التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

المشروع مرتان ، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع ، أي ليس مشروعا كون الطلاق كله دفعة واحدة.

ورأى مالك أن معناه : الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان ، فتكون الآية مرتبطة بما قبلها ، فالله لما ذكر أن بعولتهن أحق بردهن ، أراد أن يبين الطلاق الذي فيه الرجعة.

وذهب أبو حنيفة إلى أن معناه : الطلاق الجائز مرتان.

وأما حديث ابن عباس الذي رواه أحمد ومسلم من طريق طاوس فهو كما قال : «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم».

أما أئمة المذاهب الأربعة فأوّلوا الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات ، بأن يقول الرجل : «أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق» فيلزمه واحدة إذا قصد التوكيد ، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع ، وكان مسلمو الصدر الأول يصدقون في إرادة التوكيد ، لورعهم وتقواهم ، ثم تبدل الحال ، فصار الغالب عليهم قصد الثلاث ، بدليل قول عمر : «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة» وهذا الحكم إنما هو في القضاء ، أما في الديانة فيعمل كل واحد بنيته.

وأما الإمامية وموافقوهم فقالوا : يجب العود إلى سنة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وترك اجتهاد عمر ، لأن إمضاء الثلاث إبطال للرخصة الشرعية والرفق المشار إليه بقوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق ٦٥ / ١].

وبالرغم مما أراه وهو رجحان مذهب الجمهور ، لا أجد مانعا من الأخذ برأي ابن تيمية ومن وافقه ، لأن الطلاق هدم للأسرة ، وتعريض لضياع الأولاد ، وهو

٣٤١

كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر ـ : «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» والشريعة أجازته لدفع ضرر أشد ، وتحصيل مصلحة أكثر ، ولا يلجأ إليه إلا للضرورة القصوى ، والله شرع الطلاق مرتين متفرقتين في طهرين كما أرشدت إليه السنة ، لا مجتمعتين ، فإن شاء أمسك ، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق. وفي هذا تيسير على الناس ، وبخاصة أنهم يقصدون غالبا بالطلاق التهديد والزجر ، لا الحقيقة والوقوع الفعلي ، ثم إن الفرقة تحدث بطلقة واحدة ، فيكون ما يتلوها مؤكدا لها.

٢ ـ الخلع :

نهى الله تعالى الأزواج أن يأخذوا شيئا من أزواجهم على وجه المضارّة ، إذا طلقوهن وكان مما آتوهن ، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهن ، لأن العرف بين الناس : أن يطلب الرجل عند وقوع النزاع ما قدم من صداق وجهاز.

ولكن إذا بذلت الزوجة الفدية على الطلاق ، جاز الأخذ في رأي الجمهور إذا كان النشوز من قبلها. وذهب بعضهم (داود الظاهري) إلى أن الذي يبيح أخذ الفداء هو خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا ، لكراهة كل منهما صحبة الآخر. والظاهر الرأي الأول وهو أن نشوزها وسوء عشرتها لزوجها كاف في جواز أخذ الفداء ، وإن كان ظاهر الآية يؤيد رأي غير الجمهور.

وعليه ، فإن الخلع جائز عند أكثر الأئمة ، سواء أكان في حالة الخوف أم في غير حالة الخوف ، بدليل قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ، فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء ٤ / ٤].

وذهب الجمهور : إلى أنه يجوز الخلع بأزيد مما أعطاها ، لأنه عقد معاوضة يوجب ألا يتقيد بمقدار معين ، لكن يكره عند الحنفية ، ولا يستحب عند غيرهم أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، لقصة امرأة ثابت بن قيس المتقدمة ، التي قال

٣٤٢

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها : «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت : نعم وزيادة ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما الزيادة فلا».

ومنع الشعبي والزهري والحسن البصري الخلع بأكثر مما أعطاها ، لقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي مما آتيتموهن. وأخذ الجمهور بإطلاق هذه الآية.

وأجاز الجمهور غير الشافعي الخلع على غرر (أمر محتمل) أو معدوم ينتظر وجوده ، كثمرة لم يبد صلاحها ، وجمل شارد ، وجنين في بطن أمه ، أو نحو ذلك من وجوه الغرر ، بخلاف البيوع والزواج ، وله المطالبة بذلك كله ، فإن سلم كان له ، وإن لم يسلم فلا شيء له ، والطلاق نافذ على حكمه.

وقال الشافعي : الخلع جائز وله مهر مثلها. وقال أبو ثور : الخلع باطل.

وهل الخلع طلاق أو فسخ؟

ذهب الجمهور (الحنفية والمالكية ، والشافعية على الراجح) : إلى أن الخلع طلاق لا فسخ يقع به طلقة بائنة ، لقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وإنما يكون فداء إذا خرجت المرأة من سلطان الرجل ، ولو لم يكن بائنا لملك الرجل الرجعة ، وكانت تحت حكمه وقبضته ، ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة ، فلو جازت الرجعة لعاد الضرر.

أما كونه طلاقا : فلأنه لو كان فسخا لما جاز بأكثر من المهر ، كالإقالة في البيع ، مع أنه يجوز بالأكثر ، وإذا بطل كونه فسخا ، تعين كونه طلاقا.

واستدلوا أيضا بما ورد عن ابن عباس في امرأة ثابت بن قيس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : اقبل الحديقة ، وطلقها طلقة واحدة» (١).

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ البخاري ، وأبو داود والنسائي.

٣٤٣

والمعتمد لدى الحنابلة التفصيل : وهو أن الخلع طلاق بائن ، إن وقع بلفظ الخلع والمفاداة ونحوهما ، أو بكنايات الطلاق ، ونوى به الطلاق ، لأنه كناية نوى بها الطلاق ، فكانت طلاقا.

وهو فسخ لا ينقص به عدد الطلاق إذا لم ينو طلاقا ، بأن يقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة ، ولا ينوي به طلاقا ، فيكون فسخا لا ينقص به عدد الطلاق.

وذهب ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد : إلى أن الخلع فسخ لا طلاق ، لأن الله قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ثم ذكر الخلع ، ثم قال : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) فلو كان طلاقا لكان ذلك يدل على أن للرجل أربع تطليقات. ورد عليهم بأن الله قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ثم بين أنه لا يجوز أخذ مال على الطلاق ، إلا في الحال التي ذكرها الله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما ..) سواء أكان ذلك عند الطلقة الأولى أم الثانية أم الثالثة ، ثم بين الطلقة الثالثة بقوله: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ).

واستدلوا أيضا بما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس «أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه ، جعل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدتها حيضة». ولو كان طلاقا لكانت عدتها ثلاثة قروء كما قال الله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة ٢ / ٢٢٨].

وإذا وقع الخلع على غير عوض ، كان طلاقا بائنا في رواية عن مالك. ووقع خلعا بعوض في الرواية الأخرى عنه ، وفي رأي الحنفية والشافعية والحنابلة ، لأن البدل في ذاته كالمهر لازم في الخلع على كل حال ، بل إنه عند الحنابلة ركن ، فإن خالعها بغير عوض ، صح الخلع ولزم العوض عند الحنفية والشافعية ، ولم يقع خلع ولا طلاق إلا إذا كان بلفظ طلاق ، فيكون طلاقا رجعيا.

٣٤٤

وهل يجبر الرجل على قبول الخلع؟

جميع الفقهاء يرون أنه لا يجبر الرجل على قبول الخلع ، فلا بد فيه من التراضي بين الطرفين ، لقوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [النساء ٤ / ١٩] وقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة ٢ / ٢٢٩] وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا.

وقال ابن رشد : والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق ، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك (أبغض) المرأة ، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل(١).

وأما أهلية الخلع : فكل من يصح طلاقه يصح خلعه ، فيصح الخلع عند الجمهور من البالغ العاقل ، رشيدا أو سفيها. وأجاز الحنابلة : أن يكون مميزا يعقله. أما من لا يصح طلاقه ولا يصح خلعه فهو كالصبي والمجنون والمعتوه ومن اختل عقله لمرض أو كبر سن.

وللرشيدة (٢) أن تخالع عن نفسها في رأي الجمهور ، أما السفيهة فلا تخالع لأنها محجورة. ويصح الخلع من الحاكم ولي غير المكلف من صبي أو مجنون إذا كان في الخلع مصلحة. ولم يجز أبو حنيفة والشافعي وأحمد للأب خلع زوجة ابنه الصغير والمجنون ولا طلاقها. وقال مالك : يخالع الأب على ابنه الصغير وابنته الصغيرة ، لأنه في رأيه يطلّق على الابن ، ويزوج الصغيرة. وأما الطلاق بعد الخلع في العدة : بأن خالع الرجل زوجته ، ثم طلقها ، وهي في العدة ، فيلحقها في رأي الحنفية ، ولا يلزمها في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد).

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ / ٨١

(٢) الرشد عند الحنفية : صلاح المال ولو كان فاسقا ، وعند الشافعية : صلاح الدين والمال ، فلا يكون الفاسق رشيدا.

٣٤٥

٣ ـ نكاح المبتوتة :

وهي المطلقة طلاقا ثلاثا.

لها أن تتزوج بزوج آخر بعد انتهاء العدة من الزوج الأول ، وتحل للزوج الأول إن كان الزواج الثاني قائما على الرغبة والدوام والبقاء لا السفاح ، وحدث طلاق من غير تواطؤ ، وانقضت العدة بعد هذا الطلاق.

واختلف في ذلك النكاح الذي اشترط لحل المطلقة ثلاثا ، فذهب سعيد بن المسيب إلى أنه العقد ، فتحل المطلقة ثلاثا للأول بمجرد العقد على الثاني. وهذا من شذوذاته (١). وذهب سائر العلماء إلى أن المراد به الوطء ، كما بينا : وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل ، ويفسد الصوم والحج ، ويحصن الزوجين ، ويوجب كمال الصداق. واشترط مالك أن يكون الوطء مباحا : بألا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها ، ويكون الزوج بالغا.

واشترط أحمد أيضا أن يكون الوطء حلالا ، وأن يكون الواطئ له اثنا عشر سنة. ولم يشترط أبو حنيفة كون الوطء مباحا ، فيجوز في وقت غير مباح كحيض أو نفاس ، وأجاز كون الواطئ بالغا عاقلا أو صبيا مراهقا أو مجنونا ، لأن وطء الصبي والمجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر والتحريم كوطء البالغ العاقل. واتفق علماء المذاهب الأربعة على أن النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا ، ويشترط أن يكون النكاح صحيحا.

ومنشأ الخلاف بين ابن المسيب والجمهور : أن النكاح ورد في القرآن بمعنى العقد والوطء ، واحتمل أن يكون المراد بقوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) :

__________________

(١) وقال بقوله سعيد بن جبير ، ولعله لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما ، فأخذا بظاهر القرآن : «حتى تنكح زوجا غيره» أي تعقد عليه.

٣٤٦

العقد أو الوطء ، فجاءت السنة وبينت أن المراد به الوطء ، كما قدمنا في الأحاديث.

وقد عرفنا حكم نكاح المحلل ، وهو البطلان في رأي مالك وأحمد والثوري وأهل الظاهر. والكراهة في رأي الحنفية والشافعية ، ما لم يشترط التحليل في العقد.

وإذا عقد الزوج الأول على المطلقة من الثاني ضمن قيود الشريعة عادت إليه بطلقات ثلاث.

وهل يهدم الزواج الثاني مادون الثلاث؟ فيه رأيان :

قال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة ، ومحمد وزفر من الحنفية) : لا يهدم ، أي أن المطلقة مرة واحدة أو مرتين ، ثم تزوجت زوجا آخر ، ثم رجعت إلى زوجها الأول ، تكون على ما بقي من طلاقها ، لأن الوطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول ، فلا يغير حكم الطلاق.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ، والإمامية في أشهر الروايتين : إنه يهدم ، فتعود إلى الزوج الأول بطلاق ثلاث ، كما يهدم ما دون الثلاث ، لأنه إذا هدم الطلقة الثالثة ، فهو أحرى أن يهدم ما دونها ، لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل ، فيثبت حلا يتسع ثلاث تطليقات ، فيتسع لما دونها بالأولى.

وهل على الزوجة خدمة؟

اختلف المالكية ، فقال بعضهم : ليس على الزوجة خدمة ، لأن العقد يتناول الاستمتاع ، لا الخدمة ، فهو ليس بعقد إجارة ، ولا تملّك رقبة ، وإنما هو عقد على الاستمتاع ، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره ، فلا تطالب بأكثر منه ، لقوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ ، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) [النساء ٤ / ٣٤].

٣٤٧

وقال بعضهم : عليها خدمة مثلها ، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوّة أو ترفه ، فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم ، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك ، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقمّ البيت وتطبخ وتغسل ، لقوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة ٢ / ٢٢٨] وهذا الرأي أسلم ، عملا بما جرى عليه عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه ، ألا ترى أن أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك. وقسم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما بينا ـ شؤون المعيشة بين علي وفاطمة ، فجعل لفاطمة شؤون البيت ، ولعلي شؤون الكسب والمعاش خارج البيت.

واجب الرجل في معاملة المطلّقة وولاية التزويج

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

الإعراب :

(ضِراراً) مفعول لأجله. (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا : ظرف زمان ، ويتعلق إما بفعل : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) أو بقوله : (أَنْ يَنْكِحْنَ). والواو في (تَراضَوْا) يراد به الأزواج

٣٤٨

والنساء ، لكن غلب جانب المذكر على جانب المؤنث. وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) جار ومجرور متعلق بفعل (تَراضَوْا) أو بفعل (يَنْكِحْنَ) والأولى الأول ، لأنه أقرب إليه.

(ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) وحد الكاف ، وإن كان الخطاب لجماعة ، لأنه أراد به الجمع ، كأنه قال: أيها الجمع ، والجمع : لفظه مفرد ، ويجوز أن يثنى ويجمع على العدد ، مثل قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ).

البلاغة :

(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) : مجاز مرسل ، أطلق فيه الكل على الأكثر ، لأنه لو انقضت العدّة لما جاز له إمساكها.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) من باب عطف الخاص على العام ، لأن الكتاب والسّنة من أفراد النعمة الإلهية.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) جناس اشتقاق بين (اعْلَمُوا) و (عَلِيمٌ).

(أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) من باب المجاز المرسل ، إذ المراد به المطلقين ، وسمّوا أزواجا باعتبار ما كان.

المفردات اللغوية :

(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) قاربن انقضاء عدتهن ، والأجل يطلق على المدّة كلها وعلى آخرها ، فيقال لعمر الإنسان أجل ، وللموت الذي ينتهي به أجل. والمراد به هنا زمن العدّة. (فَأَمْسِكُوهُنَ) بالمراجعة. (بِمَعْرُوفٍ) من غير ضرر ، والمعروف ما استحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة. (أَوْ سَرِّحُوهُنَ) التسريح : ترك المراجعة حتى تنقضي العدة. (ضِراراً) أي بقصد الإضرار بهنّ. (لِتَعْتَدُوا) عليهن بالإلجاء إلى الافتداء والتطليق وتطويل العدّة. والاعتداء : الظلم. (ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها لعذاب الله. (آياتِ اللهِ) هي أحكام الطلاق والرجعة والخلع ونحوها. (هُزُواً) مهزوءا بها بالإعراض عنها والتهاون في الحفاظ عليها. (نِعْمَتَ اللهِ) الإسلام وسائر نعم الله والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين. (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي ما أنزل الله في القرآن من آيات أحكام الزوجية التي تحقق السعادة في الدارين. (وَالْحِكْمَةِ) السّنة الشريفة ، أو سرّ تشريع الأحكام وما فيها من منافع ومصالح ، وقيل : هي الإصابة في القول والعمل. (يَعِظُكُمْ بِهِ) بأن تشكروها بالعمل به.

(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) البلوغ : الانتهاء ، والأجل هنا آخر مدّة العدّة ، فهو على الحقيقة

٣٤٩

لاقربها ، كما في الآية السابقة ، لأن إمكان المراجعة لا يتأتى إلا في العدّة ، قال الشافعي : دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين. (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) الخطاب للأولياء ، أي لا تمنعوهنّ من نكاح أزواجهنّ المطلقين لهنّ. والعضل : الحبس والتضييق والمنع. (إِذا تَراضَوْا) أي الأزواج والنساء. (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا. (ذلِكَ) النهي عن العضل. (يُوعَظُ بِهِ) العظة : النّصح والتذكير بالخير ، وكان مقتضى الظاهر : أن يقال : «ذلكم يوعظ به» ، لأنه يخاطب جماعة ، وإنما قال : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) لكثرة تردده على ألسنة العرب في كلامها. (أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أفضل وأطيب ، من الزكاء : وهو النماء والبركة والخير ، ومن الطّهر : وهو الطيب والنقاء. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في ذلك من المصلحة والزكاء والطّهر. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، فاتبعوا أمره.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٣١):

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : كان الرجل يطلق امرأته ، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها ، ثم يطلقها ، يفعل ذلك ، يضارّها ويعضلها ، فأنزل الله هذه الآية.

وأخرج الطبري عن السّدّي قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار ، طلّق امرأته ، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة ، راجعها ، ثم طلّقها مضارّة ، فأنزل الله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)(١).

وقوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) أخرج ابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه عن أبي الدرداء ، قال : كان الرجل يطلّق ، ثم يقول : لعبت ، ويعتق ، ثم يقول : لعبت ، فأنزل الله : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ : الطلاق والنكاح والرّجعة». وقال أيضا : «من طلّق لاعبا ، أو أعتق لاعبا ، فقد جاز عليه».

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢٠٧

٣٥٠

نزول الآية (٢٣٢):

روى البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معقل بن يسار : أنه زوّج أخته رجلا من المسلمين ، فكانت عنده ، ثم طلّقها تطليقة ، ولم يراجعها ، حتى انقضت العدّة ، فهويها وهويته ، فخطبها مع الخطّاب ، فقال له : يا لكع (١) ، أكرمتك بها ، وزوجتكها ، فطلقتها؟! والله لا ترجع إليك أبدا ، فعلم الله حاجته إليها ، وحاجتها إليه ، فأنزل الله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) إلى قوله : (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، فلما سمعها معقل ، قال : سمعا لربّي وطاعة ، ثم دعاه ، وقال: أزواجك ، وأكرمك ، فزوجها إياه.

التفسير والبيان :

إذا طلقتم النساء ، وقار بن إتمام العدّة ، فعليكم أحد أمرين : إما إمساك المرأة بالمعروف (أي بالمراجعة دون إيذاء) ، أو إخلاء سبيلها بالمعروف (أي الخلو من إلحاق ضرر بها). وفسّر بلوغ الأجل بقرب إتمام العدّة ، لأن العدّة إذا انقضت لا تجوز مراجعتها ، فهذا المعنى مضطر إليه ، أما بلوغ الأجل في الآية التالية فهو الانتهاء ، لأن المعنى يقتضي ذلك ، فهو حقيقة في الثانية ، مجاز في الأولى.

ثم أكّد منع الضرر ، فقال : ولا تراجعوهنّ بقصد إلحاق الضرر بهنّ وإيذائهنّ بالحبس وتطويل العدّة ، حتى يضطرن إلى الفدية ودفع المال لكم ، فهذا اعتداء عليهن ، ومن يفعل هذا الفعل الممنوع وهو الإمساك على سبيل الضرار والعدوان ، فقد ظلم نفسه في الدنيا بإقلاق ضميره وفتح باب الشّر والعداء مع أسرة المرأة ، وفي الآخرة بتعريض نفسه لعذاب الله وغضبه ، بسبب تسلطه على الضعفاء ، واستغلاله حاجة المرأة إلى الخلاص منه.

__________________

(١) أي يا لئيم.

٣٥١

ولا تتهاونوا في امتثال أوامر الله تعالى ، والتزام حدوده التي شرعها لكم ، فإن تهاونتم وقصرتم كنتم كمن يستهزئ بالله وأمره. وفي هذا وعيد شديد لمن يتجاوز الحدود الشرعية ، وفيه حثّ للمؤمن على احترام صلة الزوجية ، والبعد عن أفعال الجاهلية.

واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وسائر نعمه ، ومنها جعل الرحمة والمودة بين الزوجين ، كما قال الله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم ٣٠ / ٢١].

واذكروا ما أنزل الله عليكم في القرآن والسّنة النّبوية من أحكام وحكم تشريعيّة ، لتوفير استقرار الحياة الزوجية ، وتحقيق السعادة والهناءة وغير ذلك ، مما فيه مصلحة ومنفعة ، إذ أن الأحكام تضع أصول النظام ، وأسرار الحكمة التشريعية تساعد على الامتثال والاتّعاظ والاقتناع.

ثم وثّق الحقّ سبحانه وتعالى الأحكام التشريعية في الزواج بما يبعث على احترامها ، وهو التقوى أي خوف الله ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وترك احتقار المرأة وعدم المبالاة برابطة الزوجية المقدسة ، خلافا لما كان عليه العرب في الجاهلية من الاستهانة بالمرأة ، واتّخاذها مجرد متاع ، وتطليقها لأتفه الأسباب ، ومضارّتها بالمراجعة ، وجعلها كالمعلّقة ، وهذا ما يفعله الجهّال والطّائشون اليوم.

واعلموا أن الله يعلم بكلّ شيء وبما عملتم من تعدي حدوده وتضييع أوامره ، فيجازيكم على ما عملتم ، فهو تعالى لا يرضى إلا باتّباع أحكامه ، مع الإخلاص له في السّر والعلن.

وإذا طلقتم النساء معشر المؤمنين ، وانقضت عدّتهن تماما ، فلا يجوز لكم أيها الأولياء أن تمنعوهنّ من العودة إلى الزواج بالزوج السابق بعد الطلقتين الأولى والثانية ، ولا يجوز لكم أيها الأزواج أيضا أن تمنعوهنّ بما لكم من النفوذ من الزواج

٣٥٢

بزوج آخر بعد الطّلقة الثالثة وانقضاء العدّة ، إذا حصل التّراضي بين المرأة والخاطب لها ، وكان الخاطب كفؤا ، وبمهر المثل ، ولم يكن هناك محظور شرعي. وعلى الأمة أيضا ممثلة بوجهائها وعلمائها وحكامها وعقلائها أن تكون متكافلة متضامنة في تحقيق المصلحة العامة ، فلا تمنع المعروف ، ولا تقرّ المنكر ، فتهلك وتتضرّر.

ذلك الذي تقدّم من نهي الأولياء عن عضل النساء وأحكام التشريع ، يوعظ به أهل الإيمان بالله واليوم الآخر ، فهم الذين يتقبلونه ، وتخشع له قلوبهم ، امتثالا لأمر ربّهم ، فشأن المؤمن الطاعة والعظة ، وذلك النهي عن ترك العضل أزكى لكم ، وأطهر من أدناس الآثام ، أي أن فيه بركة وصلاحا لمتّبعيه ، وفيه الطّهر بحفظ العرض والشّرف وعدم التّسبّب في الفسوق والفساد وانحراف المطلقات ، والنّجاة من التّورّط في الآثام والمحرّمات والذّنوب والسّيّئات.

والله يعلم ما في ذلك من النّفع والصّلاح لكم ، والزّكاة والطّهر وصون السمعة ، فامتثلوا أوامره ، وأنتم لا تعلمون الحقائق وأبعاد المستقبل ، ومخاطر ترك المرأة الأيم أو الثّيب من غير زواج ، إرضاء للأهواء وحظوظ النّفس المريضة غير المتعقّلة ، وإنما التي تتّبع الأوهام أو تناسق مع الأنفة والكبرياء.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيتان على أحكام كثيرة هي ما يأتي :

١ ـ الإمساك بالمعروف : وهو القيام بما يجب للمرأة من حقّ على زوجها ، كالنّفقة ، فإذا لم يجد ما ينفق على الزوجة ، خرج عن حدّ المعروف ، ويطلّقها ، فإن لم يفعل طلّق عليه الحاكم من أجل الضّرر اللاحق بها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها ، والجوع لا صبر عليه ، وهو رأي الجمهور (مالك والشافعي

٣٥٣

وأحمد) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح البخاري : «تقول المرأة : إما أن تطعمني ، وإما أن تطلّقني».

وقال الحنفية : لا يفرّق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلّق النفقة بذمته بحكم الحاكم ، لقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة ٢ / ٢٨٠].

٢ ـ التّسريح بإحسان : أي الطّلاق بدون إضرار لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) [البقرة ٢ / ٢٣١] ، والتّسريح يحتمل لفظه معنيين : أحدهما : تركها حتى تتمّ العدّة من الطلقة الثانية ، وتكون أملك لنفسها. وهذا قول السّدّي والضّحاك. والمعنى الآخر : أن يطلّقها ثالثة فيسرحها ، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما ، وهو أصحّ لوجوه ثلاثة ذكرها القرطبي(١):

أحدها ـ ما رواه الدار قطني عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، قال الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فلم صار ثلاثا؟ قال : «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» وفي رواية هي الثالثة.

الثاني ـ أن التّسريح من ألفاظ الطّلاق.

الثالث ـ أن فعّل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية ، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل. قال ابن عبد البرّ : وأجمع العلماء على أن قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هي الطّلقة الثالثة بعد الطّلقتين ، وإياها عنى بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة ٢ / ٢٣٠].

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ١٢٧

٣٥٤

٣ ـ يحرم الاستهزاء بالأحكام الشرعية : لأنه تعالى قال : لا تأخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو ، فإنها جدّ كلها ، فمن هزل فيها لزمته. ومن الهزء : الاستغفار من الذّنب قولا مع الإصرار فعلا.

٤ ـ من طلّق هازلا يلزمه الطّلاق بالإجماع ، لما روى أبو داود عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاث جدّهن جدّ ، وهزلهن جدّ : النكاح ، والطّلاق ، والرّجعة». وقال علي وابن مسعود وأبو الدرداء : «ثلاث لا لعب فيهنّ ، واللاعب فيهنّ جادّ : النّكاح ، والطّلاق ، والعتاق».

٥ ـ شكر النعمة : أمر الله تعالى بتذكر نعمه علينا من الإسلام وبيان الأحكام ، وتشريع الأنظمة ، وتبيان القرآن بالحكمة أي الأسرار التشريعية والسّنة النّبوية. كل ذلك للتخويف وإعداد النفس للتقوى ، لأن الله عليم بكل شيء ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

نهي أولياء المرأة عن أن يعضلوها : أي يمنعوها حقّ الزواج إذا خطبها الكفء ، وتراضت المرأة والخاطب لها.

٧ ـ لا يجوز النّكاح بغير ولي : دلّت الآية على أنه لا يجوز النّكاح بغير ولي ، بدليل سبب النزول في أخت معقل ، فقد كانت ثيّبا ، ولو كان الأمر إليها دون وليّها لزوّجت نفسها ، ولم تحتج إلى وليّها : معقل ، فالخطاب إذن في قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) للأولياء ، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهنّ ، ولأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بدون رضا وليّها ، ولم يكن للولي شأن لما كان معنى لنهي الأولياء عن أن يعضلوا النساء. وهذا رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد).

وقال الحنفية : للمرأة أن تزوّج نفسها ، لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها ، كما قال : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ولم يذكر الولي ، ولأن الخطاب في آية

٣٥٥

(فَلا تَعْضُلُوهُنَ) للأزواج ، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارّة عضلا عن نكاح الغير ، بتطويل العدّة عليها ، ولأن قوله (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ) دليل على أنه لا مانع أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها ، ويتّفق معها على التزوّج بها.

والعضل يكون بعد انتهاء الأجل أي بعد انتهاء العدّة.

ودلّ قوله (بِالْمَعْرُوفِ) على أن العضل من غير الكفء غير محرم. وأجاز بعضهم العضل إذا كان المهر دون مهر المثل. والمدار في الكفاءة على العرف الشرعي السائد ، لا على التقاليد المصطنعة.

٨ ـ الإيمان مدعاة الاتّعاظ : دلّت الآية : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) على أن المؤمن حقّا لا بدّ له أن يتّعظ ، فالذين لا يتّعظون ولا يعملون بأوامر الله ليسوا بمؤمنين ، وإنما آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.

٩ ـ التشريع الإلهي يحمي المصالح الاجتماعية العامة البعيدة الأمد التي لا يتنبه لها الناس أحيانا ، بسبب قصور العقل البشري وعدم قدرته على الاستيعاب ، والاطّلاع على المستقبل.

الاسترضاع بأجر ومدّة الرضاع ونفقة الأولاد وأحكام أخرى

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

٣٥٦

الإعراب :

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) خبر بمعنى الأمر ، أي ليرضعن ، مثل (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ، ومجيء الخبر بمعنى الأمر كثير في العربية. (لِمَنْ أَرادَ) اللام إما متعلّق بيرضعن ، فهو منصوب ، وإما متعلق بمحذوف على أنه مرفوع خبر مبتدأ تقديره : هذا الذي ذكرنا لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) تقديره : وعلى المولود له الولد ، والولد نائب فاعل للمولود. (لا تُضَارَّ) قراءة الفتح على أن يكون (لا) نهيا ، وتضارّ مجزوم بها ، وحرّكت بالفتح لأن الفتحة أخف الحركات ، وقراءة الرفع على أن يكون (لا) نفيا يراد به النهي مثل قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) ويصحّ كون الفعل مبنيّا للمعلوم أو للمجهول. (والِدَةٌ) فاعل تضارّ ، على أن أصله : تضارر بكسر الراء الأولى ، ويقدر مفعول محذوف ، تقديره : لا تضارر والدة بولدها أباه ، ولا يضارر مولود له بولده أمّه.

(أَوْلادَكُمْ) أي لأولادكم ، فحذف حرف الجرّ ، فاتّصل الفعل بالاسم ، فنصبه. (ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) آتى : يتعدى إلى مفعولين ، لأنه بمنزلة أعطى ، وتقديره : آتيتموه المرأة ، أي أعطيتموه المرأة.

البلاغة :

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) خبر بمعنى الأمر للمبالغة في الحمل على تحقيقه ، أي ليرضعن ، كما بيّنا.

(أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) فيه إيجاز بالحذف ، أي تسترضعوا المراضع لأولادكم ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والغيبة في قوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) والالتفات لتحريك مشاعر الآباء نحو الأبناء.

المفردات اللغوية :

(يُرْضِعْنَ) أي ليرضعن. (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) الحول : العام أو السنة. وكاملين : صفة مؤكّدة. (الْمَوْلُودِ لَهُ) هو الأب الوالد. (رِزْقُهُنَ) إطعام الوالدات. (وَكِسْوَتُهُنَ) على الإرضاع إذا كنّ مطلّقات. (بِالْمَعْرُوفِ) بقدر طاقته. (وُسْعَها) طاقتها ، وهي آخر درجات القدرة ، وما بعدها العجز. والتكليف : الإلزام. (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) بسببه بأن تكره على

٣٥٧

إرضاعه إذا امتنعت. (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي بسببه بأن يكلّف فوق طاقته. وإضافة الولد إلى كلّ منهما في الموضعين للاستعطاف. والمضارّة : تقتضي المشاركة أي مشاركة كلّ من الوالدين للآخر في الضّرر. وهذا يدلّ على أن الإضرار بالآخر إضرار بنفسه ، وينعكس أثر المضارّة على الولد. (وَعَلَى الْوارِثِ) وارث الأب وهو الصّبي مثل ذلك ، أي على الولد في ماله للوالدة من الرزق (النفقة) والكسوة وعدم الإضرار بها مثل الذي على الأب للوالدة ، إن كان له مال ، أي إن نفقة إرضاعه تكون من ماله إن كان له مال ، وإلا فهي على عصبته. وقال بعضهم : إن المراد بالوارث : هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه ، وهو قريبه إذا مات ، فتؤخذ النفقة ممن يرث الطفل إذا لم يكن له مال ، لو مات. واللفظ يحتمل المعنيين ، والأول : اختيار الطبري والزمخشري وغيرهما ، وهو معطوف على قوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وما بينهما تفسير للمعروف ، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه ، ويكون المعنى : وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة ، أي إن مات المولود له ، لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بشرط المعروف وتجنّب الضّرار.

(فَإِنْ أَرادا) أي الوالدان. (فِصالاً) فطاما له قبل الحولين ، وسمّي بذلك ، لأنه يفصل الولد من أمه ، ويفصلها منه ، فيكون مستقلا في غذائه دونها. (عَنْ تَراضٍ) اتّفاق بينهما.

(وَتَشاوُرٍ) بينهما فيما يحقق مصلحة الصبي. والتشاور والمشاورة والمشورة : استخراج الرأي من المستشارين. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي لا حرج. (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) تتخذوا مراضع غير الوالدات. (ما آتَيْتُمْ) سلمتم إليهن ما أردتم إيتاءه لهنّ من الأجرة .. (بِالْمَعْرُوفِ) بالجميل كطيب النفس.

المناسبة :

لما ذكر الله أحكام النكاح والطلاق الذي يحصل به الفراق ، ذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح ، لأن المطلّقات قد يكون لهنّ أولاد رضّع ، وربّما ضاعوا بين كراهة الأزواج وعنت المطلّقات ، فربما حرمتهم الرضاع انتقاما من الأبّ ، فأوصى الوالدات بالأولاد ، فجعل مدّة الرّضاع حولين كاملين إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة ، وألزم الآباء بكسوة الوالدات ونفقتهن مدّة الرّضاع بقدر سعتهم أو طاقتهم ، ونهى عن مضارّة أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد ، فترفض الأمّ إرضاعه لتضرّ أباه بتربيته ، أو تبالغ في طلب النفقة والكسوة ، وينتزع الأبّ

٣٥٨

الولد منها إضرارا بها وهي تريد إرضاعه ، أو يكرهها على الإرضاع ، أو يمنعها حقّها في النفقة والكسوة ، كما أنه تعالى نهى الوالدين عن إلحاق الضرر بالولد ، فيحدث تقصير فيما ينبغي له ، وكل ذلك رعاية من الله للصبي ، لأنه عاجز عن نفع نفسه ودفع الضرر عنها.

وعلى هذا تكون الآية في المطلّقات اللاتي لهنّ أولاد من أزواجهنّ ، فهنّ أحقّ برضاع أولادهنّ من الأجنبيّات ، لأنهنّ أحنى وأرقّ ، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها. وسبب كون المراد بالوالدات المطلّقات : أن الله تعالى قال : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) ولو كانت الزوجية قائمة باقية لوجب على الزوج ذلك بالزوجية لا بالولادة ، وأيضا ذكرت هذه الآية عقب آيات الطّلاق.

ورأى بعضهم : أن المراد بالوالدات : كلّ والدة مطلّقة أو زوجة ، أخذا بعموم اللفظ.

التفسير والبيان :

على الوالدات المطلقات ، أو على جميع الوالدات مطلقات أو غير مطلقات أن يرضعن أولادهن مدة سنتين كاملتين دون زيادة عليهما ، إذا أريد إتمام المدة ، ولا مانع من نقص ذلك إذا رئيت المصلحة فيه ، والأمر متروك للاجتهاد والتقدير.

والرضاع مندوب للأم بصفة عامة ، لأن لبنها أفضل لبن باتفاق الأطباء ، وقد يجب إذا امتنع الطفل من الرضاع من غيرها ، أو لم يجد الوالد مرضعة لفقر أو غيره. ورغبة بعض النسوة عن الإرضاع ترفعا أو محافظة على الجمال والصحة مناف لمقتضى الفطرة ، مسيء لمصلحة الولد.

وهل الرضاع حق للوالدة أو واجب عليها؟ فيه اختلاف.

٣٥٩

فقال مالك : الرضاع حق على الوالدة إذا كانت زوجة أو لم يقبل الولد ثدي غيرها ، واستثنى من ذلك الشريفة فلم يجعل حقا عليها ، عملا بالعرف الذي كان عليه العرب وقت نزول الآية (١) ، فكان نساء قريش يلتمسن المراضع بأجر أنفة واعتزازا.

وقال الجمهور : إن ذلك مندوب ، إلا عند الضرورة كأن لم يقبل ثدي غير الأم ، لقوله تعالى : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) [الطلاق ٦٥ / ٦].

ومدة الرضاع التام : سنتان ، لاحتياج الطفل إلى اللبن فيهما ، ولا مانع من جعله أقل من ذلك حسبما يرى الوالدان المصلحة ، ويعوّد الولد الآن بتناول شيء من الغذاء مع اللبن في أواخر الحول الأول ، ثم يفطم إذا استغنى عن اللبن بالطعام المعتاد.

وإنما قال الله (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) لئلا يتوهم أنه أراد حولا وبعض الثاني. والمقصود من تحديد مدة الرضاع بحولين كاملين ليس وجوب ذلك ، لأنه قال : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) فهو يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد أدنى لا يتعدى ، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام ، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ الحولين إذا لم يكن فيه ضرر للولد ، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) [البقرة ٢ / ٢٣٣] فالمقصود بيان المدة التي يرجع إليها عند الاختلاف ، أو بيان المدة القصوى قضاء.

وعلى الوالد كفاية المرضع من طعام وكسوة ، للقيام بحق الولد ، وأجرة لها على الإرضاع ، واستئجار الأم غير جائز ما دامت في الزواج أو العدة ، ويجوز عند الشافعي رضي‌الله‌عنه مطلقا. وتقدير الأجرة على قدر حال الأب من اليسار والإعسار والتوسط ، كما قال الله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ١٦١

٣٦٠