التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

ويسر الله للإنسان سبيل الارتحال ونقل البضائع والتجارات والمواد الثقيلة بين البلدان عن طريق السفن الشراعية والبخارية والذرية التي تحمل مئات الألوف من الأطنان ، وتؤدي دورا حاسما في السلم وفي الحرب. ودلالتها على الوحدانية يظهر عند دراسة صناعتها وحمولتها وتصميمها ، مثل معرفة طبيعة الماء وقانون ثقل الأجسام وطبيعة الهواء والبخار والكهرباء ، ولا يدرك ذلك إلا العلماء المتخصصون الذي يكتشفون هذه الطاقات ويسخرونها لخدمة الإنسان ، وهي من خلق الله الذي أبدع النظام وشملت قدرته كل شيء ، كما قال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ : الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [الشورى ٤٢ / ٣٢ ـ ٣٣].

وقد عبّر القرآن عن منافع البحر بإيجاز في قوله تعالى : (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي في أسفارهم وتجاراتهم وتنقلاتهم لأغراض مختلفة من قطر لآخر ، فيتداولون المنتجات والصناعات ومواد الغذاء وأصناف اللباس والدواء وغير ذلك.

وأنزل الله المطر من السماء لإحياء الأرض بعد موتها ، ولينعم به الإنسان والحيوان ، فالماء مصدر الحياة ، كما قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء ٢١ / ٣٠]. وقال : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج ٢٢ / ٥] فإنزال المطر رحمة وفضل إلهي.

وأما مصدر المطر : فهو من تصاعد بخار ماء بواسطة حرارة الهواء فوق البحار ، ثم تتكاثف الذرات المائية وتتكون سحبا ، ثم يسقط الماء من خلالها ، بفعل تسيير الرياح ، وكل ذلك يتم بإرادة الله عزوجل ومشيئته ، كما قال : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ، فَتُثِيرُ سَحاباً ، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ). [الروم ٣٠ / ٤٨]. (وَهُوَ الَّذِي

٦١

يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً ، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ..) [الأعراف ٧ / ٥٧].

ومن أدلة قدرة الله ووحدانيته : توجيه الرياح وتصريفها على حسب الإرادة والمشيئة والنظام الحكيم ، تهب من مختلف الجهات الأربع ، ولأغراض مختلفة ، كتلقيح النّبات والأشجار ، كما قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر ١٥ / ٢٢] وقد تكون عقيما ، وقد تكون للعذاب: (.. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٢٤ ـ ٢٥].

ومن مظاهر القدرة الإلهية تكاثف السحاب (الغيم) وتجمعه في الجو ، ثم تذليله وتفريقه لإنزال المطر في شتى البقاع ، على وفق نظام معين ، وحكمة بالغة ، وتقدير عجيب.

كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر ، ليدرك الأسرار والعجائب ، ويستدل بما فيها من إتقان وإحكام على قدرة الخالق المبدع ، ووحدانية الإله المدبر ، ورحمة الله التي وسعت كل شيء ، وذلك من كمال الحكمة واكتمال الكون الدال على وجود الله ، وأنه إله واحد ، وإله كل شيء ، وخالق كل شيء ، وهذه الآية شبيهة بآية : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) [آل عمران ٣ / ١٩٠ ـ ١٩١] وقوله : (رَبَّنا) مدح المؤمنين الذين يتفكرون ويتعظون.

وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره ، فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها

٦٢

مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف ١٠ / ١٠٥ ـ ١٠٦]. وجاء في الحديث النّبوي عن الآية التي نفسرها هنا : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ ..) : «ويل لمن قرأ هذه الآية ، فمجّ بها» أي قذف ، والمراد : عدم الاعتبار والتفكر والاعتداد بها.

فقه الحياة أو الأحكام :

لما حذر الله تعالى من كتمان الحق ، بيّن أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه : أمر التوحيد ، وأعقبه بذكر البرهان وضرورة النظر : وهو التفكر في عجائب الصنع والإبداع ، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء ، وأخبر تعالى في آية : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) عن تفرده بالألوهية ، وأنه لا شريك له ، ولا عديل له ، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا إله إلا هو ، وأنه الرحمن الرحيم. جاء في الحديث عن أسماء بنت يزيد بن السّكن عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) و (الم ، اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)».

وقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نفي وإثبات ، أولها كفر وآخرها إيمان ، ومعناه : لا معبود إلا الله. أخرج مسلم عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله ، دخل الجنة» والمقصود : القلب ، لا اللسان ، فلو قال : لا إله ، ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات ، لكان من أهل الجنة ، باتفاق أهل السنة.

ثم أورد سبحانه الدليل على تفرده بالألوهية بخلق السموات والأرض وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته. فهذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع.

٦٣

فآية السموات : ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها.

وآية الأرض : بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها.

وآية الليل والنهار : اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم ، واختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والنهار : من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، والليل : من الغروب إلى الفجر.

وآية الفلك (السفن) : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها ، وأول من عملها نوح عليه‌السلام ، كما أخبر تعالى ، وقال له جبريل : «اصنعها على جؤجؤ (١) الطائر» فعملها نوح بما أراه جبريل ، فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها.

وإذا كانت السفن مسخرة للإنسان ، فيجوز ركوب البحر مطلقا ، لتجارة كانت أو عبادة ، كالحج والجهاد.

وآية الأمطار : كيفية تكونها وتجمعها وتفريقها ، وإنعاش العالم بها ، وإخراج النّبات والأرزاق ، وجعل المخزون منها في الأرض عدة في غير وقت نزولها ، كما قال الله تعالى : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون ٢٣ / ١٨].

وفي السماء مختلف أنواع الدواب ، قال الله تعالى : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [البقرة ٢ / ١٦٤] والدابة : تجمع الحيوان كله.

وآية الرياح : تصريفها ، أي إرسالها عقيما وملقحة ، ونكبا وهلاكا ونصرا ، وحارة وباردة ، وليّنة وعاصفة ، وفيها التفريج والتنفيس والترويح ، روى أبو داود عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الرّيح من روح الله ، تأتي بالرحمة ، وتأتي بالعذاب ، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها ، واسألوا الله خيرها ،

__________________

(١) الجؤجؤ : الصدر ، وقيل عظامه.

٦٤

واستعيذوا بالله من شرها» ويلاحظ أن الرياح تستعمل في الخير ، والريح في العذاب ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا هبت الريح : «اللهم اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا» لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء ، كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة ليّنة متقطعة.

وآية السحاب : تجمعه وتحريكه من مكان إلى آخر وثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق ، يشبه الجبال ، ويدهش لرؤيته من يراه من ركاب الطائرة عند ما تحلق فوقه. قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، لو لا السحاب حين ينزل الماء من السماء ، لأفسد ما يقع عليه من الأرض.

والخلاصة : أن قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ..) لتقرير مبدأ الوحدانية ، وإثبات الرحمة والرأفة بالمخلوقات ، وأما ما ذكر بعدئذ فهو لإقامة الأدلة الواضحة على الوحدانية والقدرة والرحمة. ولم يقتصر الله تعالى في ذكر وحدانيته على مجرد الإخبار ، حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي القرآن ، فقال لنبيه : (قُلِ : انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس ١٠ / ١٠١] والخطاب للكفار ، لقوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس ١٠ / ١٠١] وقال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف ٧ / ١٨٥] والملكوت : الآيات. وقال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات ٥١ / ٢١] والمعنى : أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر ، حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات ، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه ، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم ، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات ، لكن الإنسان أكمل منه ، وذلك محال.

٦٥

حال المشركين مع آلهتهم

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

الإعراب :

(يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الذين : فاعل ، ويرى بمعنى يعلم ، وسدّت (أَنَ) وصلتها مسدّ المفعولين. وإنما جاء (إِذْ) هاهنا وفي الآية (١٦٦) التي هي لما مضى ، ومعنى الكلام لما يستقبل ، لأن الإخبار من الله تعالى كالكائن الماضي لتحقق كونه وصحة وقوعه. و (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ) متعلق بجواب (لَوْ) وتقديره : لعلموا أن القوة لله.

(إِذْ تَبَرَّأَ) في موضع نصب ، والعامل فيه إما (شَدِيدُ الْعَذابِ) وإما فعل مقدر ، أي اذكر إذ تبرأ. (فَنَتَبَرَّأَ) منصوب بتقدير أن بعد الفاء التي في جواب التمني ، لأن قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) تمنّ ، فينزل منزلة : ليت ، وجوابه بالفاء منصوب ، والفاء فيه عاطفة ، وتقديره : لو أن لنا أن نكرّ فنتبرأ. والكاف في (كَما تَبَرَّؤُا) منصوب إما لأنها صفة مصدر محذوف ، و (كَما) مصدرية ، أي كتبرئهم منا ، وإما في موضع نصب على الحال من واو (تَبَرَّؤُا).

(كَذلِكَ) : الكاف إما في موضع نصب على أنها صفة مصدر محذوف وتقديره : إراءة مثل ذلك ، وإما خبر مبتدأ محذوف وتقديره : الأمر كذلك. و (حَسَراتٍ) إما منصوب على الحال من ضمير (يُرِيهِمُ) أو منصوب لأنه مفعول ثالث ليريهم.

البلاغة :

(كَحُبِّ اللهِ) تشبيه مرسل مجمل حيث ذكرت الأداة وحذف وجه الشبه. (أَشَدُّ حُبًّا) أبلغ من قوله : أحب لله.

٦٦

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وضع الظاهر موضع الضمير أي بدلا من قوله : «ولو يرون» لبيان سبب العذاب وهو الظلم الفادح. وفي قوله : (رَأَوُا الْعَذابَ) و (تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) ما يسمى بالترصيع ، وهو أن يكون الكلام سجعا.

المفردات اللغوية :

(أَنْداداً) أصناما جمع ند : وهو النظير المماثل. (يُحِبُّونَهُمْ) يعظمونهم ويخضعون لهم ، كما يفعل المحب. (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من حبهم للأنداد ، لأنهم لا يعدلون عنه بحال ما ، والكفار يعدلون في الشدة إلى الله. (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) إذ بمعنى إذا ، ويرى بمعنى يعلم ، وجواب لو محذوف ، والمعنى : لو علموا في الدنيا شدة عذاب الله وأن القدرة لله وحده وقت معاينتهم له وهو يوم القيامة ، لما اتخذوا من دونه أندادا. أو لعلموا أن القوة لله ، كما تقدم.

(تَبَرَّأَ) التبرؤ : المبالغة في التنصل والتباعد ممن يكره قربه وجواره. (اتُّبِعُوا) أي الرؤساء. (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي أنكروا إضلالهم. (الْأَسْبابُ) واحدها سبب وهو الحبل ، ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد معنوي ، والمراد : الصلات والعلاقات.

(كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا. (حَسَراتٍ) ندامات ، والحسرة : شدة الندم والكمد بحيث يتألم القلب.

التفسير والبيان :

أقام الله تعالى في الآية السابقة الأدلة على وحدانيته ورحمته ، وذكر هنا حال الذين لا يعقلون هذه الأدلة ، فاتخذوا أندادا لله ، يلتمسون منهم الخير ، ويتأملون بهم دفع الشر ، وهؤلاء هم المشركون وهذه حالهم مع آلهتهم في الدنيا ومصيرهم في الآخرة.

اتخذ هؤلاء المشركون أندادا وأمثالا لله وهم رؤساؤهم ، أو أوثانهم وأصنامهم ، يعظمونهم ويحبونهم ويطيعونهم ويعبدونهم كتعظيم الله وحبه وطاعته وعبادته ، ويتقربون إليهم كتقربهم إلى الله ، ويلتجئون إليهم عند الحاجة كالتجائهم إلى الله تعالى. ولكنهم في هذا كله مضطربون حيارى ، فقد يلجأون إلى بشر أو صنم أو حيوان ، ولا يتحقق لهم بهم مأرب ، وأنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته.

٦٧

أما اللجوء إلى الله وحده الذي لا إله غيره ، ولا ندّ له ، ولا شريك معه ، فهو المحقق للغاية ، لأن الله هو صاحب السلطان المطلق ، والقدرة الشاملة ، والرحمة الواسعة ، ولكن لا بدّ للعبد من اتخاذ الأسباب المساعدة على إجابة الدعاء ، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله ، كما أن من التجأ إلى غير الله من الأصنام والأوثان فهو مشرك بالله تعالى.

لذا كان المؤمنون أشد حبّا لله من كل ما سواه ، ولا يتشكك المؤمن في عدالة الله إطلاقا ، فلا يشرك به شيئا ، ويلجأ إليه في جميع أموره ، وهو مستقر دائم حال الشدة وحال الرخاء في حب الله وتعظيمه ، فلا يعدل عنه إلى غيره ، بخلاف المشركين ، فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد ، فيفزعون إليه ، ويخضعون له ، ويتخذون أندادهم وسائط بينهم وبين الله ، فيقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويعبدون الصنم زمانا ، ثم يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس (١) عام المجاعة.

ثم أوعد أو توعد الله تعالى المشركين الظالمين لأنفسهم بذلك ، فقال :

لو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد وإشراكهم بالله ، وقت صبّ العذاب الشديد عليهم ، لعلموا حينئذ أن القوة لله وحده ، وأنه المتصرف في الأكوان والموجودات كلها ، من البشر والحجر والصنم وغيرها ، في كل حال وزمان ، سواء في عالم الآخرة أو عالم الدنيا.

لو علموا هذا وأدركوا مصالحهم حق الإدراك ، لانتهوا عماهم فيه. وأما حال الأتباع والمتبوعين يوم القيامة فيستدعي الدهشة والعجب ، والسخرية والهزء ، لأن الرؤساء المتبوعين المعبودين كالملائكة والجن والإنس يتبرءون أو يتنصلون من أتباعهم ، لأن الواحد منهم يهتم بإنقاذ نفسه ، ولأنه لم يرض بما يفعله

__________________

(١) الحيس : تمر يخلط بسمن أو أقط.

٦٨

المشركون في الحقيقة ، فيتبرأ كل معبود ممن عبده ، ولكن لا أمل في النجاة حين رؤية العذاب ، وانقطاع الصلات والأنساب والحيل وأسباب الخلاص ، ولا معدل ولا مصرف عن النار حينئذ. وقال التابعون : نتمنى أن تكون لنا رجعة إلى الدنيا ، فنتبرأ منهم ، كما تبرأوا منا ، وتركونا في الشدة والضلال.

مثل ذلك الذي رأوه من العذاب ، يريهم الله جزاء أعمالهم حسرات عليهم ، أي أن الله يظهر لهم أن أعمالهم كان لها أسوأ الأثر في نفوسهم ، لما ورّثته فيها من حسرة وشقاء وخسران ، فهي تذهب وتضمحل ، ولن يخرجوا من النار إلى الدنيا لشفاء كيدهم وغيظهم من رؤسائهم ، لأن دخولهم النار كان بسبب الشرك وحب الأنداد.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن أعظم جريمة عند الله هي الشرك به : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨] وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك».

ومما يؤسف له ويدهش العقلاء أن المشركين الذين يتخذون آلهة مع الله من رؤساء أو أصنام يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق ، وحبهم لأصنامهم وعبادتهم إياهم مع عجزهم كحب المؤمنين لله مع قدرته.

ولو عاين المشركون العذاب ، لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا ، أي أن الحكم له وحده لا شريك له ، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه ، علما بأن عذاب الله شديد.

وقد كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم بذلك ، ولكنه خوطب ، والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا.

٦٩

ويوم القيامة يتبرأ المعبودون من عابديهم ، فتقول الملائكة مثلا : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) [القصص ٢٨ / ٦٣] ويقولون : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ ٣٤ / ٤١] والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ ، كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٥ ـ ٦] وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم ١٩ / ٨١ ـ ٨٢].

ويتبرأ العابدون أيضا من معبوديهم ، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا ويتبرءوا من الآلهة المزعومة. بل إنهم يطلبون من الله مضاعفة العذاب لهم كما قال الله تعالى : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ : يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا ، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٦٦ ـ ٦٨].

وهم في هذا التمني كاذبون ، بل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون ، كما أخبر الله تعالى عنهم.

ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين من كلا الفريقين : العابدين والمعبودين ، ويظهر الله لهم أعمالهم الفاسدة التي ارتكبوها ، فوجبت لهم النار ، وقال ابن مسعود والسّدّي: «الأعمال الصالحة التي تركوها ، ففاتتهم الجنة». وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث إنهم مأمورون بها. وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها.

وقوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) دليل على خلود الكفار فيها ، وأنهم لا يخرجون منها ، كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف ٧ / ٤٠].

٧٠

تحليل الطيبات ومنشأ تحريم المحرمات

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

الإعراب :

(حَلالاً طَيِّباً) منصوب إما لأنه وصف لمفعول محذوف ، وتقديره : كلوا شيئا حلالا طيبا ، أو لأنه وصف لمصدر محذوف ، وتقديره : كلوا أكلا حلالا طيبا.

(أَوَلَوْ) همزة استفهام ومعناه التوبيخ ، والواو حرف عطف ، وجواب (لَوْ) محذوف ، وتقديره : «يتبعونهم» للعلم به. (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) تقديره : ومثل داعي الذين كفروا كمثل ... إلخ أو تقديره : مثل دعاء الذين كفروا كمثل دعاء الذي ينعق ، فحذف المضاف في الحالين وأقيم المضاف إليه مقامه. ودعاء ونداء : منصوب ب يسمع.

البلاغة :

(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) استعارة عن الاقتداء به واتباع آثاره.

(بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) من عطف الخاص على العام ، لأن السوء أعم يشمل جميع المعاصي ، والفحشاء : أقبح المعاصي (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه تشبيه مرسل لذكر الأداة ، وتشبيه مجمل لحذف وجه الشبه.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) تشبيه بليغ حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه ، أي هم كالصم في عدم سماع الحق ، وكالعمي والبكم في عدم الانتفاع بالقرآن.

٧١

المفردات اللغوية :

(حَلالاً طَيِّباً) الحلال : هو ما أباحه الشرع ، والحرام : ما حرمه الشرع و (طَيِّباً) صفة مؤكدة ، أي مستلذا (خُطُواتِ) جمع خطوة أي طرق الشيطان أي تزيينه والسير على طريقته (عَدُوٌّ مُبِينٌ) بيّن العداوة لذوي البصائر (يَأْمُرُكُمْ) أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع (بِالسُّوءِ) : ما يسوء وقوعه أو عاقبته أي السيء القبيح (وَالْفَحْشاءِ) كل ما يقبح شرعا أو في أعين الناس من المعاصي : وهي ما تجاوز الحد في القبح ، مما ينكره العقل ويستقبحه الشرع ، فهي أقبح وأشد من كلمة (بِالسُّوءِ). (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من تحريم ما لم يحرم وغيره. (ما أَنْزَلَ اللهُ) من التوحيد وتحليل الطيبات (أَلْفَيْنا) وجدنا (لا يَعْقِلُونَ) عقل الشيء : عرفه بدليله وفهمه بأسبابه ونتائجه (وَمَثَلُ) صفة (يَنْعِقُ) يصيح أو يصوت (بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) أي صوتا ولا يفهم معناه ، أي هم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم ، تسمع صوت راعيها ولا تفهمه ، فهم لا يعقلون الموعظة. والنداء للبعيد ، والدعاء للقريب.

سبب نزول الآية (١٦٨):

قال الكلبي : نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة ، حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام ، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.

المناسبة :

بعد بيان أن أوضاع الشرك خبيثة المنافع ، أمر الله بالطيب النافع ، ولما أباح الله تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بيّن لهم ما حرم عليهم.

التفسير والبيان :

بعد أن ذكر الله تعالى حال متخذي الأنداد وما يرونه من العذاب ، وانقطاع الأسباب والصلاة بين التابعين والمتبوعين ، وهي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين ، أوضح أن تلك الصلات محرمة ، لأنها أكل الخبائث ، واتباع خطوات الشيطان ، وأن سبب الضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا برهان.

٧٢

وجاء الخطاب بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ليشمل المؤمن والكافر ، وأن إنعام الله يعم كل الناس ، وأن الكفر لا يحجب الإنعام الإلهي. وناداهم جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض حلالا أحله الله لهم ، طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ولا يتعلق به حق الغير ، وألا يأكلوا الخبائث التي منها ما يأخذه الرؤساء من الأتباع ، فهو حرام خبيث لا يحل أكله. ودل ذلك على أن بقاء رجال الدين من أهل الكتاب على ملتهم وعدم إيمانهم بالإسلام : هو للحفاظ على مراكزهم ، ورياستهم الباطلة ، وأخذهم الأموال بالباطل.

فلا تتبعوا أيها الناس طريقة الشيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة ، فهو إنما يوسوس بالشر والمنكر ، وإنه للإنسان بدءا من أبينا آدم عليه‌السلام عدو ظاهر العداوة ، فلا يأمر بالخير أصلا ، ولا يأمر إلا بالقبيح ، فهو مصدر الخواطر السيئة والمزين للمعاصي ، فاحذروه ولا تتبعوه ، وكأنه بوسوسته وتسلطه عليكم كأنه آمر مطاع ، بأن تفعلوا ما يسوؤكم في دنياكم وآخرتكم.

ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون يقينا أنه شرع الله في العقائد والشعائر الدينية ، أو تقدموا على تحليل الحرام وتحريم الحلال ، ليتوصل بذلك إلى إفساد العقيدة وتحريف الشريعة.

ثم حكى القرآن عن المشركين وبعض اليهود : أنه إذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي ، لأنه خير لكم وأجدى ، ولا تتبعوا من دونه أولياء ، انقادوا إلى تقليد الآباء تقليدا أعمى ، اعتمادا على المألوف فقط ، فرد الله عليهم :

أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في تقاليدهم وعاداتهم ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الحق في أمور العقائد والعبادات ، بل ولو تجردوا من أي دليل منطقي ، وحادوا عن الصواب. وهذا يدل على ذم التقليد بدون دليل. أما

٧٣

اتباع المجتهدين أي تقليدهم بعد معرفة دليلهم ، فهو جائز ، لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٧].

وصفة أو حال داعي الكافرين إلى الإيمان ، المقلدين آباءهم ورؤساهم ، وما هم عليه من الضلال والجهل ، وعدم التأمل في صحة المواقف ، مثل حال الذي يدعو بهائمه ويسوقها إلى المرعى والماء ويزجرها عن الممنوع ، وهي لا تعقل مما يقول شيئا ولا تفهم له معنى ، فكل واحد من الكفار والبهائم لا يعي شيئا مما يسمع ، وإنما ينقاد للأصوات والأجراس ، لأن الكفار قد حجبوا عن قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم نور الهداية ، فختم الله عليها بالغشاوة ، وأصبحت لا ينفذ إليها شيء من الخير ، وكأنهم صم لا يسمعون ، خرس أو بكم لا ينطقون ، عمي لا ينظرون في آيات الله تعالى وفي أنفسهم ، مما يرشدهم إلى الإيمان ، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان. قال القرطبي : شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم إلى الإيمان وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل ، فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم ما يقول.

فقه الحياة أو الأحكام :

أباح الله تعالى للناس أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا ، أي مستطابا في نفسه ، غير ضار للأبدان ولا للعقول ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر.

روى ابن عباس : أنه تليت هذه الآية عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) فقام سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال : «يا سعد ، أطب مطعمك ، تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل ليقذف

٧٤

اللقمة الحرام في جوفه ، ما يتقبلّ منه أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا ، فالنار أولى به».

والحلال الطيب : هو الذي لا شبهة فيه ولا إثم ، ولا يتعلق به حق للغير مهما كان.

وهذا يدل على أنه لا يحل للمسلم أن يأخذ مالا يتعلق به حق الغير ، أو يأخذه على وجه غير شرعي.

وتدل آية (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ..) على تحريم اتباع طرائق الشيطان ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينة لهم في جاهليتهم ، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي ، فهو لهم حلال ـ وفيه : وإني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم».

وتدل الآية على أنه يجب على المسلم أن يجاهد نفسه وهواه ، وأن يخالف الشيطان ، فإنه داع للشر والسوء والمنكر والعصيان. وأخبر الله تعالى بأن الشيطان عدو ، فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم ، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم ، وذلك في آيات كثيرة غير هذه الآية ، مثل (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة ٢ / ٢٦٨] (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء ٤ / ٦٠] (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ ، لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر ٣٥ / ٦].

٧٥

ويدخل في اتباع خطوات الشيطان كل معصية لله ، وكل نذر في المعاصي ، قال ابن عباس: ما كان من يمين أو نذر في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته كفارة يمين.

وقال الشعبي : نذر رجل أن ينحر ابنه ، فأفتاه مسروق بذبح كبش ، وقال : هذا من خطوات الشيطان (١).

ودلت آية : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ..) أي للناس ومنهم كفار العرب ، واليهود ، على تحريم التقليد الأعمى ، وعلى أنه يجب على المسلم وغيره أن ينظر على قدر طاقته وقوته في إثبات عقيدته وأمور دينه. والتقليد عند العلماء : قبول قول بلا حجة. وأما الاتّباع : فهو الأخذ بقول الغير بعد معرفة دليله.

وفرض العامي الذي لا يستطيع استنباط الأحكام من أصولها أن يسأل أهل العلم ، ويمتثل فتوى الأعلم ، لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٤٣].

وأجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد ، لأن الله ذم الكفار بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل في قوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ..) [الزخرف ٤٣ / ٢٣] ولأنه فرض على كل مكلف (بالغ عاقل) تعلّم أمر التوحيد والقطع به ، والتعليم لا يحصل إلا من جهة القرآن والسنة النبوية.

ومثل الذين كفروا فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ، بل إذا نعق بها راعيها ، أي دعاها إلى ما يرشدها ، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه ، بل إنما تسمع صوته فقط.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٢٠٤

٧٦

الحلال والحرام من المآكل

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

الإعراب :

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) : (إِنَّما) كافة ، وإنما تجيء في الكلام لإثبات المذكور ونفي ما سواه ، مثل : «إنما إلهكم إله واحد» أي ما إلهكم إلا إله واحد.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) : (غَيْرَ) منصوب على الحال من ضمير : (اضْطُرَّ).

المفردات اللغوية :

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي أكلها ، إذ الكلام فيه ، وكذا ما بعدها ، وهي ما لم يذكّ (يذبح) شرعا ، وألحق بها بالسنة : ما أبين من حي ، وخص منها السمك والجراد (وَالدَّمَ) أي المسفوح (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي ذبح على اسم غيره ، والإهلال : رفع الصوت ، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها ، ويقولون : باسم اللات ، أو باسم العزى ، ثم قيل لكل ذابح : مهل ، وإن لم يجهر بالتسمية. (فَمَنِ اضْطُرَّ) ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر ، فأكله. (غَيْرَ باغٍ) غير طالب للشيء المحرم ذاته (وَلا عادٍ) غير متجاوز قدر الضرورة (إِثْمَ) الإثم : الذنب والمعصية.

التفسير والبيان :

الآيات السابقة من أول السورة لبيان موقف المؤيدين والمعارضين للقرآن ، ومن هنا أي بداية النصف الثاني من السورة إلى أواخر الجزء الثاني في بيان الأحكام الشرعية العملية.

٧٧

بعد أن خاطب الله الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها ، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين رؤساءهم ، لأنهم لا يستقلون برأي ، ولا يهتدون بعقل ، وجه الخطاب هنا إلى المؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، فأباح لهم أن يأكلوا من رزق الله الطيب الطاهر ، وأمرهم أن يشكروا نعمة الله عليهم ، إن صح أنهم يخصونه بالعبادة ، ويقرون أنه مولي النعم. عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري». ولما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، وبيّن لهم ما حرم عليهم ، لكونه أقل ، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر.

والأكل من الطيبات مع شكر النعمة موقف وسط يجمع بين متطلبات الجسد والروح معا ، فنأكل للحفاظ على الجسم بلا إسراف ولا تقتير ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ..) [المائدة ٥ / ٨٧ ـ ٨٨] ونغذي الروح بشكر الله على ما أنعم.

ويختلف هذا الموقف الوسط عما كان عليه المشركون وأهل الكتاب قبل الإسلام ، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة ، ونحوهما ، وساد عند النصارى مبدأ الرهبانية وتعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات ، واحتقار الجسد ولوازمه ، إما بتخصيص ذلك بالرهبان ، أو بتعميمه على الجميع كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصيام كصوم العذراء والقديسين ، والحرمان من السمك واللبن والبيض في صوم آخر.

والمحرم الحقيقي :

١ ـ إنّما هو تناول الميتة ، لاحتباس الدم فيها وتوقع التضرر بها ، لفساد لحمها وتلوثه بالأمراض غالبا ، فهي محرمة لاستقذارها ولما فيها من ضرر.

٧٨

٢ ـ وتناول الدم المسفوح ، لأنه ضارّ ، وتأباه النفوس الطيبة ، فهو حرام لقذارته وضرره أيضا.

٣ ـ وأكل لحم الخنزير ، لأنه ضارّ ، وخصوصا أثناء الحر ، ولأن النفوس الطيبة تأباه ، لأنه حيوان قذر لا يأكل غالبا إلا من القاذورات والنجاسات ، فيقذر لذلك ، ولأن فيه ضررا ، لحملة جراثيم شديدة الفتك ، ولأن فيه كثيرا من الطباع الخبيثة ، وولوع بالنواحي الجنسية ولا يغار على أنثاه ، وكسول بطبعه ، والمتغذي يتأثر بتلك الطبائع ، وتنتقل إليه بيوض الدودة الوحيدة الحلزونية التي قد تكون في خلايا عضلات جسمه ، ولو تربى في أنظف الحظائر.

٤ ـ وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى عند الذبح ، لأنه من أعمال الوثنية ، وفيه إشراك واعتماد على غير الله. وكان العرب في الجاهلية يذبحون للأصنام ، ويقولون : باسم اللات والعزى ، فهو حرام صيانة لمبدأ الدين والتوحيد وتعظيم الله. وحصر التحريم في هذه الأصناف مستفاد من قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ ..) أي لم يحرم عليكم إلا الميتة وتوابعها ، لأن (إِنَّما) تفيد الحصر ، تثبت ما تناوله الكلام وتنفي ما عداه. وقد حصرت هنا التحريم ، لا سيما وقد جاءت عقب التحليل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ).

ويضاف لهذه المحرمات ما حرم في سورة المائدة (الآية : ٣) وما حرمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، ولحوم الحمير الأهلية.

لكن من ألجأته الضرورة (وهي أن يصل إلى حد لو لم يتناول المحظور هلك) إلى أكل شيء مما حرم الله ، بأن لم يجد غيره ، وخاف على نفسه الهلاك ، ولم يكن راغبا فيه لذاته ، ولم يتجاوز قدر الحاجة ، فلا إثم عليه ، للحفاظ على النفس ، وعدم تعريضها للهلاك ، ولأن الإشراف على الموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة والدم.

٧٩

وقيد الله جواز الأكل من المحرمات بقوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار ، فيزعم الواحد أنه مضطر وليس بمضطر ، ويتجاوز قدر الضرورة أو الحاجة مستغلا الظرف الطارئ ، فينقاد لشهواته.

إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة ، لأنه متروك إلى اجتهادهم ، رحيم بهم ، إذ أباح لهم تناول المحرّمات حال الضرورة ، ولم يوقعهم في الحرج والعسر.

فقه الحياة أو الأحكام :

أكد الله في هذه الآية إباحة الأكل من الطيبات ، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا لهم وتنويها بهم ، والمراد بالأكل : الانتفاع من جميع الوجوه. فيجوز الانتفاع بكل ما في البر والبحر من نبات وحيوان وأسماك وطيور إلا ما حرمه الله في هذه الآية وآية المائدة (٣) وما ذكره الفقهاء بالاعتماد على الثابت في السنة النبوية. ويلاحظ أن المذكور في سورة المائدة داخل تحت اسم الميتة : وهي كل ما مات من غير ذبح شرعي ، سواء أكان موقوذة أم متردية أم نطيحة أم أكلها السبع ولم تدرك حية فتذبح. وكذا ما ليس بمأكول فذبحه كموته كالسباع وغيرها.

وقد خصصت هذه الآيةبقوله عليه‌السلام فيما أخرجه الدار قطني : «أحلت لنا ميتتان : الحوت والجراد ، ودمان : الكبد والطحال» وروى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع» وروى مالك وأبو داود عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أكل كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير حرام» وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال : «نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل».

٨٠