التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وأرشدت آية (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) إلى أن مصير المخالفين أو العصاة هو الهلاك والعذاب ، وهو أمر محتم نافذ لا مردّ له ، وهذه النتيجة يقدرها كل عاقل ، وهي التي قررها القرآن ، فذكر تعالى : هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه ، يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض. وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء ، كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا ، وأفعاله بلا آلة ولا علة ، سبحانه!

وما أكثر الأدلة التي ترشد الناس إلى اتباع الحق والإسلام ، لذا سئل بنو إسرائيل سؤال تقريع وتوبيخ : كم جاءهم من الآيات التي أيد الله بها موسى عليه‌السلام من فلق البحر والظّلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك؟ كما قال مجاهد والحسن البصري وغيرهما ، وقال غيرهم : كم جاءهم في أمر محمد عليه الصلاة والسلام من آية معرّفة عليه دالة عليه؟ ولا مانع من الجمع بين التفسيرين ، كما فعلت. فإن بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومثلهم كل مبدّل نعمة الله ، فلهم العقاب الشديد.

وأما الماديون الكفار الذين فتنوا بالدنيا ، وهم رؤساء قريش وأمثالهم ، وصنفوا الناس على حسب الغنى والترف ، وسخروا من المؤمنين الفقراء ، وأقبلوا على الدنيا ، وكانت موازينهم مادية محضة ، وأعرضوا عن الآخرة بسبب الدنيا ، فإنهم قصيرو النظر ، لأن الله جعل ما على الأرض زينة لها ، ليبلوا الخلق أيهم أحسن عملا ، ولأنهم لا يعتقدون غير الدنيا ، وأما المؤمنون الذين هم على سنن الشرع ، فلم تفتنهم زينة الدنيا ، وسيكونون أرفع درجة من الكفار ، لأنهم في الجنة ، والكفار في النار ، وسيلقون جزاء سخريتهم بالمؤمنين ، كما قال الله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين ٨٣ / ٣٤ ـ ٣٦].

٢٤١

وروى عليّ رضي‌الله‌عنه أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة ، أو حقّره لفقره وقلة ذات يده ، شهره الله يوم القيامة ، ثم فضحه ، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه ، أقامه الله تعالى على تلّ من نار يوم القيامة ، حتى يخرج مما قال فيه. وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرّب ، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب ، أو مؤمنة تائبة. وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء ، كما يعرف الرجل أهله وولده».

ومع جدارة الكافر لاستحقاق العقاب في الآخرة ، فإن الله تعالى من باب العدالة والرحمة لا يحجب عنه الرزق والعطاء الذي يستمتع به في الدنيا ، ويضمن له معيشته وكرامته ، والله يرزقه ويرزق كل دابة في الأرض ، ويعطي الإنسان عطاء بغير حساب أي بغير تقدير له على حسب الإيمان والتقوى ، والكفر والفجور ، أو أن عطاءه واسع خصب كثير ، لا حدود له ، فهو جلت قدرته لا ينفق بعدّ ، وفضله كله بغير حساب ، أما الذي بحساب فهو ما كان على عمل قدمه العبد ، قال الله تعالى : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) [النبأ ٧٨ / ٣٦] لذا كان رزق المؤمن التقي في الآخرة أوسع من رزقه في الدنيا ، وحينئذ يتميز المؤمن عن الكافر في زيادة الرزق واستمراره في الآخرة ، وأما الكافر فلا رزق له هناك ، وإنما جزاؤه العذاب في جهنم. قال الله تعالى عن المؤمنين : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [المرسلات ٧٧ / ٤١ ـ ٤٤] وقال الله سبحانه عن الكافرين : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) [الحاقة ٦٩ / ٣٥ ـ ٣٧].

٢٤٢

الحاجة إلى الرسل وما يلاقونه مع المؤمنين في دعوتهم

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

الإعراب :

(مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) نصب على الحال.

(أَمْ حَسِبْتُمْ) : (أَمْ) تكون متصلة ومنقطعة ، فالمتصلة : لا تكون إلا بعد الاستفهام بالهمزة ، والمراد بها تعيين المسؤول عنه بمنزلة (أي) نحو : أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك. والمنقطعة : بمنزلة «بل» والهمزة ، وهي تقع بعد الاستفهام والخبر ، وأم هاهنا منقطعة. و (أَنْ تَدْخُلُوا) في موضع المفعولين. (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) الفعل منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، وتقديره : حتى أن يقول ، وحتى : هاهنا غاية ، بمعنى : «إلى أن» فجعل قول الرسول غاية لخوف أصحابه. و (حَتَّى) لا ينتصب الفعل بعدها إلا إذا كان بمعنى الاستقبال. فأما إذا كان بمعنى الماضي أو الحال ، فلا ينتصب بعدها بتقدير (أن) لأن (أن) تخلصه للاستقبال.

٢٤٣

البلاغة :

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) فيه إيجاز بالحذف أي كانوا على ملة واحدة وهي الإيمان والتمسك بالحق ، فاختلفوا ، بأن آمن بعض وكفر بعض.

(أَمْ حَسِبْتُمْ) استفهام إنكاري ، وأم هنا منقطعة بمعنى : بل أحسبتم.

(وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) : لما : تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي.

(أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) فيها أربعة تأكيدات ، وهي «ألا» أداة الاستفتاح ، وإنّ ، والجملة الاسمية ، وإضافة النصر إلى الله القادر على كل شيء.

المفردات اللغوية :

(أُمَّةً) ورد لفظ الأمة في القرآن بعدة معان :

١ ـ الجماعة : الذين يرتبطون برابطة واحدة ، مثل قوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٨١] وقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران ٣ / ١١٠].

٢ ـ الملة : أي العقائد وأصول النشريع ، مثل قوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء ٢١ / ٩٢ والمؤمنون ٢٣ / ٥٢].

٣ ـ الزمن : مثل قوله : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود ١١ / ٨] وقوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف ١٢ / ٤٥].

٤ ـ الإمام : مثل قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل ١٦ / ١٢٠] أي رجلا جامعا للخير.

والمراد بها هنا في رأي كثير من المفسرين : الملة : أي أن جميع الأنبياء والرسل على دين واحد. وقال آخرون : إن الأمة في هذه الآية بمعنى الجماعة.

(مُبَشِّرِينَ) المؤمنين بالجنة. (وَمُنْذِرِينَ) الكافرين بالنار. (الْكِتابَ) أي الكتب. (الْبَيِّناتُ) الحجج الظاهرة على التوحيد. (مِنْ بَعْدِ) متعلقة باختلف ، وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء في المعنى. (بَغْياً) حسدا. (مِنَ الْحَقِ) من بيانية. (بِإِذْنِهِ) بإرادته.

(أَمْ حَسِبْتُمْ) بمعنى بل أحسبتم ، وبل : تفيد افتتاح كلام جديد. (وَلَمَّا) لم (مَثَلُ) وصف عظيم وحال ذات شأن.

٢٤٤

(مَسَّتْهُمُ) جملة مستأنفة مبينة ما قبلها (الْبَأْساءُ) : شدة الفقر ، وكل ما يصيب الإنسان في غير ذاته ، كأخذ المال ، والطرد من الديار ، وتهديد الأمن ، ومقاومة نشاط الدعوة إلى الله (الضَّرَّاءُ) المرض ، وكل ما يصيب الإنسان في نفسه ، كالجرح والقتل (وَزُلْزِلُوا) أزعجوا بأنواع البلايا ، والزلزال : الاضطراب في الأمر. (مَتى نَصْرُ اللهِ) أي متى يقع نصر الله ، و (قَرِيبٌ) خبر إن ، وقريب : لا تثنّيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنثه في هذا المعنى ، قال الله عزوجل: (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٦].

سبب النزول :

نزول الآية (٢١٤):

قال قتادة والسّدّي : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق (الأحزاب) حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة ، والحر والبرد ، وسوء العيش ، وأنواع الأذى ، وكان كما قال الله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب ٣٣ / ١٠] (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب ٣٣ / ١١]. أما المنافقون فقالوا : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب ٣٣ / ١٢] وقال صادقو الإيمان : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب ٣٣ / ٢٢].

وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة ، اشتد الضر عليهم ، بأنهم خرجوا بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسرّ قوم من الأغنياء النفاق ، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم : (أَمْ حَسِبْتُمْ).

المناسبة :

أمر الله تعالى في الآية السابقة المؤمنين أن يدخلوا في السلم كافة ويأخذوا الإسلام بجملته ، دون تجزئة أو خلط بينه وبين غيره ، وأبان في هاتين الآيتين مدى الحاجة إلى الرسل ، وأن الاهتداء بهديهم ضروري للبشر ، وأن من آمن

٢٤٥

بدعوة الأنبياء قد يتعرض للمحنة والشدة والبلاء ، فعليه بالصبر حتى يأذن الله بالفرج أو النصر ، وإن إصرار هؤلاء على كفرهم هو بسبب حب الدنيا.

التفسير والبيان :

كان الناس (أي بنو آدم) في وضع يحتاجون فيه إلى الهداية الإلهية ، فأنعم الله عليهم بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين يخرجونهم من الظلمات إلى النور ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد إرسال الرسل ، وأنزل مع بعضهم كتابا يرشدهم إلى الحق.

وما ذلك الوضع الذي كانت عليه البشرية قبل الرسل والأنبياء؟

قال الجمهور : كانت أمة هداية على ملة واحدة ، ودين قويم واحد ، وعقيدة واحدة وتشريع واحد وهو دين الإسلام ، فاختلفوا فيما بينهم ، فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين. روى أبو داود عن ابن عباس قال : «كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا». واستدلوا أيضا على صحة قولهم : بأن آدم عليه‌السلام كان نبيا ، وكان أولاده على ملته هادين مهتدين إلى أن وقع التحاسد بين ولديه ، وكان من قتل أحدهما للآخر ما هو معروف.

وذهبت طائفة أخرى (ابن عباس وعطاء والحسن البصري) : إلى أن الأمة أمة الضلال التي لا تهتدي بحق ، ولا تقف في أعمالها عند حد شريعة ، ودليلهم : ما اقتضاه وضعهم من إرسال الرسل ، لتظهر مهمتهم بنحو معقول ، وليحكموا بينهم في الاختلافات الناشئة عن فساد العقيدة ، واتباع الأهواء الضالة في الأعمال ، وإلا لم يكن هناك معنى أو حاجة للرسل.

٢٤٦

وقال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني : المعنى : كان الناس على سنة الفطرة ، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل ، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدي إلهي ، مما يدعو إلى الاختلاف ، فكثيرا ما حالت الأوهام دون الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام.

واختار صاحب تفسير المنار معنى آخر : وهو أن الإنسان اجتماعي بالخلقة ، أي أن الله خلق الإنسان أمة واحدة ، أي مرتبطا بعضه ببعض في المعاش ، لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله إلا مجتمعين ، يعاون بعضهم بعضا ، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض ، فلا بدّ من انضمام قوى الآخرين إلى قوته ، وهذا ما يعبر عنه بقولهم : «الإنسان مدني بالطبع» (١). ويكون المعنى أن الناس خلقوا ولهم صفة الجماعية والتجمع ، وذلك يؤدي إلى التنافس والتنازع والاختلاف ، فكان إرسال الرسل لفض النزاع بين البشر ، والإرشاد إلى الحق والخير ، وبيان الباطل والضلال.

وكان عدد النبيين مائة وأربعة وعشرين ألفا (١٢٤٠٠٠) والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر (٣١٣) ، والمذكورون في القرآن بالاسم ثمانية عشر ، وأول الرسل آدم ، على ما جاء في حديث أبي ذرّ (٢) ، وقيل : نوح ، لحديث الشفاعة الذي قال له الناس فيه : أنت أول الرسل ، وقيل : إدريس.

ثم أبان الله تعالى أنه أنزل مع النبيين الكتاب : وهو اسم جنس بمعنى الكتب ، وقال الطبري: الألف واللام في الكتاب للعهد ، والمراد التوراة.

ومهمة الكتاب أن يكون مصدرا للتشريع والحكم والفصل بين الناس في الخلافات ، وهداية الناس إلى العقيدة الحقة ، والآداب الفاضلة ، والأعمال

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ٢٢٥

(٢) أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي.

٢٤٧

الصالحة ، وتحذيرهم من عاقبة الشرّ والفساد ، والبعد عن الأهواء والتأويلات الباطلة ، فهو ملتبس بالحق دائما. وهذا موافق لما عبرت عنه آية أخرى وهو النطق بالحق : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية ٤٥ / ٢٩] وآية الهدى والتبشير في القرآن : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء ١٧ / ٩] ، فكل كتاب سماوي هو الحق والحكم الفصل في أمور الدنيا والدين. وعبر بالكتاب عن كتب النبيين وإن تعددت للإشارة إلى أنها في جوهرها كتاب واحد ، ومشتملة على شرع واحد في الأصول.

ثم ذكر الله تعالى أن بعض أهل الكتاب جعلوا كتابهم مصدر الاختلاف عدوانا وتجاوزا للحق ، فقال : لقد اختلف الرؤساء والأحبار وعلماء الدين في الكتاب الذي أنزله الله للحق ، بعد ما جاءتهم البينات الواضحة والأدلة على سلامة الكتاب وعصمته من إثارة الخلاف ، وأنه لإسعاد الناس ، لا لإشقائهم والتفريق بينهم ، ولم يكن ذلك الاختلاف من أولي العلم القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل ، والمطالبين بتقرير ما فيه إلا حسدا وبغيا (جورا) منهم ، وتعديا لحدود الشريعة التي أقامها حواجز للناس. ولكن هذه الجناية من هؤلاء الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس لا تقدح في هداية الكتاب إلى الحق ، فليس العيب فيه ، وإنما في القائمين عليه.

غير أن الإيمان الصحيح مع سلامة القصد يهدي إلى الحق ويمنع الاختلاف ، وإن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحق ، ويصلون إلى ما يرضي ربهم ، بتوفيقه وإنعامه ، والله يهدي دائما إلى الطريق المستقيم. أما الذين يؤولون الدين بحسب أهوائهم فهم في ضلال وفساد وشرّ ، ولهم العذاب الأليم عند الله ، كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ، وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام ٦ / ١٥٩].

٢٤٨

وبعد إيراد هذه الصورة القبيحة لفعل العلماء بكتاب الله ، حثّ الله رسوله والمؤمنين على الثبات والصبر وتحمل المشاق في أثناء مواجهة الكفار ، فإنهم متعرضون لأنواع من البلاء والمحن ، كما تعرض الأنبياء السابقون لمختلف أنواع الشدائد ومقاساة الهموم ، فصبروا وثبتوا ، حتى تحقق لهم الفرج والنصر ، لأن دخول الجنان والفوز برضوان الله يتطلب الجهاد ، وتحمل الشدائد ، والصبر على الأذى ، واجتياز محنة الفتنة والاختبار بنجاح وثبات ، دون تسخط ولا تبرم ولا ضجر ، ولا انحراف عن خط الهداية ، والقيام بأعباء التكاليف الإلهية. وليس للمؤمن الحق أن يستبطئ النصر ، فإن نصر الله لأوليائه وأحبائه قريب.

هذا مثل صادق للعبرة والعظة بما تعرض له الأنبياء السابقون وأتباعهم المؤمنون ، فأنتم أيها المسلمون في صدر الإسلام ، لم تبتلوا مثل ابتلائهم ، مسّتهم الشدة والخوف والفقر والآلام والأمراض ، وأزعجوا إزعاجا شديدا ، حتى اضطر الألم والقسوة إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بالله تعالى وأوثق بنصره : متى نصر الله؟ حيث كاد أن ينفد صبرهم من هول ما لا قوا ، فأجيبوا : ألا إن نصر الله قريب التحقق والحصول ، وكما قال تعالى في آية أخرى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ، جاءَهُمْ نَصْرُنا ، فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف ١٢ / ١١٠].

وفي هذا كله (موقف الأنبياء وموقف المسلمين الأوائل) عبرة لمن يأتي بعدهم ، ويظنون أن الإسلام عبادة فقط ، دون أن يمروا بشيء من الاختبار ، أو يتعرضوا لنوع من الإيذاء ، والمصائب والشدائد ، جهلا منهم بسنة الله في ابتلاء أهل الهداية ، من أجل التعرف على مدى قدرتهم في الثبات على الحق والإيمان ، وما تتطلبه الدعوة إلى الله من عناء ومقاساة ، قال الله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة ٢ / ١٥٥] وقال عزوجل : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا

٢٤٩

أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا ، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ١ ـ ٣]. وقال سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران ٣ / ١٤٢].

بل ولم يصل المسلمون في الماضي أو الحاضر إلى ما تعرض له الرسل السابقون ، فقد قتل بعضهم ، ونشر بعضهم بالمنشار وهو حيّ (١) ، وأحرق بعض المؤمنين بالنار ، كما فعل بأصحاب الأخدود باليمن بإخبار الله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج ٨٥ / ٤ ـ ٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

إن الحاجة إلى الرسل والأنبياء والكتب السماوية قائمة ومؤكدة في كل زمان ومكان ، لأنهم يرشدون الناس إلى الدين الحق ، والاعتقاد الصحيح ، ويبينون للناس طريق الحياة الصحيحة ، ومنهج السعادة في الدنيا والآخرة ، ويضعون الحدود الواضحة بين الحق والباطل ، ويفصلون بالعدل في منازعات الناس.

ولا تصلح الفطرة أو الطبيعة بمجردها سبيلا للهداية والرشد ، لأنها مجهولة وغائمة وغير منضبطة ، كما لا تصلح العقول البشرية لتسيير شؤون الحياة ، فهي متفاوتة ، مضطربة أحيانا ، عاجزة وقاصرة عن إدراك الحقائق ، وإذا أدركت

__________________

(١) روى البخاري عن خباب بن الأرت رضي‌الله‌عنه قال : «شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوسد بردة له في ظلّ الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل ، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنّ الله هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون».

٢٥٠

بعض عقول الحكماء سبيل الحق ونطقت بالحكمة ، فذلك محصور في فئة قليلة من الناس ، ولا يستقيم القول أو يظهر صدق النظرية التي يقررها العالم إلا بعد أن تمرّ بتجارب طويلة ، وحلقات متواصلة من البحث والدراسة والتأمل والفكر ، فيتضرر الناس الذين ينتظرون نتائج مصداقية القول أو الحكمة إلى زمن قد يطول وقد يقصر ، وربما تأثر الإنسان بالأهواء والشهوات ، أو بالمنافع والمصالح الخاصة ، فلا يكتب لرأيه القبول أو النجاح.

فكان من حكمة الله تعالى وفضله ورحمته إرسال الرسل والأنبياء ليقودوا الفطرة والعقل البشري إلى ما هو خير للدنيا والآخرة ، قبل فوات الأوان ، والوقوع في العثرات ، وانتظار ما تسفر عنه التجارب والنظريات ، ولإقرار الحق والعدل ، دون التأثر برعاية مصلحة خاصة.

وقد صحح الله أخطاء الأفهام وبيّن وجه الخطأ في ظن الصواب ، من بعد ما جاءهم العلم ، وسطعت البينات (الدلائل على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف) وهو ما استدركته الآية : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ..) ومفاد الاستدراك : أن غرائز البشر وحدها ليست كافية في توجيه أعمالهم إلى ما فيه صلاحهم ، فلا بدّ لهم من هداية أخرى تعليمية تتفق مع القوة المميزة لنوعهم ، وهي قوة الفكر والنظر ، تلك الهداية التعليمية هي هداية الرسل منهم ، والكتب التي ينزلها الله عليهم ، مع الأدلة القائمة على عصمة الرسل من الكذب ، وعصمة الكتب من الخطأ ، فعلى الناس أن يستعملوا عقولهم في فهم الأدلة على الرسالة والعصمة أولا ، وإذا فهموها استعدوا حتما للتصديق بدعوة الرسل. وإذا آمنوا بتلك الدعوة ، وعقلوا ما جاءت به الرسل ، وجب عليهم أن يلازموه ولا يعدلوا عنه (١).

وأرشدت آية (أَمْ حَسِبْتُمْ ..) إلى أن للإيمان حقوقا وواجبات تؤدي إلى

__________________

(١) تفسير المنار : ١ / ٢٢٨ وما بعدها.

٢٥١

سعادة الدارين ، فمن أهملها أو فرط بها حرم النعمة الجليلة التي أنعم الله بها على سلف هذه الأمة ، من السيادة والعزة. وإن الجنة لا تنال بغير ثمن ، ولا تفيد الأماني شيئا ، وما على المسلم إلا أن يكون مقدرا لدوره ورسالته في الحياة ، فلا يكفيه مجرد الإيمان القلبي ، وإنما لا بدّ له من أعمال جسام ، وتضحيات عظام ، ومجاهدة نفس حتى يهذبها ويصلح عيوبها ، وتعاون على البرّ والتقوى ، وهجر لزينة الدنيا والافتتان بها ، وعمل خالص للآخرة ، وإرضاء لله وحده ، دون أن يشوبه شائبة رياء أو سمعة أو شهرة زائفة.

وإذا أعيد تكوين المسلم على طراز تربية السلف الصالح ، أمكن تحقيق العزة الإسلامية المنشودة ، والنصر المرجو على الأعداء ، بعد استكمال وسائل القوة اللازمة المكافئة لقوى العدو ، والتخطيط لبناء الأمة ، ووضع أسس النهضة والتقدم موضع التنفيذ الفعلي بكل حزم وإصرار وإخلاص.

مقدار نفقة التطوع ومصرفها

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

الإعراب :

(ما ذا) ما : مبتدأ ، وذا : الخبر ، وهو بمعنى الذي. (ما أَنْفَقْتُمْ) ما : في موضع نصب بأنفقتم وكذا وما تنفقوا وهو شرط ، والجواب : فللوالدين. وكذا : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) شرط ، وجوابه : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

المفردات اللغوية :

(مِنْ خَيْرٍ) من مال كثير طيب ، وسمي به لأن حقه أن ينفق في وجوه الخير ، وهو شامل

٢٥٢

للقليل والكثير. (وَالْأَقْرَبِينَ) هم الأولاد وأولادهم ثم الإخوة. واليتيم : من فقد والده وهو صغير. والمسكين : من عجز عن كسب ما يكفيه ورضي بالقليل. وابن السبيل : المسافر. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) إنفاق أو غيره. (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) يعلمه ويجازي عليه.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال : سأل المؤمنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أين يضعون أموالهم ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ : ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ).

وأخرج ابن المنذر عن أبي حيان : أن عمرو بن الجموح سأل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ماذا ننفق من أموالنا ، وأين نضعها ، فنزلت.

ويؤيده ما قال ابن عباس في رواية أبي صالح : نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري ، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله ، بماذا أتصدق ، وعلى من أنفق؟ فنزلت هذه الآية.

المناسبة :

ذكر في الآيات السابقة أن حب الدنيا هو سبب الشقاق والخلاف ، وأن المؤمنين بحق هم الذين يتحملون الشدائد في أموالهم وأنفسهم ابتغاء رضوان الله ، فناسب أن يذكر ما يرغب الإنسان في الإنفاق في سبيل الله ، لأن الكسب والإنفاق يتطلبان الصبر والسماحة ، وبذل المال كبذل النفس ، كلاهما من آيات الإيمان.

هذا مع العلم بأنه لا حاجة إلى التناسب بين كل آية وما يتصل بها ، لا سيما إذا كانت الأحكام المسرودة أجوبة لأسئلة وردت ، أو كان من شأنها أن ترد ، وذلك للحاجة إلى معرفة حكمها كهذه الآية ، والسؤال عنها وقع بالفعل (١) ، كما ذكرنا في سبب النزول.

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ٢٤٤

٢٥٣

ويلاحظ ما ذكرناه سابقا : أن بداية سورة البقرة إلى ما قبل آية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) (١٧٢) في القرآن والرسالة ، وأن هذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) (٢٤٣) في سرد الأحكام العملية.

وهذه الآية بيان لمصرف ما ينفقونه.

التفسير والبيان :

يسألك أصحابك يا محمد عن مقدار ما ينفقون نفقة تطوع ، لا الزكاة الواجبة ، وعن بيان الجهة (أو المصرف) التي ينفقون فيها. فأجبهم أن أي مقدار تنفقونه قليلا كان أو كثيرا ، فثوابه خاص بكم ، وأن جهات الإنفاق : إعطاء الوالدين (الأب والأم) والأولاد ، لأنهم قرابة قريبة ، ثم بقية الأقارب ، للأقرب فالأقرب ، ثم اليتامى الذين مات كافلهم ، والمساكين الذين عجزوا عن الكسب ، ثم إعطاء المسافرين الذين انقطعوا في الطريق إلى بلادهم ، وكل ما تنفقونه في وجوه البرّ والطاعة مطلقا ، فإن الله سيجازي به ، لأنه عليم بكل شيء ، لا يغيب عنه شيء ، فلا ينسى الجزاء والثواب عليه ، بل يضاعفه.

والأصح أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، فهي لبيان صدقة التطوع ، لأنها لم تعين مقدار المنفق ، والزكاة الشرعية معينة المقدار بالإجماع (١).

وترتيب جهات الإنفاق يظهر فيما

رواه أحمد والنسائي عن أبي هريرة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تصدقوا ، فقال رجل : عندي دينار ، قال : تصدق به على نفسك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : تصدق به على زوجتك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : تصدق به على ولدك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : تصدق به على خادمك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : أنت أبصر به.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي : ١ / ٣٢٠

٢٥٤

وفي رواية عطاء : نزلت الآية في رجل أتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن لي دينارا ، فقال : أنفقه على نفسك ، فقال : إن لي دينارين ، فقال : أنفقهما على أهلك ، فقال : إن لي ثلاثة ، فقال : أنفقها على خادمك ، فقال : إن لي أربعة ، فقال : أنفقها على والديك ، فقال : إن لي خمسة ، فقال : أنفقها على قرابتك ، فقال : إن لي ستة ، فقال : أنفقها في سبيل الله ، وهو أخسها».

وقد بينت الآية أن صدقة التطوع للوالدين والأقربين أفضل ، بدليل ما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا معشر النساء ، تصدقن ولو بحليكن» فقالت زينب امرأة عبد الله بن مسعود لزوجها : أراك خفيف ذات اليد ، فإن أجزأت عني فيك صرفتها إليك ، فأتت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته ، فقالت : أتجزي الصدقة على زوجي ، وأيتام في حجري ، فقال لها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لك أجران : أجر الصدقة وأجر القرابة» ، وفي رواية : «زوجك وولدك أحق من تصدقت عليه». وروى مسلم عن جابر أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ابدأ بنفسك ، فتصدق عليها». وروى النسائي وغيره أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يد المعطي العليا : أباك ، وأمك ، وأختك ، وأخاك ، وأدناك أدناك» ولا شك أن الحنو على القرابة أبلغ ، ومراعاة ذي الرحم الكاشح أوقع في الإخلاص (١).

وكون الجواب في الآية أتى ببيان المنفق عليه ، مع أنهم سألوا عن المنفق : هو على أسلوب الحكيم ، فقد سألوا عن شيء ، وأجابهم عما هو أهم منه : وهو بيان مواطن الإنفاق ، لأن الإنفاق لا يحقق الخير حتى يصادف موقعه.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية لبيان مصارف صدقة التطوع ، ومنها أنه يجب على الرجل الغني أن

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ١٤٦ ، والكاشح : الذي يضمر لك العداوة.

٢٥٥

ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحان في قدر حالهما ، من طعام وكسوة وغير ذلك.

وهل على الولد تزويج أبيه؟ قال مالك : ليس عليه أن يزوج أباه ، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه ، سواء كانت أمّه أو أجنبية. وإنما قال مالك : ليس عليه أن يزوج أباه ، قال القرطبي : لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبا ، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب عليه أن يزوجه ، لو لا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. أما ما يتعلق بالعبادات من الأموال ، فليس عليه أن يعطيه ما يحجّ به أو يغزو ، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر ، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام (١).

وقال الشافعية على المشهور : يلزم الولد ذكرا كان أو أنثى إعفاف الأب والأجداد ، لأنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والكسوة ، ولئلا يعرضهم للزنا المفضي إلى الهلاك ، وذلك لا يليق بحرمة الأبوة ، وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها شرعا (٢).

ودلت الآية على معان منها :

١ ـ أن القليل والكثير من النفقة يستحق به الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله ، وينتظم ذلك الصدقات من النوافل والفروض.

٢ ـ أن الأقرب فالأقرب أولى بالنفقة ، لقوله تعالى : (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مع بيان النّبي عليه‌السلام. لمراد الله بقوله المتقدم : «ابدأ بمن تعول : أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك».

٣ ـ فيها الدلالة على وجوب نفقة الوالدين والأقربين على الولد ، كما بينا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٣٧

(٢) مغني المحتاج : ٣ / ٢١١ وما بعدها.

٢٥٦

واقتصر الإيجاب عليهم دون نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكرتهم الآية ، لأن هؤلاء داخلون في الزكاة والتطوع ، وللحديث المرفوع عن أبي هريرة : «دينار أعطيته في سبيل الله ، ودينار أعطيته مسكينا ، ودينار أعطيته في رقبة ، ودينار أنفقته على أهلك ، فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا» وعن ابن مسعود عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله ، كانت له صدقة».

فرضية القتال وإباحته في الأشهر الحرام

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

الإعراب :

(قِتالٌ) بدل اشتمال من الشهر ، والهاء في (فِيهِ) : تعود على الشهر ، وبدل الاشتمال لا بد أن يعود ضمير منه إلى المبدل منه.

(قُلْ : قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) : (الْقِتالُ) : مبتدأ ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة ، لأنه

٢٥٧

وصفه بقوله : فيه ، فتخصص ، والنكرة إذا تخصصت جاز أن تكون مبتدأ. و (كَبِيرٌ) : خبر المبتدأ.

(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) مبتدأ ، وعطف عليه : (وَكُفْرٌ بِهِ) ، (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) ، وخبر الثلاثة : أكبر عند الله.

البلاغة :

(وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي مكروه ، وضع المصدر موضع اسم المفعول للمبالغة. وهناك ما يسمى في علم البديع بالمقابلة بين جملتي : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) وقوله (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً).

(وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فيه ما يسمى طباق السلب.

المفردات اللغوية :

(كُتِبَ) فرض (الْقِتالُ) للكفار (كُرْهٌ) مكروه (وَعَسى) هنا للإشفاق لا للترجي ، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر (وَصَدٌّ) منع للناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (وَكُفْرٌ بِهِ) بالله (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مكة (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) وهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون (أَكْبَرُ) أعظم وزرا (عِنْدَ اللهِ) من القتال فيه. (وَالْفِتْنَةُ) أي فتنة المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم ، حتى يهلكوا (١)(وَمَنْ يَرْتَدِدْ) يرجع (حَبِطَتْ) بطلت وفسدت في الدنيا والآخرة ، فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها. والتقييد بالموت (فَيَمُتْ) على الردة يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام ، لم يبطل عمله ، فيثاب عليه ولا يعيده ، كالحج مثلا ، وهو مذهب الشافعي ، ورأى مالك وأبو حنيفة : أنه يعيده (آمَنُوا) ثبتوا على إيمانهم و (هاجَرُوا) فارقوا أوطانهم وأهلهم (وَجاهَدُوا) من الجهد : وهو المشقة (فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء دينه (يَرْجُونَ) يتوقعون النفع باتخاذ الأسباب (رَحْمَتَ اللهِ) أي ثوابه.

سبب النزول :

نزول الآية (٢١٦):

قال ابن عباس : لما فرض الله الجهاد على المسلمين شق عليهم وكرهوا ، فنزلت هذه الآية.

__________________

(١) هذا رأي الجمهور ، وهو أن ذلك أشد إجراما من قتلكم في الشهر الحرام ، وقال مجاهد وغيره : الفتنة هنا : الكفر أو الشرك ، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك.

٢٥٨

نزول الآية (٢١٧):

أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والبيهقي في سننه عن جندب بن عبد الله : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رهطا وبعث عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، فلقوا ابن الحضرمي ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) فسبب نزولها قصة عبد الله بن جحش باتفاق المفسرين.

وقال المفسرون : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن جحش ، وهو ابن عمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليترصدوا عيرا (١) لقريش فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون معه ، فقتلوه وأسروا اثنين ، واستاقوا العير ، وفيها عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ، وتجارة من تجارة الطائف ، وكان ذلك أول يوم من رجب ، وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم عند ما قدموا عليه : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، وأوقف توزيع الغنيمة ، وقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام ، وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف ، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم(٢).

وقال بعض المسلمين : إن لم يكونوا أصابوا وزرا ، فليس لهم أجر ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) الآية.

المناسبة :

ذكرت أحكام القتال بعد أحكام الصدقة (نفقة التطوع) لما بينها من الصلة

__________________

(١) العير : الإبل التي تحمل الميرة.

(٢) أسباب النزول للواحدي بتصرف وإيجاز : ص ٣٦ ـ ٣٨

٢٥٩

الوثيقة ، فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال ، والمال قرين الروح ، والإنفاق جهاد بالمال ، فناسب أن يذكر الجهاد الذي هو أسمى من بذل المال ، لأنه يستقيم به الدين ، ويحتاج إلى بذل المال والنفس.

التفسير والبيان :

فرض عليكم معشر المسلمين قتال الكفار ، فرض كفاية إن تحققت الحاجة ، فإن لم تتحقق ودخل العدو بلاد المسلمين ، كان فرض عين. قال الجمهور : أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين ، ثم استمر الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام ، فيكون فرض عين. وقال عطاء : فرض القتال على أعيان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما استقر الشرع ، صار على الكفاية (١).

والقتال مكروه لكم وشاق عليكم طبعا ، لما فيه من بذل المال وتعريض النفس إلى الهلاك ، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بما يكلف به الإنسان ، فهو قد يرضى بتناول المرّ لما فيه من النفع. ولعلكم تكرهون شيئا طبعا ، وفيه خير ونفع لكم فيما بعد ، لأن فيه إما الظفر والغنيمة ، أو الشهادة والأجر ، ومرضاة الله ، وفي الجهاد إعلاء كلمة الإسلام ورفع منارة الحق والعدل ودفع الظلم ، ولعلكم تحبون شيئا كترك القتال ، وهو في الواقع شر لكم ، لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر ، وتسلط الأعداء على بلاد المسلمين وأموالهم ، واستباحة حرماتهم ، وقد يؤدي ذلك إلى القضاء عليهم.

والله يعلم أنه خير لكم في عاجل أمركم ، ولا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم ، وأنتم لقصور علمكم لا تعلمون ما يعلمه الله ، فلا تركنوا إلى القعود عن واجب الجهاد ، فإنه شر لكم ، لأن الدنيا قامت على التدافع ، وبادروا إلى ما يأمركم به ربكم ، واحذروا الميل مع طباعكم وأهوائكم ، فقد سبق في علم الله أنه سيظهر دينه

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ١٤٣

٢٦٠