التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

عليه رزقه ، فلينفق مما آتاه الله ، (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق ٦٥ / ٧] (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦] والآية هنا (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) أي لا تلزم نفس إلا بقدر سعتها.

وأخذ من الآية أيضا وجوب نفقة الولد على الوالد ، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع ، لأجل الولد ، وإنما وجبت لضعف الولد واحتياجه ، والوالد أقرب الناس إليه.

وعلة تشريع الأحكام السابقة منع الضرار من جانبي الرجل والمرأة ، بإعطاء كل ذي حق حقه ، فيحرم إضرار أحدهما الآخر بسبب الولد ، فلا تمتنع الأم من إرضاعه تعجيزا للأب بالتماس الظئر (المرضع) ، أو تكلفه من النفقة فوق طاقته ، أو تقصّر في تربية الولد ، كذلك لا يجوز أن يمنعها من إرضاع ولدها وهي ترغب به ، لأنها أرأف الناس به ، وأحناهم عليه ، وأنفعهم له ، أو يضيّق عليها في النفقة ، أو يمنعها من رؤيته ولو بعد مدة الرضاع والحضانة.

وعلى وارث الأب مثل ذلك من النفقة والكسوة وترك الضرار للمرضع ، وقيل : على وارث الصبي الذي لو مات ورثه ، فدل هذا القول على وجوب النفقة على أقارب الصبي عند عدم الوالد.

وهذا أصل في وجوب نفقة الأقارب ، وهو مذهب أبي حنفية ، وأحمد ، إلا أن الحنفية أوجبوا النفقة لكل ذي رحم محرم كالعمة والخال ، ولا تجب لغير ذي الرحم المحرم كابن العم وبنت العم ، وأوجبها الحنابلة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ والعم وابن العم ، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة والعمة ونحوهم ممن لا يرث بفرض ولا تعصيب ، لأن قرابتهم ضعيفة.

ورأى مالك والشافعي أن النفقة لا تجب إلا على الوالدين ، فنفقة الولد على أبيه ، فإن مات ففي مال الصبي إن كان له مال ، وإلا فعلى الأم. والآية تؤيد

٣٦١

الرأي الأول ، إلا أن يراد بالآية : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) ترك الإضرار فقط ، أو يراد من الوارث الولد نفسه.

وتحديد مدة الرضاع بحولين كاملين إنما كان لبيان المدة القصوى التي يرجع إليها عند الاختلاف كما بينها الله ، فإن أراد الوالدان فطام الولد قبل الحولين أو بعدهما ، برضاهما وتشاورهما في مصلحة الطفل ، فلا إثم عليهما فيه ، حيث اقتضت المصلحة ذلك ، ولم يلحق ضرر بالولد.

ولا مانع من استئجار المراضع ، وهو ما أبانته الآية التي أفصحت عن أنه : إذا أردتم أن تسترضعوا المراضع أولادكم أو لأولادكم بسبب حمل أو مرض أو عدم اتفاق ، فلا حرج فيه ، بشرط إعطاء المرضعة أجرها بالمعروف أي بحسب أجرة أمثالهن في كل عصر ومكان ، لما في الأجر من تحقيق مصلحة الولد والوالدين أيضا. وهذا خطاب للأب والأم على سبيل التغليب ، للإشارة إلى أنه من الأدب والمصلحة تشاور الأبوين في الاسترضاع ، لأنه ولدهما.

والقول بجواز استرضاع المراضع الأجنبيات هو مذهب أبي حنيفة. وقوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ليس شرطا لجواز الاسترضاع ، وإنما هو ندب إلى الأولى ، تطييبا لنفس المرضع.

ثم ضرب الله نطاقا محكما لتنفيذ الأحكام السابقة : وهو أن يتم في ظل تقوى الله ، فعلى المؤمن أن يخشى الله ، فلا يفرط في شيء من الأحكام المذكورة ، لأن الله تعالى خبير وبصير بكل شيء ، فيجازيكم على أعمالكم ، فإن أنتم أديتم حقوق النساء والأطفال ، واجتنب الوالدان المضارّة ، كان الأولاد مثلا صالحا في الدنيا وسبب مثوبة في الآخرة ، وإن سرتم على وفق الأهواء ، كان الأولاد نذير سوء ، وعنوان بلاء وفتنة في الدنيا ، وسبب عذاب في الآخرة.

٣٦٢

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات ، لأنهن أحنى وأرقّ ، وانتزاع الولد الصغير من والدته إضرار به وبها. وهذا يدل على أن الولد ، وإن فطم ، فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها ، ما لم تتزوج بزوج آخر باتفاق العلماء لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لامرأة ـ فيما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو ـ : «أنت أحق به ما لم تنكحي».

وإذا كانت المطلقة أولى بالرضاع والحضانة فإن الزوجات حال الزوجية أولى بهما أيضا ، بل إن الزوجة تستحق النفقة والكسوة ، أرضعت أو لم ترضع ، في مقابلة التمكين من الاستمتاع. وأما إيجاب النفقة في حال الرضاع بعد الطلاق فبسبب اشتغال المرأة في مصالح الزوج ، لذا قال الله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي الزوج (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) دفعا لتوهم سقوط النفقة إذا اشتغلت المرأة بالإرضاع ولم يحدث التمكين.

ودل قوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) على أن إرضاع الحولين ليس حتما ، فإنه يجوز الفطام قبل الحولين ، ولكن التحديد بالحولين لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع ، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين. وإن أراد الأب الفطم قبل الحولين ، ولم ترض الأم ، لم يكن له ذلك. والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود ، وعند رضا الوالدين.

وقد أخذ مالك في موطئه والشافعي وأحمد من آية : (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أن مدة الرضاع المحرّم أي التي يحرّم الرضاع فيها المصاهرة كما يحرّم بالنسب : هي حولان فقط ، فإذا لم يقع الرضاع فيهما لا يحرم.

٣٦٣

ولم يعتبر الحنفية ، والمالكية أخذا بما روى ابن القاسم عن مالك (١) : أن الآية جاءت لتحديد مدة الرضاع المحرّم ، فذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا ، وقال زفر : ثلاث سنين ، وذهب المالكية في الصحيح إلى أن ما قرب من زمان الفطام عرفا لحق به ، وما بعد عنه خرج عنه ، من غير تقدير.

قال القرطبي (٢) : والصحيح الأول ، لقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» (٣) فهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير ، وأنه لا حرمة له.

واستنبط العلماء من هذه الآية ومن قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أقل مدة الحمل ، فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرا ، يكون الباقي ستة أشهر ، وهي أقل المدة.

وأرشدت الآية : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ..) إلى وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه. والمراد بالمولود له : الذي ولد له ، والذي يعبر به عن الواحد والجمع. ويجوز في العربية القول : «وعلى المولود لهم» كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس ١٠ / ٤٢].

والنفقة الواجبة من الطعام والكسوة (اللباس) هي بالمعروف أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط. والإنفاق يكون على قدر غنى الزوج وحال الزوجة في رأي المالكية.

__________________

(١) قال مالك : الرضاع : الحولين والشهرين بعد الحولين.

(٢) تفسير القرطبي : ٣ / ١٦٢

(٣) قال الدار قطني : لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ.

٣٦٤

ودلت الآية على أن الحضانة للأم ، وهو حق لها ، وبه أخذ مالك وأبو حنيفة ، ومدة الحضانة عند مالك في الغلام إلى البلوغ ، وفي الفتاة إلى الزواج. وقال الشافعي وأحمد : إذا بلغ الولد ثمان سنين ، وهو سن التمييز ، خيّر بين أبويه ، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم العلوم ووظائف العبادات ، وذلك يستوي فيه الغلام والفتاة ، بدليل تخيير النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولدا حينئذ ، فلحق بأمه ، كما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة.

ويظل الحق للأم بالحضانة ما لم تتزوج اتفاقا كما سبق بيانه ، قال ابن المنذر : «وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا حقّ للأم في الولد إذا تزوجت» وينقطع حقها بمجرد عقد الزواج عند الشافعي ، وقال مالك : إذا تزوجت الأم لم ينزع منها ولدها ، حتى يدخل بها زوجها.

ولا فرق في رأي الحنفية بين الذمية والمسلمة في أحقية الأم بالحضانة إذا افترق الزوجان بطلاق. وقال مالك والشافعي : الولد مع المسلم من الزوجين.

وإن تركت المرأة حضانة ولدها ولم ترد أخذه وهي فارغة غير مشغولة بزوج ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه نظر لها ، فإن كان تركها له من عذر كان لها أخذه ، وإن كانت تركته رفضا له ومقتا ، لم يكن لها بعدئذ أخذه.

وتحرم المضارّة بين الزوجين وغيرهما ، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، ولقوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ ..) أي لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها ، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع ، كما بينا.

ودل قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) على وجوب نفقة الأقارب ، كما بينا ، كما أنه يدل على وجوب النفقة على الصبي نفسه من ماله إن كان له مال.

٣٦٥

ومدة الرضاع الكاملة حولان كاملان عند اختلاف الزوجين في تحديد المدة القصوى التي تجب فيها أجرة الرضاع. ويجوز اتفاقهما على أقل من ذلك من غير مضارّة الولد. وقوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير ، وذلك موقوف على غالب ظنونهما ، لا على الحقيقة واليقين. وإذ أرشد القرآن إلى التشاور في أدنى الأعمال لتربية الولد ، فهو مطلوب بالأولى في أجلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة ، وهي مشورة الحكام في مصالح الأمة ، لذا أمر الله رسوله بمشاورة أصحابه قائلا : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران ٣ / ١٥٩] ومدح المؤمنين بقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى ٤٢ / ٣٨].

ودل قوله سبحانه : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) على جواز اتخاذ الظئر (أي استئجار المرضع) إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك ، ويجب حينئذ تسليم الأجرة إلى المرضعة الظئر لقوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ ..)

والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها ، كما أخبر الله عزوجل ، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن ، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة ، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكر من رزقهن وكسوتهن ، إلا أن مالكا رحمه‌الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة كما بينا ، فقال : لا يلزمها رضاعه ، فأخرجها من الآية ، وخصصها بأصل من أصول الفقه ، وهو العمل بالعادة : وهو ما كان عليه عرب الجاهلية ، فجاء الإسلام ولم يغيره ، واستمر ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمّهات للمتعة ، بدفع الرّضعاء للمراضع إلى زمن مالك فقال به ، وكذا إلى زماننا (١).

وجاء الأمر الإلهي بإرضاع الأمهات أولادهن على مقتضى الفطرة ، فأفضل

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ١٧٢

٣٦٦

اللبن للولد لبن أمه باتفاق الأطباء ، ولبن المرضع يؤثر في جسم الطفل وفي أخلاقه وسجاياه ، ولذلك يحتاط في انتقاء المراضع ، ويجتنب استرضاع المريضة ، والفاسدة الأخلاق والآداب (١).

عدة المتوفى عنها زوجها

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤))

الإعراب :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ..) الذين : مبتدأ ، وفي الخبر أربعة أوجه :

الأول ـ أن يكون خبره مقدرا ، وتقديره : فيما يتلى عليكم الذين ، مثل (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أي فيما يتلى عليكم.

الثاني ـ أن يكون خبره : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) على تقدير : يتربصن بعدهم بأنفسهن ، فحذف «بعدهم» للعلم به ، لأن الجملة إذا وقعت خبرا للمبتدأ ، فلا بد من أن يعود منها عائد إليه.

الثالث ـ أن يكون التقدير : فأزواجهن يتربصن ، والجملة من المبتدأ أو الخبر : خبر (الَّذِينَ).

الرابع ـ أن يكون الخبر : (يَتَرَبَّصْنَ) ، على أن يكون التقدير : وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن.

المفردات اللغوية :

(يُتَوَفَّوْنَ) يموتون بأن يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم ، قال الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) [الزمر ٣٩ / ٤٢] فإذا حذف الفاعل أسند الفعل إلى المفعول (وَيَذَرُونَ) : ويتركون

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠

٣٦٧

(أَزْواجاً) يطلق الزوج على الذكر والأنثى ، كما قال تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ يَتَرَبَّصْنَ) أي ليتربصن أي لينتظرن (بِأَنْفُسِهِنَ) بعدهم عن الزواج (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) من الليالي ، وهذا في غير الحوامل ، أما الحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق (٤). (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي أتممن عدتهن وانتهت مدة تربصهن وانتظارهن. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأولياء (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من التزين والتعرض للخطاب. (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا (خَبِيرٌ) عالم بباطن العمل وظاهره.

المناسبة :

هذا بيان متصل في أنواع العدة ، فقد ذكر أولا عدة الطلاق بالحيض ، وذكر هنا عدة الوفاة المخالفة لها.

التفسير والبيان :

ذكر الله في هذه الآية حكم الحداد على الأزواج ووجوب العدة على النساء ، عقب بيان أحكام الطلاق والرجعة والإرضاع وواجبات الوالد نحو ولده وزوجته ، وكان بيان عدة الوفاة لئلا يتوهم أنها مثل عدة الطلاق.

والعدة : هي المدة التي تمكث فيها المرأة في بيت الزوجية دون زواج ولا خروج من المنزل إلا لعذر شرعي للتعرف على براءة الرحم أو للحداد على الزوج. وعدة المطلقة : ثلاثة قروء ، وعدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل أربعة أشهر وعشرة أيام ، أما الحامل فعدتها بوضع الحمل ، ولو بعد الوفاة بساعة. ولا حداد على غير الزوج من أخ أو أب أو قريب أكثر من ثلاثة أيام.

ولا فرق في حال الوفاة بين الصغيرة والكبيرة ، والمدخول بها وغير المدخول بها ، لأن العدة في الأصل للحداد ، وبراءة الرحم تبعا.

وقد بدأ الله تعالى بذكر الرجال الذين يتوفون ، وترك الخبر عنهم إلى الإخبار عن أزواجهم ، ليبين صلة العدة بالرجل ، ومعنى الآية : إن زوجات

٣٦٨

الذين يموتون : عدتهن أربعة أشهر وعشرة أيام ، قال الزمخشري : وقيل : عشرا ، ذهابا إلى الليالي ، والأيام داخلة معها.

فلا يحل لهن فيها الخطبة والزواج والخروج من المنزل إلا لعذر شرعي. وهذا الحكم لغير الحوامل ، أما الحامل التي يموت زوجها فتنقضي عدتها بوضع الحمل ، ولو بعد الموت بساعة ، عملا بآية الطلاق السابق الإشارة إليها ، وبما روى أبو داود من حديث سبيعة الأسلمية أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أفتاها بأنها حلت حين وضعت حملها ، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر.

ما تمتنع منه المعتدة :

اختلف العلماء في الذي يتربص عنه هذه المدة ، فقال بعضهم : يتربصن عن النكاح والطيب والزينة والنقلة من المسكن الذي يسكنه في حياة أزواجهن ، وأدلتهم من السنة الصحيحة كثيرة ، منها : ما رواه الشيخان عن زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة حين توفي أبو سفيان (والدها) فدعت بطيب فيه صفرة ـ خلوق وغيره ، فدهنت منه جارية ، ثم مست بعارضيها ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة ، غير أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر يقول : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا».

وقالت زينب : سمعت أمّي أمّ سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفي زوجها ، وقد اشتكت عينها ، أفنكحلها؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ، مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول : «لا ، ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر».

والكحل الذي منعه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو كحل الزينة ، لا كحل التداوي بدليل

٣٦٩

حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار».

وقال بعضهم : إنما عدة المتوفى عنها زوجها أن تتربص بنفسها عن الأزواج خاصة ، فأما عن الطيب والزينة والنقلة من المنزل ، فلم تنه عن ذلك. واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت : «لما أصيب جعفر ، قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تسلّبي (١) ثلاثا ، ثم اصنعي ما شئت» ويرد عليهم بأنه يحتمل أن يكون أمرها بالتسلب ثلاثا ، ثم لبس ما شاءت من الثياب التي يجوز للمعتدة لبسها ، مما لم يكن زينة ، ولا تطيبا ، لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ، ولا ثياب تسلب.

وتقدير المدة بأربعة أشهر وعشر أمر تعبدي ، لا يبحث عن حكمته ، فهو كأعداد الركعات ومقادير الزكوات.

والحكمة في هذه العدة : استبراء الرحم من ماء الزوج المتوفى ، فيمنع نكاح المعتدة حتى تمضي مدة تتبين فيها : أهي حامل ، فيلحق ولدها بالزوج المتوفى؟ أم حائل (غير حامل) فإذا تزوجت وولدت لحق الولد بالزوج الثاني. ومنعت الطيب والزينة ، لأنهما من دواعي الزواج ، وذريعة إليه. ومنعت الخروج من البيت الذي كانت تسكنه لأن هذه الرقابة أدعى إلى الصيانة. ومنع عقد الزواج عليها وخطبتها صراحة في العدة ، لأن ذلك ذريعة ، ورخص في التعريض بالخطبة لمعتدة الوفاة.

أما في الجاهلية فكانت المرأة تحد على زوجها سنة كاملة لا تمس طيبا ولا زينة ، ولا تبدو للناس في مجتمعهم.

__________________

(١) تسلّبي : البسي ثياب الحداد السواد ، وهي السّلاب على وزن كتاب.

٣٧٠

ثم أبان الله تعالى ما يباح بعد انتهاء العدة بقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ..)(١) فخاطب الأولياء بأنه إذا أتممن عدتهن ، فلا إثم عليكم أيها الأولياء وجميع الناس فيما فعلن في أنفسهن ما كان محظورا عليهن قبل ذلك من التزوج فما دونه من التزين ، والتعرض للخطاب ، واختيار الأزواج وتقدير الصداق ، والخروج من البيت على الوجه المعروف شرعا وعرفا : وهو ما أذن الله لهن فيه ، والله بما تعملون خبير ، فهو محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها ، ويعلم من يعضل النساء فيجازيه ، ويعلم من يحسن توجيه النساء نحو التزام حدود الشرع ، أو يتساهل ويفرط في حقوق الله ، فإن جعلتم نساءكم تسير على نهج الشرع سعدتم ، وإن فرطتم وانحرفتم عن حدود الله وقعتم في الشقاء والعذاب.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها ، وظاهرها العموم ، ومعناها الخصوص فهي مخصوصة بغير الحوامل ، لقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق ٦٥ / ٤].

وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) [البقرة ٢ / ٢٤٠]. لأن الناس كانوا في مبدأ الإسلام إذا توفي الرجل وخلّف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة ، وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج ، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر ، وبالميراث.

__________________

(١) بلوغ أجلهن : هو انقضاء المدة المضروبة في التربص ، والمخاطبون بعليكم : الأولياء أو الأئمة والحكام والعلماء ، إذ هم المرجع.

٣٧١

وعدة الحامل المتوفى عنها زوجها : وضع حملها عند جمهور العلماء. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين. لكن روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا. وحجتهما الجمع بين قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وبين قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). لأنها إذا قعدت أقصى الأجلين ، فقد عملت بمقتضى الآيتين ، وإن اعتدت بوضع الحمل ، فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة ، والجمع أولى من الترجيح باتفاق علماء الأصول ما عدا الحنفية الذين يقدمون الترجيح على الجمع. ويرد على هذا الاتجاه

بحديث سبيعة الأسلمية في الصحيح ، كما تقدم ، وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأباح لها أن تتزوج. قال الزهري : ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت ، وإن كانت في دمها ، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر ، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء.

واتفق العلماء على أن عدة الحامل المطلقة تنتهي بوضع الحمل.

وليس لمعتدة الوفاة نفقة في رأي الجمهور ، لانتهاء الزوجية بالموت ، وأوجب لها المالكية السكنى مدة العدة إذا كان المسكن مملوكا للزوج ، أو مستأجرا ودفع أجرته قبل الوفاة ، وإلا فلا ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام للفريعة : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله». وأجمع أهل العلم على وجوب نفقة الحامل المطلقة ثلاثا أو الرجعية ، لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ ، فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق ٦٥ / ٦].

وعلى المرأة في رأي مالك إذا أتاها نعي زوجها ، وهي في بيت غير بيت زوجها ، الرجوع إلى مسكنه. وقال سعيد بن المسيب والنخعي : تعتد حيث أتاها الخبر حتى تنقضي العدة.

٣٧٢

والإحداد : ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيّب والحليّ والكحل والخضاب بالحنّاء ما دامت في عدتها ، لأن الزينة داعية إلى الأزواج. فنهيت عنها سدا للذرائع ، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك.

والحداد على القريب ثلاثة أيام فقط ، وعلى الزوج أربعة أشهر وعشر ، وهو مقصور على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من المنزل إلا لضرورة أو عذر (١) ، روى البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تحدّ امرأة على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب (٢) ، ولا تكتحل ، ولا تمسّ طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار» (٣) وفي حديث أم حبيبة : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» الحديث ، وهو يدل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث ، خلافا للأعراف الفاسدة السائدة اليوم.

وأجاز الحنفية والمالكية (٤) للمتوفى عنها زوجها لا المطلقة أن تخرج من منزل العدة نهارا في حوائجها الضرورية ، لاكتساب ما تنفقه ، لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى ، بل نفقتها عليها ، فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة ، ثم تعود فتبيت في ذلك المنزل ، ولا تخرج بالليل ، لعدم الحاجة إلى الخروج ليلا ، كما لا تخرج لزيارة ولا تجارة ولا تهنئة ولا تعزية.

__________________

(١) قال المالكية : ولا تدخل حماما ولا تكتحل إلا لضرورة ، وتمسح الكحل نهارا (الشرح الصغير : ٢ / ٦٨٦)

(٢) العصب : من برود اليمن ، وهو الذي يصبغ غزل السدي فيه دون اللحمة ، ثم ينسج مصبوغا فيخرج موشيا ، لبقاء بعض ما عصب منه أبيض ولم ينصبغ.

(٣) النّبذة : الشيء اليسير ، والقسط والأظفار : نوعان من البخور ، ونبذة : منصوب على الاستثناء.

(٤) البدائع : ٣ / ٢٠٤ ـ ٢٢٠ ، الشرح الصغير : ٢ / ٦٨٩ ، تفسير القرطبي : ٣ / ١٧٩

٣٧٣

ولا خلاف في أن الخضاب والكحل داخلان في جملة الزينة المنهي عنها ، وأنه لا يجوز لبس الثياب المصبوغة والمعصفرة ، إلا ما صبغ بالسواد فإنه مرخص فيه في المذاهب الأربعة.

وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، واتفقوا على عدم وجوبه على المطلقة طلاقا رجعيا ، لأنها في حكم الزوجة ، لها أن تتزين لزوجها ، ليرغب في إعادتها إلى الزوجية. أما المطلقة طلاقا بائنا فلا يجب عليها الحداد عند الجمهور ، وإنما يستحب فقط ، لأن الزوج أذاها بالطلاق البائن ، فلا تلزم بإظهار الحزن والأسف على فراقه ، واستحباب الحداد لها لئلا تدعو الزينة إلى الفساد. وأوجب الحنفية الحداد على المبتوتة والمطلقة طلاقا بائنا ، لأنه حق الشرع ، ولإظهار التأسف على فوات نعمة الزواج ، كالمتوفى عنها.

وتبدأ العدة في المذاهب الأربعة في الطلاق والوفاة من يوم الموت أو الطلاق. وأجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها ، ثم توفي قبل انقضاء العدة : أن عليها عدة الوفاة وترثه. واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثا في المرض ، فقالت طائفة : وهي مالك والشافعي : تعتد عدة الطلاق ، لأن الله جعل عدة المطلقات الأقراء. وقال أبو حنيفة ومحمد : عليها أربعة أشهر وعشر ، تستكمل في ذلك ثلاث حيض.

وتلزم عدة الوفاة الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة ، والتي لم تبلغ المحيض ، والتي حاضت ، واليائسة من المحيض ، والكتابية ، دخل بها أو لم يدخل ، إذا كانت غير حامل ، ومدة العدة كما بينا أربعة أشهر وعشرة أيام ، لعموم الآية : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

وقوله تعالى : (عَشْراً) : سئل أبو العالية : لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر؟ قال : لأن الروح تنفخ فيها.

٣٧٤

وقال الخطابي : قوله (وَعَشْراً) يريد ـ والله أعلم ـ الأيام بلياليها. وذهب أئمة المذاهب الأربعة إلى أن المراد بها الأيام والليالي. قال ابن المنذر : فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول ، وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليال ، كان باطلا ، حتى يمضي اليوم العاشر.

وإنما ورد لفظ العشر مذكرا ، فلأن المراد به المدة ، في رأي المبرد ، المعنى : وعشر مدد ، كل مدة من يوم وليلة. والمراد به الليالي في رأي الزمخشري ، كما تقدم ، فلم يقل «عشرة» تغليبا لحكم الليالي ، إذ الليلة أسبق من اليوم ، والأيام في ضمنها. ثم إن قوله (عَشْراً) أخف في اللفظ.

وفي آية (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ..) دليل على أن للأولياء والحكام منع النساء من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة ، بل إن الأولياء من آباء وإخوة وغيرهم ممن له شأن مؤاخذون ومعاقبون على خروج النساء وتهتكهن وفعلهن غير المعروف شرعا ، فإن ذلك مما يضعف الأمة ، ويهدم الأخلاق.

خطبة المتوفى عنها زوجها تعريضا ووقت العقد

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

٣٧٥

الإعراب :

(عُقْدَةَ النِّكاحِ) منصوب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : ولا تعزموا على عقدة النكاح ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به ، فنصبه ، كقولهم : ضرب زيد البطن والظهر ، أيّ على البطن والظهر. ويجوز نصبه على المصدر بمعنى : تعقدوا عقدة النكاح ، والوجه الأول أولى وأوجه.

البلاغة :

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) عبر بالعزم للمبالغة في تحريم مباشرة الزواج ، فإذا نهي عن العزم ، كان النهي عن فعل الزواج من باب أولى أو أشد نهيا. وقيل : لا تقطعوا عقد عقدة النكاح ، لأن العزم : القطع ، فيكون الكلام صريحا في النهي عن اليأس من الزواج وتحطيم الآمال ، وتدمير الثقة بالنفس وتفويت عقد الزواج.

المفردات اللغوية :

(عَرَّضْتُمْ) لوّحتم ، والتعريض في الكلام : أن تفهم المخاطب المقصود الذي تريد بلفظ لم يوضع له صراحة ، وإنما بالإشارة والتلويح ، ويحتاج فهمه إلى قرينة ، لبعده عن ذهن السامع ، وبعبارة موجزة : هو القول المفهم للمقصود ، وليس بنص فيه.

(خِطْبَةِ النِّساءِ) المتوفى عنهن أزواجهن ، والخطبة : طلب الرجل المرأة للزواج بالوسائل المعروفة بين الناس. والتعريض بخطبة معتدة الوفاة في أثناء العدة : أن يقول الإنسان مثلا : إنك لجميلة ، ومن يجد مثلك ، ورب راغب فيك. (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أضمرتم في النفس قصد النكاح أو العزم عليه بعد انقضاء العدة.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) بالخطبة ولا تصبرون عنهن ، فأباح لكم التعريض (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي زواجا (قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي ما عرف شرعا من التعريض ، فالقول المعروف: ما لا يستحيا منه في المجاهرة كذكر حسن المعاشرة ورحابة الصدر للزوجات ونحو ذلك.

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي عقده ، والعزم : التصميم على تنفيذه (الْكِتابُ) أي المكتوب المفروض من العدة (أَجَلَهُ) أي نهايته.

(ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم وغيره (فَاحْذَرُوهُ) أن يعاقبكم إذا عزمتم (غَفُورٌ) لمن يحذره (حَلِيمٌ) بتأخير العقوبة عن مستحقها.

٣٧٦

التفسير والبيان :

لا يزال الكلام في أحكام النساء ، ففي الآيات السابقة بيان أحكام الطلاق والرجعة والإرضاع وحقوق الزوجات والأولاد ، وواجبات الأب من نفقة وسكنى وكسوة ، ووجوب العدة والحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها ، وفي هذه الآية توضيح جواز خطبة معتدة الوفاة في العدة تلميحا لا تصريحا ، وصحة إبرام العقد عليها بعد انقضاء العدة. فأبان الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرّض بالخطبة للمرأة المتوفى عنها زوجها أو لوليها ، ومثلها المطلقة طلاقا بائنا ، في أثناء العدة ، أو يضمر في نفسه قصد زواجه بها ، لأن التعريض لا يمس حق الزوج السابق ، وربما كان فيه نوع من الإيحاء بالثقة والطمأنينة على أوضاع المستقبل ، حيث تصبح المرأة لا عائل لها ، ولأن إضمار شيء في النفس أمر طبيعي يشق الاحتراز عنه ، لذا قال الله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) في أنفسكم ، ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم ، ولا ضرر ولا خطر في قصد شيء بالنفس. ولكن يحرم المواعدة على الزواج في السر ، لأن في المواعدة مدرجة للفتنة ، ومظنة للقيل والقال ، ولا تحرم المواعدة بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر ، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات ونحو ذلك ، فيكون المراد بالقول المعروف : هو التعريض لا التصريح ، أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض.

والمراد بالسر في الأصل : هو الوطء ، ويقصد به هنا عقد الزواج في العدة سرا ، فأطلق على العقد الذي هو سبب الوطء ، وقيل كما اختار الطبري : المراد به هنا هو الزنى ، أو القول لها : إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري. قال ابن كثير : وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك.

والتعريض بالخطبة للمعتدة بسبب الوفاة أو لوليها في العدة : كأن يقول : إنك لجميلة ، أو عسى أن ييسر الله لي امرأة صالحة بنت حلال مثلك ، حتى تدخر

٣٧٧

نفسها له ، أو يمتدح نفسه أمامها فيقول : إني حسن الخلق ، كريم الأصل ، سخي النفس ، جميل العشرة ، محسن إلى الزوجة ، ونحو ذلك من الكنايات التي يستعملها الناس ، ويتفننون فيها بأنواع من الذكاء وحسن الدهاء في كل عصر. وفائدة ذلك ظاهرة : هي أن تختار من الخطّاب من هو الأفضل والأكرم.

أما خطبة المعتدة من طلاق رجعي تلميحا أو تصريحا فحرام ، لأنها لا تزال في عصمة زوجها ، ما دامت في العدة.

وأما التصريح بخطبة المعتدة من وفاة أو طلاق بائن فحرام أيضا. ودليل جواز التعريض : ما أخرج الطبري عن سكينة بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت : دخل علي أبو جعفر : محمد بن علي الباقر ، وأنا في عدتي ، فقال : يا ابنة حنظلة ، أنا من علمت قرابتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحق جدي علي ، وقدمي في الإسلام ، فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ، أتخطبني في عدتي ، وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : أو قد فعلت؟ إنما أخبرتك بقرابتي برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وموضعي ، قد دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أم سلمة ، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة ، فتوفي عنها ، فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر لها منزلته من الله ، وهو متحامل على يده ، حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده ، فما كانت تلك خطبة.

فالقول المعروف غير المنكر شرعا : وهو القول العفّ والإشارة الخفيفة والكلام اللطيف غير الجارح الذي يدخل في التعريض هو الجائز ، كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أم سلمة بعد وفاة زوجها ، حيث ذكر لها منزلته عند الله تعالى.

ثم ذكر سبحانه وقت إباحة عقد الزواج على المعتدة : وهو ما بعد انقضاء العدة ، ونهى نهيا شديدا عنه قبل ذلك ، فقال : ولا تصمموا على إبرام الزواج

٣٧٨

الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهي عدتها من زوجها السابق : وهي أربعة أشهر وعشرة أيام.

وحذر الله تعالى من تجاوز هذا الحد ، فقال : اعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز ، فاحذروا التجاوز من قول أو فعل على ما منع الله ، وفي هذا التحذير قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا ، لتأكيد المحافظة عليها.

ومع هذا اعلموا أن الله غفور لمن تعدى حدود الله وفرط بارتكاب الذنب ثم تاب وأصلح ، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة ، بل يمهل عباده ليصلحوا أعمالهم ، فلا تغتروا بإمهاله.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ يحرم التصريح بالخطبة للمعتدة أيا كانت عدتها ، فلا يجوز بالإجماع (١) الكلام مع المعتدة في أمر الزواج سرا ، أو التواعد معهن عليه ، لكن يجوز التعريض بالخطبة لمعتدة الوفاة والمطلقة طلاقا بائنا ، تمهيدا للمشاورة والتفكير بالموافقة على مبدأ الزواج الجديد في المستقبل. ولا يجوز إجماعا التعريض لخطبة الرجعية ، لأنها كالزوجة.

قال سحنون وكثير من العلماء : والهدية إلى المعتدة جائزة ، وهي من التعريض.

٢ ـ يحرم شرعا إبرام عقد الزواج على أية معتدة في العدة ، لقوله تعالى :

__________________

(١) الإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج ولا التنبيه عليه ولا الرفث وذكر الجماع والتحريض عليه (البحر المحيط : ٢ / ٢٢٥).

٣٧٩

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) وهذا من المحكم المجمع على تأويله : أن بلوغ أجله : انقضاء العدة ، مراعاة لحقوق الزوجية والتعرف على براءة الرحم من الحمل لئلا تختلط الأنساب.

٣ ـ استدل الشافعية بهذه الآية على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد ، وقالوا : لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح ، دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد ، لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح قائما مقام التصريح. ورد عليهم بأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة ، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح ، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف ، والأعراض يجب صيانتها ، وذلك يوجب حد المعرّض ، لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح ، ويلزم على قول الشافعية : أن التعريض بالقذف جائز مباح ، كما أبيح التعريض بالخطبة بالنكاح (١).

٤ ـ اختلف العلماء في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا ، أو يواعدها ويعقد بعد العدة : فقال مالك في رواية أشهب وابن القاسم : إنه يفرّق بينهما إيجابا. وقال الشافعي : إن صرّح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح ، حتى تنقضي العدة ، فالنكاح ثابت ، والتصريح لهما مكروه ، لأن النكاح حادث بعد الخطبة.

٥ ـ إذا عقد على المعتدة في العدة ، وبنى بها ، فسخ الحاكم النكاح ، لنهي الله عنه ، وتأبد تحريمها عليه ، فلا يحل نكاحها أبدا عند مالك والشعبي ، وبه قضى عمر رضي‌الله‌عنه قائلا : «ثم لا يجتمعان أبدا» ، لأنه استحل ما لا يحل ، فعوقب بحرمانه ، كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ١٩٠ ، أحكام القرآن للجصاص الرازي : ١ / ٤٢٢

٣٨٠