التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وصية الحول للمتوفى عنها زوجها ومتعة كلّ مطلّقة

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

الإعراب :

(وَالَّذِينَ) مبتدأ ، وخبره محذوف ، وتقديره : يوصون وصية ، والوصية هاهنا : قائمة مقام المصدر وهو الإيصاء ، واللام في (لِأَزْواجِهِمْ) تتعلّق بالمصدر ، أو بالفعل المقدر.

(مَتاعاً) منصوب على المصدر ، وغير إخراج : صفة له ، أي : متاعا لا يخرجهن ، أو منصوب على الحال من الموصين المتوفين ، وتقديره : متاعا إلى الحول غير ذوي إخراج ، أي مخرجين لهن. وهذه الآية منسوخة بما تقدّمها وهي آية : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ..) [البقرة ٢ / ٢٣٤].

المفردات اللغوية :

(وَيَذَرُونَ) يتركون زوجات بعد وفاتهم. (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) أي فليوصوا وصية ، أو يوصي الله وصية لأزواجهم ، ومن قرأ : وصية بالرفع : كان مرفوعا على أنه مبتدأ ، وخبره مقدر ، وتقديره : فعليهم وصية لأزواجهم ، والجملة من المبتدأ والخبر : خبر (الَّذِينَ) أو مرفوع بفعل محذوف تقديره : كتبت. (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) أي ليعطوهن ما يتمتعن به من النفقة والكسوة إلى تمام الحول من موتهم ، أو جعل الله لهن ذلك متاعا مدّة الحول. (غَيْرَ إِخْراجٍ) حال أي غير مخرجات من مسكنهن ، أي لهنّ ذلك المتاع ، وهنّ مقيمات في البيت غير مخرجات منه ، ولا ممنوعات من السكنى فيه. (فَإِنْ خَرَجْنَ) بأنفسهن. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا إثم عليكم يا أولياء الميت.

٤٠١

(فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) شرعا كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها. (وَاللهُ عَزِيزٌ) في ملكه. (حَكِيمٌ) في صنعه.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٤٠):

أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره عن مقاتل بن حيان : أنّ رجلا من أهل الطائف قدم المدينة ، وله أولاد ورجال ونساء ، ومعه أبواه وامرأته ، فمات بالمدينة ، فرفع ذلك إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعطى الوالدين ، وأعطى أولاده بالمعروف ، ولم يعط امرأته شيئا ، غير أنهم أمروا أن ينفقوا عليها من تركة زوجها إلى الحول ، وفيه نزلت : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ، وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) الآية (١).

نزول الآية (٢٤١):

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال : لما نزلت : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة ٢ / ٢٣٦] قال رجل : إن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فأنزل الله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

المناسبة :

هذه الآيات تتمة ما في السورة من أحكام الزواج ، وتوسطت بينها آية الأمر بالمحافظة على الصلاة ، لأنها عماد الدين ، للعناية بها ، فمن حافظ على الصلوات ، كان جديرا بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته ، كما قال الله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة ٢ / ٤٥] وقد سبق بيان ذلك.

__________________

(١) أسباب النزول للنيسابوري : ص ٤٤ ـ ٤٥

٤٠٢

قال الإمام محمد عبده : وقد خطر لي وجه آخر : هو الذي يطّرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض ، من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبديّة ومدنيّة وغيرها ، وهو نفي السآمة عن القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها ، وتجديد نشاطهما وفهمهما واعتبارهما في الصلاة وغيرها (١).

التفسير والبيان :

على الذين يشرفون منكم على الموت ، ويتركون زوجات بعدهم أن يوصوا لهنّ بوصية التّمتع المستمر في البيت إلى نهاية الحول ، بدون إخراج منه أو منع السكنى فيه. فيكون للزوجة الأرملة النفقة من مال زوجها المتوفى مدّة سنة كاملة ، ويجب على الورثة ألا يخرجوا المتوفى عنها زوجها ولا يمنعوا النفقة عنها قبل مضي السنة. وهل هذا الأمر أمر وجوب وإلزام أو أمر ندب واستحباب؟

قولان (٢) :

١ ـ قول الجمهور : كانت عدّة الوفاة في أول الإسلام سنة كاملة ، مجاراة لعادة العرب ، ثم نسخت هذه الآية بآية المواريث في سورة النساء والآية المتقدمة المتأخرة في النزول : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة ٢ / ٢٣٤] ، فصارت عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام ، بدل السّنة ، وتأخذ حقّها المقرر في الميراث. أخرج ابن جرير الطبري عن همام بن يحيى قال : سألت قتادة عن قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فقال : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها ، كان لها السكنى والنفقة ، حولا في مال زوجها ، ما لم تخرج ،

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ٣٥٣

(٢) البحر المحيط : ٢ / ٢٤٤

٤٠٣

ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء ، فجعل لها فريضة معلومة : الثّمن إن كان له ولد ، والرّبع إن لم يكن له ولد ، وعدّتها : أربعة أشهر وعشرا ، فقال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ، وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ..) الآية ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول.

٢ ـ قول مجاهد وأبي مسلم الأصفهاني من قدماء المفسّرين : هذه الآية ثابتة الحكم ، لم ينسخ منها شيء. ورجح الرازي في تفسيره هذا القول.

أما مجاهد : فروى عنه ابن جرير أنه يقول : نزل في عدّة المتوفى عنها زوجها آيتان : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وقد تقدمت ، وهذه الآية ، أما الآية الأولى : فكانت هذه للمعتدة تعتدّ عند أهل زوجها واجبا ذلك ، فأنزل الله هذه الآية : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ..) إلى قوله : (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، قال : جعل الله تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وصية : إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله تعالى ذكره : (غَيْرَ إِخْراجٍ ، فَإِنْ خَرَجْنَ ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) والعدّة كما هي.

أي أنه يجب حمل الآيتين على حالتين : فإن اختارت الإقامة في دار زوجها المتوفى ، والنفقة من ماله ، فعدّتها سنة ، وإلا فعدّتها أربعة أشهر وعشر ، فيكون للعدّة على قوله أجل محتم وهو الأقل ، وأجل مخيّر فيه ، وهو الأكثر.

وأمّا أبو مسلم : فيقول : إن معنى الآية : من يتوفون منكم ، ويذرون أزواجا ، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك ، وخالفن وصية الأزواج ، بعد أن يقمن المدّة التي ضربها الله تعالى لهنّ ، فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة ، قال : والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون

٤٠٤

بالنفقة والسكنى حولا كاملا ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب ، على هذا التقدير ، فالنسخ زائل.

أما الفقهاء : فذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد : إلى أنه لا يجب لها السكنى مدة الأربعة الأشهر والعشر في تركة زوجها ، وتعتدّ حيث شاءت. وذهب مالك : إلى أن لها السكنى مدّة العدّة إذا كان المسكن مملوكا للزوج ، أو مستأجرا ودفع أجرته قبل الوفاة وإلا فلا ، لحديث الفريعة وهو : ما رواه مالك في موطئه عن زينب بنت كعب بن عجرة : أن الفريعة بنت مالك بن سنان ، وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنهما أخبرتها : أنها جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا ، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم ، فقتلوه ، قالت : فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة ، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة ، قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» ، قالت : فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ، ناداني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أمر بي ، فنوديت له ، فقال : «كيف قلت؟» فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي ، فقال : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله». قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي ، فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتبعه وقضى به (١).

وأما بقية تفسير الآية فهو : فإن خرجن من تلقاء أنفسهن بعد مضي العدّة ، فلا إثم عليكم أيها الورثة المخاطبون بتنفيذ الوصية ، فيما فعلن في أنفسهن من المعروف شرعا وعادة كالخروج والتعرّض للخطّاب والزينة والتّزوج ، ما دام ذلك

__________________

(١) رواه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به ، ورواه النسائي أيضا وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

٤٠٥

لا يتنافى مع الشرع ، إذ لا ولاية لكم عليهن ، والله عزيز لا يغالب ويعاقب من خالفه ، حكيم في كل أمر يراعي مصالح عباده.

ثمّ بيّن تعالى حكم متعة المطلّقات عموما ، فذكر أنه شرعت المتعة (وهي ما يتّفق عليه الزوجان أو يقدرها القاضي) لكل مطلّقة مدخول بها أو غير مدخول بها ، وهذا حقّ على المتّقين الذين يخافون الله ويرهبون عقابه ، ومثل ذلك البيان السابق لحقوق الأزواج يبيّن الله لكم سائر الأحكام بآياته المحكمة مع توضيح فائدتها ، لتدفعنا إلى الخير في الدنيا والآخرة ، ولنتدبر الأشياء ونتعقل ما فيها من الحكمة والموعظة الحسنة والمصلحة الحقيقية.

وهل الأمر بالمتعة على سبيل الوجوب أو الندب؟

بيّنا سابقا آراء الفقهاء ، وموجزها أن الأمر بالمتعة هنا مستحب عند الجمهور ، واجب عند الشافعية ، وهو رأي ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وآخرين من التابعين ، أما المالكية فقالوا : إن المتعة مستحبة لكل مطلقة ، ما عدا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر ، وقال الشافعية : المتعة واجبة لكل مطلقة قبل الدخول أو بعده ، إلا المطلقة قبل الدخول المسمى لها المهر ، وقال الحنفية والحنابلة برأي متوسط : المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول التي لم يسمّ لها مهر ، مستحبة لغيرها من المطلقات. ولا متعة للمتوفى عنها زوجها لورود النص في المطلقات.

والراجح لدي ما ذهب إليه الشافعية وموافقوهم ، لأن هذه الآية أثبتت المتعة لكل مطلقة ، سواء أكانت مدخولا بها أم لم تكن مدخولا بها ، فيكون تعالى قد ذكر أولا المتعة ، وأثبتها أو أوجبها لمن طلقت قبل الدخول (المسيس) وعمّ هنا المتعة لكل مطلّقة ، فهو تعميم بعد تخصيص. وروى ابن جرير عن ابن زيد قال : لما نزل قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً

٤٠٦

بِالْمَعْرُوفِ ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة ٢ / ٢٣٦] ، قال رجل : إن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فأنزل الله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

وعلى هذا فإن من طلّق ظلما ، أو مللا وسآمة ، أو تعسّفا ، يحكم عليه بالمتعة ، أخذا برأي سعيد بن جبير والشافعية ، أو ما يسمى بالتعويض عن الطلاق التعسّفي ، ويكون ذلك بقدر حال الزوج من عسر ويسر ، وهذا الرأي يحقق المصلحة ويدفع الضرر عما أصاب المرأة من طلاق جائر ، ويقلل حالات الطلاق.

وتكون أحوال المطلّقات أربعة :

١ ـ مطلّقة مدخول بها قد فرض لها مهر ، فلها كل المفروض ، لقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) [البقرة ٢ / ٢٢٩] ، وقوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء ٤ / ٤] ، وعدتها ثلاثة قروء.

٢ ـ ومطلّقة غير مدخول بها ولا مفروض لها : فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلّق ، ولا مهر لها ، لقوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة ٢ / ٢٣٦] ولا عدة عليها.

٣ ـ ومطلّقة مفروض لها غير مدخول بها : لها نصف المهر المفروض ، لقوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة ٢ / ٢٣٧] ولا عدّة عليها.

٤ ـ ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها : لها مهر مثلها من قريباتها وأسرتها العصبات بلا خلاف ، لقوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء ٤ / ٢٤] ، ومعناه في رأي بعضهم : فأعطوهنّ مهورهنّ بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى.

٤٠٧

هذا مع ملاحظة أن الله تعالى لم يأمرنا بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلّقات إلا غير المدخول بهنّ (غير الممسوسات) مطلقا أي سواء سميّ لهنّ مهر أو لم يسم كما في آية الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) [الأحزاب ٣٣ / ٤٩] ، أو مقيّدا بحالة عدم تسمية المهر بقوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ، أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة ٢ / ٢٣٦] ، أي مدّة عدم مسّكم إياهنّ وتسمية المهر لهنّ ، أي فحينئذ يجب عليكم شيء وهو المتعة بقوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) أي أعطوهنّ شيئا يتمتّعن به ، كما بيّنا سابقا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية على أمرين :

الأول ـ عدّة المتوفى عنها زوجها : وهي حول كامل تسكن فيه في بيت المتوفى عنها ، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل ، فإن خرجت ، لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها. ثمّ نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر ، ونسخت النفقة بالرّبع والثّمن في سورة النساء ، كما قال ابن عباس وقتادة والضّحاك وابن زيد والرّبيع.

وقال الطبري عن مجاهد : إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها ، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا ، ثمّ جعل الله لهنّ وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله عزوجل : (غَيْرَ إِخْراجٍ ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ).

الثاني ـ متعة المطلّقات : واختلف الناس في الآية ، فقال أبو ثور : هي محكمة ، والمتعة لكلّ مطلّقة ، وكذلك قال الزّهري ، وسعيد بن جبير ، والشافعي في الأصحّ ، لكنه استثنى المطلّقة قبل الدخول المسمّى لها المهر. وقال مالك :

٤٠٨

تستحب المتعة لكل مطلّقة إلا المطلّقة قبل الدّخول ، وقد سمّى لها صداقا ، فحسبها نصفه ، ولو لم يكن سمّى لها ، كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر ، وليس لهذه المتعة حدّ.

وزعم ابن زيد أن هذه الآية نسختها الآية المتقدمة : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة ٢ / ٢٣٧] ، وهي المطلّقة التي سمّي لها المهر ولم يدخل بها ، لها نصف المسمّى ، فأخرجت من المتعة.

وأوجب الشافعية المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك : كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي ، فكيف تأخذ متاعا؟! لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة ، أو ملاعنة ، أو معتقة تختار الفراق ، دخل بها أم لا ، سمّى لها صداقا أم لا.

موت الأمم بالجبن والبخل وحياتها بالشجاعة والإنفاق

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

٤٠٩

الإعراب :

(مَنْ ذَا الَّذِي) من : استفهامية مبتدأ ، وذا : خبره ، والذي : صفة : ذا أو بدل منه. (قَرْضاً) منصوب ، لأنه اسم أقيم مقام المصدر ، وهو الإقراض ، فانتصب انتصاب المصدر. (فَيُضاعِفَهُ) بالنصب ، معطوف بالفاء حملا على المعنى دون اللفظ ، كأنه قال : من ذا الذي يكون منه قرض ، فتضعيف من الله تعالى ، فقدر (أن) بعد الفاء ونصب بها الفعل ، وصيّرها مع الفعل في تقدير مصدر ، ليعطف مصدرا على مصدر. وعلى قراءة الرفع : إما معطوف على صلة (الَّذِي) وهو (يُقْرِضُ) ، وإما منقطع عما قبله.

البلاغة :

قال أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط : ٣ / ٢٥٣) : تضمنت الآية الكريمة من ضروب البلاغة وصنوف البيان أمورا كثيرة ، منها الاستفهام الذي أجري مجرى التعجّب في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) والحذف بين (مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) أي فماتوا ثمّ أحياهم ، والطّباق في قوله : (مُوتُوا) و (أَحْياهُمْ) ، وكذلك في قوله : (يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) ، والتكرار في قوله : (فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) و (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) ، والالتفات في (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، والتشبيه بدون الأداة في قوله : (قَرْضاً حَسَناً) شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله بالقرض الحقيقي ، فأطلق عليه اسم القرض ، والتجنيس في قوله : (فَيُضاعِفَهُ) وقوله : (أَضْعافاً).

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) استفهام تعجيب واعتبار وتشويق إلى استماع ما بعده ، أي ألم ينته علمك ، والرؤية بمعنى العلم ، إذ الاستفهام الحقيقي محال على الله. (وَهُمْ أُلُوفٌ) أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفا ، وهو جمع كثرة ، والقلّة : آلاف ، ومعناه كثرة كاثرة وألوف مؤلفة. (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله ، وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففرّوا ، والحذر : الخوف والخشية. (مُوتُوا) أي فماتوا. (ثُمَّ أَحْياهُمْ) بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيّهم حزقيل ، فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت ، لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن ، واستمرت في أسباطهم. (لَذُو فَضْلٍ) ومنه إحياء هؤلاء. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الكفار. (لا يَشْكُرُونَ) القصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال ، ولذا عطف عليه الأمر بالقتال بقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لإعلاء دينه. (سَمِيعٌ) لأقوالكم. (عَلِيمٌ) بأحوالكم فيجازيكم.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) أي يتصدّق لوجه الله. (قَرْضاً حَسَناً) بأن ينفقه لوجه الله عن طيب قلب.

٤١٠

(فَيُضاعِفَهُ) يضيف له مثله ومثله. (أَضْعافاً كَثِيرَةً) من عشرة إلى أكثر من سبعمائة.

(يَقْبِضُ) يقتر أو يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء. (وَيَبْصُطُ) يوسعه لمن يشاء امتحانا.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرة بالبعث ، فيجازيكم بأعمالكم.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٤٥):

روى ابن حبان في صحيحة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر ، قال : لما نزلت : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) [البقرة ٢ / ٢٦١] الآية ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ربّ ، زد أمتي فنزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً).

المناسبة :

ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أحكام الأسرة لتنظيم العلاقة بين أفرادها ، وبنائها على دعائم وطيدة وأسس ثابتة راسخة ، ثم ذكر بعدها أحكام الجهاد للدفاع عن الأمة وصون مقدّساتها والدّفاع عن عقيدتها ، إذ لا صلاح للأسرة إلا بصلاح المجتمع ، وللجمع بين الحفاظ على المصلحة الخاصة والمصلحة العامة ، فيتحقق التوازن والتعادل بين ما يحفظ الجماعة وما يحفظ الفرد والأسرة ، بل إن صون المصالح الخاصة لا يتمّ في الحقيقة بدون صيانة المصالح العامة وحماية الأمة ، والذود عن حياضها ووجودها أمام أعدائها.

التفسير والبيان :

ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وأوطانهم ، وهم قوم كثيرون من بني إسرائيل ، لما لحقهم العدو وطاردهم؟ خرجوا وهم كثرة تعدّ بالألوف المؤلفة ، حذر الموت والخوف منه ، بسبب الجبن والخوف والهلع ، وضعف

٤١١

العزيمة ، وعدم الإيمان بالله ورسله ، مع أن كثرتهم تدعو إلى الثبات ، والشجاعة ، والصمود ، والدفاع عن النفس والحمى.

ولم يبيّن الكتاب الكريم عددهم وجنسهم وبلدهم ، لأن المقصود هو العظة والاعتبار ، وذكر جماعة من السلف أنهم قوم من بني إسرائيل أو في زمان بني إسرائيل وهم أهل قرية يقال لها : داوردان : قرية على فرسخ من قبل واسط ، أو أهل أذرعات ، خرجوا هاربين فرارا من الطاعون ، وقالوا : نأتي أرضا ليس بها موت ، فتمكن منهم العدو ، ففتك بهم ، وقتل أكثرهم ، وفرّق شملهم ، أو أنّ الله أماتهم دون قتال ثم أحياهم ، ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم الله وقضائه.

وعلى التأويل الأول : لما فرّوا أماتهم الله ببطش أعدائهم وتنكيله بهم وتعذيبه لهم ، ولم يكن تمكين العدو فيهم إلا بسبب جبنهم وتخاذلهم ، ثم أحياهم الله بدعاء نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له : حزقيل ، فأحسّوا بخطئهم الفاحش ، وكتّلوا صفوفهم ، وقاتلوا عدوهم بإخلاص ، واستعادوا عزّتهم وكرامتهم واستقلالهم.

وقيل عن الضّحّاك : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ، فهربوا ، حذرا من الموت ، فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم ، ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ). قال ابن عطية : وهذا القصص كلّه ليّن الأسانيد.

وقوله : (وَهُمْ أُلُوفٌ) فيه دليل على الألوف الكثيرة.

وقوله : (وَهُمْ أُلُوفٌ) فيه دليل على الألوف الكثيرة.

وقوله : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ : مُوتُوا) قال فيه الزمخشري : معناه فأماتهم ، وإنما جيء به على هذه العبارة ، للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد ، بأمر الله ومشيئته ، وتلك ميتة خارجة عن العادة ، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقّف ، كقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ :

٤١٢

كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢]. وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرّض للشهادة ، وأن الموت إذا لم يكن منه بدّ ، ولم ينفع منه مفرّ ، فأولى أن يكون في سبيل الله (١). وقال أبو حيان : وفي الكلام حذف ، التقدير : فماتوا ، وظاهر هذا الموت : مفارقة الأرواح الأجساد ، قيل : ماتوا ثمانية أيام ، وقيل : سبعة أيام (٢).

وعلى أي حال فقد وقع الموت والإحياء فعلا ، كما يدل عليه ظاهر الآية ، والله على كل شيء قدير ، وتكرر مثل هذا في زمان بني إسرائيل وغيرهم في قصص القرآن.

وإذ لم تثبت الروايات المنقولة في سبب خروج القوم ، أهو الفرار من الحمّى أو الطاعون ، أو الفرار من الجهاد ، فإني أرى أن المعنى ما رآه الطبري : وهو أن الله تعالى أخبر نبيه محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر ، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، فأماتهم الله تعالى. ثم أحياهم ، ليروا هم وكلّ من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى ، لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ، ولا لاغترار مغتر. وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجهاد.

إن الله لذو فضل على الناس فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة ، وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ، أو لذو فضل عليهم فيما ابتلاهم به من الطاعون أو المرض أو العدو ، ليعتبروا ويتعظوا ويأخذوا من المصائب عبرة ودرسا في الإيمان ، أو فيما تتمخض عنه الحوادث من تصفية وصقل وتمييز الخبيث من الطيب ، لأن الحوادث تنبت الرجال ، وتحيي الأمة ، وتوقظها من رقادها ، وتنبهها إلى أخطائها ومفاسدها.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٨٦

(٢) البحر المحيط : ٢ / ٢٥٠

٤١٣

ولكن أكثر الناس لا يؤدون شكر ما أنعم الله عليهم في دينهم ودنياهم ، لذا أمر الله تعالى بالتضحية والقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق ونشر الدين ، لأنه لا يغني حذر من قدر ، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، والله سميع لكل قول ، عليم بكل فعل ، يحاسب كل إنسان على ما قدم.

وبما أن لفناء الأمم سببين : الجبن والبخل ، قرن الله الآية السابقة التي تندد بالجبن والخوف والفرار من قدر الله ، بالآية التي تدعو إلى البذل والإنفاق : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ ..) إذ عبر الله تعالى عن الإنفاق بالقرض ، ليحث عباده على الإنفاق في سبيل الله ، وكرر الله تعالى هذه الآية في غير موضع من كتابه العزيز ، ولله ملك السموات والأرض ، وبيده وحده خزائن السموات والأرض ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ويضاعف ثوابه أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا الله ، ومن نماذج تضعيف الثواب ما قاله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة ٢ / ٢٦١] ، فأنفقوا ولا تبالوا ، فالله هو الرزاق ، يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ، ويوسعه على آخرين ، له الحكمة البالغة في ذلك ، وإليه المرجع والمآب يوم القيامة ، فاعملوا أيها المؤمنون عملا صالحا تجدون ثمرته عند الرجوع إلى الله في الدار الآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يرى القرطبي أن أصح الأقوال وأشهرها عملا بما روي عن ابن عباس : أنهم خرجوا فرارا من الوباء ، فقال ابن عباس : خرجوا فرارا من الطاعون ، فماتوا ، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم الله. وروي عن الحسن البصري أيضا أنهم فروا من الطاعون (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٢٣٢ ، وانظر أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٤٥٠

٤١٤

وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية :

١ ـ الأعمار والأقدار والبلايا والأمراض بيد الله ، والإيمان بذلك واجب ، ولن يغني في الواقع حذر من قدر ، ولكن لما كانت الأقدار غير معروفة لدينا ، جاز للإنسان اتخاذ أسباب الوقاية من المكاره ، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها ، والحذر من المهالك ، قال الله تعالى : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء ٤ / ٧١] وقال : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة ٢ / ١٩٥] فإذا نزلت المصيبة فعليه الصبر وترك الجزع ، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها ، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها ، فرارا منه. وهكذا الواجب على كل متقّ من الأمور غوائلها ، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا» (١).

وهذا ما دلت عليه الأحاديث ، روى الأئمة ، واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الوجع (٢) ، فقال : «رجز أو عذاب عذّب به بعض الأمم ، ثم بقي منه بقية ، فيذهب المرة ويأتي الأخرى ، فمن سمع به بأرض ، فلا يقدمنّ عليه ، ومن كان بأرض وقع بها ، فلا يخرج فرارا منه».

وبمقتضى هذا الحديث ونحوه عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم ، لما رجعوا من سرغ(٣) حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث ، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. روى الزهري عن ابن عباس : أن عمر خرج إلى الشام ،

__________________

(١) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة.

(٢) ورد الحديث في البخاري في كتاب الحيل بلفظ الوجع ، وفي كتاب الطب بلفظ الطاعون.

(٣) سرغ : قرية بوادي تبوك على طريق الشام ، وهي على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة.

٤١٥

حتى إذا كان بسرغ ، لقيه التجار ، فقالوا : الأرض سقيمة ، فاستشار المهاجرين والأنصار ، فاختلفوا عليه ، فعزم على الرجوع ، فقال له أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله؟! فقال له عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كان لك إبل ، فهبطت بها واديا له عدوتان (١) : إحداهما خصيبة ، والأخرى جديبة ، ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله ، فجاء عبد الرحمن بن عوف ، فقال : عندي من هذا علم ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«إذا سمعتم به في أرض ، فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها ، فلا تخرجوا فرارا منه» فحمد الله عمر وانصرف.

ومعنى قول عمر : لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه ، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهالك ، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. وإذا كانت الآجال محصورة لا تتقدم ولا تتأخر عن وقتها ، فإن وجه النهي عن دخول أرض الطاعون في الحديث : هو أن الإنسان لو مات فيها فلا يقول : لو لم يدخلها ما مات.

٢ ـ وجوب القتال : قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ..) خطاب لأمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقتال في سبيل الله ، في قول الجمهور ، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا ، وسبل الله كثيرة ، فهي عامة في كل سبيل. قال مالك : سبل الله كثيرة ، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها ، وأعظمها دين الإسلام ، لا خلاف في هذا.

__________________

(١) العدوة : جانب الوادي وحافته ، قال الله تعالى : وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى والخصيبة والخصبة بمعنى واحد.

٤١٦

وقيل : الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل ، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك.

والواو في قوله (وَقاتِلُوا) على القول الأول : عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم ، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. وعلى القول الثاني عاطفة على الأمر المتقدم ، وفي الكلام متروك تقديره : وقال لهم : قاتلوا.

٣ ـ الإنفاق في سبيل الله : لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق ، حرّض على الإنفاق في ذلك ، لأن إعداد المقاتلة والجيش يحتاج إلى نفقات كثيرة ، وفي النفقة في سبيل الله ثواب عظيم ، كما فعل عثمان رضي‌الله‌عنه بتجهيز جيش العسرة.

قصة أبي الدحداح : روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، أو إن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال : «نعم ، يا أبا الدحداح» قال : أرني يدك يا رسول الله ، قال : فناوله يده ، قال : فإني أقرضت ربي عزوجل حائطي (بستاني) وكان له فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه ، وعيالها ، قال : فجاء أبو الدحداح ، فناداها يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي ، فقد أقرضته ربي عزوجل.

٤ ـ أداء القرض : يجب على المستقرض رد القرض ، لأن الله تعالى بيّن أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى ، بل يردّ الثواب قطعا ، وأبهم الجزاء ، وفي الخبر : «النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر».

٥ ـ ثواب القرض : ثواب القرض عظيم ، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه ، أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض

٤١٧

بثمانية عشر ، فقلت لجبريل : ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة».

٦ ـ بعض أحكام القرض : على المقترض رد مثل ما أقرضه ، ويجوز إقراض النقود والأطعمة والحيوان ، وأجمع المسلمون على أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ، ولو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه نصا أو عرفا ، لأن ذلك من باب المعروف ، استدلالا بحديث أبي هريرة لدى البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة في البكر (١) : «إن خياركم أحسنكم قضاء».

ولا يجوز ـ في رأي مالك ـ أن يهدي من استقرض هدية للمقرض ، ولا يحل للمقرض قبولها ، إلا أن يكون عادتهما ذلك ، كما جاء في السنة ، أخرج ابن ماجه أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته ، فلا يقبلها ولا يركبها ، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك».

وهل يجوز القرض أو التصدق بالعرض؟ أي من سبّك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. فيه رأيان : رأي يجوز عملا بحديث أبي ضمضم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح مسلم : «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا خرج من بيته قال : اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك».

وقال أبو حنيفة وروي عن مالك : لا يجوز التصدق بالعرض ، لأنه حق الله تعالى ، وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام».

__________________

(١) البكر : الفتى من الإبل ، والأنثى بكرة.

٤١٨

قصة النّبي صمويل والملك طالوت وترك بني إسرائيل الجهاد

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧))

الإعراب :

(عَسَيْتُمْ) من أفعال المقاربة ، يشبه «كان» في رفعه الاسم ونصبه الخبر ، ولا يكون خبرها إلا «أن» مع الفعل ، والتاء والميم في عسيتم : اسمها ، وألا تقاتلوا : خبرها ، وقد فصل الشرط بين الاسم والخبر وهو : (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ).

(وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) : ما : مبتدأ ، و «لنا» خبره ، وتقديره : أي شيء لنا في ألا نقاتل ، فحذف حرف الجر. وقيل : أن : زائدة ، ولا نقاتل : جملة فعلية في موضع الحال ، وتقديره : وما لنا غير مقاتلين. وطالوت : اسم أعجمي كجالوت وداود ، وإنما امتنع من الصرف للعلمية والعجمة.

(وَاللهُ واسِعٌ) فيه وجهان : إما بمعنى ذو سعة ، مثل : لابن وتامر ، أي ذو لبن وتمر ، وإما

٤١٩

بمعنى : موسع ، على طريقة حذف الزوائد ، كقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر ١٥ / ٢٢] بمعنى ملقحات.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) استفهام مفاده : ألم ينته إلى علمك خبر الملأ : وهم الجماعة الأشراف أو القوم ، سموا بذلك لأنهم يملئون العيون رهبة إذا اجتمعوا. والنّبي : هو شمويل معرّب صمويل أو صموئيل (ابْعَثْ) أقم لنا ملكا نقاتل معه في سبيل الله لتنتظم به كلمتنا ونرجع إليه. (هَلْ عَسَيْتُمْ) أراد بالاستفهام ، التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه ، كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان ٧٦ / ١] معناه التقرير و (أَلَّا تُقاتِلُوا) : خبر عسى (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) : وأيّ داع لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه. (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أي بسبيهم وقتلهم ، وقد فعل بهم ذلك قوم جالوت ، أي لا مانع من القتال مع وجود مقتضيه ، وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون على ساحل البحر المتوسط بين مصر وفلسطين ، فأسروا أربعمائة وأربعين.

(تَوَلَّوْا) عنه وجبنوا (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين عبروا النهر مع طالوت. قيل : كان عددهم ثلثمائة وثلاثة عشر ، على عدد أهل بدر.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد ، فهو مجازيهم ، وسأل النّبي ربه إرسال ملك ، فأجابه إلى إرسال طالوت.

(أَنَّى) كيف ومن أين ، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) لأنه ليس من سبط المملكة ولا النّبوة ، وكان دباغا أو راعيا. والواو في (وَنَحْنُ) للحال ، وفي (وَلَمْ يُؤْتَ) لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا ، والمعنى : كيف يتملك علينا؟ والحال أنه لا يستحق التملك ، لوجود من هو أحق بالملك ، وأنه فقير ، ولا بد للملك من مال يعتضد به ، وإنما قالوا ذلك لأن النّبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب ، والملك في سبط يهوذا ، ولم يكن طالوت من أحد السبطين ، ولأنه كان رجلا سقاء أو دباغا فقيرا.

وطالوت : معرب شاول ، لقب به لطوله.

(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) يستعين بها على إقامة الملك.

(اصْطَفاهُ) اختاره للملك (بَسْطَةً) سعة (فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) وكان أعلم بني إسرائيل يومئذ وأجملهم وأتمهم خلقا ، وكان أطول من كل الشعب ، وبسطة الجسم : عظمه وامتداده.

٤٢٠