التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وقدره ، إذا تعرضوا لمصيبة ، وحدث كل هذا ، فكان المؤمن يصبح فقيرا حينما يؤمن وتهجره أسرته ، أو يخرج من دياره وماله حينما هاجروا إلى المدينة وتركوا مكة ، وكان المقاتل يتبلغ بتمرات يسيرات ، في أثناء الذهاب إلى المعارك ، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك ، وكان يعاني المرض ويتعرض للموت حينما استقر في المدينة وأصابه وباؤها وحمياتها التي كانت فيها ، ثم حسن مناخها.

وبشر الصابرين الذين يؤمنون بالقضاء والقدر ، ولكن لا تتحقق البشار : إلا بالصبر عند الصدمة الأولى ، وهم يحتسبون الأجر عند الله قائلين : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) وتلك بشارة بحسن العاقبة في أمورهم ، فيوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ، ولهم من ربهم مغفرة لسيئاتهم ، ورحمة خاصة بهم يجدون أثرها في برد القلوب وسكينة النفس عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين ، لأن الكافر تضيق به الدنيا إذا نزلت به المصيبة ، وقد يقتل نفسه ، وما أكثر حوادث الانتحار في أوربا وأمريكا!!

والصابرون بحق : هم المهتدون إلى الحق والصواب ونافع الأفعال ، وهم الذين فازوا بخيري الدنيا والآخرة. والصبر يكون عند الصدمة الأولى لحديث البخاري عن أنس : «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».

والبكاء أو الحزن مع الرضا والتسليم للقضاء والقدر لا ينافي الصبر والإيمان ، فقد جاء في الصحيحين أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكى حينما مات ولده إبراهيم ، فقيل له : أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال : إنها الرحمة ، ثم قال : «إن العين لتدمع ، وإن القلب ليجزع ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

والمذموم : هو فعل ما نهى عنه الشرع من لطم الخدود وشقّ الجيوب والدعاء بدعوة الجاهلية من النواح المحرم على الأموات ، وفعل ما يستقبحه العقل من التفوه بكلمات تعبر عن السخط والاعتراض على ما قدّر الله وحكم به.

٤١

وقد وردت أحاديث وآثار كثيرة في الصبر وحدوده وقيوده والاسترجاع عند المصيبة ، منها ما رواه مسلم عن أم سلمة رضي‌الله‌عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من عبد تصيبه مصيبة ، فيقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون (١) ، اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها ، إلا آجره الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها». وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عاقبته ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه».

وأخرج أحمد والترمذي عن أبي موسى أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مات ولد العبد ، قال الله تعالى لملائكته : قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم ، فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون : نعم ، فيقول : فما ذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة ، وسمّوه بيت الحمد».

وقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : «ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم : الأولى ـ أنها لم تكن في ديني ، الثانية ـ أنها لم تكن أعظم مما كانت ، الثالثة ـ أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير» ، ثم تلا قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

والخلاصة : إن الآيات والأحاديث التي وضعت نظام الدين حضت على الصبر والاسترجاع والقول بما يرضي الله ، والاستسلام لقضاء الله وقدره ، والرضا بحكمه ، فحينئذ يجبر الله المصيبة ، بأن يعوض خيرا منها ، ويثاب الصابر بالقبول الحسن عند الله والفوز بالجنة.

__________________

(١) إِنَّا لِلَّهِ إقرار بالعبودية والملك ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالفناء والبعث من القبور.

٤٢

فقه الحياة أو الأحكام :

الدنيا دار ابتلاء واختبار ، والبلاء يكون حسنا ، ويكون سيئا ، وأصله المحنة ، قال الله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء ٢١ / ٣٥] وقال : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) [الأنفال ٨ / ١٧] والله عزوجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره ، فقيل للحسن بلاء ، وللسيء بلاء. وتؤكد الآية (١٥٥) أن الامتحان قائم ، والمعنى لنمتحننّكم حتى نعلم المجاهد والصابر علم معاينة ، حتى يقع عليه الجزاء.

والصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها ، فإنه يدلّ على قوة القلب وثباته في مقام الصبر ، وهو معنى حديث أنس المتقدم : «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». وأما إذا بردت حرارة المصيبة ، فكل أحد يصبر إذ ذاك.

والصبر صبران : صبر عن معصية الله ، فصاحبه مجاهد ، وصبر على طاعة الله ، فصاحبه عابد ، والثاني أكثر ثوابا ، لأنه المقصود. فإذا صبر عن معصية الله ، وصبر على طاعة الله ، أورثه الله الرضا بقضائه. وعلامة الرضا : سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات : وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب.

وإذا أصيب المؤمن بمصيبة : وهي النكبة التي تصيب الإنسان ، وإن صغرت ، قال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطفأ ذات ليلة ، فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فقيل : أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال : «نعم ، كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة» فالمصيبة إذن : كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه ، وروى مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيدرضي‌الله‌عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما يصيب المسلم من

٤٣

وصب ، ولا نصب ، ولا سقم ، ولا حزن ، حتى الهمّ يهمّه (١) إلا كفّر به من سيئاته».

ومن أعظم المصائب : المصيبة في الدين ، أخرج السمرقندي أبو محمد في مسنده عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أصاب أحدكم مصيبة ، فليذكر مصابه بي ، فإنها من أعظم المصائب». قال ابن عبد البر :وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن المصيبة به أعظم من كلّ مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة ، انقطع الوحي ، وماتت النّبوة.

وكان أول ظهور الشرّ بارتداد العرب وتوابعه ، وكان المصاب بالنبي أول انقطاع الخير وأول نقصانه.

والاسترجاع تسليم وإذعان وهو قوله تعالى : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) وقد جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب ، وعصمة للممتحنين ، لما جمعت من المعاني المباركة ، فإن قوله : (إِنَّا لِلَّهِ) توحيد وإقرار بالعبودية والملك ، وقوله : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار بالهلاك على أنفسنا والبعث من قبورنا ، واليقين أن مرجع الأمر كله لله تعالى. قال سعيد بن جبير رحمه‌الله تعالى : لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا ، ولو عرفها يعقوب ، لما قال : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف ١٢ / ٨٤].

وبشارة الصابرين : إما بالخلف ، كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه تزوجها لما مات زوجها أبو سلمة ، وإما بالثواب الجزيل ، كما في حديث أبي موسى المتقدّم المتضمن بناء بيت في الجنة يسمى بيت الحمد للصابرين.

وقد أنعم الله على الصابرين المسترجعين بنعم عظمي هي المغفرة والرحمة ،

__________________

(١) أي يغمّه.

٤٤

لأن الصلاة من الله على عبده : عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجّاج : «الصلاة من الله عزوجل : الغفران والثناء الحسن». ومن هذا : الصلاة على الميت ، إنما هو الثناء عليه والدعاء له.

وقيل : أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. والمغفرة والرحمة عدل إلهي ، وزاد الله الصابرين شيئا ثالثا وهو الهداية : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

وخلاصة ما أعتقده : أن من صبر عند الصدمة الأولى ، ورضي بالقضاء والقدر ، وطلب الأجر والثواب من الله على مصيبته ، واحتسب ذلك عند الله ، ولم يبدر منه كلمة فيها سوء أدب مع الله ، عوّضه الله خيرا عنها في الدنيا ، وغمره باللطف الإلهي في الدنيا والآخرة ، وأسبغ عليه نعمة كبيرة وفضلا عظيما في الآخرة : وهو مغفرة الذنوب والخطايا ، ودخول الجنة ، والإقامة في بيت الحمد. رزقنا الله الإيمان ، وربّى نفوسنا على التذرع بالصبر الجميل عند كلّ مصيبة صغرت أم عظمت ، والله المستعان ، والله مع الصابرين بالعون والولاية والرعاية والنصر.

السعي بين الصفا والمروة وجزاء كتمان آيات الله

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)

٤٥

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

الإعراب :

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ، فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ مِنْ) إما شرطية ، و (تَطَوَّعَ) شرط ، فعل ماض في معنى المستقبل ، وهو مجزوم بمن الشرطية ، وإما بمعنى الذي ، وتطوع : جملة فعلية لا موضع لها من الإعراب ، لأنه صلة الموصول. و (خَيْراً) منصوب بنزع الخافض أي من تطوع بخير. (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) جواب الشرط ، مجزوم بمن الشرطية ، مثل قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف ٧ / ١٨٦].

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) : (أُولئِكَ) مبتدأ ، و (لَعْنَةُ اللهِ) إما خبر ، وإما مبتدأ ثان ، و (عَلَيْهِمْ) خبره المقدم عليه ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول ، والمبتدأ الأول وخبره : خبر إن.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء متصل ، والمعنى : تابوا عن الكفر إلى الإسلام أو عن الكتمان إلى الإظهار.

(خالِدِينَ) حال منصوب من ضمير (عَلَيْهِمْ) و (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (خالِدِينَ). و (لا هُمْ يُنْظَرُونَ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير (خالِدِينَ) أو من ضمير (عَنْهُمُ).

البلاغة :

(مِنْ شَعائِرِ اللهِ) فيه إيجاز بالحذف ، تقديره : من شعائر دين الله.

(شاكِرٌ عَلِيمٌ) أراد به الثواب على الطاعة ، أي أنه أطلق الشكر وأراد به الجزاء بطريق المجاز.

(يَلْعَنُهُمُ اللهُ) فيه التفات من ضمير المتكلم «نلعنهم» إلى الغيبة ، وذكر اسم الجلالة لإلقاء المهابة في القلب.

(يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) فيه جناس الاشتقاق ، وهو محسّن بديعي.

٤٦

(خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة أو في النار ، وأضمرت النار تهويلا لأمرها.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أتى بالجملة الاسمية لإفادة الدوام والاستمرار.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) مكانان مرتفعان بمكة بينهما (٧٦٠ ذراعا) والصفا : تجاه البيت الحرام ، وما بينهما المسعى ، وهو مسقوف الآن ، ومبلط بالرخام الجميل ، مثل سائر الحرم المكي.

(شَعائِرِ اللهِ) جمع شعيرة وهي العلامة ، وتسمى المشاعر أيضا ، وواحدها مشعر ، وهي تطلق أحيانا على معالم الحج ومواضع النسك ، وحينا آخر على العبادة والنسك فيه ، والمراد هنا : مناسك الحج ، وفيه حذف تقديره : من أعلام دين الله. (حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحج لغة : القصد ، وشرعا قصد البيت الحرام للنسك أو أداء المناسك المعروفة. والعمرة لغة : الزيارة ، وشرعا : زيارة مخصوصة للبيت الحرام ، وهي كالحج ، لكن ليس فيها وقوف بعرفة ولا بالمزدلفة ولا بمنى ، ولا تتحدد بزمان معين ، ووقتها : كل أيام السنة. والاعتمار : أداء مناسك العمرة. (فَلا جُناحَ) فلا إثم. (أَنْ يَطَّوَّفَ) : أصله يتطوّف : أي يكرر الطواف ، والمراد به السعي بين الصفا والمروة ، وهو من مناسك الحج بالإجماع ، وبيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرضيته بقوله فيما رواه البيهقي وغيره : «إن الله كتب عليكم السعي» وروى مسلم : «ابدؤوا بما بدأ الله به» يعني الصفا.

(تَطَوَّعَ) فعل الطاعة فرضا أو نفلا ، والتطوع لغة : الإتيان بالفعل طوعا لا كرها ، ثم أطلق على التبرع بالخير ، لأنه طوع لا كره ، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب. (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) لعمله أي مجاز عليه بالإثابة عليه ، فهو سبحانه يجزي بالإحسان إحسانا. (يَكْتُمُونَ) الكتمان : ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه ، وحصول الداعي إلى إظهاره. وما لم يكن كذلك لا يعد كتمانا.

(ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) كآية الرجم ونعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي الْكِتابِ) : التوراة (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يبعدهم من رحمته (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) الملائكة والمؤمنون ، أو كل شيء ، بالدعاء عليهم باللعنة.

(خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة ، أو في النار المدلول بها عليها. (يُنْظَرُونَ) يمهلون لتوبة أو معذرة ، من الإنظار : وهو الإمهال.

٤٧

سبب النزول :

سبب نزول الآية (١٥٨):

أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أنه سئل عن الصفا والمروة ، فقال : «كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ، أمسكنا عنهما ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) وأخرج الحاكم مثله عن ابن عباس.

وأخرج الشيخان عن عروة عن عائشة رضي‌الله‌عنها قال : قلت لعائشة : أرأيت قول الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما ، فقالت عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه ، كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ولكنهما إنما أنزلت ، لأن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية ، وكان من أهلّ لها ، يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ...) الآية ، ثم سن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يدع الطواف بينهما.

ويوضح ذلك ما أخرجه الطبري عن الشعبي : أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا ، يسمى إساف ، ووثنا على المروة يسمى نائلة ، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت ، مسحوا الوثنين ، فلما جاء الإسلام ، وكسرت الأوثان ، قال المسلمون : إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين ، وليس الطواف بهما من الشعائر ، قال : فأنزل الله أنهما من الشعائر. أي فلا حرج على المسلمين في السعي بينهما ، لأنهم يسعون لله ، لا للأصنام.

٤٨

سبب نزول الآية (١٥٩ وما بعدها):

نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى الطبري عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد سألوا نفرا من اليهود عما في التوراة من ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكتموهم إياه ، فأنزل الله هذه الآية.

المناسبة بين الآيات :

كان تحويل القبلة في الآيات السابقة نعمة كبري على المسلمين ، إذ جعلتهم مستقلين عن التبعة لغيرهم ، ومكنتهم من الإشراف على البيت الحرام ، لتطهيره من الشرك والوثنية ، ووجهت أنظار المسلمين نحو مكة ـ قلب الجزيرة والعالم ، ولما أثنى الله على الصابرين ، وكان الحج من الأعمال الشاقة المضنية للمال والبدن ، ناسب هنا ذكر بعض شعائر الحج ، وهو السعي بين الصفا والمروة ، لإتمام النعمة بالإشراف على مكة ، والتذكير بأهميتها ، وإقامة مناسك الحج فيها. وكل من الاتجاه إلى الكعبة والسعي هو أيضا إحياء لملة إبراهيم عليه‌السلام ، فلا مسوغ بعدئذ لمعاندة أهل الكتاب والمشركين في تحويل القبلة ، ولا داعي لمحاولتهم زرع الأحقاد والضغائن ضد المسلمين الذين أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة.

التفسير والبيان :

إن الصفا والمروة والسعي بينهما من علامات دين الله ، ومن مناسك الحج والعمرة التي تدل على الخضوع لله وعبادته إذعانا وتسليما ، يعبده عباده عندهما وما بينهما بالدعاء أو الذكر أو تلاوة القرآن ، فمن حج البيت أو اعتمر ، فلا إثم عليه ولا خوف من الطواف بهما ، وإن كان المشركون يطوفون بهما ، فإن طوافهم كان كفرا بسبب تعظيم الأصنام الجاثمة على صخرتي الصفا والمروة ، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وإطاعة لأوامر الله تعالى.

٤٩

ونفي الإثم والحرج أو الجناح عن السعي يشمل الواجب والمندوب ، كما أن التطوع وهو فعل الطاعة يشمل الفرض والنفل. والسر في التعبير بنفي الجناح ، مع أن السعي فرض عند الجمهور ، وواجب عند الحنفية : هو لبيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون السعي من الشعائر ، وأنه من مناسك إبراهيم ، وأنه لا مانع منه في الإسلام لتغير قصد الطائفين ، ونفي الجناح لا ينافي الإيجاب المقرر شرعا.

وأما التعبير بالشعائر : وهي ما تعبّدنا الله به كالصلاة ومناسك الحج ، فللدلالة على وجوب التنفيذ والطاعة ، وممارسة العبادة ، وإن لم نفهم معناها تمام الفهم ، أو ندرك سرها ، ولا يقاس عليها غيرها. أما غير الشعائر كالمعاملات من بيع وإجارة وشركة ورهن ونحوها ، فهي مشروعة لمصالح البشر ، ولها علل وأسباب يسهل فهمها وإدراك مقاصدها ، فيجري فيها القياس بحسب المصلحة.

وإقامة شعائر الحج فرض في العمر مرة ، ومن تطوع خيرا بأن أكثر من الطاعة وزاد عن الواجب الأصلي ، فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا ، ويثيب على القليل بالكثير ، فلا يبخس أحدا ثوابه ، وهو عليم بقصده وإرادته وبمن يستحق هذا الجزاء.

وفي التعبير عن الجزاء الحسن بالشكر تربية على فضائل الأخلاق ، إذ إن منفعة عمل العبادة عائدة إليهم ، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه ، فهل يليق بعدئذ كفران النعمة الإلهية وعدم شكرها؟! إن شكر المعروف وتقدير النعمة سمة أهل الوفاء والإخلاص ، بل هو سبب لزيادة النعمة ودوامها وإسبال الستر الإلهي على العبد الشاكر الطائع.

وقد حمل العلماء الشكر على الثواب والجزاء بطريق المجاز ، لأن الشكر بمعنى مقابلة الإحسان والنعمة بالثناء والتقدير محال على الله ، إذ ليس لأحد عند ربه

٥٠

يد ونعمة ، ولا حاجة لله تعالى لعمل العباد. وأثبت السلف صفة الشكر لله ، فهي صفة تليق بجلاله وكماله.

ثم عاد القرآن إلى كشف موقف أهل الكتاب (اليهود والنصارى) في عناد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعاداتهم إياه ، ولا سيما علماء اليهود وأحبارهم ، وما تضمنه موقفهم من أنهم يعرفون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون.

إن الذين يكتمون ويخفون ما أنزل الله ـ إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه ، كالبشارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفاته الموجودة في سفر التثنية ، وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة ، ووضع شيء مكذوب من عندهم مكانه ، سواء في التوراة والإنجيل ـ جزاؤهم الطرد من رحمة الله ، وغضب الله عليهم ، ولعنهم من الملائكة والناس أجمعين.

وحكمة هذا الجزاء : أن ما أنزل الله من البينات والهدى ، كان لخير الناس وهدايتهم إلى الطريق المستقيم ، عن طريق إيراد الأدلة الواضحة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبيان حقيقة أمره ووجوب اتباعه والإيمان به ، فإذا كتموا ما أنزل ، وحجبوا الحقائق عن الأعين ، أوقعوا الناس في ضرر جسيم ، وشر عميم ، وعطلوا الكتب السماوية ، وفوتوا ما تؤتيه من ثمار وغايات طيبة مرجوة منها.

والآية عامة في كل كاتم ومكتوم ، يحتاج الناس إلى معرفته في أمر معاشهم ومعادهم ، ومنه كتمان العلم الذي فرض الله بيانه للناس ، كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من سئل عن علم يعلمه ، فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار» ولا عبرة بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية. والمراد من قوله تعالى : (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) : كل ما أنزله الله على الأنبياء من الكتب والوحي والدلائل التي تهتدي بها العقول في ظلمات الحيرة.

والمراد من قوله : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) إما التوراة

٥١

والإنجيل ، والمكتوم : ما جاء فيهما من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأحكام ، وإما الكتب المتقدمة وما تبعها وهو القرآن.

واستثنى القرآن من جزاء الكتمان السابق : من تاب من أهل الكتاب وأصلح ما أفسده ، وأعلن الحق المسطور في الكتب المنزلة ، وأقر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدّق ما جاء به من عند الله ، وأماط اللثام عما أنزل الله من غير تحريف ولا تبديل ، وأصلح نفسه بصالح الأعمال ، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويغفر لهم ، ويدخلهم الجنة ، لأن الله تعالى قابل التوبة كثيرا من غير حدود ، رحيم بالمقبلين عليه رحمة واسعة ، يعفو عن المسيء ، ويغفر زلة المخطئ ، ويفيض برحمته على المقصرين إذا أنابوا وتابوا ورجعوا إلى الله تعالى.

أما من ظل مصرّا على الخطأ ، وعاند في قبول الحق ، وأعرض عن دعوة الله في قرآنه وعلى لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وظل يغير ويحرف حتى مات ، فهذا وأمثاله هم الذين كفروا بالله ورسله وماتوا وهم كافرون ، لذا استحقوا لعنة الله ، وغضبه ولعنة الملائكة والناس أجمعين ، وكانوا خالدين في النار خلودا دائما ، لا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم يمهلون ، فهم ماكثون في تلك اللعنة الشاملة على طريق الدوام ، حتى يردوا النار ، ويخلدوا في عذاب جهنم ، لموتهم وهم كفار.

وفي بيان موقف التائبين والمعاندين ترغيب في التوبة عما فرط الإنسان من الذنوب ، وحث على ترك العناد ، وإبعاد لليأس من رحمة الله قبل هجوم الموت ، كما قال الله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٣٩ / ٥٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى أن السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج والعمرة ، لكن علماءنا اختلفوا في تحديد صفته الشرعية :

٥٢

فقال الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) : إنه ركن ، فمن لم يسع كان عليه حج قابل ، لقوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه أحمد عن صفية بنت شيبة : «اسعوا ، فإن الله كتب عليكم السعي» وكتب بمعنى أوجب ، مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ، وقوله عليه الصلاة والسّلام : «خمس صلوات افترضهن الله على العباد» رواه أبو داود والبيهقي عن عبادة بن الصامت.

وقال الحنفية : السعي واجب ، فإن تركه أحد حتى يرجع إلى بلاده ، جبره بدم ، أي بذبح شاة مثل شاة الأضحية ، لظاهر الآية التي رفعت الإثم عمن تطوف بين الصفا والمروة ، ووصفت ذلك بالتطوع ، فقالت : (وَمَنْ تَطَوَّعَ) يعني بالتطوف بينهما ، ولما رواه الشعبي عن عروة بن مضراس الطائي ، قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمزدلفة ، فقلت : يا رسول الله ، جئت من جبل طي ، ما تركت جبلا إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسّلام : «من صلّى معنا هذه الصلاة (١) ، ووقف معنا هذا الوقف ، وقد أدرك عرفة قبل ـ ليلا أو نهارا ـ فقد تم حجه ، وقضى تفثه» (٢) قالوا : فهذا يدل على أن السعي ليس بركن من وجهين :

أحدهما ـ إخباره بتمام حجته ، وليس فيها السعي.

الثاني ـ أنه لو كان من أركانه لبينه للسائل ، لعلمه بجهله الحكم.

والظاهر أن الآية لا تدل لأحد الفريقين ، لأن سببها كما علمنا هو رفع الجناح على من تطوف بالصفا والمروة ، بعد أن كانوا يتحرجون من السعي بينهما ، لوجود صنمين أو وثنين (إساف ونائلة) عليهما في الجاهلية ، وكانوا يتمسحون بهما ويطوفون من أجلهما ، فأبان الله أنه يطاف بهما من أجل الله ، وأنهما

__________________

(١) يحتمل صلاة العيد

(٢) قضى مناسك الحج

٥٣

من شعائره. وقوله : «ومن تطوع خيرا» يحتمل بالتطوف بهما ، ويحتمل بالزيادة على الفرض من التطوف بهما ، فلم يبق من مستند في هذه المسألة إلا السنة ، وروي فيها آثار مختلفة ، فيرجح بينها بحسب الأصول ، والراجح لدي رأي الجمهور للأحاديث التي استدلوا بها وهي مصرحة بفرضية السعي. وقوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ) إشارة إلى أن السعي واجب ، فمن تطوع بالزيادة عليه ، فإن الله تعالى يشكر ذلك له.

وآية كتمان ما أنزل الله التي نزلت في أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كتم اليهود أمر رجم الزناة المحصنين ، ليست خاصة بهم ، وإنما العبرة بعموم اللفظ ، والمراد كل من كتم الحق ، فهي عامة في كل من كتم حكما شرعيا ، أو علما نافعا ، أو رأيا صحيحا خالصا نافعا للأمة ، ويدل عليه ما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة وعمرو بن العاص عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سئل عن علم يعلمه ، فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار». وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران ٣ / ١٨٧] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة ٢ / ١٧٤] فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم يتضمن تحريم الكتمان والتحريف ، وفي آيات أخرى تصريح إيجابي وأمر واضح في الحث على بيان العلم ونشره ، وإن لم يذكر الوعيد ، مثل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٢].

والحاصل : إذا قصد العالم كتمان العلم عصى ، وإذا لم يقصده ، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه معروف لدى غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ ، لهذه الآيات والحديث المتقدم.

٥٤

وذكر بعضهم أن الآية تدل على عدم جواز أخذ الأجر على التعليم ، لأنّها تدل على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه ، ولا يستحق إنسان أجرا على عمل يلزمه أداؤه ، كما صرحت آية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة ٢ / ١٧٤] فدل ذلك على بطلان أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين.

لكن أفتى المتأخرون بجواز أخذ الأجور على تعليم العلوم الدينية ، لتهاون الناس بها ، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا ، حتى لا تضيع العلوم ، ولانقطاع مخصصات العلماء من بيت مال المسلمين ، واضطرار العلماء إلى التزود بما يعينهم على شؤون الحياة.

ودلت آية كتمان ما أنزل الله على شدة النكير على الكاتمين ووعيدهم ، لما في الكتمان من الضرر الجسيم بالناس ، وتعطيل الكتب السماوية ، ووظيفة الرسالة النّبوية ، ولأن العلم يحرم كتمه ، ويجب نشره وتعميمه ، فإن أقدم إنسان على حرمان الناس من علمه ، استحق اللعنة الأبدية من الله ومن الناس أجمعين ، لأنهم حرموا الخير والنور ومعرفة طريق الهدى والرشاد.

وقد أرشد قوله سبحانه في تحريم كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى إلى وجوب العمل بقول الواحد ، لأنه لا يجب عليه البيان ، إلا وقد وجب قبول قوله ، وقال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) فحكم بوقوع البيان بخبرهم.

ولم يسدّ الحق سبحانه طريق الأمل ، فاستثنى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم ، ولا يكفي في التوبة قول القائل : قد تبت ، حتى يظهر منه مخالفة سلوكه السابق ، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه ، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح ، وجانب أهل الفساد

٥٥

والأحوال التي كان عليها ، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام ، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه.

ودلت آية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وما بعدها على خلود الكفار في نار جهنم ، فهم خالدون في اللعنة ومستقرة فيهم أي في جزائها ، وأنهم مطرودون من رحمة الله ، وأن تعذيبهم دائم مستمر بدون انقطاع ولا تخفيف ، ولا إمهال أو إرجاء ، فهم لا ينظرون أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات.

ولا خلاف في جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين ، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول : «ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان» سواء أكانت لهم ذمة أم لم تكن ، وهو مباح غير واجب ، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله. وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشرّاب الخمر وأكلة الرّبا ، والتشبّه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء ، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه.

وأما الكافر المعيّن ، فقال ابن العربي : والصحيح عندي جواز لعنه ، لظاهر حاله ، ولجواز قتله وقتاله (١). وقد روي أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم إن عمرو بن العاص هجاني ، وقد علم أني لست بشاعر ، فالعنه واهجه عدد ما هجاني» فلعنه ، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله. وقال جماعة من العلماء : لا يلعن الكافر المعين ، لأنا لا ندري بما يختم الله له. وأما الحديث الذي احتج به ابن العربي فهو ضعيف.

وليس لعن الكافر زجرا له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر ، وإظهار قبح كفره ، سواء كان الكافر ميتا أو مجنونا. ومع هذا فإن الأولى عدم اللعن عموما ، لما يؤدي إليه من المقابلة أو المعاملة بالمثل ، وإثارة الخصام والاقتتال.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٥٠

٥٦

ولعنة الكافر من الناس : هي في يوم القيامة ، ليتأثر بذلك ، ويتضرر ويتألم قلبه ، فيكون لعنه جزاء على كفره ، كما قال الله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت ٢٩ / ٢٥].

وأما لعن المسلم العاصي المعيّن : فذكر ابن العربي أنه لا يجوز اتفاقا ، لما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم أنه أتي بشارب خمر مرارا ، وهو نعيمان ، فقال بعض من حضره : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» فجعل له حرمة الأخوة ، وهذا يوجب الشفقة. وكان هذا في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه ، أما من لم يقم عليه الحد ، فلعنته جائزة ، سواء سمّي أو عيّن أم لا ، لأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ، ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن ، فإذا تاب منها وأقلع وطهّره الحد ، فلا لعنة تتوجه عليه.

وأما لعن العاصي مطلقا من غير تعيين ، فيجوز إجماعا ، لما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لعن الله السارق يسرق البيضة ، فتقطع يده» ويجوز لعن الظالم من غير تعيين ، لقوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود ١١ / ١٨].

وحدانية الإله ورحمته ومظاهر قدرته

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

٥٧

الإعراب :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) : (لا) نافية للجنس ، وإله : اسمها المنصوب ، وخبرها محذوف تقديره : لا إله لنا ، أو في الوجود ، و (هُوَ) بدل مرفوع من موضع : (لا إِلهَ) الذي هو في موضع رفع على الابتداء. و (الرَّحْمنُ) إما مرفوع على البدل من (هُوَ) وإما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو الرحمن ، ولا يجوز أن يكون وصفا لقوله : (هُوَ) لأنه ضمير لا يوصف ولا يوصف به.

(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي) معطوف على المجرور قبله ، والفلك : يكون واحدا ويكون جمعا ، الواحد كقوله تعالى : (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الشعراء ٢٦ / ١١٩] والجمع كقوله تعالى: (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس ١٠ / ٢٢].

البلاغة :

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) خبر خال من التأكيد ، لقيام الأدلة القاطعة على وحدانية الله.

(لَآياتٍ) وردت نكرة للتفخيم أي آيات عظيمة دالة على القدرة الإلهية.

المفردات اللغوية :

(وَإِلهُكُمْ) المستحق للعبادة منكم (إِلهٌ واحِدٌ) لا نظير له في ذاته ولا في صفاته. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان. (وَالْفُلْكِ) السفن. (وَبَثَّ فِيها) نشر وفرّق فيها. (دَابَّةٍ) كل ما دب من الحيوان على الأرض ، وغلب على ما يركب ويحمل عليه. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : تقليبها جنوبا وشمالا حارة وباردة ، وتوجيهها إلى الجهات المطلوبة. (وَالسَّحابِ) الغيم. (الْمُسَخَّرِ) المذلل بأمر الله تعالى يسير إلى حيث شاء الله. (بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بلا علاقة (لَآياتٍ) دالات على وحدانيته تعالى (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتدبرون.

سبب النزول :

عن عطاء قال : نزل على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

٥٨

وعند أبي الضحى قال : لما نزلت هذه الآية : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) تعجب المشركون وقالوا : إله واحد؟ إن كان صادقا فليأتنا بآية ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر الآية (١).

وجه المناسبة أو الربط بين الآيات :

بعد أن ذكر الله في الآية السابقة حال الكافرين الجاحدين لآيات الله ، وحال من كتم الآيات ، وعقابهم بالطرد من رحمة الله والخلود في نار جهنم ، أتى ببيان سبب الكفر وهو الشرك ، وأراد تعالى أن يعالج داء كفرهم بإثبات وحدانية الله بالبرهان ، وتعداد مظاهر رحمته وأدلة قدرته ، وأن الخير في اللجوء إليه وحده ، فقال :

وإلهكم المستحق للعبادة بحق : هو الله الذي ليس في الوجود سواه ، والذي وسعت رحمته كل شيء ، بيده النفع والخير ، وهو القادر على دفع الضر والشر ، فلا تشركوا به شيئا ، سواء شرك الألوهية : بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله ، وشرك الربوبية : بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه ، أو تؤخذ أحكام الشرائع من عبادة وحلال وحرام من غيره ، كما قال تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣١].

فقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته تعالى. وقوله (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) معناه : المولي لجميع النعم أصولها وفروعها ، ولا شيء سواه بهذه الصفة ، فإن كل ما سواه إما نعمة وإما منعم عليه.

وإنما خص الله تعالى الوحدانية والرحمة بالذكر دون غيرهما من الصفات ، لتذكير الكافرين الكاتمين للحق بأن لا ملجأ أمامهم غير الله لاتقاء عذابه ، ولترغيبهم بالتوبة وعدم اليأس من فضله.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٥ ـ ٢٦ ، البحر المحيط : ١ / ٤٦٤

٥٩

ثم أورد الله تعالى أدلة وحدانيته وقدرته ورحمته في هذا الكون بالذات ، فأبان أنه خالق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك من غير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها ، بديعة الجمال ، دقيقة النظام ، كل ما فيها يجري لأجل مسمى في مداره ، محكمة التناسب فيما بينها عن طريق ما يسمى بالجاذبية ، نجومها وقمرها للإنارة وتقدير حساب الشهور ، وشمسها للإضاءة وإمداد الحيوان والنّبات بالحرارة ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس ١٠ / ٥] ، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) [الأنعام ٦ / ٩٧].

وخالق الأرض الذي جعلها وسطا صالحا للعيش الهادئ المطمئن ، وملأها بالكنوز والمنافع المختلفة ، وسخرها لخير الإنسان ، وأوجد فيها الجماد والمعادن والأنهار والحيوان والنّبات ، وجعل لكل مخلوق غاية وحكمة ، ولم يخلق ما فيها عبثا ، ويسر لكل شيء فيها وسائل الحياة والرزق والدوام والبقاء مدة العيش قال الله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات ٥١ / ٢٠].

وكل من خلق السموات والأرضين عدا ما فيه من عظمة وقدرة وبهاء ، مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية بالناس جميعا.

ومن أجل إتمام النعمة وإسباغ الرحمة على الإنسان ، وتيسير سبل العيش الكريم والراحة والسكينة ، أوجد الله تعالى تعاقب الليل والنهار وخالف بينهما في الفصول الأربعة بسبب خطوط الطول والعرض بالطول والقصر ، والحرارة والبرودة ، وبحسب اختلاف الأقطار والبلدان ، كما جاء في آيات كثيرة منها : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ، لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٦٢] ومنها : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ، لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) [الإسراء ١٧ / ١٢].

٦٠