التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

التمهيد لتحويل القبلة

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))

الإعراب :

(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) : (إِنْ) مخففة من إنّ الثقيلة ، واسمها محذوف أي وإنها ، واللام في (لَكَبِيرَةً) لام التأكيد التي تأتي بعد إن المخففة من الثقيلة ، ليفرق بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما» في نحو قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان ٢٥ / ٤٤]. والتاء في (كانَتْ) إما أن يراد بها التولية من بيت المقدس إلى الكعبة ، وإما أن يراد بها الصلاة ، أي وإن كانت الصلاة لكبيرة إلا على من هداهم الله. (هَدَى اللهُ) أي هداهم الله ، فحذف ضمير المفعول العائد من الصلة إلى الموصول ، كقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١]. أي بعثه الله. وإنما حذف الضمير تخفيفا.

البلاغة :

(يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) استعارة تمثيلية ، حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه.

(لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) من صيغ المبالغة ، والرأفة : شدّة الرحمة ، وقدم الأبلغ مراعاة للفاصلة والمعنى متقارب.

٥

المفردات اللغوية :

(السُّفَهاءُ) السّفه : اضطراب الرأي والفكر أو الأخلاق ، والسفهاء : الجهال ضعفاء العقول ، والمراد بهم هنا : منكر وتغير القبلة من اليهود والمشركين والمنافقين. (وَلَّاهُمْ) صرفهم أي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. «القبلة» أصلها الحالة التي يكون عليها المقابل ، ثم خصت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة ، وهي قبلة المسلمين في الصلاة وهي جهة الكعبة المشرفة (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الجهات كلها ، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء. (صِراطٍ) طريق. (مُسْتَقِيمٍ) مستوي معتدل من الأفكار والأعمال ، وهو ما فيه الحكمة والمصلحة ، وهو دين الإسلام.

(وَسَطاً) الوسط : منتصف الشيء أو مركز الدائرة ، ثم أستعير للخصال المحمودة ، إذ كلّ صفة محمودة كالشجاعة وسط بين الطرفين : الإفراط والتفريط ، والفضيلة في الوسط. والمراد : الخيار العدول الذين يجمعون بين العلم والعمل. (عَقِبَيْهِ) العقب مؤخّر القدم ، يقال : انقلب على عقبيه عن كذا : إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء ، وهو طريق العقبين ، والمراد : يرتد عن الإسلام. (إِيمانَكُمْ) صلاتكم إلى بيت المقدس ، فإنها مسببة عن الإيمان ، بل يثيبكم عليه ، لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل. (بِالنَّاسِ) المؤمنين. (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) في عدم إضاعة أعمالهم ، والرأفة : شدّة الرحمة ، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر ، والرحمة أعم ، إذ تشمل دفع الضرر ، وفعل الإحسان.

سبب النزول :

روى البخاري عن البراء قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فصلّى نحو بيت المقدس ستّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) الآية [البقرة ٢ / ١٤٤] ، فقال السفهاء من الناس وهم اليهود : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) ، قال الله تعالى : (قُلْ : لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية.

وفي الصحيحين عن البراء : مات على القبلة قبل أن تحول رجال ، فلم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

٦

المناسبة بين الآيات :

ما يزال القرآن يتصدى لما كان عليه اليهود وإن شاركهم فيه غيرهم من المشركين كإنكار تحويل القبلة والنسخ.

كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي وهو بالمدينة متجها إلى الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس ، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون قبله ، وظل كذلك ستة عشر شهرا ، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى ويدعو الله أن يتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم وهي الكعبة ، فكان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة ، فيصلي في جنوب الكعبة مستقبلا الشمال ، فاستجاب الله له وأمره بالتوجه إلى البيت العتيق ، بعد هجرته إلى المدينة ، ونزل قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة ٢ / ١٤٤]. وكان أول صلاة صلاها هي العصر ، كما في الصحيحين ، قال اليهود والمشركون والمنافقون : ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟ وقالوا : لقد اشتاق محمد إلى مولده ، وعن قريب يرجع إلى دينه.

وقد بدئ الكلام بالرّد على اعتراضهم على التحويل قبل وقوعه ، معجزة له عليه الصلاة والسّلام ، ولقن الله نبيه الحجة البالغة والحكمة فيه ، ليوطن نفسه عليه ، ويستعد للإجابة ، عند مفاجأة التساؤلات. وخلاصة الجواب : أنّ الجهات كلها لله ، فلا مزية لجهة على أخرى ، ولله أن يأمر بالاتجاه إلى ما يشاء من أي جهة ، وعلى العبد امتثال أمر ربه كما قال : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة ٢ / ١١٥].

التفسير والبيان :

مهّد الله تعالى لتحويل القبلة في هذه الآيات ، وأبان السبب ، وقضى على ما علم سبحانه من ظهور اضطرابات عند التحويل ، حتى لا يفاجأ المسلمون بشيء

٧

من حملات التشويش والنقد والتشكيك ، فأوضح تعالى أن سفهاء الأحلام وضعفاء العقول والإيمان من طوائف اليهود والمشركين والمنافقين سيقولون منكرين متعجبين : أي شيء صرف المسلمين عن قبلتهم التي كانوا عليها ، وهي قبلة الأنبياء والمرسلين؟ أما اليهود فساءهم ترك الاتّجاه لقبلتهم ، وأما المشركون فقصدوا الطعن في الدين ، ورأوا ألا داعي للتوجه في الحالين ، وأما المنافقون : فشأنهم انتهاز الفرص لزرع الشكوك في الدين ، ومحاولة الإبعاد عنه بسبب هذا التغيير ، وعدم الاستقرار ، ومخالفة الأعراف السابقة بالاتّجاه لبيت المقدس.

فردّ الله عليهم جميعا بأنّ الجهات كلها لله ، ولا مزية لجهة على أخرى ، وليست صخرة بيت المقدس أو الكعبة ذات نفع خاص لا يوجد في غيرهما ، وإنما الأمر كله لله ، يختار ما يشاء ، وأينما تولوا فثّم وجه الله ، ومن مراده المطلق أنه يجعل للناس قبلة واحدة تجمعهم في عبادتهم ، وقد أمر الله المؤمنين في بداية الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس ، إعلاما بأن دين الله واحد ، ووجهة جميع الأنبياء واحدة ، وقصدهم الحقيقي هو الاتجاه إلى الله ، ثم أمرهم بالاتّجاه إلى الكعبة ، فامتثلوا الأمر في الحالين ، لأن المصلحة فيما أمر الله ، والخير فيما وجّه ، والله يرشد من يشاء إلى الطريق الأقوم المؤدي لسعادة الدنيا والآخرة ، سواء بالتوجه إلى بيت المقدس أو بالاتجاه إلى الكعبة.

ثم خاطب الله المؤمنين ممتنّا ومتفضلا عليهم قائلا لهم : (وَكَذلِكَ ..)(١) أي كما هديناكم إلى الصراط المستقيم وهو دين الإسلام ، وحولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه‌السلام واخترناها لكم ، جعلنا المسلمين خيارا عدولا ، فهم خيار الأمم والوسط في الأمور كلها بلا إفراط ، ولا تفريط ، في شأن الدين والدنيا ، وبلا غلو

__________________

(١) كذلك : الكاف للتشبيه ، وذلك : اسم إشارة ، والكاف في موضع نصب إما لكونه نعتا لمصدر محذوف ، وإما لكونه حالا ، والمعنى : جعلناكم أمة وسطا جعلا مثل ذلك.

٨

لديهم في دينهم ، ولا تقصير منهم في واجباتهم ، فهم ليسوا بالماديين كاليهود والمشركين ، ولا بالروحانيين كالنصارى ، وإنما جمعوا بين الحقّين : حقّ الجسد وحقّ الروح ، ولم يهملوا أي جانب منهما ، تمشيا مع الفطرة الإنسانية القائمة على أن الإنسان جسد وروح.

ومن غايات هذه الوسطية وثمرتها : أن يكون المسلمون شهداء على الأمم السابقة يوم القيامة ، فهم يشهدون أن رسلهم بلغتهم دعوة الله ، ففرط الماديون في جنب الله وأخلدوا إلى اللذات ، وحرم الروحانيون أنفسهم من التمتع بحلال الطيبات ، فوقعوا في الحرام ، وخرجوا عن جادة الاعتدال ، فجنوا على متطلبات الجسد.

ويؤكد ذلك أن يشهد الرسول على أمته محتجّا بالتبليغ ، أي أنه بلّغهم شرع الله المعتدل ، وأنه كان إماما مقسطا ، وقدوة حسنة ، ومثلا أعلى في الوسطية ، فلا يحيدون عنها ، لأنهم معرّضون لإقامة الحجة عليهم من نبيهم ، بما أعلنه من الدين القويم ، وبما التزمه من السّيرة الحسنة ، فمن حاد عنها شهد عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ليس من أمته التي وصفها الله بقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران ٣ / ١١٠] ، وبذلك خرج من الوسط إلى الانحراف ، ويكون حسبان شهادة الرسول بمثابة العاصم عن الانحراف ، والتزام الحقّ والعدل.

ويوضح نوعي الشهادة على الأمم وشهادة الرسول باعتبار أن الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له : ما روي : «أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء بالبينة ، على أنهم قد بلّغوا ، وهو أعلم ، فيؤتى بأمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيشهدون ، فتقول الأمم : من أين عرفتم ، فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله

٩

تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء ٤ / ٤١].

والسبب في تأخير صلة الشهادة (أي على) أولا في قوله تعالى (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وتقديمها آخرا في قوله (عَلَيْكُمْ شَهِيداً) : هو أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.

والحاصل : أن الشهادة على الأمم ميزانها وسببها وسطية الإسلام ، ويؤكدها شهادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته بأنه يزكيهم ويعلم بعدالتهم.

وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ) أي إنما شرعنا لك يا محمد التوجّه أولا إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيث توجهت ، ممن ينقلب على عقبيه ، أي فيتبين الثابت على إيمانه ممن لاثبات له ، فهو امتحان وابتلاء ليظهر ما علمناه ، ويجازى كل إنسان على عمله. هذا هو الظاهر من الآية في أنّ المراد بالقبلة هنا : القبلة الأولى ، لقوله تعالى (كُنْتَ عَلَيْها). وقيل : الثانية أي الكعبة ، فتكون الكاف زائدة ، والمراد أنت عليها الآن ، كما في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران ٣ / ١١٠] ، أي أنتم ، في قول بعضهم.

وقد اتّجه الزمخشري ومثله أبو حيان إلى القول الثاني قائلا : (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) ليست بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل ، يريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة ، تألفا لليهود ، ثمّ حوّل إلى الكعبة. فيقول : وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة ، يعني وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء.

١٠

والمراد بقوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ ...) ظهور العلم بين الناس ووقوعه ، قال علي رضي‌الله‌عنه : معنى (لِنَعْلَمَ) : لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ...) [الفيل ١٠٥ / ١] ، بمعنى ألم تعلم.

وقوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) أي وإن كانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجّه إلى القبلة الأولى ، أو هذه الفعلة أي التحويلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده ، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسرّ تشريعه ، ووفقهم لما يريد ، فعلموا أن المطلوب طاعة الله حيثما شاء ، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما : هو اجتماع الأمة عليها ، وتوحيد مشاعرهم نحوها ، مما يدفعهم إلى اتّحادهم وجمع كلمتهم في كل شؤون حياتهم : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة ٩ / ١٢٤ ـ ١٢٥].

وقوله : (وَما كانَ اللهُ ..) أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقضي بإضاعة ثباتكم على الإيمان واتباعكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة وفي القبلة ، وأن الله يجزيكم الجزاء الأوفى ، ولا يضيع أجركم ، والسبب في ذلك أن الله رءوف بعباده ، ذو رحمة واسعة بخلقه ، فلا يضيع عمل عامل منهم ، ولا يكون ابتلاؤهم لمعرفة صدق إيمانهم وإخلاصهم سببا في إضاعة ثمرات الإيمان وتفويت الجزاء ، بل يجازيهم أتمّ جزاء.

وقد اتّفق العلماء على أن آية (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) نزلت فيمن مات ، وهو يصلي إلى بيت المقدس ، كما ثبت في البخاري عن البراء بن عازب ، على ما تقدم في بيان سبب النزول. وخرّج الترمذي عن ابن عباس قال : لما وجه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله ، كيف بإخواننا الذين ماتوا ، وهم

١١

يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) الآية ، قال : هذا حديث حسن صحيح.

فسمّى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نيّة وقول وعمل. وقال محمد بن إسحاق : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم نبيكم ، قال القرطبي : وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين.

ثمّ ختم الله الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لإفادة التعليل لما قبلها ، أي للطف رأفته وسعة رحمته نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين ، أو لا يضيع إيمان من آمن ، وهذا المعنى أظهر كما قال أبو حيان (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

الإيمان الحقيقي أو التسليم التامّ لله يقتضي الإذعان لأوامر الله والخضوع لمشيئته واختياره ، فإذا أمر الله بالاتّجاه في الصلاة نحو جهة معينة ، ثم أمر بالتّحول عنها إلى جهة أخرى ، امتثل المؤمن ذلك تمام الامتثال ، ولم يخالجه أي شكّ في أوامر الله ، ولم يعقب عليها ، فالجهات كلّها لله ، ولله ملك المشارق والمغارب وما بينهما ، والعبرة إنما هي في تمحيض القصد والاتّجاه إلى الله تعالى ، ولله أن يأمر بالتّوجه إلى أي جهة شاء ، فلا داعي لتعليق الجهال وضعاف العقل والإيمان على تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة. وقد تمّ تحويل القبلة بعد الهجرة إلى المدينة ، قالوا كما في البخاري : حوّلت بعد ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا. وكان تحويلها ـ كما قال سعيد بن المسيّب ـ قبل غزوة بدر بشهرين. وذلك في رجب من سنة اثنتين.

ودلّت هذه الآيات على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا ،

__________________

(١) البحر المحيط : ١ / ٤٢٧

١٢

وأجمعت عليه الأمة إلا من شذّ ، وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن ، وأنها في أحد القولين الآتيين نسخت مرتين.

ودلّت أيضا على جواز نسخ السّنة بالقرآن الكريم ، لأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى نحو بيت المقدس ، وليس في ذلك قرآن ، فلم يكن الحكم إلا من جهة السّنة ، ثمّ نسخ ذلك بالقرآن ، وعلى هذا يكون : (كُنْتَ عَلَيْها) بمعنى أنت عليها.

واختلف العلماء حين فرضت الصلاة أولا بمكة ، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة ، على قولين :

فقال ابن عباس : إلى بيت المقدس ، وبالمدينة سبعة عشر شهرا ، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة.

وقال آخرون : أول ما افترضت الصلاة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة ، ولم يزل يصلّي إليها طوال مقامه بمكة ، على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل ، فلما قدم المدينة ، صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، على الخلاف ، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال ابن عبد البر : وهذا أصح القولين عندي.

والسبب أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود ، فتوجه إلى قبلتهم ، ليكون ذلك أدعى لهم ، فلما تبيّن عنادهم وأيس منهم ، أحبّ أن يحوّل إلى الكعبة ، فكان ينظر إلى السماء ، وكانت محبته إلى الكعبة ، لأنها قبلة إبراهيم عليه‌السلام.

وقد روى الأئمة ـ واللفظ لمالك ـ عن ابن عمر كيف تمّ التحويل ، قال : بينما الناس بقباء (١) في صلاة الصبح ، إذ جاءهم آت ، فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد

__________________

(١) قباء : قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة ، بها أثر بنيان كثير ، وفيها مسجد التقوى.

١٣

أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة.

وخرّج البخاري عن البراء : أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وإنه صلّى أول صلاة صلّاها العصر ، وصلّى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلّى مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمرّ على أهل المسجد ، وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله ، لقد صلّيت مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا ، ولم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

ففي هذه الرواية : صلاة العصر ، وفي رواية مالك : صلاة الصبح.

ويستفاد من الآية وهذه الأحاديث أمور ثلاثة :

١ ـ من لم يبلغه الناسخ يظل متعبّدا (مطالبا) بالحكم الأول ، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلّون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي ، فأخبرهم بالناسخ ، فمالوا نحو الكعبة ، فالناسخ رافع للحكم الأول ، لكن بشرط العلم به ، لأن الناسخ خطاب ، ولا يكون خطابا في حقّ من لم يبلغه.

٢ ـ دلّ ذلك على قبول خبر الواحد ، وهو مجمع عليه من السلف ، معلوم بالتواتر من عادة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادا للآفاق ، ليعلّموا الناس دينهم ، فيبلّغوهم سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأوامر والنواهي.

٣ ـ فهم مما ذكر أن القرآن الكريم كان ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا بعد شيء ، وفي حال بعد حال ، على حسب الحاجة إليه ، حتى أكمل الله دينه ، كما قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة ٥ / ٣].

١٤

وكما أن الكعبة وسط الأرض ، وفي مركز قطب الدائرة للكرة الأرضية ، كذلك جعل الله المسلمين أمّة وسطا ، دون الأنبياء وفوق الأمم ، والوسط : العدل ، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها ، فهم خيار عدول أوساط في الموقع والمناخ والطباع والشرائع والأحكام والعبادات ومراعاة دوافع الفطرة ، والجمع والتوازن بين مطالب الجسد والروح ، وبين مصالح الدنيا والآخرة. لذا استحقوا الشهادة على الأمم ، وكانوا سبّاقين للأمم جميعا بالاعتدال والتوسط في جميع الشؤون ، والتوسط منتهى الكمال الإنساني الذي يعطي كل ذي حق حقه ، فيؤدي حقوق ربّه ، وحقوق نفسه ، وحقوق جسمه وغيره من أبناء المجتمع ، أقارب أم أباعد.

وأداء الشهادة على الناس في المحشر يكون للأنبياء على أممهم ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدعى نوح عليه‌السلام يوم القيامة ، فيقول : لبّيك وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلّغت؟ فيقول : نعم ، فيقال لأمّته: هل بلّغكم؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، فيقول : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمّته ، فيشهدون أنه ـ أي نبيهم ـ قد بلّغ. ويكون الرّسول عليكم شهيدا (مزكيّا معدّلا) ، فذلك قوله عزوجل : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) إلخ ، القصة المذكورة سابقا هنا في التفسير.

وهذا إنباء من الله تعالى في كتابه بما أنعم على الأمة الإسلامية من تفضيلها باسم العدالة ، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه ، فجعل المسلمين أولا مكانا ، وإن كانوا آخرا زمانا ، كما قال عليه الصلاة والسّلام : «نحن الآخرون السابقون» وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول ، ولا ينفذ قول شخص على غيره إلا أن يكون عدلا.

١٥

ودلّ هذا أيضا على صحّة الإجماع ووجوب الحكم به ، لأنهم إذا كانوا عدولا ، شهدوا على الناس ، فكل عصر شهيد على من بعده.

وشهادة الرسول على أمته معناها : الشهادة بأعمالهم يوم القيامة ، أو الشهادة لهم بالإيمان ، أو الشهادة عليهم بالتبليغ لهم.

وأما تحويل القبلة : فهو اختبار المؤمنين ، ليظهر صدق الصادقين ، وريب المرتابين ، كما هو الشأن في ألوان الاختبار الإلهي بأنواع من الفتن ، كما قال لله تعالى : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ* فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ١ ـ ٣].

والقصد من العلم في قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) وقوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ ..) هو علم الظهور والوقوع ، لا أن العلم مسبوق بالجهل ، فعلم الله تعالى قديم لا يتجدد ، وهو يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع ، ومتى تقع ، وأين تقع ، ولكنه برهان وحجة على الناس من أعمالهم وتصرفاتهم نفسها.

وأما من مات وهو يصلّي إلى بيت المقدس ، فثوابه محفوظ كامل غير منقوص ، لا يضيعه الله له أبدا ، لأن الله واسع الرأفة ، شامل الرحمة ، فلا يكتفي بدفع البلاء عن المؤمنين المنفذين أوامره ، بل يعاملهم بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل.

واختلف العلماء في تأويل : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) فقال بعضهم : معناها : وما كان الله ليضيع إيمانكم بالتوجه إلى القبلة ، وتصديقكم لنبيكم ، وقال آخرون : المراد به صلاتكم إلى بيت المقدس. وتسمية الصلاة إيمانا إما مجاز ، أو إنها تسمى حقيقة إيمانا ، كما قال الفقهاء ، فهي من أركان الإيمان وعهد

١٦

الإسلام (١) ، أي هي من الإيمان وخصائصه ، ولا يتم الإيمان إلا بها ، ولأنها تشتمل على نيّة وقول وعمل.

والخلاصة : لم يختلف المسلمون أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلّي بالمدينة إلى بيت المقدس بعد الهجرة مدة من الزمان ، فقال ابن عباس والبراء بن عازب : كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسبعة عشر شهرا. وقال قتادة : لستة عشر شهرا ، وقد نصّ الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ، ثم حوّلها إليها بقوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) ، وقوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها)(٢) ، وهي الآية التالية التي نفسرها.

تحويل القبلة

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٤١ ـ ٤٢

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٨٤ ـ ٨٥

١٧

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧))

الإعراب :

(قَدْ) للتحقيق في رأي السيوطي ، وقال الزمخشري : بمعنى ربما ، وهي للتكثير هنا ، ومعناه كثرة الرؤية ، فهي مثل «ربما» تأتي للكثير والقليل ، مثل : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر ١٥ / ٢] أي كثيرا. ونرى هنا بمعنى الماضي ، ذكر بعض النحاة : أن «قد» تقلب المضارع ماضيا ، مثل ما هنا ، ومثل : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور ٢٤ / ٦٤] (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ) [الحجر ١٥ / ٩٧] (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ) [الأحزاب ٣٣ / ١٨] والمعنى قد علمنا أو رأينا.

(وَلَئِنْ) لام القسم. (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) الفاء لسببية ما قبلها في الذي بعدها. (فَوَلِ) الفاء للتفريع.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مرفوع ، إما مبتدا وخبره محذوف ، وتقديره : الحق من ربك يتلى عليك ، أو يوحى إليك أو كائن ، وإما خبر مبتدأ مقدر ، وتقديره : هذا الحق من ربك.

البلاغة :

(فَوَلِّ وَجْهَكَ) أطلق الوجه ، وأريد به الذات ، من قبيل المجاز المرسل ، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.

(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) هي أبلغ من الجملة السابقة ، لأنها جملة اسمية ، ولتأكيد نفيها بالباء.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) من باب التحريض على الثبات على الحق.

(كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) فيه تشبيه مرسل مفصل ، أي يعرفون محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم معرفة واضحة كمعرفة أبنائهم.

١٨

المفردات اللغوية :

(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) تردد نظرك مرة بعد مرة في جهة السماء ، طلبا للوحي ، وتشوقا للأمر باستقبال الكعبة ، وكان يودّ ذلك ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه‌السلام ، ولأنها أدعى إلى إسلام العرب ، ولأن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) فلنوجهنك جهتها ، وهذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة ، التقدير : قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها. (فَوَلِّ وَجْهَكَ) تولية الوجه المكان : جعله قبالته وأمامه ، والمراد بالوجه : جملة البدن ، أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وجهته أو ناحيته ، وسميت الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب على البعيد مراعاة الجهة ، دون عين الكعبة : لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد ، كما قال الزمخشري.

(بِكُلِّ آيَةٍ) أي بكل برهان وحجة. (أَهْواءَهُمْ) التي يدعونك إليها ، مفرده : هوى ، وهو الإرادة والمحبة. (الْمُمْتَرِينَ) الشاكين.

تاريخ النزول :

اختلف العلماء في تاريخ نزول هذه الآيات :

فقال ابن عباس والطبري : هذه الآية متقدمة في النزول على قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ)(١) ، ويؤيده ما رواه البخاري عن البراء بن عازب في الحديث المتقدم ، قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ). فقال السّفهاء من الناس ، وهم اليهود : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال تعالى : (قُلْ : لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).

وقال الزمخشري : إن هذه الآية متأخرة في النزول والتلاوة عن قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) ويكون ذلك للإخبار بمغيّب قبل وقوعه ، يحدث من

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ١٥٨

١٩

اليهود عند نزول الأمر باستقبال الكعبة ، معجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء ، وتستعدّ له ، فيكون أقل تأثيرا عند المفاجأة ، ولإعداد الجواب المسبق ، وهو قوله تعالى : (قُلْ : لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)(١).

سبب نزول الآية : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) :

نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه ، كانوا يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعته وصفته وبعثه في كتابهم ، كما يعرف أحدهم ولده ، إذا رآه مع الغلمان ، قال عبد الله بن سلام : لأنا أشدّ معرفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مني بابني ، فقال له عمر بن الخطاب : وكيف ذاك يا ابن سلام؟ قال : لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقّا يقينا ، وأنا لا أشهد بذلك على ابني ، لأني لا أدري ما أحدث النساء ، فقال عمر : وفقك الله يا ابن سلام.

المناسبة أو وجه الربط بين الآيات :

كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتشوّق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، ولأنها أدعى إلى إيمان العرب ، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين ، ولأن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ، ولو لا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة؟ فكره النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلتهم ، حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها.

قال أبو حيان : ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المتشوّف لأمر التحويل بدأ بأمره أولا ، ثم أتبع أمر أمته ثانيا ، لأنهم تبع له في ذلك ، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٤٢

(٢) البحر المحيط : ١ / ٤٣٠

٢٠