التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

الأخلاق التي تسوء معاشرتها للزوج ، وتفسد تربية الأولاد.

واعلموا علما يقينيا أنكم ستلقون ربكم في الآخرة ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

وبشر المؤمنين المستقيمين على أوامر الله بالفوز والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة. أما الذين يتجاوزون حدود الله ، ويتبعون شهواتهم ، ويخرجون عن السّنن المشروعة ، فلا يسلمون من الضرر في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، وقد يكون ضرر الدنيا بالقلق والاضطراب ، والهمّ والخوف ونحوهما من الأمراض النفسية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية (٢٢٢) على وجوب اعتزال المرأة في المحيض ، لقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) وهو أمر ، والأمر يقتضي الوجوب. واختلف العلماء فيما يجب على الرجل اعتزاله من المرأة وهي حائض على أقوال ثلاث :

١ ـ يجب اعتزال جميع بدن المرأة ، لأن الله أمر باعتزال النساء ، ولم يخصص من ذلك شيئا. وهو قول ابن عباس وعبيدة السّلماني ، وهذا قول شاذّ خارج عن قول العلماء ، وإن كان عموم الآية يقتضيه ، فالسّنة الثابتة بخلافه.

٢ ـ يجب اعتزال موضع الأذى ، وهو مخرج الدم ، وهو قول الحنابلة ، أخرج ابن جرير الطبري عن مسروق بن الأجدع قال : قلت لعائشة : ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت : «كل شيء إلا الجماع» وهذا موافق للحديث المتقدم ، ويؤيده «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يباشر نساءه وهنّ حيّض» فعلم منه أن المطلوب اعتزاله بعض جسدها دون بعض.

٣ ـ يعتزل ما بين السّرة والركبة ، أي ما فوق الإزار ، وهو قول الجمهور ،

٣٠١

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للسائل حين سأله : «ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟» فقال : «لتشدّ عليها إزارها ، ثم شأنك (١) بأعلاها».

وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة : «شدّي على نفسك إزارك ، ثم عودي إلى مضجعك» ، وقالت عائشة : «كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تأتزر ، ثم يباشرها».

ودلّت آية (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) على حرمة الجماع في الحيض حتى الطهر ، وللعلماء في ذلك آراء ثلاثة :

١ ـ قال أبو حنيفة : يجوز أن تؤتى المرأة إذا انقطع دم الحيض ولو لم تغتسل بالماء ، فإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحلّ حتى يمضي وقت صلاة كامل ، وإذا انقطع دمها لأكثر الحيض ، حلّت حينئذ.

٢ ـ قال الجمهور : لا تحلّ حتى ينقطع الحيض ، وتغتسل بالماء غسل الجنابة.

٣ ـ قال طاوس ومجاهد : يكفي في حلّها أن تتوضأ للصلاة.

وسبب الخلاف : (حَتَّى يَطْهُرْنَ ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ) : حمل أبو حنيفة الفعل الأول على انقطاع دم الحيض ، والثاني على المعنى نفسه ، أي فإذا انقطع دم الحيض ، فاستعمل الفعل المشدد بمعنى المخفف. وقال الجمهور بالعكس ، أي إنهم استعملوا المخفف بمعنى المشدد ، والمراد : ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء ، فإذا اغتسلن فأتوهن ، بدليل قراءة : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بالتشديد ، وبدليل قوله : (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

وللعلماء رأيان فيما يجب على من وطأ الحائض : فقال الجمهور : يستغفر الله ولا شيء عليه ، لأن الحديث مضطرب عن ابن عباس ، وإن مثله لا تقوم به

__________________

(١) منصوب بإضمار فعل ، ويجوز رفعه مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : مباح أو جائز.

٣٠٢

حجة ، وإن الذمة على البراءة ، ولا يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مطعن فيه.

وقال الحنابلة : عليه دينار إن كان في مقتبل الدم ، ونصف دينار في مؤخر الدم ، لما

رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يتصدق بدينار ، أو نصف دينار» ، وفي كتاب الترمذي : «إن كان دما أحمر فدينار ، وإن كان دما أصفر فنصف دينار». وهذا مستحب عند الشافعية والطبري.

وأجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر ، وهي : الحيض المعروف ، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة ، وتترك له الصلاة والصوم ، وتقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة.

واختلف العلماء في مقدار الحيض : فقال فقهاء المدينة منهم (مالك والشافعي وأحمد) : أكثر الحيض خمسة عشر يوما ، وما زاد على ذلك فهو استحاضة.

وأقلّه عند الشافعي وأحمد : يوم وليلة ، وما دونه استحاضة ، وأقلّه عند مالك : دفقة أو دفعة في لحظة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة ، وما نقص أو زاد عن ذلك فهو استحاضة.

ودم النفاس عند الولادة كالحيض ، وأقله عند الشافعية لحظة ، ولا حدّ لأقله عند الأئمة الآخرين ، وغالبة عند الشافعية أربعون ، وأكثره عند المالكية والشافعية : ستون يوما ، وعند الحنفية والحنابلة : أربعون يوما. والغسل منه كالغسل من الحيض والجنابة.

٣٠٣

ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا ، وهي : وجوب الصلاة ، وصحة فعلها ، وفعل الصوم دون وجوبه ، والجماع في الفرج وما دونه ، والعدّة ، والطلاق ، والطواف ، ومسّ المصحف ، ودخول المسجد ، والاعتكاف فيه ، وفي قراءة القرآن رأيان : الحرمة عند الجمهور ، والإباحة عند المالكية.

ودم الاستحاضة : وهو دم ليس بعادة ولا طبع منهن ، ولا خلقة ، وإنما هو نزيف أو عرق انقطع ، سائله : دم أحمر ، لا انقطاع له إلا عند البرء منه ، والمستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها ولكنها تتوضأ لكل صلاة.

ويجمع أحكام الحيض والاستحاضة ما رواه مالك عن عائشة أنها قالت : قالت فاطمة بنت أبي حبيش : يا رسول الله ، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ، إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلّي».

وفي قوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) إيماء إلى أن الشريعة طلبت التزوج ورغبت عن الرهبانية ، فليس لمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، لأنه سبحانه قد امتنّ علينا بالزواج بقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم ٣٠ / ٢١] ، وطلب إلينا أن ندعوه بالتوفيق بالسرور بالزوجة الصالحة والولد البارّ فقال : (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان ٢٥ / ٧٤] ، وقال : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة ٢ / ٢٠١] وهي الزوجة الصالحة.

فالزواج الشرعي وقربان المرأة ابتغاء النسل قربة لله تعالى ، وتركه مع القدرة عليه مخالف لطبيعة الفطرة وسنة الشرع ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «وفي

٣٠٤

بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر؟».

وتجبر الكتابية على الاغتسال من الحيض في رأي مالك ـ وفي رواية ابن القاسم عنه ـ ليحلّ لزوجها وطؤها ، قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي بالماء ، ولم يخصّ مسلمة من غيرها. وهذا موافق لرأي الشافعية والحنابلة القائلين بأن الكافر مكلف بفروع الشريعة. وقال الحنفية : إنه غير مكلف بها.

وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة ، وليس عليها نقض شعرها في رأي الحنفية والمالكية ، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت : «قلت : يا رسول الله ، إني أشدّ ضفر رأسي ، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثم تفيضين عليك الماء ، فتطهرين». ويجب نقض الضفائر في رأي الشافعية والحنابلة إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض ، لما روى البخاري عن عائشة : أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها إذ كانت حائضا : «خذي ماءك وسدرك وامتشطي» ولا يكون المشط إلا في شعر غير مضفور. وخصصه الحنابلة في الحيض أو النفاس ، ولم يوجبوا النقض في حال الجنابة إذا أروت أصوله ، أخذا بحديث أم سلمة.

وقوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى كما بيّنا : جامعوهن من أي شق أردتم ، بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث.

قال الزمخشري : قوله تعالى : (هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ، (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) : من الكنايات اللطيفة

٣٠٥

والتعريضات المستحسنة ، وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ، ويتأدبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم (١).

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) تحذير ، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) خبر يقتضي المبالغة في التحذير ، أي فهو مجازيكم على البر والإثم. روى مسلم عن ابن عباس قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب يقول : «إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا (٢) ، ثم تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاتَّقُوا اللهَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ).

الحلف بالله ويمين اللغو

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥))

الإعراب :

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ عُرْضَةً) : منصوب مفعول ثاني لتجعلوا.

(أَنْ تَبَرُّوا) فيه ثلاثة أوجه : النّصب والجر والرفع.

فأما النصب : فعلى تقدير : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم لئلا تبروا ، فحذفت لا ، أو كراهة أن تبروا ، والتقدير الثاني أولى ، لأن حذف المضاف أكثر في كلامهم من حذف «لا».

وأما الجرّ : فعلى تقدير حرف الجر وإعماله ، لأنه يحذف مع «أن» كثيرا ، لطول الكلام.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٧٤

(٢) الغرل : هو الأقلف الذي لم يختن.

٣٠٦

وأما الرفع : فعلى أن تكون : أن وصلتها مبتدأ ، وخبره محذوف ، وتقديره : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أمثل وأولى من تركها.

المفردات اللغوية :

(عُرْضَةً) هي المانع المعترض دون الشيء. (لِأَيْمانِكُمْ) أي ما حلفتم (١) عليه من البر والتقوى والإصلاح ، ويكون : (أَنْ تَبَرُّوا) بدلا من أيمانكم ، ويكون المعنى : لا تجعلوا الله مانعا من البر ، وهذا المعنى موافق لخبر الصحيحين في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه». وهناك معنى آخر هو : لا تجعلوا الحلف بالله معرّضا لأيمانكم ، تبتذلونه بكثرة الحلف به ، ويكون (أَنْ تَبَرُّوا) علّة للنهي ، أي أن لا تبروا أو إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ، لأن الحلّاف مجترئ على الله ، غير معظم له ، فلا يكون برّا متقيا ، ولا يثق به الناس ، وعلى هذا تكون الآية نهيا عن كثرة الحلف بالله ، وابتذاله في الأيمان. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم. (عَلِيمٌ) بأحوالكم.

(بِاللَّغْوِ) هو اليمين الذي لا قصد فيه ولا نيّة ، كأن يجري على لسانه : إي والله ، ولا والله ، وبلى والله ، من غير قصد اليمين ، وإنما يسبق إليه اللسان عادة ، فلا مؤاخذة فيه بكفارة ولا إثم ولا بعقوبة. واليمين اللغو عند أبي حنيفة : أن يحلف على ظن شيء أنه حصل ، ثم يظهر خلافه. (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي قصدته من الأيمان إذا حنثتم ، وهو مثل قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة ٥ / ٨٩]. (وَاللهُ غَفُورٌ) ليمين اللغو. (حَلِيمٌ) يؤخر العقوبة عن مستحقها.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٢٤):

روى ابن جرير الطبري عن ابن جريج ، أن قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) نزلت بسبب أبي بكر الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح ، حين خاض مع المنافقين في حديث الإفك وتكلم في عائشة رضي‌الله‌عنها ، وفيه

__________________

(١) اليمين : الحلف ، وأصله : أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت ، أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه ثم كثر ذلك ، حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا.

٣٠٧

نزل : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) [النور ٢٤ / ٢٢].

وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، حين حلف ألا يكلم ختنه زوج أخته (صهره): بشير بن النعمان ، وألا يدخل عليه أبدا ، ولا يصلح بينه وبين امرأته ، ويقول : قد حلفت بالله أن لا أفعل ، ولا يحلّ إلا أن أبرّ في يميني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

المناسبة :

أمر تعالى في الآية السابقة بتقوى الله وحذّر من معصيته ، ونبّه هنا على أن مما يتّقى ويحذر منه : أن يجعل اسم الله مانعا من البرّ والتقوى.

وقال العلماء أيضا : لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة ، قال : لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعلّلا بأنّا حلفنا ألا نفعل كذا.

التفسير والبيان :

للآية معنيان : الأول ـ إذا حلف الشخص ألا يفعل خيرا من صلة رحم أو صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أو عبادة ونحوها ، فلا يكون الحلف بالله مانعا من المحلوف عليه من برّ وتقوى ، وما على المؤمن إذا أراد أن يفعل البر والخير إلا أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه ، كما جاء في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الرحمن بن سمرة ـ فيما رواه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه ـ : «إذا حلفت على يمين ، ورأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير ، وكفّر عن يمينك» فتكون الآية لرفع الحرج عن الحالفين بالله إذا أرادوا فعل الخير.

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ١٧٦

٣٠٨

والمعنى الثاني : لا تتعرّضوا كثيرا للحلف بالله من أجل إرادة البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس ، لما في كثرة الحلف بالله من استخفاف واستهانة وتجرؤ على الله ، وعلى المؤمن تعظيم الله تعالى وتوقيره ، والابتعاد عن اليمين قدر الإمكان ، سواء أكان الحالف صادقا أم كاذبا ، فكان صاحب الورع مثل عمر والشافعي لا يحلف بالله ذاكرا ولا آثرا عن غيره ، فتكون الآية للنهي عن كثرة الحلف بالله ، وابتذاله في الأيمان ، توفيرا للثقة بكلام المتكلم بدون يمين ، قال الله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) [القلم ١٠٦٨].

هذا في اليمين المنعقدة التي يلزم فيها الكفارة بالحنث فيها : وهي على الموسر : إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد وهو المعسر الفقير فيصوم ثلاثة أيام. وقد أخبر تعالى أنه يؤاخذ على ما كسبت القلوب أي قصدت إيقاع اليمين ، والمؤاخذة بالكفارة أو العقوبة عند عدم الكفارة ، حتى لا يتخذ اسم الله عرضة للابتذال وتوفيرا لتعظيمه ، أو مانعا من صالح الأعمال.

أما اليمين اللغو : فأخبر تعالى أنه لا مؤاخذة ولا عقاب ولا كفارة عليها بالحنث ، لصدورها عن غير قصد اليمين ، لأن الله غفور لعباده ، فلا يؤاخذهم بما لم تقصده قلوبهم ، ولم يكلفهم بما يشق عليهم ، لحصوله دون اختيار.

ويمين اللغو عند الشافعيّة : هي التي تجري على اللسان دون قصد الحلف ، مثل قول الشخص : لا والله ، بلى والله. وإن عدم المؤاخذة عليها : هو عدم إيجاب الكفارة بها.

وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد : هي أن يحلف على شيء يظنه أنه حصل ، ثم يظهر خلافه ، وبعبارة أخرى : اللغو : ما يحلف به على الظن ، فيكون بخلافه. فهذا لا مؤاخذة فيه ، أي لا يجب تكفيره. وأما ما يجري على اللسان من غير قصد فتجب فيه الكفارة.

٣٠٩

والظاهر هو الرأي الأول ، لأن الله قسم اليمين قسمين : ما كسبه القلب ، واللغو. وما كسبه القلب : هو ما قصد إليه ، وحيث جعل اللغو مقابله ، فيعلم أنه هو الذي لم يقصد إليه. قال المروزي : لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها. وقالت عائشةرضي‌الله‌عنها : أيمان اللغو : ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب.

فقه الحياة أو الأحكام :

تعظيم الله تعالى واجب شرعا ، والإكثار من اليمين ، والحنث فيه يتنافى مع واجب التعظيم لله ، وفيه قلة مراعاة لحق الله تعالى ، فلا يصحّ جعل الأيمان مبتذلة في كلّ حقّ أو باطل ، أو في الصدق أو الكذب.

أما إذا حلف المؤمن معظّما الله تعالى ، وكان المحلوف عليه أمرا خيريا ، فلا تمنعه اليمين من فعل الخير المحلوف عليه ، وعليه أن يكفّر عن يمينه ، وهذا نوع من التسامح والتيسير في شرع الله تعالى ، حبّا في فعل الخير : من صدقة أو معروف أو صلة رحم أو إصلاح بين الناس.

كما أن من فضل الله تعالى ، وتيسيره على الناس ، وعدم تكليفهم بالشاق من الأحكام ، ودفعا للحرج عنهم ، أنه رفع المؤاخذة والإثم والكفارة عن اليمين اللغو ، لأنه الغفور الحليم ، الرءوف الكريم.

٣١٠

حكم الإيلاء

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

الإعراب :

(لِلَّذِينَ) اللام تفيد الاستحقاق ، كقولك : الرحمة للمؤمنين واللعنة للكفار.

(مِنْ نِسائِهِمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف تقديره : كائنا من نسائهم. وليست (مِنْ) متعلقة بفعل (يُؤْلُونَ) ، لأنه يقال : آلى على امرأته ، ولا يقال : آلى من امرأته ، فهو غلط.

البلاغة :

(فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) خرج الخبر عن ظاهره إلى معنى الوعيد والتهديد.

المفردات اللغوية :

(يُؤْلُونَ) يحلفون أو يقسمون ، والأليّة : الحلف ، جمع ألايا ، والإيلاء : أن يحلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر فأكثر. وإنما عدّيت (يُؤْلُونَ) بمن ، وهي إنما تعدى بعلى ، إما لأنه ضمن (يُؤْلُونَ) معنى يعتزلون ، وإما لأن في الكلام حذفا ، وتقديره : للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم ، فترك ذكر : يعتزلون ، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.

(تَرَبُّصُ) انتظار. (فاؤُ) رجعوا إلى نسائهم عن اليمين. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم ما حلفوا عليه من ضرر المرأة. (رَحِيمٌ) بهم.

(عَزَمُوا الطَّلاقَ) صمموا على إيقاع الطلاق ، وعزموا ألا يعودوا إلى الاستمتاع بنسائهم.

(فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقولهم. (عَلِيمٌ) بعزمهم ، أي ليس لهم بعد تربص مدة أربعة أشهر إلا الفيئة أو الطلاق.

٣١١

سبب النزول :

قال ابن عباس : كان إيلاء أهل الجاهلية السّنة والسّنتين وأكثر من ذلك ، فوقّت الله أربعة أشهر ، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء. وقال سعيد بن المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها أبدا ، وكان يتركها كذلك ، لا أيّما ولا ذات بعل ، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر ، وأنزل الله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) الآية (١).

وذكر مسلم في صحيحة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آلى وطلّق ، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده.

وذكر ابن ماجه سببا آخر : وهو أن زينب ردّت عليه هديته ، فغضب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآلى منهن.

ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تقدم شيء من أحكام النساء وشيء من أحكام الأيمان ، وهذه الآية جمعت بين الشيئين.

التفسير والبيان :

حدد الله تعالى مدة قصوى للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم ، وهي أربعة أشهر ، إشارة إلى أن الإيلاء لمدة طويلة مما لا يرضي الله تعالى ، لما فيه من قطيعة واستمرار نزاع ، ومنعا من إلحاق الضرر بالمرأة وامتهانها وإهدار حقوقها.

فإن رجعوا بالفعل لا بالقول (٢) إلى ما حلفوا على الامتناع منه وكانوا عليه ، فإن الله يغفر لهم ما كان من الحنث في أيمانهم ، لأن الفيئة توبة في حقهم ، رحيم

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ١٨٠

(٢) إن الفيء بالفعل عند الجمهور غير الحنفية هو الذي يسقط اليمين ، والفيء بالقول لا يسقطها

٣١٢

بهم وبغيرهم من المؤمنين ، فلا يؤاخذهم بما سلف ، لأن رحمته وسعت كل شيء. ومعنى (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) : أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ، ثم يوقف ، ويطالب بالفيئة أو الطلاق ، ولهذا قال : (فَإِنْ فاؤُ). وإن عزموا الطلاق ، فلم يفيئوا إلى نسائهم ، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم ، عليم بنياتهم ، وبما ارتكبوه مما يحرم أو يحلّ ، فليراقبوه فيما يفعلون ، فإن أرادوا إيذاء النساء ومضارتهن ، فهو يتولى عقابهم ، وإن كان لهم عذر شرعي مثل حملهن على إقامة حدود الله ، فالله يغفر لهم.

ومجمل الحكم : أن من حلف على ترك قربان امرأته واستمر على امتناعه أربعة أشهر ، فإما أن يفيء إلى زوجته ، ويحنث في يمينه ، ويكفّر عنها ، وإما أن يطلق ، فإن أبى الطلاق طلّق عليه القاضي. أي له الخيار بين أمرين : الفيئة أو الطلاق. والفيئة أفضل من الطلاق ، لأن الله جعل جزاءها المغفرة والرحمة ، وهدد في حال الطلاق بأن الله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم وأفعالهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّ قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) على أن الإيلاء يختص بالزوجات.

ويلزم الإيلاء كلّ من يلزمه الطلاق ، فالحرّ والعبد والسكران يلزمه الإيلاء ، وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون ، وكذلك الخصي غير المجبوب ، والشيخ الكبير إذا كان فيه بقية قوة ونشاط. أما المجبوب : فللشافعي فيه قولان : قول : لا إيلاء له ، وقول: يصحّ إيلاؤه ، والأول أصح.

ويصحّ إيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة ، ويقع إيلاء الأعجمي كالعربي بلغته.

واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين :

٣١٣

فقال الشافعي في الجديد : لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «من كان حالفا ، فليحلف بالله أو ليصمت».

وقال الحنفية والمالكية : يصحّ الإيلاء باليمين ، أو بالحلف على ترك الوطء بالطلاق أو العتاق ، أو نذر التصدق بالمال أو الحج ، أو الظهار ، لقول ابن عباس : «كلّ يمين منعت جماعا فهي إيلاء. وكلّ من حلف بالله أو بصفة من صفاته ، فقال : أقسم بالله أو أشهد بالله ، أو علي عهد الله وكفالته وميثاقه وذمّته ، فإنه يلزمه الإيلاء اتفاقا». وأضاف المالكية : أنه لا تشترط اليمين في الإيلاء ، فإذا امتنع الرجل من الوطء بقصد الإضرار من غير عذر ، ولم يحلف ، كان موليا ، لوقوع الضرر.

وقال الحنابلة على الرواية المشهورة : لا يكون الإيلاء بالحلف بالطلاق والعتاق ، بدليل قراءة أبي وابن عباس : «للذين يقسمون» بدل (يُؤْلُونَ).

فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى ، بأن قال : إن شاء الله ، فالأصح لدى المالكية وفقهاء الأمصار : ليس بمول ، لأن الاستثناء يحلّ اليمين ، ويجعل الحالف كأنه لم يحلف.

وكذا إن حلف بالنّبي أو بالملائكة أو بالكعبة ألا يطأها ، أو قال : هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها : ليس بمول ، في رأي مالك وغيره.

واختلف العلماء في صفة اليمين التي يكون بها الحالف موليا.

فقال جماعة (علي وابن عباس والزهري) : لا يكون موليا إلا إذا حلف على ترك الوطء إضرارا بها ، أما إذا حلف لا على وجه الإضرار ، فلا يكون موليا ، لأن الله جعل مدة الإيلاء مخرجا من سوء عشرة الرجل ومضارته ، فإذا لم يقصد الضرر ، وإنما قصد الصلاح والخير ، لم يكن موليا ، فلا معنى لتحديد الأجل ، حتى تتخلّص من مساءته.

٣١٤

وقال آخرون : إنه يكون موليا ، سواء أحلف على ترك غشيانها إضرارا بها ، أم لمصلحة.

وقال بعضهم : ليست يمين الإيلاء مقصورة على الحلف بترك الوطء ، بل تكون بالحلف على غيره أيضا ، كأن يحلف ليغضبنها ، أو ليسوءنها ، أو ليحرمنها ، أو ليخاصمنها ، كل ذلك إيلاء.

واختلف الفقهاء في الفيء :

فقال الجمهور : هو غشيان المرأة الذي امتنع عنه ، لا فيئة له إلا ذلك ، فإن كان هناك عذر من مرض أو سفر ، ومضت مدة الإيلاء دون وطء ، بانت منه في رأي طائفة ، وقال الأكثرون منهم المالكية : لا تبين منه ، وارتجاعه صحيح وهي امرأته.

وقال الحنفية : الفيء إما بالفعل وهو الجماع في الفرج ، وإما بالقول : كأن يقول : فئت إليك ، أو راجعتك ، وما أشبه ذلك.

وأما الطلاق بعد ترك الفيء في الإيلاء ففيه اختلاف أيضا :

فقال الحنفية : الفيء يكون قبل مضي المدة ، فإذا مضت الأربعة الأشهر بدون فيئة ، وقع الطلاق طلاقا بائنا.

وقال الجمهور : لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة ، فإن مضى الأجل ، لا يقع به طلاق ، وإنما ترفع المرأة الأمر إلى القاضي ، فإما فاء وإما طلّق ، أي إن الطلاق يقع بتطليق الزوج ، أو القاضي إذا رفعت الزوجة الأمر إليه.

ومنشأ الخلاف : اختلافهم في تأويل آية : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فرأى الحنفية : إن فاءوا في هذه الأشهر ، فإن الله غفور رحيم لما أقدموا عليه من الحلف على الإضرار

٣١٥

بالزوجة ، وإن لم يفيئوا في هذه الأشهر ، واستمروا في أيمانهم ، كان ذلك عزما منهم على الطلاق ، ويقع الطلاق بحكم الشرع. ويكون معنى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أي بترك الفيئة ، وقد شبهوا مدة الإيلاء بالعدة. والمولى عنها بالرجعية ، وشبهوا الطلاق بالطلاق الرجعي. وكان الإيلاء في الجاهلية طلاقا ، فأقره الشرع طلاقا ، وزاد فيه الأجل.

والمعنى عند الجمهور : للذين يحلفون يمين الإيلاء انتظار أربعة أشهر ، فإن فاءوا بعد انقضاء المدة ، فإن الله غفور رحيم ، وإن قصدوا إيقاع الطلاق ، فإن الله سميع لطلاقهم ، عليم بما يصدر عنهم من خير أو شرّ ، فيجازيهم عليه. وقد شبهوا أجل الإيلاء بالأجل الذي يحدد في العنّه (العجز الجنسي) ، لأن الإيلاء ضرر بالزوجة ، فإن رفعه الزوج وإلا رفعه الشرع كما في أي ضرر يتعلق بالوطء ، وهذا هو الظاهر ، لأن قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر ، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة (١).

ولا فرق في لزوم الإيلاء بين المرأة المدخول بها وغير المدخول بها.

ولا يشترط في المولي عند الجمهور : أن يكون مسلما ، فيصح إيلاء المسلم والكافر ، ولكن لا تلزمه الكفارة بالحنث عند الحنفية ، وتلزمه الكفارة في رأي الشافعية والحنابلة. واشترط المالكية أن يكون المولي مسلما ، فلا يصح إيلاء الذّمي ، كما لا يصحّ ظهاره ولا طلاقه ، لأن نكاح أهل الشرك لديهم غير صحيح ، وإنما لهم شبهة يد ، ولأنهم لا يكلفون الشرائع ، حتى تلزمهم كفارات الأيمان ، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء ، لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم ، ويذهبون إلى حكامهم ، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم ، حكم بحكم الإسلام ، كما لو ترك المسلم وطء زوجته ، ضرارا من غير يمين.

__________________

(١) روى مالك والبخاري عن ابن عمر قال : «إذا آلى الرجل من امرأته ، لم يقع عليه طلاق ، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف ، فإما أن يطلق ، وإما أن يفيء».

٣١٦

واتفق أئمة المذاهب الأربعة على وجوب كفارة اليمين على المولي الحانث بيمينه إذا فاء بجماع امرأته.

وأجمع العلماء على مشروعية تقديم الكفارة على الحنث في الإيلاء ، واختلفوا في مسألة الأيمان ، فرأى أبو حنيفة : أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث فيها.

وذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي لأربعة أشهر الأثر الذي رواه مالك بن أنسرحمه‌الله في الموطأ عن عبد الله بن دينار ، قال : خرج عمر بن الخطاب من الليل ، فسمع امرأة تقول:

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه

وأرّقني أن لا خليل ألا عبه

فو الله لو لا الله أني أراقبه

لحرّك من هذا السرير جوانبه

فسأل عمر ابنته حفصة رضي‌الله‌عنها : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت : ستّة أشهر أو أربعة أشهر ، فقال عمر : لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك.

عدّة المطلّقة وحقوق النساء

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

٣١٧

الإعراب :

(يَتَرَبَّصْنَ) خبر بمعنى الأمر ، أي ليتربصن ، وجاز ذلك لأن المعنى مفهوم. (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) نصب (ثَلاثَةَ) على أنه مفعول به ، أو ظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء. و (قُرُوءٍ) جمع كثرة ، وأقراء جمع قلة ، وإضافة العدد القليل وهو من الثلاثة إلى العشرة ، إلى جمع القلة أولى من إضافته إلى جمع الكثرة ، والسبب في مجيء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء : هو أن العرب يتسعون في ذلك ، فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر ، لاشتراكهما في الجمع ، ألا ترى إلى قوله : (بِأَنْفُسِهِنَ) ، وما هي إلا نفوس كثيرة ، ولعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء ، فأوثر عليه ، تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل. وفي ذكر الأنفس : تهييج لهن على التربّص ، وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكف منه ، فيحملهن على أن يتربص ، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال ، فأمرن بقمع أنفسهن وجبرها على التربّص (الكشاف : ١ / ٢٧٧).

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مِثْلُ) : مبتدأ ، و (لَهُنَ) خبره ، و (عَلَيْهِنَ): صلة (الَّذِي) ، ويتعلق بفعل مقدر : وهو الذي استقر عليهن. و (بِالْمَعْرُوفِ) : متعلق بلهن ، وتقديره : استقرّ لهن حق مثل الذي عليهن بالمعروف ، أي بالذي أمر الله في ذلك.

البلاغة :

(يَتَرَبَّصْنَ) خبر في معنى الأمر ، أي ليتربصن ، كما بيّنا. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ) للتهييج والحثّ والبعث على الأمر. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) فيه طباق بين لهن وعليهن ، وفيه إيجاز ، والمعنى : لهن على الرجال من الحقوق مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق.

المفردات اللغوية :

(يَتَرَبَّصْنَ) ينتظرن ويصبرن. (قُرُوءٍ) جمع قرء ، ويطلق في كلام العرب على الطهر ، وعلى الحيض حقيقة ، فهو من ألفاظ الأضداد. وأصل القرء : الاجتماع ، وسمي الطهر قرءا لاجتماع الدم في البدن ، وسمي الحيض قرءا لاجتماع الدم في الرحم ، وقد يطلق القرء على الوقت ، لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. ولما كان الحيض معتادا مجيئه في وقت معلوم ، سمت العرب وقت مجيئه قرءا. وجاء القرء بمعنى الحيض في قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : «دعي الصلاة أيام أقرائك» لذا قال الحنفية والحنابلة : المراد بالقرء الحيض ، وقال المالكية والشافعية : المراد به الطهر.

والاعتداد للمطلقات ثلاثة قروء مخصوص بالحرائر المدخول بهن ، أما غيرهن أي قبل الدخول ، فلا عدّة عليهن ، لقوله تعالى : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب ٣٣ / ٤٩] ، والقروء

٣١٨

مخصوصة أيضا بغير الآيسة والصغيرة ، لأن عدتهما ثلاثة أشهر ، وكذلك غير الحوامل لأن عدة الحوامل بوضع الحمل ، كما في قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ، وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ..) [الطلاق ٦٥ / ٤]. وعدة الإماء : قرءان ، بالسّنة.

(ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) من الولد أو الحيض. (وَبُعُولَتُهُنَ) أزواجهن ، مفرده بعل أي زوج ، والمراد هنا الزوج الذي طلق. (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) بينهما ، لا إضرار المرأة ، وهو تحريض على قصده ، لا شرط لجواز الرجعة ، وهذا في الطلاق الرجعي. (وَلَهُنَ) للنساء على الأزواج. (مِثْلُ الَّذِي) لهم (عَلَيْهِنَ) من الحقوق. (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا ، من حسن العشرة وترك الإضرار ونحو ذلك. (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي فضيلة في الحق ، من وجوب طاعتهن لهم ، لما ساقوه من المهر والإنفاق. (وَاللهُ عَزِيزٌ) في ملكه. (حَكِيمٌ) فيما دبّره لخلقه.

سبب النزول :

أخرج أبو داود وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصارية ، قالت : طلّقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدّة ، فأنزل الله العدة للطلاق : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ).

التفسير والبيان :

لتتربص ثلاث حيضات أو أطهار بعد الطلاق حرائر النساء اللاتي يطلقن ، وهن من ذوات الحيض ، للتعرف على براءة الرحم من الولد ، فيؤمن من اختلاط الأنساب ، وقد أخرج من حكم الآية كما بيّنا ثلاثة أصناف من النساء :

وهنّ المطلقات قبل الدخول ، فلا عدّة عليهن ، والصغيرات قبل سنّ الحيض واليائسات من المحيض لكبر السّن ، فعدتهن ثلاثة أشهر ، والحوامل فعدتهن وضع الحمل ، فصارت الآية هنا خاصة بعدّة النساء الممكنات الحيض ، غير المدخول بهنّ ، وغير الحوامل.

والتعبير بقوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) يشير إلى أن على النساء أن يحملن

٣١٩

أنفسهن على الصبر والانتظار لإتمام تلك المدة ، حتى تنقضي العدّة ، فلا يسايرن أهواءهن وشهواتهن ، إذ قد تكون أنفسهن تواقة إلى سرعة انقضاء العدّة ، والتزوّج بزوج آخر. وفي هذا التعبير لفت نظر لطيف ، فيه تعظيم وتبجيل ، إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا.

وحكمة هذا التربّص : هو التعرّف على براءة الرحم ، فلا تختلط الأنساب ، لذا لا يحلّ للنساء أن يكتمن شيئا مما في أرحامهن من حمل أو حيض ، وإن طالت العدة للتزوج بزوج آخر ، ولا يحلّ لهنّ الكذب بكتمان الحيض أيضا لأجل استدامة النفقة ما دمن في العدّة ، وقد جرت المحاكم الآن على أن أقصى العدّة سنة قمرية ، كما هو مذهب مالك رحمه‌الله تعالى.

وذلك إذا كنّ مؤمنات إيمانا صادقا بالله وباليوم الآخر ، فلا يخفى على الله شيء ، ويحاسب كل إنسان على قوله وفعله يوم القيامة ، مما يقتضي أن تكون المرأة أمينة على ما في رحمها ، فإن لم تكن أمينة لعدم إيمانها الكامل أضلّت نفسها وغيرها. وفي هذا تهديد شديد ووعيد لهن على خلاف الحق ، مما يدل على أن المرجع في هذا إليهن ، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ، ويتعذر إقامة البيّنة غالبا عليه ، فردّ الأمر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق ، إما استعجالا منها لانقضاء العدّة ، أو رغبة منها في تطويلها ، لما لها في الحالين من المقاصد ، فأمرت أن تخبر بالحق في شأنها من غير زيادة ولا نقصان.

وأزواجهن في حال الطلاق الرجعي أحقّ برجعتهن إلى بيت الزوجية ، في مدة العدّة ، حرصا من الشرع على إبقاء الرابطة الزوجية السابقة ، فليس هناك من الحلال أبغض عند الله من الطلاق ، وعلى المرأة الاستجابة إلى طلب الزوج الرجعة ، بشرط أن يكون المقصود بالرجعة : الإصلاح والخير للزوجين. أما إذا كان القصد هو الانتقام والإضرار ومنعها من الزواج بآخر ، حتى تكون كالمعلّقة ،

٣٢٠