التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

لا هي زوجة له بالمعنى الكريم ، ولا يمكّنها من التزوّج بغيره ، فهو آثم عند الله ، بإلحاق الضرر بها ، والحيلولة بينها وبين الزواج برجل آخر.

وهذا يدل على أن الرجعة مشروطة ديانة بإرادة الإصلاح ، ونية المعاشرة بالمعروف. وبمناسبة الرجعة ذكّر الله الزوجين بما لهما من الحقوق وما عليهما من الواجبات ، فللرجل حقوق ، وعليه واجبات للمرأة ، وللمرأة مثل ذلك.

وهما متساويان في الحقوق والواجبات ، لأن لكل منهما كرامة إنسانية وأهلية تامة من عقل وتفكير ورغبات ومشاعر وإحساسات ، وحقّا في العيش الحرّ الكريم ، إلا في درجة القوامة : أي تسيير شؤون الأسرة المشتركة والقيام على مصالحها بقيادة الرجل ، لما فضله الله على المرأة بسعة العقل والخبرة ، والحكمة والاتّزان دون التأثر السريع بالعواطف العابرة ، ولأنه الذي ينفق ماله وكسبه من بداية تكوين الزواج بدفع المهر ، إلى نهايته بالنفقة الدائمة على شؤون الحياة بتوفير المسكن والملبس والطعام ، كما قال الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ، بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) [النساء ٤ / ٣٤]. وسبب القوامة أن كل شركة أو حياة اجتماعية تتطلب وجود رئيس مسئول عنها ، يتحمل الأعباء ، ويستعد لتحمل المغارم والخسارات ، ويدير أمر هذه المؤسسة بما يوصلها إلى شاطئ الأمن والسعادة والاستقرار ، في داخل المنزل وخارجه ، تعليما وتعلّما ، وتمكينا من ممارسة الخبرات والمهارات التي تفيد الزوجة والفتاة في حاضر الزمان ومستقبله.

وإذا كان اضطلاع الرجل غالبا بالمهام الملقاة على عاتقه خارج المنزل ، لتوفير المورد والكسب المطلوب لحياة الأسرة ، فإن المرأة تضطلع غالبا بمسؤوليات جسام تكمل مهمة الرجل ، في رحاب البيت ، فهي الملكة التي تربي الأولاد على الأخلاق والفضائل ، وهي التي تعين الرجل على توفير متطلبات الحياة

٣٢١

الضرورية ، وهذا هو حكم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين علي وفاطمة رضي‌الله‌عنهما ، إذ جعل فاطمة في البيت تديره وترعاه ، وعليّا كرّم الله وجهه خارج البيت يكافح ويبحث عن الرزق ، ويجاهد في سبيل الله والحق ، وفي سبيل أسرته.

ولا مانع من عمل المرأة خارج المنزل عند الحاجة بشرط التزام ما يقتضيه الدّين والخلق وعدم الخلوة ، والسّتر المطلوب شرعا ، فكل المرأة عورة ما عدا الوجه والكفين ، لكنهما مما يجب غضّ البصر عنهما كباقي جسد المرأة (١) ، كما يشترط أن تكون المرأة في العمل حرّة أبية لا تلين في الكلام ، لقوله تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ، وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ..) [الأحزاب ٣٣ / ٣٢ ـ ٣٣]. وأما عدم التقيد بالقيود الشرعية لعمل المرأة فيؤدي إلى كثير من المفاسد والفتن ، ولتكن المرأة متيقظة دائما ، فإنه لا يراد بمحادثتها غالبا إلا السوء ، وجعلها أداة تسلية ومتعة.

وما أروع ما ختمت به الآية من التذكير بعزة الله وقدرته التي لا تغلب ، وبحكمته بوضع الشيء في موضعه المناسب له ، فهو حكيم الصنع والأمر والبيان ، فمن عزته وحكمته : إنصاف المرأة بجعلها في الحقوق والواجبات كالرجل ، بعد أن كانت كالمتاع لا تتمتع بالحقوق الكريمة ، وإعطاء الرجل حق القوامة (الرياسة) ، فلا يغترن بهذه الدرجة ، فإذا دعته قدرته إلى ظلم المرأة أو غيرها ، فليذكر قدرة الله عليه ، وليكن الرجل حكيم القيادة ، متحملا لمهام المسؤولية الملقاة على عاتقه ، بكل ثقة وأمانة وجرأة وعدالة فلا يتساهل في حكم شرعي ، لأنه راع ، وكل راع مسئول عن رعيته ، ولا يفرط في واجب عند القدرة ، ولا يغمط أحدا في الأسرة حقه ، لأن الله سائله عما يعمل. وفي هذا من الوعيد لمن خالف أحكام الله تعالى.

__________________

(١) إلا في حدود ما تتطلبه المعاملة ، أو تقتضيه الضرورة كالعلاج والتعلّم والشهادة أمام القضاء.

٣٢٢

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى أحكام في الطلاق :

١ ـ وجوب العدة :

تجب العدة لأهداف كثيرة : منها التعرف على براءة الرحم ، ومنها صون سمعة المرأة ، والحفاظ على نعمة الزوجية وتقديرها ، والتفكير في عواقب الطلاق ، والتدبر في أمر الحياة ، فيصلح كل من الرجل والمرأة أخطاءه ، وتعطى الفرصة الملائمة للعودة إلى الحياة الزوجية بنمط جديد أحسن مما كان في الماضي ، لتستقيم شؤون المعاشرة ، وينظر في مستقبل الأولاد والمعيشة الهانئة.

والعدة : ثلاثة أطهار في رأي ابن عمر وزيد وعائشة ، وفقهاء المدينة السبعة ، والمالكية والشافعية ، لأن القرء في اللغة : الانتقال من الطهر إلى الحيض ، وليس الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا ، لأن الانتقال من الطهر إلى الحيض هو الذي يدل على براءة الرحم ، فإن الحامل لا تحيض في الغالب ، فبحيضها نعلم براءة رحمها ، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه ، فإن الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها ، وإذا تمادى أمد الحمل وقوي الولد ، انقطع دمها.

ثم إن لفظ (ثَلاثَةَ) المؤنث يدل على أن المعدود مذكر ، لا مؤنث ، وهو الطهر ، لا الحيضة ، لضرورة التغاير بين العدد والمعدود في اللغة في التذكير والتأنيث.

والله تعالى قال : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي في وقت العدة ، والطلاق للعدة : ما كان في الطهر ، وهو الطلاق السّني ، أما الطلاق في زمن الحيض فهو طلاق بدعي منهي عنه ، فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الطهر ، وإذا كان الطلاق للعدة ما كان في الطهر ، فهو يدل على كون القرء مأخوذا من

٣٢٣

الانتقال ، وتقدير الكلام : فعدتهن ثلاثة انتقالات.

والعدة في رأي عمر وعلي وابن مسعود ، والحنفية ، والحنابلة بمقتضى الرواية الأخيرة عن أحمد أو في أصح الروايتين : ثلاث حيضات ، لأن عدة الأمة اتفاقا بالحيضة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان» فتقاس الحرة على الأمة ، ولأن الذي يدل على براءة الرحم ، إنما هو الحيض لا الطهر. ورجح هذا الرأي من جهة المعنى.

وتظهر فائدة الخلاف في حالة ما إذا طلقها في أثناء الطهر ، فعلى الرأي الأول يحتسب من العدة وتنتهي بمجيء الحيضة الثالثة ، وعلى الرأي الثاني : لا يحتسب من العدة ، ولا تنتهي إلا بانقضاء الحيضة الثالثة.

وعلى كلا الرأيين : المرأة مؤتمنة على ما في رحمها من حمل أو حيض ، يقبل قولها فيه ، لأنه لا يعلم إلا من قبلها. وإنما حرم الله أن يكتمن ما في أرحامهن ، لأنه يتعلق بخبرها حق الرجل في الرجعة ، وعدم اختلاط الأنساب. فإذا ادعت انتهاء عدتها ، حرمت الرجل من حقه في الرجعة ، وإذا كانت حاملا وادعت انقضاء العدة ، ثم تزوجت بآخر ، اختلطت الأنساب.

واختلف الفقهاء في أقل ما تصدق فيه المعتدة بالأقراء :

فقال أبو حنيفة : أقل ما تصدق فيه الحرة : ستون يوما ، عملا بالوسط في مدة الحيض ، وهو خمسة أيام ، فتكون الحيضات الثلاث خمسة عشر يوما ، والأطهار خمسة وأربعين يوما ، على أن يبدأ بالطهر ، فيكون المجموع ستين يوما.

وأقل مدة عند المالكية تنقضي بها العدة بالأقراء (الأطهار) شهر : ثلاثون يوما ، بأن يطلقها زوجها في أول ليلة من الشهر ، وهي طاهرة ، ثم تحيض ، وينقطع عنها الحيض قبل الفجر ، لأن أقل الحيض عندهم يوم ، أو بعض يوم

٣٢٤

بشرط أن تقول النساء : إنه حيض ، ثم تطهر خمسة عشر يوما ، ثم تحيض في ليلة السادس عشر ، وينقطع قبل الفجر أيضا ، ثم تحيض عقيب غروب آخر يوم من الشهر وينقطع قبل الفجر ، فتكون قد طهرت ثلاثة أطهار : الطهر الذي طلقها فيه ، ثم الطهر الثاني ، ثم الثالث ، فيحدث تمام الشهر ثلاثين يوما.

وأقل مدة تنقضي بها العدة في رأي الشافعية : اثنان وثلاثون يوما ولحظتان ، ولا يقبل أقل من ذلك بحال ، لأنه لا يتصور عندهم أقل من تلك المدة ، بأن تطلق وقد بقي لحظة من الطهر ، وهي قرء عندهم ، ثم تحيض يوما وليلة أقل الحيض عندهم ، ثم تطهر خمسة عشر يوما أقل الطهر ، وذلك قرء ثان ، ثم تحيض يوما وليلة ، ثم تطهر خمسة عشر يوما ، وذلك قرء ثالث ، ثم تحيض. وهذه الحيضة ليست من العدة ، بل لتيقن انقضائها ، فذلك اثنان وثلاثون يوما ولحظتان.

وأقل مدة عند الحنابلة على أن الأقراء هي الحيضات ، كما يقول الحنفية : تسعة وعشرون يوما ولحظة ، وذلك بأن يطلقها مع آخر الطهر ، ثم تحيض بعده يوما وليلة ، ثم تطهر ثلاثة عشر يوما ، ثم تحيض يوما وليلة ، ثم تطهر ثلاثة عشر يوما ، ثم تحيض يوما وليلة ، ثم تطهر لحظة ، ليعرف بها انقطاع الحيض.

ويلاحظ أن المعقول والغالب هو رأي أبي حنيفة ، وأما الآراء الأخرى فيمكن أن تقع ، ولكنها نادرة.

٢ ـ مشروعية الرجعة :

أي ارتجاع الرجل زوجته إلى عصمته وملك زواجه ما دامت في عدتها ، والرجل مندوب إلى المراجعة. وهذا من أحكام الطلاق ، للآية : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) والرجعة مشروعة بشرط قصد إصلاح حاله معها ، لا الضرر ، فإذا أراد المضارة وتطويل العدة وجعلها كالمعلقة ،

٣٢٥

فحرام ، وليس له حق الرجعة ، لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) [البقرة ٢ / ٢٣١] لكن لو فعل ذلك فالرجعة صحيحة ، وإن خالف وظلم نفسه ، إذ لما كانت هذه الإرادة لا اطلاع لنا عليها ، عاملناه بظاهر أمره ، وجعل الله التطليقات الثلاث علما على امتناعها. ودل لفظ «أحق» على أن حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها ، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : «الثيب أحق بنفسها من وليها» (١).

وحق الرجعة بغير عقد ولا شهود مقصور على المطلقة رجعيا في أثناء العدة لا بعد انقضائها ، ولم يشترط الإشهاد إلا الظاهرية ، وإنما هو مستحب أو مندوب عند العلماء الآخرين. فإن لم يراجعها المطلّق حتى انقضت عدتها ، فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه ، لا تحل له إلا بخطبة وزواج مستأنف بولي وإشهاد ، ليس على سنة المراجعة ، بإجماع العلماء.

واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة :

فقال الشافعية : تحصل الرجعة في العدة بالقول الصريح ، أو بلفظ كنائي بنية مثل قول المرتجع : تزوجتك أو نكحتك ، ولا تحصل بالوطء.

وقال الجمهور : تحصل الرجعة في العدة بالقول ، أو بالفعل ومنه الخلوة كتقبيل بشهوة ووطء ، وأضاف المالكية : وتحصل أيضا بالنية : وهي حديث النفس ، بأن يقول في نفسه : راجعتها ، ولم يجز الحنابلة الرجعة بالكناية.

واختلفوا أيضا في حكم المطلقة الرجعية في مدة التربص : أحكمها حكم الزوجة أم ليست كذلك؟فذهب الحنفية ، والحنابلة في ظاهر المذهب : إلى أن حكمها حكم الزوجة ،

__________________

(١) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس.

٣٢٦

فلا يحرم الاستمتاع بها أو مباشرتها مدة التربص ، وأحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شيء.

وذهب المالكية والشافعية : إلى أنها ليست كالزوجة ، فيحرم الاستمتاع بها قبل المراجعة ، بوطء أو غيره ، حتى بالنظر ولو بلا شهوة ، لأنها مفارقة كالبائن ، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع ، والطلاق يحرمه ، لأنه ضده.

ومنشأ الخلاف : اختلاف الفهم في هذه الآية ، فقد سماهم الله بعولة (أزواجا) وهذا يقتضي أنهن زوجات ، لكنه قال : (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وهذا يقتضي أنهن لسن بزوجات ، إذ الرد إنما يكون لشيء قد انفصم.

فذهب الفريق الأول إلى أن الرجعية زوجة ، وفائدة الطلاق نقص العدد ، وأن أحكام الزوجية وإن كانت باقية ، فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة. وأوّلوا قوله (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) فقالوا : إنهن كن سائرات في طريق لو وصلن إلى نهايته ، لخرجن عن الزوجية ، فالارتجاع رد لهن عن التمادي في ذلك الطريق.

والفريق الثاني أوّلوا قوله : (وَبُعُولَتُهُنَ) على الماضي ، سماهم بعولة باعتبار ما كان ، ومعنى (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) : ردهن إلى الزوجية. وأرى أن هذا هو الحق ، وإلا لم يكن للطلاق أثر في التحريم.

واتفق الفريقان على أنه ليس له أن يسافر بها قبل أن يرتجعها. ولها في رأي الفريق الأول : أن تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف. وليس لها أن تفعل ذلك لدى الفريق الثاني ، وليس له أن يخلو معها ، ولا أن يدخل عليها إلا بإذن ، ولا أن ينظر إليها إلا وعليها ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها. ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما ، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها.

٣٢٧

وأجمع العلماء على أن المطلّق إذا قال بعد انقضاء العدة : إني كنت راجعتك في العدة ، وأنكرت : أن القول قولها مع يمينها ، ولا سبيل له إليها.

٣ ـ حقوق الزوجين :

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) : ليس الزواج في الإسلام عقد استرقاق وتمليك ، وإنما هو عقد يوجب حقوقا مشتركة ومتساوية بحسب المصلحة العامة للزوجين ، فهو يوجب على الزوج حقوقا للمرأة ، كما يوجب على المرأة حقوقا للزوج. وفي هذا التعبير الموجز ثلاثة أحكام :

الأول ـ للنساء من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن ، مثل حسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف ، وترك المضارّة ، واتقاء كل منهما الله في الآخرة ، وطاعة الزوجة لزوجها ، وتزين كل منهما للآخر ، قال ابن عباس : «إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي ..» (١) وتكون زينة الرجال بالمظهر اللائق والنظافة ، وحسن الهندام واللباس ، والتطيب والخضاب ، وما يليق بالأحوال في وقت الشباب والكهولة والشيخوخة ، روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أمرني ربي أن أعفي لحيتي ، وأحفي شاربي».

الثاني ـ إعفاف كل من الزوجين الآخر بحسب الحاجة ، ليستغني كل منهما عن التطلع إلى غيره ، ويتوخى الوقت المناسب ، ويعالج كل منهما نفسه بالأدوية اللازمة إذا شعر من نفسه عجزا عن تأدية حق الآخر.

الثالث ـ للرجال درجة (أي منزلة) على النساء : وهي درجة القوامة والولاية ، وتسيير شؤون الأسرة ، كما قال الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى

__________________

(١) رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم.

٣٢٨

النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) [النساء ٤ / ٣٤] أي أن مسوغ التفضيل وإعطاء درجة القيادة له أمران :

أ ـ تكوين الرجل بزيادة خبرته واتزانه وعقله ، وإعداده لتحمل الأعباء والكفاح والعمل.

ب ـ إلزامه بالإنفاق على المرأة : بدفع المهر وتوفير الكفاية لها من مسكن وملبس ومطعم ومشرب ومداواة ونحو ذلك.

هذه الدرجة في الحقيقة كما تبيّن : هي غرامة وتكليف للرجال أكثر من تكليف النساء ، لذا كان حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «لو أمرت أحدا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».

وقال ابن عباس : «الدرجة إشارة إلى حضّ الرجال على حسن العشرة ، والتوسع للنساء في المال والخلق» أي أن الأفضل ينبغي أن يتحمل أخطاء الآخر ، ويتحامل على نفسه ، ويضبط أعصابه في معالجة المشكلات أو الأزمات الطارئة. قال ابن عطية : وهذا قول حسن بارع.

والخلاصة : الزواج شركة بين اثنين ، وعلى كل شريك أن يؤدي للآخر حقوقه ، ويقوم بما يجب عليه له بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : «فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك ، فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف». وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا؟ قال :

٣٢٩

«أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبّح ، ولا تهجر إلا في البيت».

وأما الدرجة للرجال : فهي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر ، والإنفاق ، والقيام بالمصالح ، والفضل في الدنيا والآخرة (١).

عدد الطلاق وما يترتب عليه من أحكام

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

الإعراب :

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) مبتدأ وخبر ، وهذا الكلام فيه اتساع ، وتقديره : الطلاق في مرتين ، والطلاق في معنى التطليق. وقيل : تقديره : عدة الطلاق الرجعي مرتان.

(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) مبتدأ وخبره محذوف ، وتقديره : فعليه إمساك بمعروف. ومثله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

(إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) : أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء من غير الجنس. وأن لا يقيما : في موضع نصب ، لأن تقديره : من أن لا يقيما ، فلما حذف حرف الجر تعدى الفعل إليه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٢٧١

٣٣٠

البلاغة :

(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) طباق بين لفظي إمساك وتسريح.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة والتعظيم في النفس.

(فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قصر صفة على موصوف. وجاء هذا الوعيد بعد النهي للمبالغة في التهديد.

المفردات اللغوية :

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي التطليق الذي يراجع فيه ، كالسلام بمعنى التسليم ، ومرتان : دفعتان أو اثنتان (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي فعليكم إمساكهن بعد المراجعة من غير إضرار ، بل بإصلاح وحسن معاشرة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي إيقاع الطلقة الثالثة بدون رجعة وأداء حقوقها المالية ، دون أن يذكرها بعد المفارقة بسوء. (حُدُودَ اللهِ) أحكامه وشرائعه (تَعْتَدُوها) تتجاوزوها ، والاعتداء : تجاوز الحد في قول أو فعل.

(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي لا إثم ولا حرج على الزوج في أخذ المال الذي افتدت به نفسها ليطلقها ، ولا حرج أيضا على الزوجة في بذله. (تِلْكَ) الأحكام المذكورة (الظَّالِمُونَ) الظلم : وضع الشيء في غير موضعه. (حَتَّى تَنْكِحَ) تتزوج زوجا غيره ويطأها ، كما في الحديث الصحيح عند الشيخين : البخاري ومسلم. (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي الزوجة والزوج الأول أن يتراجعا إلى الزواج الجديد بعقد جديد بعد انقضاء العدة (يَعْلَمُونَ) يتدبرون.

سبب النزول :

لم يكن للطلاق لدى عرب الجاهلية حد ولا عدد ، فكان الرجل يطلق ثم يراجع وتستقيم الحال ، وإن قصد الإضرار يراجع قبل انقضاء العدة ، ثم يستأنف طلاقا جديدا ، مرة تلو مرة إلى أن يسكن غضبه ، فجاء الإسلام لإصلاح هذا الشذوذ ومنع الضرر.

نزول الآية (٢٢٩):

أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة قالت : «كان الرجل يطلق

٣٣١

امرأته ما شاء أن يطلق ، وهي امرأته إذا ارتجعها ، وهي في العدة ، وإن طلقها مائة مرة وأكثر ، حتى قال رجل لامرأته : والله لا أطلقك ، فتبيني مني ، ولا آويك أبدا ، قالت : وكيف ذلك؟ قال : أطلقك ، فكلما همت عدتك أن تنقضي ، راجعتك ، فذهبت المرأة ، وأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسكت حتى نزل القرآن : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ، فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

وقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ ...) الآية : أخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس قال : كان الرجل يأكل من امرأته نحلة ـ عطاءه ـ الذي نحلها وغيره ، لا يرى أن عليه جناحا ، فأنزل الله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً).

وقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما ...) الآية : أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة ، وكانت اشتكته إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أتردين عليه حديقته؟ قالت : نعم ، فدعاه ، فذكر ذلك له ، قال : وتطيب لي بذلك؟ قال : نعم ، قال : قد فعلت ، فنزلت : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ ، فَإِنْ خِفْتُمْ ...) الآية.

وروى البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أبيّ بن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، ثابت بن قيس ، ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكن لا أطيقه بغضا ، وأكره الكفر في الإسلام (١) ، قال : أتردين عليه حديقته (٢)؟ قالت: نعم ، قال : اقبل الحديقة وطلقها تطليقة».

__________________

(١) تريد كفران نعمة العشير وخيانته.

(٢) وكان قد أصدقها إياها.

٣٣٢

نزول الآية (٢٣٠):

أخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال : نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك ، كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك ، وهو ابن عمها ، فطلقها طلاقا بائنا ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي ، فطلقها ، فأتت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إنه طلقني قبل أن يسمني ، أفأرجع إلى الأول؟ قال : لا حتى يمس ، ونزل فيها : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فيجامعها (فَإِنْ طَلَّقَها) بعد ما جامعها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا).

التفسير والبيان :

هذه الآية مخصصة لقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة ٢ / ٢٢٨] فهي واردة لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة ، والعدد الذي لا رجعة فيه. والمعنى : إن عدد الطلاق الذي تصح فيه الرجعة مرتان ، أي اثنتان أو طلقتان فقط ، وليس بعد المرتين إلا أحد الأمرين : الإمساك بالمعروف والمعاشرة الحسنة ، أو التسريح لها بإحسان ، بمعنى أن تتركها ، حتى تتم العدة من الطلقة الثانية ، ولا تراجعها.

وقيل : المراد من الآية إيقاع الطلاق مفرّقا ، لا مجموعا ، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام ، كما قال بذلك جمع من الصحابة ، منهم عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، بدليل حديث ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا ، فتطلق لكل قرء تطليقة».

وقال مجاهد وعطاء وجمهور السلف وعلماء الأمصار : المراد من التسريح

٣٣٣

بإحسان : الطلقة الثالثة ، بدليل حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داود وغيره ، أنه سأل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سمعت الله تعالى يقول : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فأين الثالثة؟ فقال : أو تسريح بإحسان. ويكون قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) بيانا لهذا (١).

والحكمة من جعل الطلاق مرتين وإثبات حق الرجعة بعد كل من الطلاق الأول والثاني : هو إعطاء الفرصة لإصلاح كل من الزوجين حاله ، لأن الأوضاع تعرف بأضدادها ، فلا يجد المرء مقدار النعمة ولذتها حتى يذوق طعم النقمة ويشعر بمرارتها ، فقد يكون الرجل عصبي المزاج ، حاد الطبع ، سيء الخلق ، فيتورط في الطلاق ، مرة بعد أخرى ، فتذكره الفرقة ، وما تتركه الزوجة من وحشة وفراغ (٢) ، وما يتطلبه البيت والأولاد من خدمات ، فيثوب لرشده ، ويحد من سوء خلقه ، ويصلح معاملته لزوجته ، ويعاشرها بالمعروف كما أمر الله تعالى.

وقد تكون المرأة مهملة حقوق زوجها وبيتها وأولادها ، مترفعة سادرة (٣) في كبريائها ، فإذا أحست بألم الفرقة ، ووحشة الطلاق ، وأدركت أخطاءها ، عادت إلى الحياة الزوجية بوجه جديد ، وسلوك أفضل من السابق.

__________________

(١) قال ابن عطية : ويقوى هذا القول عندي من ثلاثة وجوه : أولها ـ هذا الحديث ، والثاني ـ أن التسريح من ألفاظ الطلاق ، والثالث ـ أن فعّل تفعيلا ، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية ، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل (البحر المحيط : ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤).

(٢) قال الرازي في تفسيره الكبير (٦ / ٩٨) : الحكمة في إثبات حق الرجعة : أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري ، هل تشقّ عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه ، فعند ذلك يظهر ، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع ، لعظمت المشقة على الإنسان ، إذ قد تظهر المنحبة بعد المفارقة ، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة ، أثبت تعالى حق المراجعة مرتين ، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.

(٣) السادر : الذي لا يهتم ولا يبالي بما يصنع.

٣٣٤

وعلى هذا النحو من التنازلات من كلا الزوجين ، والعتاب الخفيف اللطيف ، والتماس أوسط الحلول وأقربها إلى مصلحة الطرفين ، والنظر البعيد إلى مستقبل الأسرة والأولاد ، يمكن تجديد بنية العلاقات الزوجية ، وتوجيهها وجهة معقولة متسمة بالحكمة والاتزان ، ومراقبة الله تعالى في كل شيء ، دون تفريط ولا إفراط ، ولا بغي أو ظلم أو اعتداء من طرف على آخر ، والله يحب المحسنين.

فإن اختار الرجل التسريح على الإحسان ـ وهو أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق الذي لم يشرع إلا للضرورة ـ ، حرم عليه أخذ شيء مما أعطاها : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) [البقرة ٢ / ٢٢٩] سواء من مهر أو غيره ، بل يجب عليه إهداؤها شيئا من الهدايا العينية أو النقدية زائدا عن حقوقها السابقة ، عملا بقوله تعالى : (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) [الأحزاب ٣٣ / ٤٩] وهذا تحذير للرجال من إلحاق الظلم بالنساء وهضم حقوقهن.

ولكن يجوز للرجل أخذ ما تبذله المرأة من فداء مالي عن الطلاق ، لتفتدي به نفسها ، لأنه برضاها واختيارها دون إكراه ، إذا كانت المرأة هي الطالبة لفراق زوجها ، لكراهتها إياه ، أو لسوء خلق منها أو منه ، دون قصده الإضرار ، لقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) [الطلاق ٦٥ / ٦] ، وخاف الزوجان تجاوز حدود الله ـ أي أحكامه ـ التي شرعها للزوجين من حسن العشرة وأداء الحقوق المطلوبة في ظل ولاية الرجل ، بأن خافت المرأة الوقوع في المعصية مثل جحد نعمة العشرة أو الخيانة ، أو خاف الرجل تجاوز الحدود في مؤاخذة الناشز ، وهذا الفراق على عوض مالي من المرأة يسمى الخلع ، وتجب بعده العدة كالطلاق ، ولا تصح الرجعة بعده إلا بأمر الزوجة ، بخلاف الطلاق الرجعي ، وقد حث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ترك طلب الخلع من المرأة من غير ضرورة ، روى أحمد والترمذي والبيهقي عن ثوبان ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما امرأة سألت

٣٣٥

زوجها الطلاق من غير ما بأس ، فحرام عليها رائحة الجنة» وقال : «المختلعات هن المنافقات»(١).

ثم حرّم الله تعالى تحريما قاطعا تجاوز حدود الله التي حدها في العلاقات الزوجية وغيرها : وهي الأحكام المقررة المشتملة على الأوامر والنواهي ، فلا يجوز تجاوز ما أحله إلى ما حرمه ، وما أمر به إلى ما نهى عنه.

ثم حذر وأوعد المخالفين الذين يعتدون على أحكام الشرع ، ويفعلون ما لا ينبغي فعله ، ويتعدون حدود الله ، ووصفهم بأنهم الظالمون ، ولا ظالم غيرهم.

ثم أبان تعالى حكم الطلاق الثالث الذي تصبح المرأة بعده بائنا بينونة كبري ، فقال : فإن طلقها بعد الطلقتين السابقتين ، فلا تحل له أبدا من بعد هذا الطلاق الثالث ، حتى تتزوج من آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به الدوام والاستمرار دون أن يقصد به مجرد تحليل المرأة المطلقة لزوجها ، ولا بد في الزواج الثاني من الدخول الحقيقي بالمرأة (أي الجماع) عملا بما رويناه سابقا في قصة رفاعة ، التي رواها الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم بعبارة أخرى مشهورة عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلقني فبتّ طلاقي ، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير ، وما معه إلا مثل هدبة الثوب ، فتبسم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك» (٢).

فإن طلقها الزوج الثاني بنحو طبيعي ، وانقضت العدة ، فيجوز للزوج الأول أن يعقد عليها عقدا جديدا ، إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية

__________________

(١) رواه أحمد عن أبي هريرة

(٢) العسيلة : هي أقل ما يكون من غشيان الرجل المرأة.

٣٣٦

والتزام ما أمر الله به من المعاشرة الحسنة ، فتلك حدود الله ، وأما إن ظنا حين المراجعة أنهما يعودان لما كان ، من إضرار بها ، أو نشوز منها ، فالرجوع ممقوت عند الله ، وإن صح قضاء.

ويلاحظ أنه لم يقل : «إن علما أنهما يقيمان» لأن اليقين مغيب عنهما ، لا يعلمه إلا الله عزوجل ، ومن فسر الظن هاهنا بالعلم ، فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى ، لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ، ولكن : علمت أنه قام ، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنما يظن ظنا(١).

أما نكاح التحليل المؤقت : وهو الذي يقصد به تحليل المرأة لزوجها الأول بشرط أو اتفاق في العقد أو غيره بالنية ، فهو زواج باطل غير صحيح ، ولا تحل به المرأة للأول الذي طلقها ، وهو معصية لعن الشرع فاعلها ، سواء علم الزوج المطلّق أو جهل بذلك وهو رأي مالك وأحمد والثوري والظاهرية. وقال الحنفية والشافعية : هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط التحليل في العقد.

والرأي الأول أصح وأحق بالاتباع ، لما روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود ، وابن ماجه عن عقبة بن عامر رضي‌الله‌عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : هو المحلّل ، لعن الله المحلّل والمحلّل له».

وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المحلّل ، قال : «لا ، إلا نكاح رغبة ، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عزوجل ، ثم تذوق العسيلة».

وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عمر رضي‌الله‌عنه أنه قال : لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلا رجمتهما ، فسئل ابنه عن ذلك ، فقال : كلاهما زان». وسأل

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٧٩

٣٣٧

رجل ابن عمر ، فقال : ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلّها لزوجها ، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر : لا ، إلا نكاح رغبة ، إن أعجبتك أمسكتها ، وإن كرهتها فارقتها ، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وسئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، ثم ندم ، فقال : هو رجل عصى الله فأندمه ، وأطاع الشيطان ، فلم يجعل له مخرجا ، فقيل له : فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال : من يخادع الله يخدعه.

بهذا يتبين أن التحليل المؤقت ليس من شرع الله ولا دينه ، وفيه مفاسد كثيرة ، وهو زنى ، وإن تم بعقد في الظاهر.

ثم ختم الله تعالى الآية بإعلان صريح : وهو أن هذه الأحكام هي حدود الله يبينها بأجلى بيان ، ويوضحها بأتم وضوح ، لقوم يدركون فائدتها ، ويعلمون مصلحتها ، فلا يحيدون عنها ، ولا يتحايلون عليها ، وإنما يعملون بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة المرجوة ، فلا يضمر الرجل السوء أو يبيت الانتقام إذا راجع امرأته.

إن أحكام الله وشرعه ومنها الطلاق والرجعة منسجمة مع الحكمة والواقع ، فقد تستعصي الحلول ، فيلجأ إلى الطلاق ، وما أكثر حوادث الطلاق في بلاد الغرب لأتفه الأسباب التي نستغربها أشد الغرابة في بلادنا. ويحدث الندم عادة وغالبا في الطلاق بين المسلمين والمسلمات إذا لم يكن هناك انحراف واضح أو سلوك معوج يصعب تقويمه ، كالخيانة الزوجية أو السلوك المشبوه الذي يعجز الرجل عن إثباته ، فيكون الطلاق حال الانحراف أو الشذوذ طريق الخلاص المحتوم ، وتكون الرجعة في الأحوال التي تحتمل الإصلاح والتربية الناجعة.

وأما الأخطاء التي يرتكبها الرجل في الإقدام على الطلاق بغير وجه مشروع أو يسيء استعمال هذا الحق الممنوح له لأحوال اضطرارية أو استثنائية ، فيتحمل

٣٣٨

وزرها أصحابها ، ويكون الإسلام منها براء.

تلك حدود الله أي ما منع منه يبينها لقوم يعلمون الحقائق ويعلمون المصالح المترتبة على العمل بها ، لأن الجاهل لا يحفظ الأمر والنهي ولا يتعاهده ، والعالم يحفظ ويتعاهد.

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت الآيتان على أحكام ثلاثة : هي الطلاق الرجعي وهو الطلاق الأول والثاني ، والخلع وهو الفراق على عوض من المرأة ، والطلاق الثلاث أو البائن بينونة كبري : وهو حكم المبتوتة.

١ ـ عدد الطلاق والسنة فيه :

نزلت الآية كما عرفنا لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة والعدد المشروع الذي تصح بعده المراجعة ، ردا على ما كان عليه العرب في الجاهلية من أن الطلاق لا حد له ، وقد تستخدم الرجعة للإضرار بالمرأة ، فتصبح لا هي مزوجة ولا هي مطلقة ، وإنما معلقة.

والطلاق : هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها ، وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر : «فإن شاء أمسك ، وإن شاء طلق» وقد طلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة ثم راجعها (١).

وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلّق للسنة ، وللعدة التي أمر الله تعالى بها ، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها ، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه.

٣٣٩

وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم : المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق ، وكيف يطلقون أي مفرقا ، فمن طلق اثنتين ، فليتق الله في الثالثة ، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها ، وإما أمسكها محسنا عشرتها ، والآية كما قال القرطبي : تتضمن المعنيين ، أي تحديد عدد الطلاق وتفريقه ، ودليلهم ما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن مسعود في قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ..) قال : «يطلقها بعد ما تطهر ، من قبل جماع ، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى ، ثم يطلقها إن شاء ، ثم إن أراد أن يراجعها ، راجعها ، ثم إن شاء الله طلقها ، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض ، وتبين منه بها».

وعلى هذا يكون قد بين الله سنة الطلاق في هذه الآية ، وبين أن من سنته تفريق الطلاق ، ولأنه قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وهذا يقتضي أن يكون طلقتين مفرقتين ، لأنهما إن كانتا مجتمعتين ، لم يكن مرتين.

فإذا خالف المطلق وجمع التطليقات الثلاث في لفظ واحد ، فاختلف العلماء في ذلك.

قال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة : يقع به ثلاث طلقات ، مع الكراهة عند الحنفية والمالكية ، لأن طلاق السنة : هو أن يطلقها واحدة ، ثم يتركها ، حتى تنقضي عدتها.

وقال الشيعة الإمامية : لا يقع به شيء.

وقال الزيدية وابن تيمية وابن القيم : يقع به واحدة ، ولا تأثير للفظ فيه.

ومنشأ الخلاف : كيفية فهم آية (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) هل هي متعلقة بما قبلها ، أم مستقلة عنها؟ وكيفية تأويل حديث ابن عباس.

أما الآية : فقال الإمامية ومن وافقهم : إن التعريف للعهد ، أي الطلاق

٣٤٠