التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وينصر أهله على قلتهم ، ويخذل المبطلين على كثرتهم ، كما قال : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٤٩].

والله الذي فرض عليكم القتال يعلم أيضا أن هؤلاء الأعداء لا ينفع معهم إلا القتل والتشريد والإذلال ، حتى لا يعودوا إلى الاعتداء على المسلمين أبدا.

وقد اختلف العلماء فيمن كتب عليهم القتال في هذه الآية :

فقال الأوزاعي وعطاء : نزلت في الصحابة ، فهم الذين كتب عليهم الجهاد.

وقال الجمهور : إن القتال فرض على جميع المسلمين بحسب الحاجة أو الحال ، فإن كان الإسلام غالبا فهو فرض على الكفاية ، وإن كان العدو غالبا فهو فرض على الأعيان ، حتى يتحقق النصر. وهذا هو الراجح ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا».

وهذه الآية أول آية فرض فيها القتال ، وذلك في السنة الثانية للهجرة ، إذ كان القتال على المسلمين محظورا في مكة ، ثم أذن الله لهم في مقاتلة المقاتلين من المشركين بعد الهجرة إلى المدينة ، بقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج ٢٢ / ٣٩] ، ثم أبيح القتال لكل المشركين ، ثم فرض الجهاد.

وأحدثت قضية قتل الحضرمي على يد سرية عبد الله بن جحش اضطرابا وتساؤلا ، حكاه القرآن ، فقال تعالى : يسألك يا محمد أصحابك عن القتال في الشهر الحرام وهو رجب ، هل هو حلال أو حرام؟.

فقل لهم : نعم ، القتال فيه كبير الإثم والجرم وهو أمر مستنكر ، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ ، ولكن صد قريش عن سبيل الله بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم ، والكفر

٢٦١

بالله ، والصد عن المسجد الحرام (مكة) بمنع المسلمين من الحج والعمرة ، وإخراج أهله من مكة وهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه ، كل ذلك أكبر إثما وأعظم جرما عند الله والناس من القتال في الشهر الحرام ، والفتنة أشد من القتل ، فأعمالهم المنكرة وفظائعهم الوحشية مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم أكبر بكثير من قتل الحضرمي ، أي أنكم أيها المسلمون ترتكبون أخف الضررين وأهون الشرين.

وما يزال أولئك المشركون أو الكفار على الشر والمنكر وقتال المسلمين حتى يردوهم عن دينهم ، ويحاولوا استئصال الإسلام من قلوبهم. ومن يوافقهم ويرتد عن دينه ، ويموت كافرا ولا يتوب بالرجوع إلى الإسلام ، فقد بطل عمله ، وذهب ثوابه وأجره ، وصار هباء منثورا ، وأصبح من أهل النار خالدا فيها ، وهذا جزاء الكافرين المرتدين.

وأما المجاهدون في سبيل الله كعبد الله بن جحش وأمثاله ، فهم الذين صدقوا بالله ورسله ، وفارقوا الأهل والأوطان ، وتركوا مساكنة المشركين في ديارهم ، وكرهوا سلطان المشركين ، فهاجروا خوفا من الفتنة في الدين ، ولإعلاء كلمة الله ونصرة دينه ، وحاربوا في سبيل الله ، ولحقوا بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأولئك يطمعون في رحمة الله ، وأولئك هم الكمّل ، فالله يجازيهم أحسن الجزاء ، ويستر ذنوبهم ، ويرحمهم بفضله وإحسانه ، وهو الغفور الرحيم بهم وبأمثالهم. هذا المعنى على أن السائلين من الصحابة.

وهناك رواية أخرى (١) : وهي أن وفدا من المشركين سأل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القتال في الشهر الحرام ، وحينئذ يكون المعنى : أن المشركين متناقضون ، يتمسكون بحرمة الشهر الحرام ، ويفعلون ما هو أكبر من ذلك : من الصد عن

__________________

(١) اختلف في السائلين عن ذلك ، فقال الحسن البصري وغيره : إن الكفار هم الذين سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على جهة العيب على المسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وقال آخرون : المسلمون سألوا عن ذلك ، ليعلموا كيف الحكم فيه (أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٣٢٢).

٢٦٢

سبيل الله ، والكفر بالله ، والمنع من المسجد الحرام وإخراج أهله منه ، وفتنتهم المسلمين عن دينهم أكبر إثما عند الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت آية (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) أن الجهاد فرض ، وهو امتحان للمؤمن ، وطريق إلى الجنة ، ويراد به قتال الأعداء من الكفار ، ولم يؤذن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القتال مدة إقامته بمكة ثلاثة عشر عاما ، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين ، فقال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج ٢٢ / ٣٩] ثم أذن له في قتال المشركين عامة.

وإنما كان الجهاد كرها ، لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل ، والتعرض بالجسد للشّجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس ، فكانت كراهيتهم لذلك ، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال عكرمة في هذه الآية : إنهم كرهوه ثم أحبّوه ، وقالوا : سمعنا وأطعنا ، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة ، لكن إذا عرف الثواب ، هان في جنبه مقاساة العذاب ، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق.

وبالرغم من كراهة الجهاد لما فيه من المشقة ، فإنه سبيل العزة والغلبة والنصر ، أو الشهادة ، وعند ما ترك المسلمون الجهاد ، وجبنوا عن القتال ، وأكثروا من الفرار ، وتفرقت كلمتهم ، وتشتتت وحدتهم ، استولى العدو على بلادهم في الأندلس وفلسطين وغيرهما.

ودلت الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام ، فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ ، لأن آية القتال عامة وهذه خاصة ، والعام لا ينسخ الخاص. ولكن الجمهور على نسخ هذه الآية ، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح ، والناسخ في قول الزهري : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة ٩ / ٣٦] أو :

٢٦٣

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة ٩ / ٢٩].

وقال المحققون : نسخها قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥] يعني أشهر التسيير في آية (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة ٩ / ٢] فلم يبق لهم حرمة إلا لزمان التسيير.

ويؤيدهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفا بالطائف ، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس (١) لمحاربة المشركين ، وكان ذلك في الشهر الحرام.

قال ابن العربي : والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم القتال في الشهر الحرام ، فقال تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَكُفْرٌ بِهِ ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) والفتنة ـ وهي الكفر ـ في الشهر الحرام أشد من القتل ، فإذا فعلتم ذلك كلّه في الشهر الحرام ، تعيّن قتالكم فيه (٢).

والأشهر الحرم : هي رجب ، وذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ، ثلاثة سرد ، وواحد فرد(٣).

وإن انتهاك حرمات المسلمين بفتنتهم عن دينهم وتعذيبهم وطردهم من ديارهم ، وهي جرائم مادية محسوسة ، أشد جرما من انتهاك حرمة الشهر الحرام ، وهي مسألة معنوية.

ودلت آية (وَلا يَزالُونَ) على تحذير المؤمنين من شر الكفرة ، بنحو دائم.

__________________

(١) هو أبو عامر الأشعري ، ابن عم أبي موسى الأشعري. وأوطاس : واد في ديار هوازن ، وفيه كانت وقعة حنين.

(٢) أحكام القرآن : ١ / ١٤٧

(٣) سرد أي تتابع ، وهي ما عدا رجب ، ورجب فرد مستقل ، لأنه يفصل بينه وبين ذي القعدة ثلاثة أشهر ، وهي شعبان ورمضان وشوال.

٢٦٤

علة مشروعية القتال :

صرح القرآن الكريم بعلة مشروعية القتال ، وهي فتنة المسلمين عن دينهم ، فقال : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة ٢ / ٢١٧] وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات أو بتعذيبهم ، كما فعلوا بعمار بن ياسر وأسرته ، وبلال ، وخبّاب بن الأرت وصهيب وغيرهم ، فقد عذبوا عمارا بكيّ النار ليرجع عن دينه ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر به ، فيرى أثر النار به كالبرص ، وعذبوا أباه وأخاه وأمه ، عن أم هانئ قالت : إن عمار بن ياسر وأباه وأخاه عبد الله ، وسميّة أمه كانوا يعذبون في الله ، فمرّ بهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «صبرا آل ياسر ، صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة».

مات ياسر في العذاب ، وأعطيت سمية أم عمار لأبي جهل يعذبها ـ وكانت مولاة لعمه أبي حذيفة بن المغيرة ـ فعذبها عذابا شديدا رجاء أن تفتن في دينها ، فلم تجبه لما يسأل ، ثم طعنها في فرجها بحربة فماتت رضي‌الله‌عنها ، وكانت عجوزا كبيرة.

وكان أمية بن خلف يعذب بلالا ليفتنه عن دينه ، فكان يجيعه ويعطشه ليلة ويوما ، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمى بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة ، ويقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزّى ، فيأبى ذلك ، وتهون عليه نفسه في سبيل الله عزوجل ، وكانوا يعطونه للولدان ، فيربطونه بحبل ويطوفون به في شعاب مكة ، وهو يقول : «أحد ، أحد».

وعذب خباب رضي‌الله‌عنه بإلقاء النار على ظهره.

بل إنهم آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوضعوا سلا الجزور (كرش البعير المملوء بالفرث) على ظهره ، وهو يصلي عند الكعبة ، حتى نحّته فاطمة

٢٦٥

رضي‌الله‌عنها ، وآذوه بأنواع أخرى كثيرة من الإيذاء ، كفاه الله شرها ، كما قال تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر ١٥ / ٩٥].

الارتداد والمرتد :

إن آية (وَمَنْ يَرْتَدِدْ) أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر ، تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام. واتفق المسلمون على أن الردة تحبط أي تبطل الأعمال وتفسدها ، وهل الإحباط مشروط بالموت (١)؟.

أخذ الشافعي من الآية : (... فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) : أن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة كافرا ، وظاهر الآية يؤيده ، ويدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر. ورأى مالك وأبو حنيفة : أن الردة بمجردها محبطة للعمل ، حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام ، اعتمادا على عموم قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر ٣٩ / ٦٥] وقوله : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام ٦ / ٨٨] وقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة ٥ / ٥] وهذه الآيات في الردة فقط ، وقد علق الحبوط فيها بمجرد الشرك ، والخطاب وإن كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو مراد به أمته ، لاستحالة الشرك عليه. أما آية (وَمَنْ يَرْتَدِدْ ..) الواردة هنا فرتبت حكمين : الحبوط ، والخلود في النار ، ومن شروط الخلود : أن يموت على كفره.

ورأى الشافعية : أن آية (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) من باب التغليظ على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما غلظ على نسائه في قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٠].

وتظهر ثمرة الخلاف فيمن حج ، ثم ارتد ، ثم أسلم ، فقال مالك وأبو حنيفة :

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ، تفسير القرطبي : ٣ / ٤٨

٢٦٦

عليه الحج ، لأن ردته أحبطت حجه. وقال الشافعي : لا حج ، لأن حجه قد سبق ، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره.

وهل يستتاب المرتد قبل قتله؟

قال الحنفية : يستحب أن يستتاب المرتد ، ويعرض عليه الإسلام ، لاحتمال أن يسلم ، لكن لا يجب ، لأن دعوة الإسلام قد بلغته ، ودليلهم أن بعض الصحابة قتلوا في عهد عمر رجلا كفر بالله تعالى بعد إسلامه ، ولم يستتيبوه (١).

وقال الجمهور : تجب استتابة المرتد قبل قتله ثلاث مرات ، لأن امرأة يقال لها : «أم مروان ارتدت عن الإسلام ، فبلغ أمرها إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر أن تستتاب ، فإن تابت وإلا قتلت» (٢) وثبت عن عمر وجوب الاستتابة.

وأما ميراث المرتد : فلورثته من المسلمين في رأي علي والحسن البصري وجماعة. ولبيت المال في رأي مالك والشافعي وأحمد ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرث المسلم الكافر ، ولا يرث الكافر المسلم»(٣).

وقال أبو حنيفة : ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء لبيت المال ، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ، ثم ارتد ، يرثه ورثته المسلمون.

وقال أبو يوسف ومحمد وابن شبرمة : ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين.

وبعد معرفة حال المشركين وحكم المرتدين ، بين تعالى جزاء المؤمنين المهاجرين (٤) والمجاهدين : وهو استحقاق الفوز والفلاح والسعادة ، وإسباغ

__________________

(١) رواه مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي.

(٢) رواه الدار قطني والبيهقي عن جابر ، وإسناده ضعيف.

(٣) رواه أحمد والأئمة الستة عن أسامة بن زيد.

(٤) الهجرة : معناها الانتقال من موضع إلى موضع ، وقد كانت في مبدأ الإسلام فرضا من مكة إلى المدينة.

٢٦٧

الرحمة والإحسان والفضل الإلهي والمغفرة والنعمة. وإنما عبّر سبحانه عن هذا الجزاء الحسن بقوله : (يَرْجُونَ) وقد مدحهم ، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ، ولو بلغ في الطاعة كل مبلغ ، وذلك لأمرين :

أحدهما ـ لا يدري بم يختم له.

والثاني ـ لئلا يتّكل على عمله ، والرجاء مصحوب أبدا بالخوف ، كما أن الخوف معه رجاء.

والهجرة التي امتدح الله بها المؤمنين كانت فرضا على المسلمين من مكة إلى المدينة ، ثم نسخت بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية» ومع ذلك يؤخذ من علة وجوب الهجرة في عهد التشريع أنها تجب بمثل تلك العلة في كل زمان ومكان ، فلا يجوز لمؤمن أن يقيم في بلاد يفتن فيها عن دينه ، بأن يؤذى إذا صرح باعتقاده ، أو عمل بما يجب عليه.

المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر وحرمة القمار

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩))

الإعراب :

(ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ما ذا) كلمة واحدة منصوبة بفعل : (يُنْفِقُونَ). و (الْعَفْوَ) : منصوب ب : ينفقون المقدر ، وتقديره : قل : ينفقون العفو. وقرئ : (الْعَفْوَ) بالرفع على أن ما استفهامية مبتدأ ، وذا خبره ، و (يُنْفِقُونَ) : صلته ، والعفو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو العفو.

٢٦٨

البلاغة :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فيه إيجاز بالحذف ، أي عن تعاطيهما ، بدليل قوله تعالى :

(قُلْ : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ).

(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فيه إطناب ، وهو التفصيل بعد الإجمال.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) فيه تشبيه مرسل مجمل ، أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ، يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.

المفردات اللغوية :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي عن حكم شربهما وتعاطيهما. والسائلون : هم المؤمنون. والخمر : من خمر الشيء : إذا ستره وغطاه ، سميت بها ، لأنها تستر العقل وتغطيه. وهي عند الحنفية : النيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد ، وتطلق في رأي الجمهور على عصير العنب والتمر والذرة وكل ما يسكر. والميسر : القمار ، مأخوذ من اليسر وهو السهولة ، لأنه كسب بلا جهد ولا مشقة. قال مجاهد : كل القمار من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالخرز. وكان قمار العرب في الجاهلية بالأقداح أو الأزلام وهي عشرة ، سبعة يكتب على كل واحد منها نصيب معلوم ، وثلاثة غفّل لا نصيب لها ، كانوا يشترون جزورا نسيئة (لأجل) وينحرونه قبل أن ييسروا ، ويقسمونه ٢٨ قسما أو ١٠ أقسام ، ويجعلون الأقداح العشرة في كيس يحركها شخص ثقة منهم ، ويدخل يده ، فيخرج منها الأقداح ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له ، لم يأخذ شيئا ، وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ، ويذمون من لم يشترك معهم.

(فِيهِما) في تعاطيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ) الإثم : الذنب ، ولا ذنب إلا فيما كان ضارا من قول أو فعل ، والضرر إما في البدن أو النفس أو العقل أو المال. والكبير : العظيم ، وسبب الوقوع في الإثم : ما يقع بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش.

(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) باللذة والفرح في الخمر وتحقيق الربح بالتجارة فيها ، وإصابة المال بلا كدّ ولا جهد في الميسر ، فهي منافع اقتصادية أو شهوانية.

(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي ما ينشأ عنهما من المفاسد وعقاب التعاطي أعظم من نفعهما : وهو الالتذاذ بشرب الخمر ، ولعب القمار ، والطرب فيهما ، وسلب الأموال بالقمار والافتخار على الأقران ، فالكثرة تعني أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة.

٢٦٩

(الْعَفْوَ) : الفضل والزيادة عن الحاجة التي يحتاجها الإنسان هو ومن يعوله ، فلا ينفق ما يحتاج إليه ويضيع نفسه.

سبب النزول :

نزلت آية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...) في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر ، فإنهما مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وروى أحمد عن أبي هريرة قال : «قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وهم يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهما ، فنزلت الآية ، فقال الناس : ما حرّم علينا ، إنما قال : إثم كبير ، وكانوا يشربون الخمر ، حتى كان يوم ، صلى رجل من المهاجرين ، وأمّ الناس في المغرب ، فخلّط في قراءته ، فأنزل الله آية أغلظ منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [النساء ٤ / ٤٣]. ثم نزلت آية أغلظ من ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة ٥ / ٩٠] إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قالوا : انتهينا ربّنا».

من هذه الرواية وغيرها يتبين أن تحريم الخمر مرّ في أربع مراحل تدرج فيها التشريع لينقل الناس من الأخف إلى الأشد تدريجيا ، وتلك سياسة تربوية ناجحة ، فلو قيل لهم دفعة واحدة : لا تشربوا الخمر ، لقالوا جميعا : لا ندع الخمر ، فنزل في الخمر أربع آيات في مكة ، لمعالجة الإدمان على الخمر ، وتخليص الناس من هذا الداء العضال :

الأولى ـ (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ١٥٦

٢٧٠

حَسَناً) [النحل ١٦ / ٦٧] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال.

والثانية ـ (قُلْ : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [البقرة ٢ / ٢١٩] ، التي نزلت كما بينا باستفتاء عمر ومعاذ ونفر من الصحابة ، فشربها قوم ، وتركها آخرون.

والثالثة ـ (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء ٤ / ٤٣] نزلت بعد أن دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا من الصحابة ، فشربوا وسكروا ، فأمّ بعضهم ، فقرأ : (قُلْ : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) «أعبد ما تعبدون» فنزلت ، فقلّ بعدها من يشربها ، وامتنعوا عن شربها نهارا ، لأن أوقات الصلاة متقاربة ، وشربوها ليلا.

والرابعة ـ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) التي نزلت بعد أن دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير ، فشجه شجّة موضحة ، فشكا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر : «اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة ٥ / ٩٠ ـ ٩١] فقال عمر : انتهينا يا رب(١).

قال القفّال : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب : أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بها كثيرا ، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق.

وأما سبب نزول قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) : فهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في

__________________

(١) تفسير الكشاف : ١ / ٢٧٢

٢٧١

سبيل الله ، أتوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا في أموالنا ، فما ننفق منها؟ فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ : الْعَفْوَ) والسائل هم المؤمنون ، وهو الظاهر من واو الجماعة ، وقيل : السائل : عمرو بن الجموح. والنفقة هنا : قيل : في الجهاد ، وقيل : في الصدقات أي التطوع في رأي الجمهور ، وقيل : في الواجب أي الزكاة المفروضة(١).

المناسبة :

أبان الله تعالى في الآيات السابقة أحكام القتال ، وذلك أمر له صلة بالعلاقات الخارجية ، ثم انتقل إلى إصلاح الأوضاع الداخلية ، على أساس من الفضيلة والكرامة والتضامن الاجتماعي وطهر الاعتقاد وطهر الجسد ، ولا بد لكل نهضة أو رسالة من الإصلاح الخارجي والداخلي ، لتتمكن من تحقيق المسيرة الظافرة والأمجاد السامقة ، وبناء الأمة (أو الجماعة) والفرد على أسس متينة ودعائم وطيدة الأركان.

وكانت هذه الآية كسابقتها وتاليها إجابة عن أسئلة الصحابة ، قال ابن عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة ، كلهن في القرآن : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة ٢ / ٢٢٢] ، (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) [البقرة ٢ / ٢١٧] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [البقرة ٢ / ٢٢٠] ، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم (٢).

التفسير والبيان :

يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر ، ولعب الميسر ، أحلال هما أم حرام؟ ومثل شرب الخمر : بيعها وشراؤها وكل الوسائل التي تساعد أو تؤدي إلى

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ١٥٨

(٢) تفسير القرطبي : ٣ / ٤٠

٢٧٢

تناولها. قل لهم : إن في تعاطيهما إثما كبيرا ، لما فيهما من أضرار كثيرة ومفاسد عظيمة.

أما إثم الخمر : فإيذاء الناس وإيقاع العداوة والبغضاء.

وأما إثم الميسر : فهو أن يقامر الرجل ، فيمنع الحق ، ويظلم ، فتقع العداوة والبغضاء. وفيهما منافع للناس ، أما منفعة الخمر : فهي الاتجار بها ، والالتذاذ بها ، والنشوة ، وبسط يد البخيل ، وتقوية قلب الجبان.

وأما منفعة الميسر : فهي ما يصيبهم من الربح أو الأنصباء ، أو التصدق بلحم الجزور على الفقراء ، ومنفعة القمار وهمية ومضرته حقيقية ، إذ المقامر يبذل ماله لربح موهوم ، فيبتز منه المحترفون ثروته كلها ، وهو في طلبه الربح المتوهم يفسد فكره ، ويضعف عقله ، ويعظم همه ، ويضيع وقته.

وإثمهما أكبر من نفعهما ، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض ، وقاتل بعضهم بعضا ، وإذا قامروا وقع بينهم الشر والنزاع ، ونشأت في صدورهم الأحقاد. وإذا كان الضرر أكبر من النفع وجب الامتناع عنهما ، لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» لذا امتنع كثير من عرب الجاهلية عن الخمر ، مثل العباس بن مرداس ، فقد قيل له : ألا تشرب الخمر ، فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي ، فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم ، وأمسي سفيههم.

وأجمع الأطباء على ضرر الخمور ، وقامت جمعيات كثيرة في أوربا وأمريكا تدعو لمنع المسكرات وإصدار القوانين بمنع بيعها وشرائها.

الخمر وأضرارها :

اختلف العلماء في بيان المراد بالخمر ، فذهب أبو حنيفة وجماعة العراقيين :

٢٧٣

إلى أن الخمر : هي الشراب المسكر من عصير العنب فقط. أما المسكر من غيره ، كشراب التمر أو الحنطة أو الشعير أو الذرة ونحوها ، فلا يسمى خمرا ، بل يسمى نبيذا ، فتكون آية تحريم الخمر مقتصرة عليها ، وأما الأشربة المسكرة الأخرى وهي الأنبذة فالقليل منها حلال ، والكثير المسكر منها حرام بالسنة النّبوية.

وذهب الجمهور (غير أبي حنيفة) وأهل الحجاز والمحدثون : إلى أنها الشراب المسكر من عصير العنب وغيره ، فكل مسكر من عصير التمر ، والشعير والبر خمر. وإذا كانت الخمر اسما لكل ما أسكر ، كان تحريم جميع المسكرات قليلها وكثيرها بنص القرآن.

واحتج الفريق الأول باللغة والسنة : أما اللغة : فإن الأنبذة لا تسمى خمرا ، ولا يسمى الشيء خمرا في اللغة إلا النيء المشتد من ماء العنب.

وأما السنة : فحديث أنس بن مالك عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخمر بعينها حرام ، والسّكر من كل شراب» وفي رواية عن علي : «حرمت الخمر بعينها ، والسكر من كل شراب» (١) والسكر : كل ما يسكر ، ويطلق على نبيذ الرطب. قالوا : ومما يدل على أن قليل الأنبذة ليس بحرام أن الله ذكر في علة تحريم الخمر العداوة والبغضاء ونحوها بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [المائدة ٥ / ٩١] وهذه المعاني لا تحصل إلا بالسكر ، فلا يحرم من المسكرات إلا القدر المسكر ، لأنه هو الذي توجد فيه هذه العلة.

واحتج الفريق الثاني باللغة والسنة الثابتة :

أما اللغة : فلأن الخمر تطلق لغة على ما خامر العقل أي ستره ، وهذه الأنبذة

__________________

(١) أخرجه النسائي والدار قطني موقوفا على ابن عباس ، وقال الدار قطني : وهذا هو الصواب عن ابن عباس ، لأنه قد روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مسكر حرام».

٢٧٤

تخامر العقل. وإذا كانت اللغة لا تثبت قياسا فإن الصحابة فهموا مدلول «الخمر» وهم أدرى باللغة والقرآن ، وأنها تطلق على كل مسكر من عنب وزبيب وتمر وذرة وشعير وغيره.

وأما السنة : فقد ورد فيها أحاديث كثيرة تحرم قطعا كل مسكر ، منها الحديث المتواتر الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ستة عشر صحابيا كعمر وابن عمر وغيرهما : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام» والحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن حبان عن جابر ، وأحمد والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو : «ما أسكر كثيره فقليله حرام».

والحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة : «الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة» والحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشير : «إن من العنب خمرا ، وإن من العسل خمرا ، ومن الزبيب خمرا ، ومن الحنطة خمرا ، ومن التمر خمرا ، وأنا أنهاكم عن كل مسكر».

فصريح هذه الأحاديث الصحيحة يدل على أن الأنبذة تسمى خمرا ، لأنها مسكرة ، فتكون حراما ، ويدل على حرمتها قليلها وكثيرها ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البتع (نبيذ العسل) وعن نبيذ العسل ، فقال : كل شراب أسكر فهو حرام».

والراجح قول أهل الحجاز (الفريق الثاني) ، لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر ، فهموا منه تحريم الأنبذة ، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع ، وقد ثبت ذلك من حديث أنس قال : «كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر في منزل أبي طلحة ، وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيخ ـ نقيع البسر ـ فحين سمعوا تحريم الخمر ، أحرقوا الأواني وكسروها» وأثبت المؤرخون أنه كان

٢٧٥

تحريم الخمر في المدينة ، وكان المشروب نبيذ البر والتمر.

وقد اتفق العراقيون مع الحجازيين على أن الله حرم من عصير العنب الكثير للسكر ، والقليل ، لأنه ذريعة إلى الكثير ، فوجب أن يكون كذلك في سائر الأنبذة حيث لا فرق.

وأما أضرار الخمر فكثيرة مادية ومعنوية أشارت إليها الآية القرآنية : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [المائدة ٥ / ٩١] وجمع الحديث النّبوي الصحيح مضارها ، وهو الذي رواه الطبراني عن ابن عمر : «الخمر أم الفواحش ، وأكبر الكبائر ، ومن شرب الخمر ترك الصلاة ، ووقع على أمه وعمته وخالته».

ومضارها تشمل البدن والنفس والعقل والمال وتعامل الناس بعضهم مع بعض ، من ذلك :

١ ـ مضارها الصحية : إفساد كل أعضاء جهاز الهضم ، وفقد شهوة الطعام ، وجحوظ العينين ، وعظم البطن بسبب اتساع المعدة ، وتشمع الكبد ، ومرض الكلى ، وداء السل ، وتعجل الشيخوخة أو إسراع الهرم ، بسبب تصلب الشرايين ، وإضعاف النسل أو انقطاعه ، فولد السكير يكون هزيلا ضعيف العقل.

٢ ـ مضارها العقلية : إنها تضعف القوى العقلية ، لتأثيرها في الجملة العصبية ، وقد تؤدي إلى الجنون.

٣ ـ مضارها المالية : تبدد الثروة وتتلف المال ، وتؤدي إلى إهمال واجب النفقة على الزوجة والأولاد.

٤ ـ مضارها الاجتماعية : وقوع النزاع والخصام بين السكارى بعضهم مع

٢٧٦

بعض ، وبينهم وبين الناس الآخرين ، وكثيرا ما تقع حوادث قتل وضرب وجرح من السكارى وعليهم.

٥ ـ مضارها الأدبية : يصبح السكران ذليلا مهينا وموضع هزء وسخرية وضحك وتهكم ، لاضطراب كلامه وهيئته وحركاته. ويتجرأ السكران على القذف والشتم والسب والزنى والقتل ، لذا سميت الخمر (أم الخبائث).

٦ ـ مضارها العامة : إفشاء الأسرار ، فكثيرا ما تسربت أخبار الدولة الخطيرة إلى الجواسيس على موائد السكر (١).

٧ ـ مضارها الدينية : لا تتأدى من السكران عبادة صحيحة ، ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين ، فالخمر تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبقية الواجبات الدينية ، لأن السكران لا يهمه إلا معاقرة الخمر ، والانقياد للأهواء والشهوات ، ويصبح ضعيف الإرادة ، خاملا كسولا ، بل لا يستطيع الامتناع عن السكر بسهولة بسبب الإدمان ، ومخالطة الكحول الدم ، فيصبح المدمن متعطشا لتناول الشراب المسكر قهرا عنه ودون إرادة.

والخلاصة : إن الخمر أم الخبائث ، فهي وسيلة إلى كل منكر وقبيح ، روى النسائي عن عثمان رضي‌الله‌عنه أنه قال : «اجتنبوا الخمر ، فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل ممن قبلكم متعبد ، فعلقته امرأة غوية ، فأرسلت إليه جاريتها ، فقالت له : إنا ندعوك للشهادة ، فانطلق مع جاريتها ، فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة ، عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع عليّ ، أو تشرب من هذه الخمر كأسا ، أو تقتل هذا الغلام ، قال : فاسقيني من هذه الخمر كأسا ، فسقته كأسا ، فقال :

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ٢٥٩ وما بعدها

٢٧٧

زيدوني ، فزادوه ، فلم يبرح حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر ، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر ، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه».

الميسر أو القمار وأضراره :

الميسر : إما من اليسر كما بينا ، أو من يسرت الشيء : إذا جزأته ، ويطلق على الجزور ، لأنه موضع التجزئة ، والميسر الذي ذكره الله وحرمه : هو ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا ، ثم أطلق على النرد وكل ما فيه قمار.

وكيفية الميسر عند العرب كما بينا : أنه كانت لهم عشرة قداح ، وتسمى الأزلام والأقلام أيضا (١) ، وأسماؤها : الفذّ ، والتّوأم ، والرقيب ، والحلس ، والمسبل ، والمعلّى ، والنّافس ، والمنيح ، والسفيح ، والوغد ، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها ، إما عشرة أجزاء ، أو ثمانية وعشرين جزءا ، ولا شيء للثلاثة الأخيرة ، فكانوا يعطون للفذ سهما ، وللتوأم سهمين ، وللرقيب سهمين ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة ، وهو أعلاها (٢).

وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرّبابة ، وهي الخريطة (الكيس) توضع على يد عدل ، يجلجلها ، ويدخل يده ، ويخرج منها واحدا باسم رجل ، ثم واحدا باسم رجل آخر ، وهكذا ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء ، أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح لا نصيب له ، لم يأخذ شيئا ، وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ، ولا يأكلون منها شيئا ، ويفتخرون بذلك ، ويذمون من لم يدخل فيه ، ويسمونه البرم أي الوغد : اللئيم عديم المروءة (٣) ، كما بينا سابقا.

__________________

(١) واحدها قدح وزلم وقلم ، وهي قطع من الخشب.

(٢) ومنه يقال للفائز بأكبر الحظوظ : هو صاحب القدح المعلى.

(٣) تفسير القرطبي : ٣ / ٥٨

٢٧٨

وللقمار أضرار كثيرة : منها : أنه يورث العداوة والبغضاء ، ويصد عن ذكر الله ، كالخمر ، كما أبان القرآن.

ومنها إفساد التربية ، بتعويد النفس الكسل ، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية ، وإضعاف القوة العقلية ، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية ، وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران.

ومنها وهو أشهرها : إفلاس المقامر وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة ، فكم من ثروة بددت في ليلة من الليالي ، وأصبح المقامر في عداد الفقراء.

إنفاق الزائد عن الحاجة (العفو):

ويسألونك يا محمد عن مقدار ما ينفقه المسلم ، امتثالا لقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة ٢ / ١٩٥] ، فقل لهم : ينفقون العفو ، أي الفضل (ما فضل) الزائد عن الحاجة ، فأنفقوا ما فضل عن حاجتكم ، ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه ، وتضيعوا أنفسكم.

كذلك (١) : أي وكما بين لكم ما ذكر (أي مثل ذلك البيان السابق في تحريم الخمر والميسر ووجوب إنفاق الزائد عن الحاجة) يبين الله لكم الأحكام والآيات الواضحات في سائر كتابه ، فيما يحقق مصالحكم ومنافعكم ، ويوجهكم لما فيه من نفع وضر. والحكمة من شرع هذه الأحكام : هي لتتفكروا بعين البصر والوعي في أمور الدنيا والآخرة ، فتعلموا زوال الأولى وحقارتها ، وبقاء الثانية وجلالها ، أو

__________________

(١) كذلك : الكاف للتشبيه ، وهي في موضع نعت لمصدر محذوف أو في موضع الحال على مذهب سيبويه أي تبيينا مثل ذلك يبين ، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه ، أي يبين التبيين مماثلا لذلك التبيين.

٢٧٩

لتحسبوا من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا ، وتنفقوا الباقي فيما ينفعكم في العقبى.

وقد ورد في معنى الآية أحاديث كثيرة : منها ما روى ابن جرير الطبري عن جابر بن عبد الله قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل ببيضة من ذهب ، أصابها في بعض المعادن ، فقال : يا رسول الله ، خذ هذه صدقة ، فو الله ، ما أصبحت أملك غيرها ، فأعرض عنه ، فأتاه من ركنه الأيمن ، فقال له مثل ذلك ، فأعرض عنه ، ثم قال مثل ذلك ، فأعرض عنه ، ثم قال مثل ذلك ، فقال : هاتها مغضبا ، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابته شجته أو عقرته. ثم قال : «يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى» وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ارضخ (١) من الفضل ، وابدأ بمن تعول ، ولا تلام على كفاف» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول».

وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ـ : «إذا كان أحدكم فقيرا ، فليبدأ بنفسه ، فإن كان له فضل ، فليبدأ مع نفسه بمن يعول ، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك ، فليتصدق على غيره».

والأصح أن هذه الآية ثابتة الحكم غير منسوخة ، فليس في الآية ما يدل على وجوب إنفاق الفضل ، بل الآية نزلت جوابا لمن سألوا ماذا ينفقون نفقة تطوع ، لا زكاة مفروضة ، فبين لهم ما فيه الله رضا من الصدقات.

فقه الحياة أو الأحكام :

يحرم كل ما يسكر ، قليلا كان أو كثيرا ، سواء أكان من عصير العنب أم من

__________________

(١) رضخ له : أعطاه قليلا.

٢٨٠