التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

غيره ، ويجب الحد في تناوله ، ولا فرق بين المسكرات التي كانت في الماضي والمسكرات ذات التسميات الحديثة المتخذة من التفاح أو البصل أو غيرهما ، فكل مادة مسكرة تذهب العقل وتضيع الصحة والمال ، وتقضي على الكرامة الشخصية ، فهي حرام كالخمر ، لوجود علة الإسكار فيها ، وبالأولى ما هو أفتك منها وأشد كبعض السموم التي تؤخذ حقنا تحت الجلد ، أو شمّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهيروين.

ومن خصائص التشريع الإسلامي ومزاياه الطيبة أنه لم يوجب على المسلمين الشرائع دفعة واحدة ، ولكن تدرج بهم ، وأوجب عليهم مرة بعد مرة تكريما لهذه الأمة وبرا بها ، وهذا هو مبدأ التدرج في التشريع ، وقد جاء تحريم الخمر والربا على هذا النحو.

وكل لعب فيه غرم بلا عوض ، وفيه استيلاء على أموال الناس بغير حق ولا جهد معقول فهو حرام ، فالميسر أو القمار ولعب الموائد والسباق على عوض من أحد المتسابقين يغرمه للآخر الفائز ، وأوراق اليانصيب ، كل ذلك حرام ، لما فيه من المتسابقين يغرمه للآخر الفائز ، وأوراق اليانصيب ، كل ذلك حرام ، لما فيه من إضاعة المال أو الكسب من غير طريق شرعي ، ولاشتماله على أضرار كثيرة مدمرة للجماعة والأفراد.

روي عن أبي موسى عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا هذه الكعاب الموسوسة التي يزجر بها زجرا ، فإنها من الميسر». وقال عليه الصلاة والسّلام أيضا ـ فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي موسى ـ : «من لعب بالنرد ، فقد عصى الله ورسوله».

وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وآخرون من الصحابة والتابعين : كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب (١) ، إلا ما أبيح من الرّهان في الخيل ، والقرعة في إفراز الحقوق ، بأن

__________________

(١) هي فصوص النرد.

٢٨١

يكون العوض أو المكافأة من شخص ثالث كالدولة أو بعض الأغنياء ، أو من أحد المتسابقين دون أن يلتزم الآخر بشيء إذا خسر.

وقال مالك : الميسر ميسران : ميسر اللهو ، وميسر القمار ، فمن ميسر اللهو : النّرد والشطرنج والملاهي كلها ، وميسر القمار : ما يتخاطر الناس عليه.

وذكر العلماء : أن المخاطرة (المراهنة) من القمار ، قال ابن عباس : المخاطرة قمار ، وإن أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة ، وقد كان ذلك مباحا ، إلى أن ورد تحريمه ، وقد خاطر أبو بكر المشركين ، حين نزلت : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [الروم ٣٠ / ١] وخسر الرهان ، فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زد في الخطر ، وأبعد في الأجل» ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمار.

وأما ما يسمى باليانصيب الخيري لمواساة الفقراء ورعاية الأيتام وأولي العاهات ، أو لبناء المدارس والملاجئ والمشافي وغيرها من أعمال البر والصالح العام ، فهو حرام أيضا ، لأن هذه الأعمال ، وإن كانت معتبرة في الشريعة ، ولكن الطريق إليها حرام ، لأن الحرام في ذاته كالرشوة وشهادة الزور لا يجوز اللجوء إليه للوصول إلى الحلال ، ولا ينتج عن العصيان طاعة كما قال عليه الصلاة والسّلام في الحديث الصحيح : «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا».

وقد حرّم الشرع الميسر الذي كان عليه عرب الجاهلية ، وإن كانوا يطعمون الأنصباء الفقراء ، ولا يأكلون منها شيئا.

وكون اليانصيب غير الخيري لا يؤدي إلى ضرر العداوة والبغضاء ، لعدم معرفة الرابح من قبل الخاسرين ، خلافا لميسر العرب وقمار الموائد ، لا يسوغ القول بالجواز ، لأن فيه مضار القمار الأخرى وأهمها : أنه طريق لأكل أموال

٢٨٢

الناس بالباطل ، أي بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة ، وهذا محرم بنص القرآن.

والادعاء بأن في ميدان اليانصيب قد سمح المشتركون للرابح بأموالهم وخرجوا له عن طيب أنفسهم : غير صحيح ، لأن التراضي لا وجود له في الحقيقة ، وكل من يدفع ثمن بطاقة يحلم بالربح ، وهو في حال الخسران يحقد على الرابحين. والرضا المعتبر هو في العقود والمعاملات بشرط خلوة من العيوب ، وبخاصة الإكراه في أي صورة ، سواء أكان ماديا أم معنويا. والرضا في اليانصيب رضا قسري ، كالرضا الحاصل في الربا والرشوة ، والرضا شرعا لا يعتبر إلا إذا كان في حدود الشرع.

ويمكن تحقيق المقصد الخيري لليانصيب من أجل الصالح العام بطريق فرض ضرائب على أموال الأغنياء ، وتؤخذ بدون مقابل ، لسد حاجة البلاد ، وفقا لقاعدة : «يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام» أو يستدين الحاكم من الأغنياء إذا كان هناك احتمال امتلاء الخزينة.

وإن وجود بعض المنافع التجارية أو اللذة والطرب في الخمر ، أو مواساة الفقراء في الميسر أو سرور الرابح وصيرورته غنيا بدون تعب ، لا يمنع تحريمهما ، لأن المعول عليه في التحريم أو الحظر غلبة المضار على المنافع ، والإثم أكبر من النفع في الدنيا نفسها ، وأعود بالضرر في الآخرة ، فالإثم بعد التحريم ، والمنافع قبل التحريم.

وأما نفقة التطوع : فهي الزائدة عن الحاجة وهي العفو ، وقد كان السؤال في هذه الآية عن قدر الإنفاق ، أما السؤال في الآية المتقدمة التي نزلت في شأن عمرو بن الجموح فكان عن الجهة التي تصرف إليها : «قل : ما أنفقتم من خير فللوالدين ..».

٢٨٣

والعفو : ما سهل وتيسر وفضل ، ولم يشق على القلب إخراجه ، ويكون المعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ، ولم تؤذوا فيه أنفسكم ، فتكونوا عالة.

وأما حكمة إطلاق الأمر بالنفقة في مبدأ الإسلام : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة ٢ / ١٩٥] فلأن المسلمين كانوا في الماضي فئة قليلة تحتاج إلى التضامن والتعاون فيما بينها لتحقيق المصلحة العامة ، ولأن الإنفاق ينبغي فيه أن يحقق الكفاية ، سواء كان لإغناء الفقراء ، أو لصد الأعداء. فلما كثر المسلمون ، وتحقق ما يكفي الصالح العام ، ظهرت الحاجة إلى تقييد الإنفاق ، لذا سأل المسلمون : ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأنهم ينفقون الفضل والزيادة عن حاجة من يعولونهم.

وأرشد قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) وما تلاه بعدئذ : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في الآية التالية إلى ضرورة استخدام الفكر ، وتنمية دائرة التفكير ، واستعمال العقل في مصالح الدارين معا. لذا قال علماؤنا : إن تعلم ما تحتاج إليه الأمة في معايشها من الفنون والصناعة والزراعة والتجارة وشؤون الحرب والدفاع من الفروض الدينية الكفائية ، إذا أهملها الكل أثموا.

الولاية على مال اليتيم

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠))

الإعراب :

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) جار ومجرور في موضع نصب ، متعلق إما بفعل : (تَتَفَكَّرُونَ) في الآية السابقة أو بفعل : (يُبَيِّنُ) ، وتقدير : يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة ، لعلكم

٢٨٤

تتفكرون (إِصْلاحٌ) مبتدأ ، وهو نكرة ساغ الابتداء به لتقييده بالمجرور الذي هو : (لَهُمْ) ، و (خَيْرٌ) : خبر إصلاح.

(وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) الألف واللام فيهما للجنس ، لا للمعهود ، أي يعلم هذين الصنفين ، كقولهم : الرجل خير من المرأة ، أي جنس الرجال خير من جنس النساء.

البلاغة :

(وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) فيه التفات من غيبة إلى خطاب لأن قبله : (وَيَسْئَلُونَكَ) والحكمة من الالتفات : أن يتهيأ المخاطب لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه.

(الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فيه من علم البديع ما يسمى : الطباق.

المفردات اللغوية :

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي في أمر الدنيا والآخرة ، فتأخذوا بالأصلح لكم فيهما ، والجار والمجرور متعلق بفعل : (تَتَفَكَّرُونَ) في الآية السابقة ، أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين ، فتأخذون بما هو أصلح لكم.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) أي عن الإشراف على اليتامى وكفالتهم وما يلقونه من الحرج في شأنهم ، فإن واكلوهم أثموا ، وإن عزلوا ما لهم عن أموالهم وصنعوا لهم طعاما وحدهم ، فحرج. واليتيم : من فقد أباه (قُلْ : إِصْلاحٌ لَهُمْ) في أموالهم بتنميتها خير من ترك ذلك.

(وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) تخلطوا أموالكم بأموالهم (لَأَعْنَتَكُمْ) لضيق عليكم بتحريم المخالطة ، والعنت : المشقة والإحراج (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره. (حَكِيمٌ) في صنعه.

سبب النزول :

أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام ٦ / ١٥٢] و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) الآية [النساء ٤ / ١٠] ، انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه ،

٢٨٥

فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) الآية.

قال الضحاك والسدي : سبب نزولها أنهم كانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب وغيرهما.

المناسبة :

الحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر : هي التذكير بطائفة من الناس هي أحق بالإنفاق عليها لإصلاحها وتربيتها ، وهي جماعة اليتامى ، فينفق عليها من العفو الزائد عن الحاجة.

التفسير والبيان :

ويسألونك عن مخالطة اليتامى والقيام بأمرهم ، هل يخالطونهم أو يجعلون أموالهم مستقلة؟ فأجابهم تعالى : قصد إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من اعتزالهم ، فإن كان في مخالطتهم إصلاح لهم ومنفعة ، فذلك خير ، فهم إخوانكم في الدين والنسب ، والأخ يخالط أخاه ويداخله ولا حرج في ذلك ، وإن كان في عزل بعض أموالهم كالنقود إصلاح لأموالهم ، فهو خير ، فعليكم أن تراعوا المصلحة فيهم ، وأن تحسنوا النظر في أموالهم.

فكانت هذه الآية إذنا في المخالطة مع صحة القصد ، لا أن يقصد الولي نفع نفسه بهذه الخلطة ويضر اليتيم ، ولا يقبل أن تكون مخالطتهم ذريعة إلى أكل أموالهم بغير حق ، فالله سبحانه يعلم المحسن والمسيء وكل ما تضمره النفوس. وجملة : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) معناها التحذير ، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح ، والمعنى : أنه يجازي كلا منهما على الوصف الذي قام به ، وكثيرا ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير.

٢٨٦

ولو شاء الله أن يضيق عليكم ويشدد بأن يوجب الاعتزال وعزل أموال اليتامى عن أموالكم ، لفعل ذلك ، ولكنه ينظر للمصلحتين : مصلحة اليتيم ، ومصلحة التيسير ودفع الحرج ، فشأنه تعالى الأخذ باليسر ، كما قال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة ٢ / ١٨٥] وقال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج ٢٢ / ٧٨].

وهو تعالى القوي الذي لا يغلب ، فهو قادر على أن يكلف بالشاق من الأعمال ، ولكنه حكيم في صنعه لا يكلف إلا ما فيه الطاقة كما قال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت هذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح ، فيجوز لولي اليتيم أن يتاجر بأموال اليتامى بيعا وشراء ومضاربة وقسمة وأن يكون الولي نفسه هو المضارب.

وأن يخلط ماله بماله إذا توافر الصلاح ومراقبة الله في الأعمال ، وبعد عن الفساد والإفساد ، خلافا لما عليه أكثر الأوصياء على اليتامى.

قال الجصاص الرازي : دل قوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) على إباحة خلط ماله بماله ، والتصرف فيه في الصهر والمناكحة ، وأن يزوجه بنته ، أو يزوج اليتيمة بعض ولده ، فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله ، واختلط هو بهم ، والدليل : هو إطلاق لفظ المخالطة.

وإذا كانت الآية قد دلت على جواز خلط مال اليتيم بماله في مقدار ما يغلب في ظنه أن اليتيم يأكله ، على ما روي عن ابن عباس ، فقد دلت على جواز المناهدة (١) التي يفعلها الناس في الأسفار ، فيخرج كل واحد منهم شيئا معلوما ،

__________________

(١) المناهدة : الأكل الجماعي المشترك من زاد السفر المختلط.

٢٨٧

فيخلطونه ، ثم ينفقونه ، وقد يختلف أكل الناس. ويدل لجواز المناهدة أيضا قوله تعالى في قصة أهل الكهف : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) [الكهف ١٨ / ١٩] فكان الورق (الفضة) لهم جميعا بقوله : (بِوَرِقِكُمْ) فأضافه إلى الجماعة ، وأمر أحدهم بالشراء ، ليأكلوا جميعا منه (١).

ودل قوله : (إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) على أن التجارة في مال اليتيم وتزويجه ليس بواجب على الوصي ، لأن ظاهر اللفظ يدل على أن مراده الندب والإرشاد.

ودل ظاهر الآية على أن ولي اليتيم يعلّمه أمر الدنيا والآخرة ، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلّمه الصناعات. وإذا وهب لليتيم شيء ، فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح (٢).

أما الإشهاد من الوصي أو الكفيل على الإنفاق من مال اليتيم ، فله عند المالكية حالتان : حالة يمكنه الإشهاد عليها ، فلا يقبل قوله إلا ببينة ، كإعطاء الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة ، فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة (سنويا). وحالة لا يمكنه الإشهاد عليها ، فقوله مقبول بغير بينة ، كالأكل واللبس في كل وقت.

وقد نشأت من هذه الآية مذاهب في تزويج الرجل نفسه من يتيمته إن كانت تحل له ، وفي الشراء لنفسه من مال اليتيم.

فقال مالك : لا يزوج الرجل نفسه من اليتيمة ، ولكن يشتري لنفسه من مال اليتيم.

وقال أبو حنيفة : إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوّج منه. وله كما قال مالك أن يشتري من مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٣٣١.

(٢) المرجع والمكان السابق.

٢٨٨

المثل ، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن.

والشافعي : لا يرى في التزويج إصلاحا ، إلا من جهة دفع الحاجة ، ولا حاجة قبل البلوغ ، ولا يجوز له الشراء من مال اليتيم ، لأنه لم يذكر في الآية التصرف.

وأحمد : يجوز للوصي التزويج ، لأنه إصلاح (١).

الاجتهاد :

استنبط الجصاص من قوله : (قُلْ : إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث ، لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق الاجتهاد وغالب الظن (٢).

وأرشدت الآية إلى أن الأحكام الإسلامية مبنية على اليسر والسماحة ، متلائمة مع القدرة والطاقة البشرية المعتادة دون إعنات ولا إحراج ، مع أن الله قادر على أن يضيق علينا ويشدد في أحكامه ، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل علينا.

زواج المسلم بالمشركة

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٦٤ ، أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٣٣٠

(٢) الجصاص ، المرجع والمكان السابق.

٢٨٩

البلاغة :

(يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) يوجد طباق بين كلمتي النار والجنة.

المفردات اللغوية :

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) لا تتزوجوا بالنساء الحربيات غير الكتابيات. واحدها مشركة : وهي من ليس لها كتاب ، وقيل : المشركات : الكافرات. (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) لجمالها ومالها ، وهذا على تفسيرها بالكافرات مخصوص بغير الكتابيات بآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المائدة ٥ / ٥] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط ، وهو قول ابن عباس والأوزاعي. (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) لا تزوجوا نساءكم المؤمنات الكفار مطلقا. (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) لماله وجماله (أُولئِكَ) أي أهل الشرك. (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إلى العمل الموجب لها ، فلا تليق مناكحتهم. (وَاللهُ يَدْعُوا) على لسان رسله. (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي العمل الموجب لهما. (بِإِذْنِهِ) بإرادته ، فتجب إجابته بتزويج أوليائه. (يَتَذَكَّرُونَ) يتعظون.

سبب النزول :

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن مقاتل قال : نزلت هذه الآية في ابن أبي مرثد الغنويّ استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «عناق» أن يتزوجها وهي مشركة ، وكانت ذات حظ من جمال ، فنزلت.

وفي عبارة أو في رواية أخرى : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ، ليخرج منها ناسا من المسلمين ، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها ، عناق ، فأتته ، وقالت : ألا تخلو؟ فقال : ويحك ، إن الإسلام قد حال بيننا ، فقالت : فهل لك أن تتزوج بي؟ قال : نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأستأمره ، فاستأمره ، فنزلت».

وأخرج الواحدي من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء ، وإنه غضب ، فلطمها ، ثم إنه فزع ، فأتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره وقال : لأعتقنها ولأتزوجنها ،

٢٩٠

ففعل ، فطعن عليه ناس ، وقالوا : ينكح أمة؟! فأنزل الله هذه الآية وأخرجه ابن جرير الطبري عن السدي منقطعا.

ويلاحظ في أسباب النزول أمران كما ذكر السيوطي : الأول ـ إن رواية الصحابة سبب نزول آية هو لتوضيح معناها ويتناول أمثال ما حدث. والثاني ـ قد يكون السبب الذي ذكروه حصل عقب نزول الآية.

التفسير والبيان :

هذه الآية من جملة الأحكام التي تنظم المجتمع الإسلامي الداخلي ، فلما أذن الله تعالى في مخالطة الأيتام ، وفي مخالطة الزواج ، بيّن أن مناكحة المشركين لا تصح.

ومعناها : ولا تتزوجوا أيها المؤمنون المشركات اللاتي لا كتاب لهن حتى يؤمنّ بالله واليوم الآخر ، ويصدّقن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد جاء لفظ المشرك في القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة ٢ / ١٠٥] وقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة ٩٨ / ١] والخلاصة : لا تتزوجوا المشركات ما دمن على شركهن.

ولأمة مؤمنة بالله ورسوله ، وإن كانت رقيقة وضيعة ، أفضل من حرة مشركة ، وإن كرم أصلها ، وإن أعجبتكم في الجمال والحسب والمال ، إذ بالإيمان كمال الدين والحياة معا ، وبالمال والجاه كمال الدنيا فقط ، ورعاية الدين وما يستتبعه من دنيا أولى من رعاية الدنيا.

ولا تزوجوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله ، ولأن تزوجوهن من عبد مؤمن بالله ورسوله ، مع ما به من مهانة ، خير لكم من أن تزوجوهن من حرّ مشرك ، وإن أعجبكم في الحسب والنسب والشرف.

٢٩١

وسبب تحريم زواج المسلم بالمشركة والمسلمة بالكافر مطلقا كتابيا كان أو مشركا : هو أن أولئك المشركين والمشركات يدعون إلى الكفر والعمل بكل ما هو شرّ يؤدي إلى النار ، إذ ليس لهم دين صحيح يرشدهم ، ولا كتاب سماوي يهديهم إلى الحق ، مع تنافر الطبائع بين قلب فيه نور وإيمان وبين قلب فيه ظلام وضلال.

فلا تخالطوهم ولا تصاهروهم ، إذ المصاهرة توجب المداخلة والنصيحة والألفة والمحبة والتأثر بهم ، وانتقال الأفكار الضالة ، والتقليد في الأفعال والعادات غير الشرعية ، فهؤلاء لا يقصرون في الترغيب بالضلال ، مع تربية النسل أو الأولاد على وفق الأهواء والضلالات. والخلاصة : أن العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار.

والله يدعو ويرشد بكتابه المنزل وأنبيائه إلى ما يوصل إلى الجنة ونعيمها ، وإلى المغفرة وستر الذنوب بإذنه وأمره وإرادته وبإعلامه السبيل الحق ، ويوضح آياته وأحكامه وأدلته للناس ، ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر ، وليتعظوا فلا يخالفوا أمره ، ولا يسيروا بأهوائهم أو وراء الشيطان ، لأن ذكر الأحكام بعللها وأدلتها يكون أدعى لقبولها والرضا بها والمبادرة إلى تنفيذها.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن زواج المسلم بالمرأة المشركة كالوثنية والبوذية والملحدة لا يصح بحال.

أما المرأة الكتابية (اليهودية أو النصرانية) فقد أباح الشرع التزوج بها بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ـ مهورهن ـ (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [المائدة ٥ / ٥]. والمحصنات : العفائف.

٢٩٢

والفرق بين المشركة والكتابية واضح ، وهو أن الأولى لا تؤمن بدين أصلا ، وأما الثانية فتشترك مع المسلم بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وبالحلال والحرام ، ووجوب فعل الخير والفضيلة ، والبعد عن الشر والرذيلة.

وأجاز الشرع زواج المسلم بالكتابية ، ولم يجز زواج المسلمة بالكتابي ، لأمر واضح أيضا وهو أن الكتابية لها أن تبقى على دينها بزواجها بمسلم ولا تتضرر فيما تدين به ، ولأن المسلم يؤمن بدينه المتضمن الإقرار بأصول الأديان الأخرى ، ومنها الدين اليهودي والدين النصراني في أصوله الأولى التي تتفق مع الإسلام في الدعوة إلى التوحيد والفضائل الإنسانية ، فهي مع المسلم في دائرة متسعة تسع دينها وغيره ، وربما إذا لمست روح التسامح وحسن المعاملة من زوجها عاشت سعيدة هانئة معه دون تضرر.

وبما أن للرجل عادة سلطة القوامة على المرأة ، وهي أقوى من سلطة المرأة ، فلو تزوج الكتابي المسلمة أمكن التأثير عليها ، فربما تركت دينها ، وتضررت غالبا بمعاشرة زوجها ، لعدم توافر الانسجام والوئام الروحي والحسي ، والكتابي لا يؤمن بالإسلام ، فتكون معه في دائرة ضيقة الأفق ، وهي متسعة الاعتقاد ، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، فعزة المسلمة تأبى عليها أن تكون زوجة لكتابي.

هذا ما عليه جمهور العلماء ، مع القول بأن زواج المسلم بالكتابية مكروه ، وحينئذ تحمل الآية هنا على العرف الخاص ، وهو المشركة بالمعنى الضيق (أي عابدة الوثن وأمثالها) ، ولا تكون الآية منسوخة ولا مخصصة ، وإنما تفيد حكما : هو حرمة نكاح الوثنيات والمجوسيات ، وتكون آية المائدة (وَالْمُحْصَناتُ ..) المتقدمة مفيدة حكما آخر هو حل الزواج بالكتابيات ، فلا تعارض بينهما ، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب ، لقوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ

٢٩٣

رَبِّكُمْ) [البقرة ٢ / ١٠٥] وقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة ٩٨ / ١] ففرّق بينهم في اللفظ ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص ، وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بعد قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) نص ، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل.

وذهب بعضهم إلى أن لفظ (الْمُشْرِكاتِ) يعم كل مشركة ، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية ، ولم ينسخ أو يخص منها شيء ، فيكنّ جميعا قد حرم على المسلم زواجهن. روي عن ابن عباس أنه قال : إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكلّ من على غير الإسلام حرام. فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في «المائدة». ويؤيده قول ابن عمر في الموطأ : «ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة : ربّها عيسى». وروي عن عمر بن الخطاب القول بحرمة الكتابيات ، وأنه فرّق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين ، وقالا : نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب ، فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرّق بينكما صغرة قمأة. لكن قال ابن عطية : وهذا لا يستند جيدا ، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما ، فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام ، فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو ذلك. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر (١). وهذا ما عليه الأمة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والخلاصة : أن الذي صح إسنادا عن عمر هو إباحة زواج المسلم بالكتابية ، وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رضي‌الله‌عنهما نكاح اليهودية والنصرانية حذرا من

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٦٨

٢٩٤

اقتداء الناس بهما ، والزهد بالمسلمات ، أو خشية الوقوع بالمومسات ، أو غير ذلك من المعاني والحكمة البعيدة الأفق بالنظر لمصلحة المسلمين العامة.

وأما الكتابية الحربية : فلا تحل في رأي ابن عباس ، لقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله (صاغِرُونَ) [التوبة ٩ / ٢٩] وكره مالك تزوج الحربيات ، لعلة ترك الولد في دار الحرب ، ولتصرّفها في الخمر والخنزير.

واتفق أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم على حرمة نكاح نساء المجوس ، لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) وهن الوثنيات والمجوسيات.

وأجمعت الأمة على حرمة زواج المسلمة بالكافر ، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام ، ولما بينا سابقا ، وللآية : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك.

ودلت آية (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) على أن لا نكاح إلا بولي ، وهو رأي جمهور العلماء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نكاح إلا بولي» (١) وقوله : «لا تزوج المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» (٢). وأجاز أبو حنيفة للمرأة مباشرة عقد زواجها بنفسها أو بالوكالة عن غيرها ، لكمال أهليتها ، ولإسناد لفظ النكاح إلى المرأة في آيات كثيرة ، مثل (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة ٢ / ٢٣٠] ومثل : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) [البقرة ٢ / ٢٣٢] والمراد بالعضل : منع النساء من مباشرة عقد الزواج عند اختيارهن الأزواج. وحملوا حديث «لا نكاح إلا بولي» على الكمال أو الندب والاستحباب ، لا على الوجوب.

__________________

(١) رواه أصحاب السنن الخمسة إلا النسائي عن أبي موسى الأشعري.

(٢) رواه ابن ماجه والدار قطني والبيهقي عن أبي هريرة.

٢٩٥

وأخيرا ، يمكن القول : إن إباحة زواج المسلم بالكتابية عند غير الشيعة هو في الواقع حالة استثنائية ، وليست أصلا ، ولذا فإنا نشجب إقبال الشبان على الزواج بالأجنبيات ، افتتانا بالجمال الأشقر ، واستسهالا للزواج ، لكونه بغير مهر يذكر ، لأن هاتيك الزوجات تفسد على الرجل غالبا دينه ووطنيته ، وتعزله عن انتمائه لبلاده وقومه ، وتربي الأولاد على هواها ودينها ، فضلا عن نظرة الاستعلاء والفوقية عندها ، واحتقار العرب والمسلمين ، وقد تقتل الزوج ، وقد تأخذ الأولاد إلى بلادها وتترك الزوج ، وقليل جدا منهن من أسلم ، فلا مطمع فيهن.

وأما زواج المسلمة بغير المسلم فهو أشد وأنكى ، إذ الزواج باطل حرام بإجماع المسلمين ، والأولاد أولاد زنا ، والعلاقة القائمة بينها وبين الرجل لا تجيز الاستمتاع وإن طال الأمد ، لبطلانها أصلا ، فإن استحلّت المرأة ذلك فهي مرتدة كافرة. والإقامة في دار الكفر لا تسوغ القول بالحلّ ، إذ يحرم على المسلم والمسلمة المقام بين الكفار إلا لضرورة قصوى أو حاجة ملحة أو موقوتة ، ونعوذ بالله تعالى من هذا الانحراف الخطير ، والتهاون في أمر الدين.

الحيض وأحكامه

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

٢٩٦

الإعراب :

(حَتَّى يَطْهُرْنَ) قرئ بتشديد الطاء وتخفيفها ، فمن قرأ بالتشديد أراد : حتى يغتسلن وأصله : يتطهرن ، وكرهوا اجتماع التاء والطاء ، فأسكنوا التاء وأبدلوا منها طاء ، وأدغموا الطاء في الطاء. ومن قرأ بالتخفيف أراد : ينقطع دمهن ، وعلى هاتين القراءتين ينبني الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة ، في جواز وطء الحائض إذا انقطع دمها لأكثر الحيض (١٠ أيام) قبل الغسل ، فأجازه أبو حنيفة وأباه الشافعي.

البلاغة :

(قُلْ هُوَ أَذىً) تشبيه بليغ أي كالأذى ، والأذى كناية عن القذر على الجملة ، أي أن الحيض شيء يستقذر ويؤذي من بقربه نفرة منه وكراهة له ، فتتأذى منه المرأة وغيرها برائحة دم الحيض.

(وَلا تَقْرَبُوهُنَ) كناية عن الجماع.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ) على حذف مضاف أي موضع حرث ، أو على سبيل التشبيه ، فالمرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات الخارج.

المفردات اللغوية :

(الْمَحِيضِ) هو الحيض كالمعيش أي العيش : وهو لغة : السيلان ، يقال : حاض السيل وفاض. وشرعا : دم فاسد يخرج من أقصى رحم المرأة كل شهر مرة واحدة ، أقله عند الشافعي وأحمد : يوم وليلة ، وغالبة : ست أو سبع ، وأكثره : خمسة عشر يوما. والحكمة : الاستعداد للحمل حين المعاشرة الزوجية ، إبقاء للنوع البشري. وقد يراد بالمحيض : مكانه الذي يفعل بالنساء فيه (أَذىً) قذر أو محله ، أو هو ضرر ومؤذ مكروه تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض. واعتزال النساء من الحيض : ترك غشيانهن في هذه المدة. (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) مثل (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) كناية عن عدم الجماع.

(يَطْهُرْنَ) يغتسلن بالماء إن لم يوجد مانع ، أو التيمم خلفا عنه في رأي الشافعي. وقال أبو حنيفة : إن طهرت لأقل من عشرة أيام ، فلا تحل له إلا إذا اغتسلت ، أو مضى وقت صلاة كامل والدم منقطع ، وإن طهرت لأكثر مدته وهي عشرة أيام ، حلت له ولو لم تغتسل. (فَأْتُوهُنَ) بالجماع (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) بتجنبه في الحيض ، وذلك في المكان المأمور به وهو القبل ، لا الدبر (التَّوَّابِينَ) من الذنوب (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) من الأقذار. (حَرْثٌ لَكُمْ) موضع حرث

٢٩٧

كالأرض التي تستنبت ، شبهت بها النساء ، لأنها منبت للولد ، كالأرض للنبات (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي جامعوا في القبل ، كيف شئتم من قيام وقعود ، واضطجاع وإقبال وإدبار ، ونزل ردا لقول اليهود : من أتى امرأته في قبلها من جهة دبرها ، جاء الولد أحول. (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) العمل الصالح ، كالتسمية قبل الجماع (وَاتَّقُوا اللهَ) في أمره ونهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) بالبعث ، فيجازيكم بأعمالكم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الذي اتقوه بالجنة.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٢٢):

روى مسلم والترمذي عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم ، لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسأل الأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فأنزل الله عزوجل : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) الآية ، فقال : «اصنعوا كل شيء إلا النكاح».

نزول الآية (٢٢٣):

روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر قال : كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها ـ أي يأتي امرأته من ناحية دبرها في قبلها ـ : إن الولد يكون أحول ، فنزلت : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ..) الآية (١).

وقال مجاهد : كانوا يتجنبون النساء في الحيض ، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض ، فنزلت. وروى الحاكم عن ابن عباس قال : إن هذا الحي من قريش كانوا يتزوجون النساء ، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ، فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار ، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بمكة ، فأنكرن ذلك وقلن : هذا شيء لم نكن نؤتى عليه ، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية.

__________________

(١) زاد في رواية الزهري : «إن شاء مجبّية ، وإن شاء غير مجبّية ، غير إن ذلك في صمام واحد» والمجبية : المنكبة على وجهها كهيئة السجود

٢٩٨

التفسير والبيان :

هذا ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو ، لاتصالها بما قبلها وما بعدها ، وقد سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الحيض ، لأن اليهود كانوا يقولون : إن كل من مسّ الحائض في أيام طمثها ، يكون نجسا ، وكانوا يتشددون في معاملة الحائض ، فيعتزلونها في الأكل والشرب والنوم ، كما بينا ، وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض ، فلا تفرق بين الحيض وغيره ، وكانت العرب في الجاهلية كاليهود والمجوس لا يساكنون الحائض ، ولا يؤاكلونها ، فصارت هذه الأحوال مدعاة للتساؤل عن حكم مخالطة النساء زمن الحيض ، فأجابهم تعالى:

إن الحيض ضرر وأذى ، يضر الرجل والمرأة على السواء ، فامتنعوا من جماع النساء في مدة الحيض ، ولا حرج في غير الجماع من التقبيل والمفاخذة مثلا ، في رأي الحنابلة ، للحديث المتقدم الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن : «اصنعوا كل شيء إلا الجماع»(١).

وحرم الجمهور الاستمتاع بما بين السرة والركبة ، لما روى أبو داود عن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : «لك ما فوق الإزار» أي ما فوق السرة ، ولأن الاستمتاع بما دون الإزار يدعو إلى الجماع.

وأيّد الطب اتجاه الشرع ، فأثبت الأطباء أن الوقاع في أثناء الحيض يحدث آلاما والتهابات حادة في أعضاء التناسل لدى الأنثى ، كما أن تسرب الدم في فوهة عضو الرجل قد يحدث التهابا صديديا يشبه السيلان ، وقد يصاب الرجل بالزهري إذا كانت المرأة مصابة به ، وقد يؤدي الجماع إلى عقم كل من الرجل والمرأة.

ولا تقربوهن حتى يطهرن من الحيض ، فإذا تطهرن بالاغتسال بالماء

__________________

(١) وفي رواية : «إلا النكاح» وفي رواية «إلا الفرج»

٢٩٩

ـ والطهر : انقطاع دم الحيض ، والتطهر : الاغتسال ـ فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله وأذن به : وهو القبل ، لأنه موضع النسل ، إن الله يحب الذين يتوبون من المعاصي ، كإتيان النساء في المحيض أو في أدبارهن ، ونحو ذلك مما يصادم الفطرة والطبع السليم ، ويحب الذين يتطهرون من رجس الفاحشة أو المعصية ، ومن كل دنس مادي كالحيض والنفاس. ومحبة الله : إرادته ثواب العبد. والتوبة : هي رجوع العبد عن حالة المعصية. وكنى بالإتيان عن الوطء.

نساؤكم الطاهرات من الحيض مواضع حرثكم وإنجاب نسلكم ، فالنطفة كالبذرة في الأرض ، ولا يحل إتيان النساء في زمن الحيض ، حيث لا استعداد لقبول الزرع ، ولا في الدبر ، لأنه غير محل الإنجاب ، ويؤدي إلى ضرر واضح ظهر حديثا : وهو إفساد الدم والموت.

وهذه الآية تعد شارحة للآية السابقة ، ومبّينة وجه الحكمة التي من أجلها شرع الاستمتاع : وهو حفظ النوع البشري بالاستيلاد.

فأتوا حرثكم بلا حرج بأي كيفية شئتم ، قائمة وقاعدة ومضطجعة ومقبلة ومدبرة ، ما دام المأتى واحدا وهو في القبل الذي هو موضع الحرث ، كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم ، فلا تحظر عليكم جهة من الجهات. وكذلك تفيد الآية إباحة إتيان النساء بالنكاح لا بالسفاح ، وفي الوقت المأذون به شرعا ، لا محرمات ، ولا صائمات ، ولا معتكفات.

وقدموا لأنفسكم الخير وصالح الأعمال (١) عدة لكم يوم الحساب ، واتقوا الله واحذروا معاصيه ، فلا تقربوها ، وحدوده فلا تضيعوها ، ولا تريقوا ماء الحياة في الحيض أو في غير موضع الحرث ، واختاروا المرأة المتدينة ، وأعرضوا عن سيئة

__________________

(١) وقيل : ابتغاء الولد والنسل ، لأن الولد خير الدنيا والآخرة ، فقد يكون شفيعا وجنّة.

وقيل : هو التزوج بالعفائف ، ليكون الولد صالحا طاهرا.

٣٠٠