التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وقال الجمهور : يفسخ النكاح ، فإذا انتهت عدتها ، كان خاطبا من الخطاب ، ولم يتأبد التحريم ، لأن الأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم دليل على الحرمة : من كتاب أو سنة أو إجماع ، وليس في المسألة شيء من هذا ، ورأي الصحابي ليس حجة ، وأنكر علي هذا القضاء من عمر ، وقال المحدثون : هذا الأثر عن عمر منقطع ، وقد روي عن مسروق : أن عمر رجع عن ذلك ، وجعل لها مهرها ، وجعلهما يجتمعان ، ولذا جعل القرطبي رأي عمر مع الجمهور الذين احتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها ، لم يحرم عليه تزوجها ، فكذلك وطؤه إياها في العدة. وهو قول علي وابن مسعود والحسن البصري.

٦ ـ لا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة زواجا ، وهي في العدة من غيره أن النكاح فاسد ، واتفق عمر وعلي أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد ، وذلك أمر متفق عليه مع الجهل بالتحريم ، ومختلف فيه مع العلم بالتحريم.

واختلفوا هل تعتد منهما جميعا؟ وهذه مسألة العدتين.

قال مالك في رواية المدنيين عنه والشافعي وأحمد والليث وإسحاق : إنها تتم بقية عدتها من الأول ، وتستأنف عدة أخرى من الآخر ، وهو رأي عمر وعلي رضي‌الله‌عنهما ، أي فعليها عدتان.

وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : إن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرّق بينه وبينها ، سواء كانت بالحمل أو بالأقراء أو بالشهور. وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه ، فدل على أنها في عدّة من الثاني ، ولو لا ذلك لنكحها في عدتها منه.

أجاب الأولون فقالوا : هذا غير لازم ، لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني ، وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين ، كسائر حقوق الآدميين ، لا يدخل أحدهما في صاحبه.

٣٨١

٧ ـ قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه ، لأن الله توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء ، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر ، ثم لم يؤيسهم من رحمته ، ولم يقنطهم من عائدته ، فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

المطلقة قبل الدخول ومتعتها أو وجوب نصف المهر لها

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

الإعراب :

(ما لَمْ) ما : إما شرطية ، أي إن لم تمسوهن ، وإما ظرفية زمانية مصدرية ، أي مدة لم تمسوهن.

(مَتاعاً) اسم أقيم مقام التمتع ، وهو منصوب على المصدر ، أي متعوهن متاعا (حَقًّا) منصوب أيضا على المصدر ، وتقديره : حقّ ذلك حقا (فَنِصْفُ) مرفوع إما مبتدأ وخبره محذوف وتقديره : فعليكم نصف ما فرضتم وإما خبر مبتدأ محذوف وتقديره : فالواجب نصف ما فرضتم (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أن : حرف ناصب ، والنون في يعفون نون النسوة ، فهي علامة جمع ، لا علامة رفع ، وإذا اتصلت بالفعل المضارع صار مبنيا ، كاتصاله بنون التوكيد. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) مبتدأ وخبر.

٣٨٢

البلاغة :

(ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) كنّى تعالى بالمسّ عن الجماع تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ في التخاطب. الخطاب في قوله (وَأَنْ تَعْفُوا) و (لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) عام للرجال والنساء ، ولكن بطريق التغليب. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة والخوف.

المفردات اللغوية :

(لا جُناحَ) لا إثم ولا تبعة عليكم ، والمراد لا شيء عليكم (تَمَسُّوهُنَ) تجامعوهن (أَوْ تَفْرِضُوا) أي ولم تفرضوا لهن فرضا أي تقدروا لهن مقدارا توجبونه على أنفسكم وهو المهر ، أي لا تبعة ولا مسئولية عليكم بإثم ولا مهر في الطلاق زمن عدم المسيس وعدم فرض المهر. (وَمَتِّعُوهُنَ) أي فطلقوهن وأعطوهن ما يتمتعن به (عَلَى الْمُوسِعِ) الغني منكم (الْمُقْتِرِ): الفقير (قَدَرُهُ) : أي قدر الإمكان والطاقة.

(مَتاعاً) أي متعوهن تمتيعا (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا ، وهو صفة (مَتاعاً). (حَقًّا) صفة ثانية أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا ثابتا واجبا. والمعروف : ما يتعارفه الناس ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم ومعايشهم وبيئاتهم. (الْمُحْسِنِينَ) المطيعين الذين يحسنون في معاملة المطلقات.

(إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) : لكن إذا ترك الزوجات المطلقات حقهن (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو الولي يعني : إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن ، فلا يطالبنهم بنصف المهر ، إن كن مالكات أنفسهن ، أو يسقط الولي الذي يلي عقد النكاح ما وجب للمطلقات قبل الدخول من نصف الصداق ، إن لم يكنّ مالكات أنفسهن. والولي : هو الأب في ابنته البكر ، وهو رأي مالك وابن عباس وجماعة من التابعين. وقيل : هو الزوج ، وعفوه : تركه ما يعود إليه من نصف المهر الذي أعطاه للمرأة. ويكون المعنى : إلا أن يعفو المطلقات ، أو يعفو الزوج عن نصف الصداق ، فيجعل المهر كله لها ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والشافعي في قوله الجديد ، والثوري وابن شبرمة والأوزاعي ، وهو رأي علي وشريح وسعيد بن المسيب ، وحجتهم : أن الله قال : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) وليس إعطاء المرء مال غيره فضلا ، فلا ينطبق على الولي.

وحجة الفريق الأول : أن الخطاب في أول الآية للأزواج ، فلو أراد الزوج ، لقال : أو يعفو ، ولا موجب لمخالفة مقتضى الظاهر. ولأن معنى (يَعْفُونَ) ، يسقطن وكذلك معنى (يَعْفُوَا) يسقط ، والولي هو الذي يسقط ، أما الزوج فيعطي.

٣٨٣

قال الزمخشري : والأول ظاهر الصحة ، وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيها نظر (١).

(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي أن يتفضل بعضكم على بعض ، والفضل : المودة والصلة.

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) خبير بأعمالكم ، فيجازيكم عليها.

سبب النزول :

روي أنها نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة ، ولم يسم لها صداقا ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، فنزلت هذه الآية ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمتعها ولو بقلنسوتك» (٢).

التفسير والبيان :

لا شيء عليكم أيها الأزواج من الصداق المسمى أو مهر المثل إن لم يسمّ المهر إن طلقتم النساء قبل الدخول وقبل تحديد أو تقدير مهر لهن. وقد دل على أن الجناح هنا تبعة المهر قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ، فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) فأوجب نصف المهر في مقابله. وقوله (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) : بمعنى إلا أن تفرضوا لهن فريضة ، أو حتى تفرضوا ، وفرض الفريضة : تسمية المهر ، لأن المطلقة قبل الدخول بها إن سمي لها مهر ، فلها نصف المهر المسمى ، وإن لم يسم ، فليس لها نصف مهر المثل ، ولكن المتعة. وقال بعضهم : إن (أَوْ) بمعنى الواو.

وإنما الواجب عليكم المتعة ، أي إعطاء المطلقات شيئا من أموالكم يتمتعن به بحسب حالكم من الثروة والغنى والمنزلة والفقر ، جبرا للخاطر ، ولم يحدده الله تعالى ، وإنما ترك تقديره لحالة الزوج من غنى وفقر حسب الطاقة. وكان ابن

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٨٥

(٢) البحر المحيط : ٢ / ٢٣١

٣٨٤

عباس يقول : متعة الطلاق : أعلاها الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة.

وجعل الله تعالى هذه المتعة حقا واجبا على الذين يحسنون معاملة المرأة. وللفقهاء فيها آراء ، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها واجبة للمطلقة قبل الدخول ولم يسمّ لها مهر ، لظاهر قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) وقوله (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ). وهي مستحبة لسائر المطلقات ، كالمطلقة بعد الدخول ، والمطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية المهر (١).

وذهب مالك في المشهور عنه : إلى أن المتعة مندوبة ما عدا المطلقة قبل الدخول التي لم يسم لها المهر ، وقيل بوجوبها.

ورأى الشافعي وأحمد : أنها واجبة للمطلقة قبل الدخول سواء التي فرض لها مهر أو لم يفرض لها إلّا المطلقة قبل الدخول المسمى لها المهر ، وأوجبها الشافعية أيضا للمطلقة بعد الدخول ، لقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢٤١] يعني أن المتعة واجبة لكل مطلقة في مذهب الشافعي الجديد ما عدا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر.

والظاهر القول بالوجوب ، لظاهر الأمر : (وَمَتِّعُوهُنَ) وكأن الله جعل لها المتعة في مقابل ما جعل المسمى لها من نصف الصداق حال التسمية. وأما قوله : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فليبين أن مقتضى الإحسان يوجب ذلك.

هذا هو القسم الأول المذكور في الآية وهو حكم المطلقة قبل الدخول والتي لم يسم لها المهر ، وهذه لها المتعة. ثم بيّن الله تعالى حكم القسم الثاني وهو المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر ، وهذه لها نصف الصداق ، فقال الله تعالى فيما معناه :

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٤٢٨

٣٨٥

إذا طلقت المرأة قبل الدخول ، وقد سمّي لها صداق ، فيجب لها نصفه ولها حق أخذه في كل حال ، إلا أن تعفو المطلقة ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الولي ، وعفوه : إسقاط الحق في نصف المهر ، وقيل : هو الزوج وعفوه : التنازل عن نصف الصداق المستحق له ، فتأخذ المهر كله ، كما بينا في شرح المفردات. والعفو أقرب لتقوى الله ، أي أن من عفا من الرجال والنساء فهو المتقي.

ولا تنسوا التفضل بينكم بالإحسان ، فتتركوه وتستقصوا أخذ كل المستحق ، فإن العفو خير لكم جميعا ، والله بما تعملون بصير ، فيجازي كلا على حسب نيته وعمله ، ويعلم من عفا ، وعامل بالإحسان من لم يفعل ذلك. وهذه خاتمة للتذكير باطلاع الله على كل ما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا ، ترغيبا في الإحسان والفضل ، وترهيبا من المخاشنة والجهل.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ ذكر الله تعالى في هذه الآية حكم حالتين من الطلاق : المطلقة قبل الدخول وقبل تسمية المهر ، فجعل لها المتعة ، والمطلقة قبل الدخول وبعد تسمية المهر ، وجعل لها نصف الصداق.

والحكمة في المتعة وإيجاب نصف المهر قبل الدخول : جبر وحشة الطلاق ، والتعويض عما لحق المرأة من أذى وسوء سمعة ، فيكون ذلك سبيلا لرفع معنويات المرأة المطلقة ، ودفع الشبهات والريبة عنها ، وتوفير حسن الصيت وطيب الشهرة لها ، حتى لا تتضرر باحتمال إعراض الخطّاب عليها ، وتعكير صفو المستقبل المنتظر لها.

وهناك صنفان آخران من المطلقات : المطلقة المدخول بها المفروض لها المهر ، وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية (في الآية : ٢٢٩) ، وأنه لا يسترد

٣٨٦

منها شيء ، وأن عدتها ثلاثة قروء. والمطلقة المدخول بها غير المفروض لها المهر ، وقد ذكر الله تعالى حكمها في قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن [النساء ٤ / ٢٤].

٢ ـ إن قسمة الله تعالى حال المطلقة قبل الدخول إلى قسمين : مطلقة مسمى لها المهر ، ومطلقة لم يسمّ لها ، يدل على أن نكاح التفويض جائز : وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق ، ولا خلاف فيه ، ويفرض بعد ذلك الصداق.

فإن فرض بعد العقد وقبل الطلاق ، كان من المسمى ، فيكون لها نصف المسمى ، ويلتحق الفرض بالعقد في رأي مالك ، ولا يكون لها نصف المسمى ولا يلتحق بالعقد في رأي أبي حنيفة ، نظرا إلى أنها لم يسم لها في العقد.

وأما إن لم يفرض لها ، وكان الطلاق ، لم يجب صداق إجماعا ، كما قال ابن العربي (١).

٣ ـ إذا مات الزوج قبل أن يفرض لها ، فقال مالك : يكون حكمها حكم المطلقة ، لها الميراث دون الصداق ، وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد : لا يكون لها حكم المطلقة ، فيجب لها الصداق والميراث (٢).

وحجة مالك : أنه فراق في نكاح قبل الفرض ، فلم يجب فيه صداق ، أصله الطلاق ، أي كالحكم في الطلاق.

وحجة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة : ما رواه النسائي وأبو داود عن ابن مسعود : أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في بروع بنت واشق ـ وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها ـ بالمهر ، والميراث ، والعدة. قال الترمذي : حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح ، وقد روي عنه من غير وجه.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢١٨

(٢) المرجع والمكان السابق ، تفسير القرطبي : ٣ / ١٩٨

٣٨٧

٤ ـ ومذهب أبي حنيفة وأحمد : أن المهر جميعه يتقرر بالخلوة الصحيحة ، لخبر ابن مسعود قال : «قضى الخلفاء الراشدين فيمن أغلق بابا أو أرخى سترا : أن لها الميراث ، وعليها العدة» (١). ومشهور مذهب مالك ، والشافعي : أنه لا يتقرر المهر بالخلوة إلا إذا اقترن بها مسيس (وطء) ، وظاهر القرآن يعضدهما.

٥ ـ ليس للمتعة بمقتضى القرآن والسنة حد معروف في قليلها ولا كثيرها. لذا اختلف الناس فيها ، فقال ابن عمر : أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها ، وهو قول الشافعي القديم ، وقال في الجديد : لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة ، وأحب ذلك إليّ : أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة. وقال ابن عباس : أرفع المتعة خادم ، ثم كسوة ، ثم نفقة. وقال عطاء : أوسطها الدرع والخمار والملحفة. وقال أبو حنيفة : ذلك أدناها. وقال الحسن البصري ومالك : يمتّع كل بقدره ، هذا بخادم ، وهذا بأثواب ، وهذا بثوب ، وهذا بنفقة.

وقال أصحاب الرأي وغيرهم : متعة التي تطلّق قبل الدخول والفرض لا يتجاوز بها نصف مهر مثلها ، لا غير ، لأن مهر المثل مستحق بالعقد ، والمتعة : هي بعض مهر المثل ، فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلّق قبل الدخول ، فيكون لها الأقل من نصف مهر مثلها ومن المتعة ، وهي على قدر المعتاد المتعارف في كل وقت ، كثلاثة أثواب : درع وخمار وإزار (٢).

وروى الدار قطني أن الحسن بن علي رضي‌الله‌عنه متّع زوجته : عائشة الخثعمية بعشرة آلاف درهم ، فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق.

٦ ـ قال ابن القاسم من المالكية : من جهل المتعة حتى مضت أعوام ، فليدفع

__________________

(١) وروي أيضا مرفوعا ، أخرجه الدارقطني.

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٤٣٣ ـ ٤٣٤

٣٨٨

ذلك إليها ، وإن تزوّجت ، وإلى ورثتها إن ماتت ، لأنه حق ثبت عليه ، وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق. وهذا يشعر بوجوبها في المذهب المالكي.

وقال أصبغ : لا شيء عليه ، لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق ، وقد فات ذلك.

٧ ـ دل قوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) على وجوب المتعة. والموسع : الذي اتسعت حاله ، والمقتر : المقل القليل المال. وكذلك قوله : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي يحق ذلك عليهم حقا : دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها ، فقوله (حَقًّا) تأكيد للوجوب.

٨ ـ الواجب للمطلقة قبل الدخول نصف المهر المسمى بالإجماع. ولا خلاف أن من دخل بزوجته ثم مات عنها ، وقد سمّى لها مهرا : أن لها ذلك المسمّى كاملا ، والميراث ، وعليها العدة.

٩ ـ لكل امرأة تملك أمر نفسها وكانت بالغة عاقلة راشدة أن تترك النصف الذي وجب لها عند الزوج ، لأن معنى (يَعْفُونَ) : يتركن ويصفحن ، وقوله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) استثناء منقطع ، لأن عفوهنّ عن النصف ليس من جنس أخذهنّ.

وأما التي في حجر أب أو وصي : فلا يجوز وضعها لنصف صداقها بلا خلاف.

ولولي المرأة في مذهب مالك العفو عن نصف الصداق ، لأن الذي بيده عقدة النكاح : هو الولي ، لأوجه أربعة :

الأول ـ لأن الزوج قد طلق ، فليس بيده عقدة.

الثاني ـ أنه لو أراد الأزواج لقال : إلا أن تعفون ، فلما عدل عن مخاطبة

٣٨٩

الحاضر المبدوء به في أول الكلام : وهو الزوج ، إلى لفظ الغائب دل على أن المراد به غيره.

الثالث ـ أنه تعالى قال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يعني يسقطن ، ولا يتصور الإسقاط عن شيء من المهر إلا من الولي ، أما الزوج فيعطي.

الرابع ـ أنه تعالى قال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يعني يسقطن (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) يعني يسقط ، وكل هذا يرجع إلى النصف الواجب بالطلاق الذي تسقطه المرأة ، فأما النصف الذي لم يجب ، فلم يجر له ذكر.

ورجح ابن العربي هذا القول قائلا : والذي تحقق عندي بعد البحث والسّبر أن الأظهر هو الولي لثلاثة أوجه (١).

وللزوج في رأي الشافعي وأبي حنيفة : أن يترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي سماه للزوجة ، لما رواه الدارقطني عن ابن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولي عقدة النكاح : الزوج». وروى الدارقطني عن جبير بن مطعم : أنه تزوج امرأة من بني نصر (بطن من هوازن) فطلقها قبل أن يدخل بها ، فأرسل إليها بالصداق كاملا ، وقال : أنا أحق بالعفو منها ، قال الله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وأنا أحق بالعفو منها.

١٠ ـ أقرب الزوجين للتقوى : الذي يعفو. وعلى الزوج ألا ينسى مودة أهل البيت الذين تزوج منهم ثم طلق ، وألا يهجرهم أو يسبهم ويلعنهم ويحقد عليهم ، كما هو حال الناس اليوم مع الأسف بعد حدوث الطلاق بين زوجين ، فصارت رابطة المصاهرة بعد انفصالها مرتعا للمخاصمات والمنازعات والمهاترات والمكائد ، وهذا كله مناقض لكتاب الله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).

__________________

(١) راجع أحكام القرآن : ١ / ٢٢١

٣٩٠

قال مجاهد : الفضل : إتمام الرجل الصداق كله ، أو ترك المرأة النصف الذي لها. بل إن الآية تذكّر بالإحسان واستعمال الفضل في المعاملات ، لأن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه ولا يستغل حاجته ويعطيه إذا كان محتاجا ، ولا يبخل ولو بالدعاء له.

١١ ـ دلت آية (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ ...) على صحة هبة المشاع ، لأن الله تعالى أوجب للمرأة بالطلاق نصف الصداق ، فعفوها للرجل عن جميعه كعفو الرجل ، ولم يفصل بين مشاع ومقسوم.

وقال أبو حنيفة : لا تصح هبة المشاع إلا بعد القسمة ، لأن القبض شرط صحة الهبة ، وقبض المشاع أمر متعذر.

الحفاظ على الصلاة

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

الإعراب :

(قانِتِينَ) حال أي ذاكرين الله في قيامكم ، والقنوت : أن تذكر الله قائما. (فَرِجالاً) حال منصوب ، وعامله محذوف تقديره : فصلوا راجلين ، وهو جمع راجل كقائم وقيام. (كَما عَلَّمَكُمْ) الكاف بمعنى مثل ، وما : المصدرية أو موصولة مفعول لفعل «علمكم».

البلاغة :

(الصَّلاةِ الْوُسْطى) عطف خاص على عام ، تنويها بفضلها وتنبيها على شرفها في جنسها. هناك طباق بين (خِفْتُمْ) و (أَمِنْتُمْ). وعبر بكلمة الشرط (فَإِنْ) لعدم تحقق وقوع الخوف ،

٣٩١

وأورد الثانية بكلمة (فَإِذا) لتحقق وقوع الأمن وكثرته ، وأوجز في جواب الأولى مراعاة لظرف الخوف ، وأطنب في جواب الثانية لمناسبته ظرف الأمن والاستقرار.

المفردات اللغوية :

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) داوموا على الصلوات الخمس بإتقان وأداء في أوقاتها وإتمام أركانها وشروطها مع خشوع القلب ، دون تضييع ولا عجلة ولا تأجيل. (الصَّلاةِ الْوُسْطى) من الوسط : وهو العدل والخيار ، والوسطى : الفضلى ، ويحتمل أنها وسط أو متوسطة في العدد ، لأنها متوسطة بين صلاتين قبلها وصلاتين بعدها ، وقيل : إنها وسط من الوقت. والراجح من الأقوال : أنها صلاة العصر ، لما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن علي مرفوعا يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصلاة الوسطى ـ صلاة العصر» ، وروى أحمد والشيخان : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذا اليوم : «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا ، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ، حتى غابت الشمس» ولم يذكر العصر.

وفي رواية عن علي عن عبد الله بن أحمد في سند أبيه : «كنا نعدّها الفجر ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي العصر» وأخرج الشيخان : «الذي تفوته صلاة العصر ، فكأنما وتر أهله وماله».

(وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة (قانِتِينَ) ذاكرين الله تعالى في القيام ، مداومين على الضراعة والخشوع ، وقيل : مطيعين ، لما رواه أحمد : «كل قنوت في القرآن فهو طاعة» وقيل : ساكتين ، لما رواه الشيخان عن زيد بن أرقم : «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت ، فأمرنا بالسكوت».

(فَإِنْ خِفْتُمْ) من عدو أو سيل أو سبع (فَرِجالاً) جمع راجل ، أي مشاة صلوا (أَوْ رُكْباناً) جمع راكب ، أي كيف أمكن ، مستقبلي القبلة أو غيرها ، ويومئ بالركوع والسجود ، وهذا مذهب الشافعي رحمه‌الله. وعن أبي حنيفة رحمه‌الله : لا يصلون في حال المشي والمسابقة ، ما لم يمكن الوقوف.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي صلوا على النحو الذي علمكم إياه من الإتيان بالفرائض وحقوق الصلاة كاملة.

سبب النزول :

أخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والبيهقي وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة ، وكانت أثقل الصلوات

٣٩٢

على أصحابه ، فنزلت : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وهذا يدل على أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر ، وبه قال جماعة.

وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، والناس في قائلتهم وتجارتهم ، فأنزل الله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).

وأخرج الأئمة الستة وغيرهم عن زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ، يكلم الرجل منا صاحبه ، وهو إلى جنبه في الصلاة ، حتى نزلت : (وَقُومُوا لِلَّهِقانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.

المناسبة :

ختمت آيات الأحكام السابقة في العبادات والمعاملات ومعاملة الزوجات بالأمر بتقوى الله والتذكير بعلمه بحال عباده وما أعد لهم من جزاء على العمل ، لتقوية الوازع الديني في النفوس ، كما هي سنة القرآن.

ثم توسطت آيات المحافظة على الصلاة آيات أحكام الأسرة لحكمة (١) : وهي الحاجة إلى مذكّر عملي يصل الإنسان بالله ، للترفع عن البغي والعدوان ، والميل إلى العدل والإحسان في معاملة الأسر ، ولا سيما بعد الطلاق الذي يولد الشحناء والبغضاء ، وذلك المذكّر هو الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتدعو إلى الإحسان والتسامح ، وتنفي الجزع وتنسي هموم الدنيا ، فتتربى النفس الإنسانية على أفضل سلوك ، وأقوم طريق ، وإشارة إلى أنه يجب ألا تشغلنا البيوت وأوضاعها ولا أنفسنا عن الصلاة.

__________________

(١) قال المفسرون : هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها والمطلقات ، وهي متقدّمة عليهن في النزول متأخرة في التلاوة ورسم المصحف (البحر المحيط : ٢ / ٢٣٩).

٣٩٣

التفسير والبيان :

داوموا على الصلوات جميعها ، لما فيها من مناجاة الله ودعائه والثناء عليه ، ولأنها عماد الدين ، ولما لها من الأثر الفعال في تطهير النفس ، إذا كانت على النحو المقرر في الحديث : «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك» (١).

والصلاة الوسطى داخلة في الصلوات ، وإنما خصها الله بالذكر تنبيها على شرفها في جنسها ، وتذكيرا بها ، سواء أكانت صلاة الظهر بسبب شدة الحر في الأقاليم الحارة ، ولأنها في وسط النهار ، كما رجح القرطبي ، أم صلاة العصر حيث يشغل الناس عنها لإنهاء أعمالهم اليومية ، وشكرا لله تعالى على التوفيق في إنجاز العمل اليومي الذي يعود بالثمرة الطيبة على النفس والأهل والوطن ، أم صلاة الصبح ، كما قال ابن عباس وابن عمر وأبو أمامة وعلي ، بسبب الحرص على النوم والتكاسل عن أدائها ، ولأنها أثقل صلاة على المنافقين ، أم غير ذلك وهي المغرب أو العشاء أو الجمعة ، وفي ذلك سبعة أقوال للعلماء ، رجح ابن العربي أن تعيينها متعذر (٢).

وقوموا خاشعين لله في صلاتكم ، متفرغين من كل مشاغل الدنيا التي تصرف القلب عن الخشوع ، ذاكرين الله دون سواه ، ساكتين لا تتكلمون بغير آي القرآن والدعاء والمناجاة بحسب تنظيم الشرع أحوال الصلاة. والقنوت في رأي مجاهد : هو السكوت ، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في سبب النزول المتقدم.

والمحافظة على الصلاة في وقتها مع الخشوع وحضور القلب دليل الإيمان وصحة الإسلام ، وأخوة الدين ، وحفظ الحقوق ، والمحافظ عليها هو الذي يرجى خيره ، ويؤمن شره ، روى أحمد وأصحاب السنن من حديث بريدة قال : سمعت

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

(٢) أحكام القرآن : ١ / ٢٢٤ ، وانظر أيضا البحر المحيط : ٢ / ٢٤٠ وما بعدها.

٣٩٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «العهد الذي بيننا وبينكم : الصلاة ، فمن تركها فقد كفر» وروى أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه ذكر الصلاة يوما ، فقال : من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها ، لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف».

وكان من أثر ترك الصلاة على الوجه الشرعي فشو المنكرات والفواحش ، وظهور الخيانة ، وزعزعة الأمن على النفس والمال ، وكثرة الاعتداءات ، وانقباض الأيدي عن فعل الخير ، وقلة التراحم والتعاطف ، وسوء الظن ، وضعف الثقة بين الناس.

ونظرا لأهمية الصلاة وخطورتها لم يجز الإسلام تركها في أي حال من الأحوال ، لذا قال الله تعالى ما معناه : لا عذر لأحد في ترك الصلاة ، حتى في حال الخوف على النفس أو المال أو العرض من العدو ، فإن خفتم أي ضرر من القيام ، فصلوا كيفما كان راجلين (مشاة) أو ركبانا. فإذا أمنتم أي زال الخوف عنكم ، فاذكروا الله واعبدوه ، واشكروه على نعمة الأمن ، كما علمكم من الشرائع ، وكيفية صلاة الأمن ، ما لم تكونوا تعلمون.

والمراد : ما لم تكونوا تعلمون من صلاة الأمن ، أو فإذا أمنتم فاشكروا الله على الأمن ، واذكروه بالعبادة ، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن (١). وقال القرطبي : المعنى : ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان ، واشكروا الله على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ، ولم تفتكم صلاة من الصلوات ، وهو الذي لم تكونوا تعلمونه(٢).

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦

(٢) تفسير القرطبي : ٣ / ٢٢٥

٣٩٥

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها ، لفضلهن ، وتخصيص الفضلى منهن بزيادة محافظة ، أي الزائدة الفضل (١) ، تشريفا لها ، كما قال الله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ، فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [البقرة ٢ / ٩٨] وقال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب ٣٣ / ٧] وقال : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن ٥٥ / ٦٨].

٢ ـ لا تسقط الصلاة بحال ، ولا يجوز تركها لأي عذر ، ولو في حال اللقاء مع العدو ، أو في وسط المعارك الحربية ، أو في شدة المرض ، إذ شرع الإسلام أداءها بكيفية تتناسب مع كل الأحوال ، ففي أثناء الخوف تؤدى إما حال الركوب أو حال المشي ، أو حال الوقوف إيماء على أي وضع كان. وفي حالة المرض تصلى قياما أو قعودا أو اضطجاعا ، أو على جنب ، أو بالإشارة إلى الأركان بجفن العين ، أو بإجراء الأركان على القلب ، كما أبان الشافعية والمالكية وغيرهم ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمران بن حصين ـ فيما رواه الجماعة ـ : «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب».

وسبب عدم سقوطها في كل حال : أنها تذكر بسلطان الله على كل شيء ، وبأنه وحده الغاية والهدف ، وإليه المرجع والمآل ، فإن الأعمال الظاهرة تساعد القلب على استحضار الذات الإلهية ، والإقبال على الله في كل شيء صعب أو

__________________

(١) قال صاحب تفسير المنار (٢ / ٣٤٧) : إن المراد بالصلاة : الفعل ، وبالوسطى : الفضلى ، أي حافظوا على أفضل أنواع الصلاة : وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب ، وتتوجه بها النفس إلى الله تعالى ، ويخشع لذكره وتدبر كلامه ، لا صلاة المرائين ولا الغافلين.

٣٩٦

سهل ، وفي حال الصحة أو حال المرض ، وفي حال الأمن أو الخوف ، فسبحانه وتعالى هو المهيمن على كل شيء ، وهو صاحب الجلال والعظمة ، وهو وحده الفعال لما يريد ، وهو الذي ينجز مطلب عبده إذا أخلص الدعاء له ، وكل ذلك أمر مجرب يحتاج إلى الإيمان الصحيح ، والعمل الصالح ، وصدق الطلب.

٣ ـ دل قوله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) على أن الوتر ليس بواجب ، لأن المسلمين اتفقوا على أعداد الصلوات المفروضات أنها تنقص عن سبعة وتزيد عن ثلاثة ، وليس بين الثلاثة والسبعة فرد إلا الخمسة ، والأزواج لا وسط لها فثبت أنها خمسة ، وفي حديث الإسراء : «هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي».

٤ ـ إذا كان المراد من قوله تعالى : (قانِتِينَ) ساكتين وأن القنوت هنا : السكوت كما صحح القرطبي ، كانت الآية آمرة بالسكوت في الصلاة ، ناهية عن الكلام فيها. قال ابن عبد البر : أجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة ، إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته : أنه يفسد الصلاة ، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه قال : «من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام ، لم تفسد صلاته بذلك» وهو قول ضعيف في النظر ، لقول الله عزوجل : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ).

وقال مالك : لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها ، فلو صلّى الإمام ركعتين ، وسلّم ساهيا ، فسبّحوا للتنبيه ، فلم يفقه ، فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة : إنك لم تتمّ ، فأتم صلاتك. فالتفت إلى القوم ، فقال : أحقّ ما يقول هذا؟ فقالوا : نعم ، صحت صلاة الجميع. ودليله قصة ذي اليدين : وهي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سلّم من ركعتين ، فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال : كلّ ذلك لم

٣٩٧

يكن ، فقال : بعض ذلك قد كان ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصحيح ما يقول ذو اليدين؟ قالوا : نعم(١).

وأما إذا تكلم عابثا فتبطل صلاته.

ووافق الشافعية والحنابلة مالكا في أن الصلاة لا تبطل بكلام لمصلحتها إن صدر ذلك سهوا ، فمن تكلم بعد أن سلّم قبل إتمام صلاته سهوا بكلام يسير عرفا لمصلحة الصلاة ، بأنه سبق لسانه إليه أو نسي الصلاة ، لا تبطل صلاته عملا بقصة ذي اليدين ، وأضاف الشافعية القول بأن الصلاة لا تبطل بكلام من جهل تحريم الكلام في الصلاة إن قرب عهده بالإسلام.

وذهب الحنفية : إلى أن الصلاة تفسد بالكلام عمدا أو سهوا ، أو جاهلا ، أو مخطئا ، أو مكرها ، على المختار ، بالنطق بحرفين أو بحرف مفهم مثل : «ع» و «ق» ، لتحريم الكلام في الصلاة ، ولقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (٢). وقالوا : إن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم (٣).

٥ ـ ذكر أبو بكر الأنباري أن القيام أحد أقسام القنوت ، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه ، منفردا كان أو إماما. وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما أخرجه الأئمة ـ : «إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا صلى قائما ، فصلوا قياما» وهو بيان لقوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ).

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

(٢) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود عن معاوية بن الحكم السّلمي.

(٣) قال ابن مسعود : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله أحدث من أمره ألا تكلّموا في الصلاة» وقال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل صاحبه ، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : «وقوموا لله قانتين».

٣٩٨

وأجاز جمهور العلماء للمأموم الصحيح أن يصلي قائما خلف إمام مريض لا يستطيع القيام ، لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته ، تأسّيا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ صلّى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا ، وأبو بكر إلى جنبه قائما ، يصلي بصلاته ، والناس قيام خلفه.

والمشهور عن مالك : أنه لا يؤمّ القيّام أحد جالسا ، فإن أمّهم قاعدا بطلت صلاته وصلاتهم ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يؤمّنّ أحد بعدي قاعدا».

٦ ـ دلت آية (فَإِنْ خِفْتُمْ) على جواز الصلاة حالة القتال ، أو الخوف الطارئة أحيانا ، رجالا (مشاة) على الأقدام ، وركبانا على الخيل والإبل ونحوها ، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه ، ولا تبطل بالقتال ، ويسقط استقبال القبلة. وهو مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) ، بدليل ظاهر الآية ، ويؤيده ما روي في الصحيح عن ابن عمر في حال الخوف : «فإن كان خوف أكثر من ذلك ، صلوا قياما وركبانا ، مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها».

وذهب أبو حنيفة : إلى أن الصلاة تبطل بالقتال. لكن ظاهر الآية حجة عليه ، وحديث ابن عمر يرد عليه.

واختلف العلماء في تحديد صفة الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا : فقال الشافعي : هو إطلال العدو عليهم ، فيتراءون معا ، والمسلمون في غير حصن ، حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب ، أو يأتي من يصدق خبره ، فيخبر بأن العدو قريب منهم ويصف مسيرهم ، جادّين فيه ، فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين ، فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف.

فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ، ثم ذهب العدو ، لم يعيدوا ، وقال أبو حنيفة : يعيدون.

٣٩٩

أما صلاة الخوف مع الإمام وقسمة الناس قسمين فليس حكمها في هذه الآية ، وإنما في سورة النساء.

ولا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماهير العلماء.

وتشريع صلاة الخوف دليل على أن الصلاة لا تسقط بحال ولا بعذر ، فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف ، فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه ، والله سبحانه وتعالى أمر بالمحافظة على الصلوات في كلّ حال من صحة أو مرض ، وحضر أو سفر ، وقدرة أو عجز ، وخوف أو أمن ، لا تسقط عن المكلّف بحال ، ولا يتطرّق إلى فرضيتها اختلال.

والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتّفق فعلها إلا بالإشارة بالعين ، لزم فعلها.

وبهذا تميزت الصلاة عن سائر العبادات ، كلّها تسقط بالأعذار ، ويترخّص فيها بالرّخص.

قال ابن العربي : ولذلك قال علماؤنا ـ وهي مسألة عظمي ـ إن تارك الصلاة يقتل ، لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال ، وقالوا فيها : إحدى دعائم الإسلام ، لا تجوز النيابة فيها ببدن ولا مال ، فيقتل تاركها ، وأصله الشهادتان (١).

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٢٨

٤٠٠