكنه المشي ، ووجد الزّاد أو القدرة على الكسب ، أو لم يجد الزّاد والرّاحلة أيضا إذا أطاق المشي.

والحجّ لا يجب في العمر إلا مرّة واحدة ؛ لأنه ليس في الآية ما يوجب

١٨

التّكرار ، وقد روى أحمد والنسائي عن ابن عبّاس أن الأقرع بن حابس سأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، الحجّ في كلّ سنة ، أو مرّة واحدة؟ فقال : «بل مرّة ، فمن زاد فتطوع».

ولم يجز الإمام مالك خلافا للجمهور النّيابة في الحجّ ، فلا يجزئ أن يحجّ عن الشّخص غيره ؛ لأن حجّ الغير لو أسقط عنه الفرض ، لسقط عنه الوعيد المذكور في الآية : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). أما المريض والمغضوب الذي لا يستطيع الثبات على الراحلة ، فيسقط عنه فرض الحج أصلا ، في رأي مالك ، سواء كان قادرا على من يحجّ عنه بالمال أو بغير المال ، واحتجّ بقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم ٥٣ / ٣٩] ، والمغضوب لا يستطيع السّعي ، ولأنه غير مستطيع ، والحجّ فرض على المستطيع.

لكن أجاز المالكية الإجارة على الحجّ عن الميت الذي أوصى به ، ويجوز أن يكون الأجير على الحجّ عندهم لم يحجّ حجّة الفريضة.

ويجوز في رأي الجمهور النّيابة في الحجّ عن الغير لمن مات ولم يحج ، أو كان مريضا عاجزا عن الحجّ لعذر وله مال ، لحديث ابن عبّاس وغيره الذي رواه الجماعة : «أن المرأة من خثعم ، قالت : يا رسول الله ، إن أبي أدركته فريضة الله في الحجّ شيخا كبيرا ، لا يستطيع أن يستوي على ظهره؟ قال : فحجّي عنه» وكان ذلك الإذن في حجّة الوداع. وجاء في رواية : «لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره» ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فحجّي عنه ، أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟» قالت : نعم ، قال : «فدين الله أحقّ أن يقضى» ، فأوجب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجّ بطاعة ابنتها إياه ، وبذلها من نفسها له بأن تحجّ عنه ، فيجوز له أن يستأجر عنه شخصا يحجّ عنه إذا كان قادرا على المال.

ولا تتحقق الاستطاعة بالهبة بأن يهب له شخص أجنبي عنه مالا يحجّ به ،

١٩

ولا يلزمه قبوله إجماعا ، لما يلحقه من المنّة في ذلك. وقال الشافعي : لو وهب الابن لأبيه مالا يلزمه قبوله ؛ لأن ابن الرّجل من كسبه ، ولا منّة عليه في ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يلزمه قبوله ؛ لأن فيه سقوط حرمة الأبوة ؛ إذ يقال : قد جزاه ، وقد وفّاه.

هذا ... وقد تقدّمت أحكام أخرى للحجّ والعمرة في تفسير سورة البقرة ـ الجزء الثاني.

إصرار أهل الكتاب على الكفر وصدهم عن سبيل الله

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩))

الإعراب :

(وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) جملة حالية فيها تهديد ووعيد ، و (شَهِيدٌ) : صيغة مبالغة ، و (ما) : متعلقة بقوله (شَهِيدٌ) ، وهي اسم موصول.

المفردات اللغوية :

(بِآياتِ اللهِ) دلائل الله الدالة على إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (شَهِيدٌ) عالم بالشيء مطلع عليه ، فيجازي عليه. (تَصُدُّونَ) تصرفون. (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه ، والسبيل يذكر ويؤنث ، وهو الطريق. (تَبْغُونَها) تطلبون السبيل. (عِوَجاً) مصدر بمعنى معوجة أي مسائلة عن الحق ، فالعوج : الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين والقول ، والمراد هنا : الزيغ

٢٠