التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

أما آراء الفقهاء في الحيوان المأكول ، فهي ما يلي بإيجاز : قالوا : الحيوان بالنسبة للذبح أو الذكاة الشرعية أنواع ثلاثة : مائي ، وبري ، وبرمائي (بري ـ مائي) (١) :

أما الحيوان المائي : وهو الذي لا يعيش إلا في الماء فقط ، ففيه رأيان :

١ ـ مذهب الحنفية : جميع ما في الماء من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة ، فإنه يحل أكله بدون ذكاة (ذبح) إلا الطافي منه ، فإن مات وطفا على الماء لم يؤكل ، لحديث ضعيف عن جابر رواه أبو داود وابن ماجه : «ما ألقاه البحر ، أو جزر عنه ، فكلوه ، وما مات فيه ، وطفا ، فلا تأكلوه».

٢ ـ مذهب الجمهور غير الحنفية : حيوان الماء كالسمك والسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيرة ، حلال يباح بغير ذكاة ، كيف مات ، حتف أنفه ، أو بسبب ظاهر كصدمة حجر أو ضربة صياد ، أو انحسار ماء ، راسيا كان أو طافيا ، وأخذه : ذكاته ، لكن إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه المرض ، يحرم للضرر.

إلا أن الإمام مالك كره خنزير الماء وقال : أنتم تسمونه خنزيرا. وقال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراما.

وأما الحيوان البري : وهو الذي لا يعيش إلا في البر ، فهو ثلاثة أنواع :

الأول ـ ما ليس له دم أصلا : كالجراد والذباب والنمل والنحل والدود والخنفساء والصرصار والعقرب وذوات السموم ونحوها ، لا يحل أكلها إلا الجراد خاصة ، لأنها من الخبائث غير المستطابة ، لاستبعاد الطباع السليمة إياها ، وقد قال تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف ٧ / ١٥٧]. واشترط المالكية تذكية الجراد ، أما الجراد الميت فهو حرام عندهم ، لأن حديث : «أحلت لنا ميتتان» ضعيف. أما الحنفية الذين لا يجيزون تخصيص القرآن بالسنة ،

__________________

(١) الفقه الإسلامي وأدلته للمؤلف : ٣ / ٦٧٨ ـ ٦٨٧

٨١

فيقولون : إن الذي خصص ميتة السمك هو قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) [المائدة ٥ / ٩٦] فأما صيده : فهو ما أخذ بعلاج ، وأما طعامه فهو ما وجد طافيا أو جزر عنه البحر ، لكنهم لا يجيزون أكل الطافي كما تقدم.

الثاني ـ ما ليس له دم سائل : كالحية وسام أبرص وجميع الحشرات وهوام الأرض من الفأر والقراد (ما يعلق بالبعير) والقنافذ واليربوع والضب : يحرم أكلها لاستخباثها ، ولأنها ذوات سموم ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتلها. وحرم الحنفية الضب ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عائشة حين سألته عن أكله. وأباحه الجمهور لإقراره عليه الصلاة والسلام أكل الضب بين يديه. وأجاز الشافعية أكل القنفذ وابن عرس.

الثالث ـ ماله دم سائل : وهو إما مستأنس أو متوحش. أما المستأنس من البهائم : فيحل منه الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بالإجماع ، ويحرم أكل البغال والحمير ، ويحل لحم الخيل لكن مع الكراهة تنزيها عند أبي حنيفة ، لاستخدامها في الركوب والجهاد. والمشهور عند المالكية تحريم الخيل.

ويحرم المستأنس من السباع وهو الكلب والقط.

وأما المتوحش : فيحرم عند الجمهور غير مالك كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، لأنها تأكل الجيف أي الميتات. ويكره عند مالك لحوم السباع ، ويجوز عنده أكل الطيور ذوات المخالب ، لظاهر الآية : (قُلْ : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ..) [الأنعام ٦ / ١٤٥].

فالذي يحل شيئا مما ذكر يستند إلى عموم الآية ، ويحمل الحديث على نهي الكراهة ، أو يبطله لمعارضته الآية. والذي يحرم شيئا مما ذكر يستند إلى الحديث الوارد في التحريم وينسخ به الآية أو يرى أنه لا معارضة.

وأما الحيوان البرمائي : وهو الذي يعيش في البر والماء معا ، كالضفدع والسلحفاة والسرطان والحية والتمساح وكلب الماء ونحوها ، ففيه آراء ثلاثة :

٨٢

الأول ـ للحنفية والشافعية : لا يحل أكلها ، لأنها من الخبائث ، ولسمية الحية ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود «نهى عن قتل الضفدع» ولو حل أكله ، لم ينه عن قتله.

الثاني ـ للمالكية : يباح أكل الضفادع ونحوها مما ذكر ، لأنه لم يرد نص في تحريمها.

الثالث ـ للحنابلة وهو التفصيل : كل ما يعيش في البر من دواب البحر لا يحل بغير ذكاة كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء ، إلا ما لا دم فيه كالسرطان ، فإنه يباح فيما روي عن أحمد بغير ذكاة ، لأنه حيوان بحري يعيش في البر ، ولا دم له سائل ، خلافا لما له دم سائل كالطير ، لا يباح بغير ذبح ، والأصح لدى الحنابلة أن السرطان لا يحل إلا بالذكاة(١).

ولا يباح أكل الضفدع ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه النسائي : نهى عن قتله ، فيدل ذلك على تحريمه. ولا يباح أيضا أكل التمساح.

وذهب أبو حنيفة إلى تحريم الجنين الذي ذبحت أمه ، وخرج ميتا ، استنادا إلى أنه ميتة ، وحرمت الآية الميتة ، وخالفه صاحباه والشافعي وأحمد ، وذهبوا إلى حله ، لأنه مذكى بذكاة أمه. وقال مالك : إن تم خلقه ونبت شعره أكل ، وإلا لم يؤكل. وحجة الجمهور : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذكاة الجنين ذكاة أمه» أي أن ذكاة أمه تنسحب عليه. وتأول مؤيد وأبي حنيفة الحديث : بأن ذكاته كذكاة أمه. وهذا تأويل بعيد ، لأن الحديث ورد في سياق سؤال ، فقد ورد عن أبي سعيد الخدري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الجنين يخرج ميتا ، فقال : «إن شئتم فكلوه ، إن ذكاته ذكاة أمه».

__________________

(١) شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي : ٩ / ٢١٤

٨٣

واختلف العلماء في الانتفاع بدهن الميتة في غير الأكل ، كطلاء السفن ودبغ الجلود :

فقال الجمهور : يحرم ، للآية ، لأنهم يرون أن الفعل المقدر هو الانتفاع بأكل أو غيره، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه جابر : «قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا أثمانها ، فنهاهم عن ذلك» وهذا يفيد أن إطلاق تحريم الميتة يفيد تحريم بيعها.

وقال عطاء : يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن ، وحجته أن الآية في تحريم الأكل ، بدليل سابقها ، ولأن حديث شاة ميمونة يعارض حديث جابر : وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ على شاة ميمونة ، فقال : «هلا أخذتم إهابها» فيرجح ، لأنه موافق لظاهر التنزيل القرآني.

وأما جلد الميتة : فلا يطهر بالدباغ في ظاهر مذهب المالكية ، والمشهور عند الحنابلة ، لحديث عبد الله بن عكيم فيما رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربع) قال : «كتب إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وهو ناسخ لما قبله من الأحاديث ، لأنه في آخر عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولفظه دال على سبق الترخيص ، وأنه متأخر عنه.

وذهب الحنفية والشافعية : إلى أن دباغ الجلود النجسة أو الميتة يطهرها كلها ، لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم : «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ورواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس بلفظ : «أيما إهاب دبغ فقد طهر».

وأما أجزاء الميتة الصلبة التي لا دم فيها كالقرن والعظم والسن ومنه عاج الفيل والخف والحافر والظلف والشعر والصوف والعصب والإنفحة الصلبة : فهي طاهرة غير نجسة عند الجمهور ، وقال الشافعية : أجزاء الميتة كلها نجسة ، ومنها

٨٤

الإنفحة واللبن والبيض المتصل بها ، إلا إذا أخذ من الرضيع لأن كلا منها تحله الحياة. ودليل الجمهور حديث سلمان رضي‌الله‌عنه فيما رواه ابن ماجه : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السمن والجبن والفراء ، فقال : «الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام : ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا الله».

وأما ما وقعت فيه فأرة : فإن أخرجت حية فهو طاهر ، وإن ماتت فيه : فإن كان مائعا فإنه ينجس جميعه ، وإن كان جامدا فإنه ينجس ما جاورها ، فتطرح وما حولها ، وينتفع بما بقي وهو على طهارته ، لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن ، فتموت ، فقال : «إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها ، وإن كان مائعا فأريقوه».

وإذا وقع في القدر حيوان : طائر أو غيره ، فروى ابن وهب عن مالك أنه قال : لا يؤكل ما في القدر ، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال : يغسل اللحم ويراق المرق. وقال ابن عباس : يغسل اللحم ويؤكل.

أما الدم : فاتفق العلماء على أنه حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به ، إذا كان مسفوحا ، لتقييده بذلك الوصف في سورة الأنعام ، وقد حمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا ، ولم يحرموا منه إلا ما كان مسفوحا. قالت عائشة : لو لا أن الله قال : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام ٦ / ١٤٥] لتتبع الناس ما في العروق. وعلى هذا ما خالط اللحم في العروق غير محرم إجماعا ، وكذلك الكبد والطحال لا يحرم تناولهما إجماعا ، من طريق تخصيص الدم المحرم ـ في رأي الحنفية والشافعية بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحلت لنا ميتتان ودمان» وذكر الكبد والطحال. ولا تخصيص في رأي مالك ، لأن الكبد والطحال ليسا لحما ولا دما ، بالعيان والعرف.

وأما الخنزير : فلحمه حرام ، وكذا شحمه بالقياس على اللحم حرام أيضا ،

٨٥

لأن اللحم يشمل الشحم ، وهو الصحيح. وقصر الظاهرية التحريم على اللحم ، لا الشحم أخذا بمبدئهم في العمل بظاهر النص فقط ، لأن الله قال : (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ). ويرد عليهم بأن الفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح بقصد لحمه ، ولا يعقل التفريق بين اللحم والشحم.

ويجوز الخرازة بشعر الخنزير ، فقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير ، فقال : «لا بأس بذلك».

وأما ما أهل به لغير الله ، أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، وهي ذبيحة المجوسي الذي يذبح للنار ، والوثني الذي يذبح للوثن ، والمعطّل الذي لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه ، فحرام باتفاق العلماء.

وهل يشمل هذا ذبائح النصارى التي ذكروا اسم المسيح عليها ، فتكون محرمة ، أو لا يشملها فلا تكون محرمة ، بل هو خاص بما ذكر عليه اسم الأصنام؟.

قال جمهور العلماء : هي حرام ، وقال عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وأشهب من المالكية : ليست حراما ، وسبب اختلافهم : تعارض آيتي : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة ٥ / ٥] وهذه الآية. فرأى الجمهور : أن هذه الآية مخصصة لآية المائدة ، والمعنى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، ما لم يذكر اسم غير الله عليه ، فتحرم ذبيحة الكتابي إذا ذكر عليها اسم المسيح. ورأى الأقلون العكس ، والمعنى : وما أهل به لغير الله إلا ما كان من أهل الكتاب ، فتجوز ذبائح أهل الكتاب مطلقا.

أما من اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي كان أحوج إليها ، فله التناول منها حتى يشبع في رأي مالك ، لأن الضرورة ترفع التحريم ، فتعود الميتة مثلا

٨٦

مباحة ، ويكون معنى «غير باغ ولا عاد» هو البغي والعدوان على الإمام ، أي الخارج على المسلمين وقاطع الطريق.

ويأكل المضطر في رأي الجمهور على قدر سد الرمق ، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدر الضرورة. ومن حالات الضرورة : إساغة اللقمة بخمر ، وتناولها لدفع العطش.

والمضطر في رأي الجمهور : هو من ألجأه الجوع إلى الأكل ، وأضيف إليه عند بعضهم : من أكره على أكل الحرام ، كالرجل يأخذه العدو ، فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى.

ولم يجز جمهور العلماء التداوي بالحرام كالخمر والميتة ، لقوله عليه الصلاة والسلام ـ فيما رواه البخاري عن ابن مسعود ـ : «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرّم عليهم» ولقوله عليه‌السلام فيما رواه مسلم لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر ، فنهاه ، أو كره أن يصنعها ، فقال : إنما أصنعها للدواء؟ فقال : «إنه ليس بدواء ولكنه داء» قال ابن العربي : الصحيح أنه لا يتداوى بالميتة ، لوجود عوض حلال عنها.

وللعلماء رأيان فيمن اقترن بضرورته معصية ، بقطع طريق وإخافة سبيل ، فقال مالك ، والشافعي وأحمد : يحرم عليه إن كان السفر لمعصية ، لأجل معصيته ، لأن الله سبحانه أباح ذلك عونا ، والعاصي لا يحل أن يعان ، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. أما من عصى أثناء السفر ، فتباح له الرخص الشرعية ، وأباحها له أبو حنيفة مسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. ورجح القرطبي هذا القول ، لأن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه ، لقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء ٤ / ٢٩] وهذا عام ، ولعله يتوب في ثاني حال ، فتمحو التوبة عنه ما كان.

٨٧

وذكر الباجي في المنتقى أن المشهور من مذهب مالك : أن المضطر يجوز له الأكل في سفر المعصية ، ولا يجوز له الفطر والقصر ، لقوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ).

وإذا وجد أكثر من نوع من المحرمات ، فما الذي يقدمه المضطر؟.

قال ابن العربي : الضابط لهذه الأحكام : أن المضطر إذا وجد ميتة ولحم خنزير ، قدم الميتة ، لأنها تحل حية ، والخنزير لا يحل ، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل. وإذا وجد ميتة وخمرا يأكل الميتة حلالا بيقين ، والخمر محتملة للنظر. وإذا وجد ميتة ومال الغير : فإن أمن الضرر في بدنه ، أكل مال الغير ، ولم يحل له أكل الميتة ، وإن لم يأمن ، أكل الميتة. والصحيح خلافا للشافعي : ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه. وإذا وجد المحرم صيدا وميتة ، أكل الصيد ، لأن تحريمه مؤقت ، فهو أخف ، وتقبل الفدية في حال الاختيار ، ولا فدية لآكل الميتة (١).

كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٢٢٤ ـ ٢٣٥ ، أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٥٤ ـ ٥٨ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢٠٥ ، أحكام القرآن للجصاص : ١ / ١٢٦ ـ ١٣٠ ، نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف.

٨٨

الإعراب :

(فِي بُطُونِهِمْ) : ظرف في موضع الحال ، وتقديره : ما يأكلون إلا النار ثابتة في بطونهم ، كقوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) تقديره : يأكلون نارا كائنة في بطونهم. والأصل أن (فِي بُطُونِهِمْ) صفة لنار ، لكن إذا قدمت صفة النكرة انتصبت على الحال. (فَما أَصْبَرَهُمْ) ما : إما تعجيبة وتقديره : شيء أصبرهم ، أو استفهامية ، وتقديره : أي شيء أصبرهم؟ وعلى كلا الوجهين : هي مبتدأ ، وما بعدها خبر.

البلاغة :

(ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) مجاز مرسل باعتبار ما يؤول إليه ، أي إنما يأكلون المال الحرام الذي يؤدي بهم إلى النار. وقوله (فِي بُطُونِهِمْ) زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم.

(اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) استعارة تصريحية ، والمراد : استبدلوا الكفر بالإيمان ، استعار لفظ الشراء للاستبدال.

المفردات اللغوية :

(يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) : يبيعونه بثمن قليل من الدنيا يأخذونه بدله من أتباعهم ، فلا يظهرونه خوف فوته عليهم (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) غضبا عليهم. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من دنس الذنوب (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم هو النار. (الضَّلالَةَ) هي العماية التي لا يهتدي فيها الإنسان لمقصده. (بِالْهُدى) الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه (فَما أَصْبَرَهُمْ) أي ما أشد صبرهم وهو تعجب للمؤمنين من ارتكابهم موجبات النار ، من غير مبالاة.

(ذلِكَ) الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده (بِأَنَ) بسبب أن (اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) متعلق بنزل ، فاختلفوا فيه ، حيث آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه بكتمه. (شِقاقٍ) مخالفة أو خلاف وهو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف (بَعِيدٍ) مبتعد عن الحق.

سبب نزول الآية (١٧٤):

أخرج الطبري عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) والتي في آل عمران : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) نزلتا جميعا في يهود. وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل ، وكانوا يرجون أن يكون

٨٩

النبي المبعوث منهم ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غيرهم ، خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم ، فعمدوا إلى صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغيروها ، ثم أخرجوها إليهم ، وقالوا : هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، لا يشبه نعت هذا النبي ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) الآية.

التفسير والبيان :

يستمر القرآن في كشف مواقف أهل الكتاب من القرآن والنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي الآيات السابقة أوضح أنهم حرموا بعض الحلال ، وابتدعوا في الدين رهبانية وتقشفا في المآكل والمشارب ، وهنا يبين أنهم كتموا ما أنزل الله في كتبهم من صفات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فحرفوه وبدلوه ، وأخفوا الصحيح وأظهروا الكاذب ، وتاجروا بالدين ، واتخذوه وسيلة ارتزاق واحتراف معيشة ، كما قال : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام ٦ / ٩١].

إن الذين يخفون ما أنزل الله من وصف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي آخر الزمان وبيان زمانه وقومه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته ، أو يؤولونه ويحرفونه ، في مقابل أخذ الأجور القليلة على الفتاوى ، يأكلون الحرام المؤدي إلى النار. وسمي الثمن قليلا ، لأن كل عوض عن الحق ، فهو قليل في جنب تفويت سعادة الدنيا والآخرة : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة ٩ / ٣٨].

إن أولئك الكاتمين لكتاب الله ، المتجرين به ، البعيدين في الضلال لا يأكلون في بطونهم إلا ما يكون سببا لدخول النار ، وإعراض الله عنهم وغضبه الشديد عليهم ، وعدم تطهيرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح ، ولهم عذاب شديد الألم في الدنيا والآخرة ، خلافا لأهل الجنة الذين يثني الله عليهم ويغفر لهم ويرحمهم ويرضى عنهم ويقابلهم بالمحبة والرضا. فقوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ

٩٠

اللهُ) عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم ، وقوله (وَلا يُزَكِّيهِمْ) : أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم.

ثم إن أولئك المتاجرين في دين الله استبدلوا الضلالة بالهدى ، فتركوا هدى الله ، واتبعوا في الدين أهواء الناس ، واستحقوا العذاب بدل المغفرة ، لجنايتهم على أنفسهم بإيثار المال الفاني على الثواب الخالد الباقي ، فعجبا لهم أشد العجب ، كيف يطيقون الصبر على موجبات النار وأعمال الضلال من غير مبالاة منهم فقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب من كثرة صبرهم ، أي هم في حال عذاب يقول من يراهم : ما أصبرهم؟!.

وهذا الأسلوب يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب الحاكم أو السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن! أي أنه لا يتعرض لمثل ذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب.

إن ذلك العذاب الشديد الذي ينتظرهم هو غاية العدل ، وإن ما أنزل الله من الكتاب هو الحق الأبلج الذي لا يحاد عنه ولا يغالب.

وأما الذين اختلفوا في كتب الله ، فقالوا : بعضها حق ، وبعضها باطل ، فهم في خلاف ونزاع بعيد عن الحق ، ولن يلتقوا على شيء واحد ، وسيظل النزاع أو الشقاق بينهم بعيد الجانب عن الحق والصواب والهداية الصحيحة.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن كتمان الحق وتزييف الحقائق والإيغال في الباطل سبب لأنواع شتى من العذاب.

وإن الاختلاف في أصول الدين وقضاياه الأصلية العامة مدمر للدين كله ، لذا أمر الله المؤمنين بالالتقاء على سبيل واحدة هي المنهج الرباني ، فقال تعالى :

٩١

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام ٦ / ١٥٣] وحذر الله المؤمنين من التفرق مذاهب شتى في الاعتقاد وأصول الدين ، فقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ، وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام ٦ / ١٥٩].

أما الاختلاف في الفهم ، والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية من النصوص ، والاعتماد على الكتاب والسنة ، فليس معيبا ، وإنما يثاب كل من المجتهدين : المخطئ والمصيب ، ويمكن للدولة أن تختار من بين الآراء الاجتهادية ما يناسب عصرها وزمانها ويحقق مصلحتها التي هي مصلحة الأمة العامة والعليا ، لأن «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة» أي المصلحة العامة. وهذا الاختلاف في الفهم لا يؤدي إلى تمزيق وحدة الأمة ، ولا يقتضي الشقاق والنزاع الناجم عن الاختلاف في أصول الشرع الإلهي.

وقد أوعد الله الناس على أمور ثلاث : كتمان الحق ، والمتاجرة في الدين ، والاختلاف الجذري في أصول الدين. أما كتمان الحق : فيؤدي إلى النار والعذاب الدائم وعدم الظفر بالمغفرة ، كما قال الله تعالى عن علماء اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة رسالته.

وأما المتاجرة في الدين : فتستوجب النار أيضا ، وعجبا لنفر من الناس يتحملون عذاب الله الشديد ، فما أشجعهم وما أجرأهم على النار ، إذ يعملون عملا يؤدي إليها.

ذلك العذاب المستحق لهم عنوان العدل والحق ، ولم ينزل الله هذا القرآن إلا بالحق ، لإقراره ونشره والإذعان له.

وأما الاختلاف الجذري في الدين : فإنه يجسّد الفرقة والخلاف ، ويمنع

٩٢

تحقيق اللقاء والاتحاد ، بدليل أن اليهود والنصارى الذين اختلفوا في التوراة ، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى ، وأنكر اليهود صفته ، أو أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سيظل الشقاق والخلاف الخطير قائما بينهم. وأخبر عن المتصفين بالكتم والاشتراء بأربعة أخبار : الأول ـ ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، والثاني ـ لا يكلمهم الله يوم القيامة ، والثالث ـ لا يزكيهم أي لا يقبل أعمالهم فيثني عليهم ، والرابع ـ لهم عذاب أليم.

وبه يتبين أن المراد من قوله تعالى : (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) يعني القرآن هنا ، أنزله الله بالصدق أو بالحجة الدامغة. وأن المراد من قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) يعني التوراة. وقيل : المراد القرآن. والذين اختلفوا : كفار قريش ، فقال بعضهم : هو سحر ، وقال آخرون : أساطير الأولين ، وقال جماعة : مفترى.

مظاهر البر الحقيقي

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

الإعراب :

(لَيْسَ الْبِرَّ) البر : خبر ليس المنصوب ، و (أَنْ تُوَلُّوا) اسمها ، ومن قرأ (الْبِرَّ) بالرفع جعله اسم ليس و (أَنْ تُوَلُّوا) خبرها ، أي : ليس البر توليتكم.

٩٣

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) البر : اسم لكن ، والخبر محذوف تقديره : ولكن البر بر من آمن بالله ، أو لكن ذا البر من آمن بالله ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(عَلى حُبِّهِ) يعود الضمير إلى المال ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، وهو اعتراض يسمى في البلاغة تتميما.

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) مرفوع من ثلاثة أوجه : إما لأنه عطف على ضمير في (آمَنَ بِاللهِ) وإما معطوف على (مَنْ آمَنَ) أي : ولكن البار المؤمنون والموفون ، وإما أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره : «وهم الموفون».

(وَالصَّابِرِينَ) منصوب من وجهين : إما أن يكون منصوبا على المدح ، وتقديره : أمدح الصابرين. وإما أنه معطوف على قوله (ذَوِي الْقُرْبى) أي : وآتى الصابرين.

البلاغة :

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) جعل البر نفس من آمن على طريق المبالغة ، مثل السخاء حاتم ، والشعر زهير ، أي أن السخاء سخاء حاتم والشعر شعر زهير.

(وَفِي الرِّقابِ) إيجاز بالحذف أي وفي فك الرقاب يعني فداء الأسرى. والرقاب : مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل.

(وَالصَّابِرِينَ) منصوب على الاختصاص أي وأخص بالذكر الصابرين.

(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أتى بالخبر فعلا ماضيا لإفادة التحقق والوقوع.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أتى بالخبر جملة اسمية لإفادة الثبوت.

المفردات اللغوية :

(الْبِرَّ) اسم جامع لكل خير ، وهو كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق. (وَآتَى الْمالَ) أي أعطاه (وَالْيَتامى) اليتيم : من لا والد له وهو محتاج (الْمَساكِينَ) المسكين : هو المحتاج الذي له مال لا يكفيه ، وسمي بذلك لأن الحاجة أذلته وأسكنته. وأما الفقير : فهو الذي لا مال له. (وَابْنَ السَّبِيلِ) ابن الطريق ، وهو المسافر المحتاج ، البعيد عن ماله ولا يمكنه إحضاره. (وَالسَّائِلِينَ) السائل : من ألجأته الحاجة إلى السؤال والطلب من الناس. والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل أن يقتصر عليها ولا يتعداها. (وَفِي الرِّقابِ) أي وفي تحرير الرقاب وعتقها (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي أداها على أقوم وجه وأحسنه (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) العهد : ما يلتزم به إنسان لآخر. (الْبَأْساءِ) من البؤس وهو شدة الفقر

٩٤

(الضَّرَّاءِ) : كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد محبوب (حِينَ الْبَأْسِ) وقت شدة القتال. (صَدَقُوا) في دعوى الإيمان (الْمُتَّقُونَ) التقوى : الوقاية من غضب الله بالبعد عن المعاصي.

سبب النزول :

روى عبد الرزاق عن قتادة قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق ، فنزلت : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) الآية (١).

وروى الطبري وابن المنذر عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البر ، فأنزل الله هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ ..) فدعا الرجل فتلاها عليه ، وكان قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلّا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ثم مات على ذلك ، يرجى له في الآخرة خير ، فأنزل الله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا ..) وكانت اليهود توجهت قبل المغرب ، والنصارى قبل المشرق.

التفسير والبيان :

كان تحويل القبلة سببا في فتنة كبري بين أهل الأديان ، فأصبح كل فريق يرى أن الصلاة لا تصح إلى غير القبلة التي هو عليها ، واحتدم الخلاف بين المسلمين وأهل الكتاب ، فرأى الكتابيون أن الصلاة يلزم أن تكون إلى قبلتهم ، وهي قبلة بعض الأنبياء ، واحتج المسلمون بأن الصلاة لا تقبل ولا يرضى عنها الله إلا بالاتجاه إلى المسجد الحرام قبلة أبي الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام.

فأبان الله سبحانه وتعالى للناس كافة أن مجرد توجيه الوجه جهة المشرق والمغرب ليس في ذاته هو البر المقصود ، ولا يعد عملا صالحا بمجرده ، وإنما البر الحقيقي شيء آخر وهو الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر إيمانا قلبيا صادقا كاملا مقرونا بالعمل الصالح ، وهو الإيمان الذي يملأ النفس خشية

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢

٩٥

لله تعالى ، ومراقبة له في السر والعلن ، ويصبح حاجزا منيعا قويا بين النفس ومزالق الشيطان ، فإذا أخطأ بادر إلى التوبة الصادقة.

البر إذن : هو الإيمان الحقيقي الكامل الشامل لأصول الاعتقاد ، وأساس البر : الإيمان بالله إلها واحدا لا شريك له ولا معبود سواه ، وهو الإيمان الذي يشعر النفس بالعزة والسمو ، إذ لا يخضع بعدئذ لأي إنسان في هذا الوجود ، ولا يكون لأحد سلطة التشريع ، وإنما التشريع لله وحده. وهو الإيمان الذي تطمئن به القلوب وتهدأ له النفوس ، فلا تبطر بنعمة ولا تيأس بنقمة ، كما قال الله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد ١٣ / ٢٨].

وقال أبو حيان : البر معنى من المعاني فلا يكون قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ : مَنْ آمَنَ) مرادا به إلا : البارّ أو ذا البر.

والإيمان باليوم الآخر : على أنه مقر الثواب والعقاب والحساب والعرض على الله ، فيكون سببا للمزيد من العمل الصالح ، والبعد عن قبيح الأفعال.

والإيمان بالملائكة : على أنهم أجسام نورانية ، لهم مهام عديدة ، دأبهم الطاعة ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، منهم حملة الوحي ، ومنهم الموكل بالجنة أو بالنار ، ومنهم الموكل بالرياح والأمطار ، ومنهم سدنة العرش ، ومنهم من يقبض الأرواح.

والإيمان بهم أصل للإيمان بالوحي والنبوة واليوم الآخر ، ويتولى جبريل عليه‌السلام أمانة الوحي ، كما قال الله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٥] وقال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر ٩٧ / ٤].

والإيمان بالكتب السماوية (الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن وبالصحف

٩٦

المنزلة على الأنبياء السابقين : يتطلب الإيمان بجميعها دون تفرقة ، ويقتضي امتثال ما فيها من أوامر ، واجتناب ما جاءت به من نواه. ويستدعي التزام كل ما تضمنه القرآن الكريم ، لأنه جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها.

والإيمان بالأنبياء جميعهم دون تفرقة بين نبي وآخر : يستلزم الاهتداء بهديهم ، والاقتداء بسيرتهم وأخلاقهم ، والتأسي بهم فيما أمروا به أو نهوا عنه.

والإيمان الصحيح لا بد من أن يقترن بالعمل الصالح الذي يهذب النفس ، ويصحح العلاقات الاجتماعية ، ويجعلها قائمة على أساس متين من المحبة ، والألفة ، والمودة ، والوحدة ، والتعاون أو التضامن والتكافل الاجتماعي ، ويتمثل ذلك فيما يأتي :

إعطاء المال مع حبه للأصناف الآتية أصحاب الحاجات ، رحمة بهم ، وشفقة عليهم ، وعونا للأخذ بأيديهم نحو حياة عزيزة كريمة تعتمد على الثقة بالنفس ، والعمل عند القدرة ، والإنقاذ وقت الشدة والمحنة.

وهم ذوو القربى المحتاجون ، فهم أحق الناس بالبر ، بسبب رابطة الدم ، والإحساس بأحوالهم ، والتأثر بأوضاعهم عن قرب ، ولأن سعادة الإنسان الحقة لا تتم إلا بإشاعة السعادة لمن حوله ، وتكون صلتهم محققة لهدفين : صلة الرحم وثواب الصدقة ، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقتك على المسلمين صدقة ، وعلى ذي رحمك اثنتان». وقد رتب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلم طريق الإنفاق بحسب درجة القرابة ، فقال : «ابدأ بنفسك ، ثم بمن تعول».

واليتامى : وهم الذين فقدوا آباءهم ولا عائل لهم ، هم في حاجة شديدة للعون المادي للتغلب على قسوة الحياة المعيشية ، ولمساعدتهم في شق طريق حياة المستقبل أمامهم ، إما بالتعلم ، وإما بالحرفة أو المهنة الصناعية ، وإما بغير ذلك ، حتى لا تفسد تربيتهم ، فيصبحوا ضررا على أنفسهم وعلى المجتمع.

٩٧

والمساكين ، والفقراء من باب أولى : وهم الذين لا دخل لهم أصلا ، بسبب الفقر ، أو لهم دخل لا يكفيهم بسبب المسكنة فيحتاجون إلى المساعدة. كما أن القضاء على ظاهرة الفقر من ركائز النهضة والتقدم ، لأن الحاجة قد تدفع بصاحبها إلى الانحراف والاجرام ، فيكون من مصلحة الجميع مؤازرتهم ومعاونتهم ، حتى يتقووا ، إذ أن قوة الأمة بقوة أفرادها ، وضعف الأمة بضعف أبنائها.

وابن السبيل : الذي انقطع في أثناء سفره أو طريقه عن الوصول إلى بلده ، تكون مساعدته ومواساته ضرورية حتى يستقر به المقام في وطنه. وسمي بذلك ، لأنه غريب ، حتى لكأنه لا أب له ولا أم إلا الطريق.

والسائلون : الذين يسألون الناس إمدادهم بالمال ، لشدة الحاجة. وأدب السؤال أن يكون من غير إلحاف ، وأن يكون بتعفف ، كما قال الله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة ٢ / ٢٧٣] ولا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي ، أي قادر على العمل كما جاء في الحديث الثابت. وعليه أن يبحث عن العمل الشريف ، وعلى الدولة أن توفر له عملا ، سواء أكان ذكرا أم أنثى.

وفي الرقاب : أي مساعدة الأرقاء على الحرية ، ومعاونة الأسرى على الفداء بالمال ، لأن الرق والأسر عبودية وذل ومصادرة للحرية ، والدين يتشوف إلى إعتاق الأنفس ، وإلى تحرير الناس ، وإلى التخلص من قيد الرق بمختلف الوسائل المادية ببذل المال ، والمعنوية بالجاه والوساطة والشفاعة الحسنة ، وإطلاق سراح الأسرى نتيجة الحرب بالتبادل أو بالفداء المالي.

ومن البر : إقامة الصلاة أي أداؤها على أقوم وجه بإتمام الأركان والشروط ، مع استحضار القلب والتفكير في معاني التلاوة والأذكار ، واستذكار عظمة الإله

٩٨

المعبود ، والخشوع والطمأنينة على الوجه الشرعي ، فإذا أديت الصلاة على وجهها المشروع ، حققت آثارها ، فهذبت النفس ، وعودتها على مكارم الأخلاق ، وأبعدتها عن الرذائل ، فلا ترتكب فاحشة ولا منكرا ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٥].

ومن خصال البر : إيتاء الزكاة أي إعطاء الزكاة المفروضة لمستحقيها المذكورين في آية: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة ٩ / ٦٠] ويلاحظ أنه قلما تذكر الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة ، لأن الصلاة تهذب الروح ، والزكاة تطهر المال كما قال عزوجل : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة ٩ / ١٠٣]. وقدر المأخوذ من زكاة الأموال وأنواعها موضح في السنة.

ومن البر : الوفاء بالعهد : سواء عهد الله بالسمع والطاعة ، أو عهد الناس بالوفاء بالعقود والوعود والمعاهدات ، ما لم تخالف أوامر الدين ، فلا يجب الوفاء بالعهد إذا كان في معصية. والوفاء من آيات الإيمان الصحيح ، والغدر من آيات النفاق كما في الحديث : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وإذا تساهل الناس في الوفاء بالتزاماتهم ، ضاعت الثقة فيما بينهم ، وعاشوا في حيرة وقلق واضطراب ، مما يلجئهم إلى توثيق عقودهم بمختلف الوسائل ، والاحتراس من الغدر ونقض العهد.

والصبر وقت الشدة والفقر ، وعند الضر من مرض وفقد أهل ومال وولد ، وفي ساحات القتال مع الأعداء : من البر والإيمان ، فالصبر نصف الإيمان ، لأنه يدل على الرضا بالقضاء والقدر ، واحتساب الأجر عند الله ، والاهتمام بنصرة الدين في أثناء الجهاد ، والصبر في هذه المواقف الثلاث عنوان الإيمان الكامل ، وقد ورد في الحديث الصحيح : أن الفرار من الزحف من السبع الكبائر.

أولئك المتصفون بخصال البر السابقة هم الصادقون في الإيمان ، وأولئك هم

٩٩

الأتقياء بحق ، الذين اتقوا غضب الله بالبعد عن المعاصي ، الفائزون برضوان الله وثوابه في الدار الآخرة. والحق أن من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه.

فقه الحياة أو الأحكام :

البر الجامع للخير : هو الذي اتصف صاحبه بالأوصاف المذكورة في هذه الآية ، لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وفرضت الفرائض ، وحوّلت القبلة إلى الكعبة ، وحدّت الحدود ، أنزل الله هذه الآية ، فقال تعالى : ليس البر كله أن تصلّوا ولا تعملوا غير ذلك ، ولكن البر أي ذا البر : من آمن بالله ، إلى آخرها.

قال العلماء : هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام ، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة : الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته ، والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار ، والملائكة ، والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله ، والنبيين ، وإنفاق المال في الأحوال الواجبة والمندوبة ، وإيصال القرابة وترك قطعهم ، وتفقد اليتيم ، وعدم إهماله ، والمساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل (المنقطع به ، وقيل : الضيف) ، والسائلين ، وفك الرقاب ، والمحافظة على الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهود ، والصبر في الشدائد.

وللعلماء قولان في إعطاء اليتيم : قيل : لا يعطى حتى يكون فقيرا ، وقيل : يعطى بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا.

وقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ..) يحتمل أن يراد به الصدقة الواجبة (الزكاة) وأن يراد به التطوع ، قال الجصاص : وليس في الآية دلالة على أنها الواجبة ، وإنما فيها حث على الصدقة ووعد بالثواب عليها ، لأن أكثر ما فيها أنها من البر ، وهذا لفظ ينطوي على الفرض والنفل ، إلا أن في سياق الآية ما يدل على أنه لم يرد به الزكاة ، لقوله تعالى (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) فلما عطف

١٠٠