التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وحجة مالك : حديث جابر الطويل عند مسلم ، وفيه : فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصّفرة قليلا ، حتى غاب القرص ، وأفعاله عليه الصلاة والسلام على الوجوب ، لا سيّما في الحج ، وقد قال : «خذوا عني مناسككم».

وهل على من وقف نهارا فقط في عرفات شيء؟ أوجب الجمهور (غير الشافعية) الوقوف إلى غروب الشمس ، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة ، اقتداء بفعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن أفاض (دفع) قبل غروب الشمس ، ولم يرجع ، فحجّه صحيح تام ، وعليه دم عند الحنفية والحنابلة ، وقال مالك : عليه حجّ قابل ، وهدي ينحره في حجّ قابل ، وهو كمن فاته الحج. وذهب الشافعية : إلى أنه يسنّ الجمع بين الليل والنهار فقط ، اتّباعا للسّنة ، فإن أفاض قبل الغروب ، فلا دم عليه ، وإن لم يعد إلى عرفة ليلا ، للخبر الصحيح : «من أتى عرفة قبل الفجر ليلا أو نهارا ، فقد تمّ حجه».

والأفضل أن يقف بعرفة راكبا لمن قدر على الركوب ، اقتداء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنه أعون على الدعاء ، فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا ، ما دام يقدر ، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف. وفي الوقوف راكبا تعظيم للحج قال الله تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج ٢٢ / ٣٢].

وظاهر عموم القرآن والسّنة الثابتة يدلّ على أن عرفة كلها موقف ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ووقفت هاهنا ، وعرفة كلها موقف».

ويوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم ، يكفر الله فيه الذنوب العظام ، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «صوم يوم عرفة يكفّر السنة الماضية والباقية» ، وهذا سنّة لغير الحاج ، وصام بعض أهل العلم بعرفة يوم عرفة ، وقال أيضا : «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ، وأفضل ما قلت

٢٢١

أنا والنبيّون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له» ، وروى الدار قطني عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو عزوجل ، ثم يباهي بهم الملائكة ، يقول : ما أراد هؤلاء».

ورغّبت الآيات في ذكر الله في مواضع كثيرة في الحج ، عند المشعر الحرام ، وفي أيام منى ، وبعد الانتهاء من الحج ، وذلك بالدعاء والتّلبية عند المشعر الحرام ، وبالتهليل والتّكبير في منى ، وبالاستغفار والدعاء في عرفات وبعد الإفاضة منها وبعد إنهاء أعمال الحج ، لتقوى الصّلة والارتباط بالله ، ولتكون خشية الله في مرأى ومسمع وقلب المسلم إذا عبد الله أو تعامل مع الناس. روى أحمد ومسلم حديثا عن نبيشة الهذلي : «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر». وقيل : الأمر الأول : أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، والثاني : أمر بالذكر على حكم الإخلاص ، والثالث المداومة على الذكر كذكر مفاخر الآباء والتغني بالأمجاد الذي كان في الجاهلية عقب الحج ، بل كأشد ذكرا من ذكر الآباء. ومن أكمل الأذكار والدعاء في هذه الآيات : الصيغة الجامعة لخيري الدّنيا والآخرة ، فهي من جوامع الدعاء التي يطلب من المؤمن الإكثار منها ، وهي : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

جاء في الصحيحين عن أنس قال : «كان أكثر دعوة يدعو بها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : اللهمّ آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار».

وثبت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى الظهر والعصر في يوم عرفة جمع تقديم مع خطبة كخطبة الجمعة ، وصلّى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمع تأخير ، بأذان واحد وإقامتين ، كما ثبت في الصحيح. وقال مالك : يصليهما بأذانين وإقامتين.

وليس المبيت بالمزدلفة ركنا في الحج عند الجمهور ، وقال مالك : الوقوف بها

٢٢٢

واجب ، ويكفي مقدار حطّ الرّحال وجمع الصّلاتين ، وتناول شيء من الطعام والشراب ، والمبيت بها سنّة مؤكّدة ، فمن لم يبت بها فعليه دم ، ومن قام بها أكثر ليله ، فلا شيء عليه.

وقال الحنفية : يجب الوقوف بالمزدلفة ولو لحظة بعد الفجر ، ولو مارّا كالوقوف بعرفة ، ويسنّ المبيت فيها.

وقال الشافعية : يكفي في المبيت بالمزدلفة الحصول بها لحظة بعد منتصف الليل.

وقال الحنابلة : المبيت بمزدلفة واجب لما بعد منتصف الليل ، من تركه فعليه دم.

والواجب عند الكل من الفدية أو الدم هو شاة ، ودليل وجوب الوقوف بالمزدلفة حديث عروة بن مضرّس المتقدم : «من صلّى معنا هذه الصلاة ، ثم وقف معنا حتى نفيض ، وقد أفاض قبل ذلك ـ من عرفات (١) ـ ليلا أو نهارا ، فقد تمّ حجه ، وقضى تفثه».

ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة في رأي أكثر العلماء ، والمشهور عن مالك قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة. ودليل الجمهور : ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس : «لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبّي حتى رمى جمرة العقبة».

ويحصل التحلل الأصغر للحاج برمي جمرة العقبة والحلق والذبح ، لما روى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رميتم وحلقتم وذبحتم ، فقد حلّ لكم كلّ شيء إلا النساء ، وحلّ لكم الثياب والطّيب».

__________________

(١) الزيادة عن الدار قطني.

٢٢٣

وبعبارة أخرى : يحصل بفعل اثنين من ثلاثة : رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة. والتحلل الأكبر : طواف الإفاضة ، وهو الذي يحلّ النساء وجميع محظورات الإحرام.

وقت التكبير : إن ذكر الله في الأيام المعدودات : هو التّكبير عقب الصلوات وعند رمي الجمرات ، قال مالك : يبدأ التّكبير من ظهر يوم النّحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق ، فتكون الصلوات التي يكبّر فيها خمس عشرة صلاة.

وفي رواية عن الشافعي : يبدأ بالتكبير من صلاة المغرب ليلة النّحر.

وفي رواية أخرى عنه وعن أبي حنيفة : إنه يبدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة ، ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النّحر. ومذهب الحنفية والحنابلة والمشهور عند الشافعية : أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الفجر يوم عرفة وينقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، فتكون الصلوات ثلاثا وعشرين صلاة ، بدليل ما روى جابر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه صلّى الصبح يوم عرفة ، ثم أقبل علينا ، فقال : الله أكبر ، ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق».

وفي قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) : قال ابن عباس : هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره ، فيكون له ثواب ، وروي عنه ـ فيما رواه الدارقطني ـ في هذه الآية أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، مات أبي ولم يحج ، أفأحج عنه؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان على أبيك دين ، فقضيته ، أما كان ذلك يجزي؟» قال : نعم ، قال: «فدين الله أحق أن يقضى» ، وقول ابن عباس نحو قول مالك ، أي أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة ، والحجة للحاج ، فكأن له ثواب بدنه وأعماله ، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه ، لذا لا فرق بين أن يكون النائب حجّ عن نفسه حجة الإسلام أم لم يحجّ.

٢٢٤

ولا خلاف في أن المخاطب بالذكر في الأيام المعدودات هو الحاج ، خوطب بالتكبير عند رمي الجمرات ، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند إدبار الصلوات دون تلبية.

وغير الحاج في رأي جماهير الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار مثل الحاج مطالب بالتكبير ، فيكبّر عند انقضاء كل صلاة ، سواء صلّى وحده أو في جماعة ، تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام ، اقتداء بالسلف رضي‌الله‌عنهم ، على النحو الذي بيّناه في وقت التّكبير. وفي المدونة لمالك : إن نسي التّكبير إثر صلاة ، فإن كان قريبا قعد فكبّر ، وإن تباعد فلا شيء عليه ، وإن ذهب ولم يكبّر ، والقوم جلوس فليكبّروا.

ولفظ التّكبير في مشهور مذهب مالك : ثلاث تكبيرات ، وفي رواية يزاد : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد.

وأجمع الفقهاء على أن يوم النّحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرم يوم النّحر من الجمرات غيرها ، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال. وأجمعوا أيضا على أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب.

وأجاز الجمهور (غير الشافعي) رمي جمرة العقبة بعد الفجر قبل طلوع الشمس ، ولا يجوز رميها قبل الفجر. وأباح الشافعي رميها بعد نصف الليل.

فإذا مضت أيام الرمي ، فلا رمي ، وعليه الهدي (دم) ، سواء ترك الجمار كلها ، أو جمرة منها ، أو حصاة من جمرة ، في رأي مالك. وقال أبو حنيفة : إن ترك الجمار كلها فعليه دم ، وإن ترك جمرة واحدة ، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع ، إلى أن يبلغ دما فيطعم ما شاء ، إلا جمرة

٢٢٥

العقبة فعليه دم. وقال الشافعي : إن في الحصاة الواحدة مدّا من الطعام ، وفي حصاتين مدين ، وفي ثلاث حصيات دم.

وينتهي عند الجميع وقت الرمي بغروب شمس اليوم الرابع من أيام النحر.

والمبيت بمنى (١) عند الجمهور ليالي التشريق واجب ، فلا تجوز البيتوتة بمكة وغيرها عن منى في تلك الليالي إلا للرّعاء ولمن ولي السقاية من آل العباس ، ومن ترك المبيت ليلة من ليالي منى من غير الرعاء وأهل السقاية ، فعليه دم ، لأن المبيت من شعائر الحج ونسكه.

ويرمى عن المريض والصّبي اللذين لا يطيقان الرمي ، ويتحرى المريض حين الرمي عنه ، فيكبّر سبع تكبيرات ، لكلّ جمرة ، وعليه الهدي عند مالك. وقال الجمهور : لا دم عليه.

الناس إما منافقون أو مخلصون

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

الإعراب :

(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) مبتدأ وخبره ، والخصام إما جمع خصم أو مصدر خاصم بمعنى الخصومة ، يقال : خاصم خصاما ، كقاتل قتالا ، والمعنى : شديد الخصومة.

__________________

(١) سميت منى : لما يمنى فيها من الدماء ، أي يراق.

٢٢٦

البلاغة :

(أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) ذكر لفظ الإثم بعد قوله : العزة من باب «التتميم» في علم البديع ، ليدلّ على أنها عزّة مذمومة.

(وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) من باب التهكّم ، أي لبئس الفراش هي جهنم ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف ، فالله يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله ، سيكون مهاده ومأواه النار.

المفردات اللغوية :

(يُعْجِبُكَ) يروقك لوافقته إياك بالإيمان والخير. (أَلَدُّ الْخِصامِ) شديد الخصومة والعداوة.

(تَوَلَّى) ذهب وانصرف عنك. (سَعى) مشى. (الْحَرْثَ) الزرع. (النَّسْلَ) ما تناسل من الحيوان. (لا يُحِبُّ الْفَسادَ) لا يرضى به. (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) حملته العزة الكاذبة أي الأنفة والحمية ، على العمل بالإثم الذي أمر باتقائه. (فَحَسْبُهُ) كافيه. (الْمِهادُ) الموضع المهيأ للنوم ، ومنه مهد الصبي ، وسمى جهنم مهادا ، لأنها مستقر الكفار ، أو لأنها بدل لهم من المهاد.

(يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله أي رضاه.

سبب النزول :

روى ابن جرير عن السّدي في نزول الآيات (٢٠٤ ـ ٢٠٦): أن الأخنس بن شريق الثقفي (١) أتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأظهر له الإسلام ، ثم خرج ، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع ، وعقر (قتل) الحمر ، فأنزل الله الآية.

وقال سعيد بن المسيّب ـ فيما يرويه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن أبي حاتم ـ : أقبل صهيب الرومي مهاجرا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتبعه نفر من

__________________

(١) اسمه أبي ، والأخنس لقب ، لقّب به ، لأنه خنس يوم بدر بثلثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان رجلا حلو القول والمنظر.

٢٢٧

قريش ، فنزل عن راحلته ، وانتشل ما في كنانته ، ثم قال : يا معشر قريش : لقد علمتم أني من أرماكم رجلا ، وأيم الله ، لا تصلون إليّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ، ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة ، وخليتم سبيلي ، قالوا : نعم ، فلما قدم على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، قال : «ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع» ، ونزلت الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ..).

المناسبة :

ذكر الله في الآيات السابقة أن الناس في الحج صنفان : منهم من يدعو الله للدنيا ، ومنهم من يدعو للآخرة ، وأن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله ، ومحل التقوى هو القلب لا اللسان ، وهنا ذكر صنفين آخرين في ميزان التقوى : منافق ومؤمن ، الأول يظهر غير ما يبطن ، والثاني مخلص في عمله يبتغي مرضاة الله تعالى.

التفسير والبيان :

بعض الناس يروقك قوله ويعجبك لسانه وبيانه ، ولكنه منافق يظهر غير الحقيقة ، فيعلن غير ما يضمر ، ويقول ما لا يفعل ، ليحظى بشيء من أعراض الدنيا الفانية ، ويزيد في الإيهام والتضليل أنه يحلف بالله أنه صادق ، فيقول : يعلم الله هذا ، ويشهد أني صادق ، وهو في الواقع قوي الجدل ، يغش الناس بما يظهر ، شديد العداوة للمسلمين. وهذه الخصال الثلاث (حسن القول ، وإشهاد الله على صدقه ، وقوته في الجدل) وجدت في الأخنس بن شريق ، كما بيّنا في سبب النزول.

وهذا الصنف سرعان ما ينكشف أمره ، فتراه إذا توارى عن الأعين يكون ضدّ ما قال ، فيسعى في الأرض بالفساد ، ويهلك الحرث (الزرع) ويقضي على

٢٢٨

النسل ، إرضاء لنزعات نفسه الأمّارة بالسوء ، وانقيادا لأهوائه وشهواته ، وإيثارا لمقاصده الدنيوية الحقيرة ، والله سبحانه لا يرضى بالفساد ولا يحبه ، ولا يحب المفسدين ، ولا ينظر إلى الصور والأقوال ، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

وإذا نصحه إنسان ، فقال له : اتّق الله ، حملته الحمية الجاهلية ، والعزّة الشيطانية على ارتكاب الإثم والحرام ، لأنه ينفر من الصلاح والمصلحين ، فيكفيه عذاب جهنم ، فهي مأواه ومهاده ، ولبئس المهاد مهاده ، بسبب سوء عمله في الدنيا ، وسوء خداعه وحاله ولحنه في كلامه ، قال الله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣٠].

وأما الصنف الثاني : فهو فريق يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فتراه يجاهد في سبيل الله لإقرار الحق والعدل ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويتحرى صالح الأعمال وقول الحق ، مع الصدق والإخلاص فيهما ، وليس له لسانان أو وجهان ، ولا يؤثر عرض الدنيا على ما عند ربه من حسن الجزاء ، والله رءوف بالناس ، فيجزيهم بالنعيم الدائم على العمل القليل ، ولا يكلفهم فوق الطاقة ، وينشر عليهم واسع رحمته وإحسانه وكرمه ، ولو لا ذلك لغلب شرّ أولئك المفسدين في الأرض ، حتى لا يبقى فيها صلاح : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة ٢ / ٢٥١].

فقه الحياة أو الأحكام :

قال علماء المالكية : في هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط في أمور الدين والدنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم ، حتى يبحث عن باطنهم ، لأن الله تعالى بيّن أحوال الناس ، وأن منهم من يظهر قولا جميلا ، وهو ينوي قبيحا.

٢٢٩

وأما قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن أم سلمة : «فأقضي له على نحو ما أسمع» فكان هذا في صدر الإسلام حيث يكتفي بالظاهر لسلامة أحوال الناس ، أما بعد أن عمّ الفساد ، فلا بدّ من التزكية والتعرّف على البواطن (١).

والصحيح كما قال القرطبي : أن الظاهر يعمل به حتى يتبيّن خلافه ، لقول عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في صحيح البخاري : «أيها الناس ، إن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمّناه وقرّبناه ، وليس لنا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه ، وإن قال : إن سريرته حسنة» (٢).

وأرشدت الآية إلى أن فريق المنافقين شأنه الإفساد والتدمير والتخريب من الباطن ، وهو لا يتّقي الله ، ولا يخشاه ، فحقّ له العذاب في جهنم ، فهي مأواه ومصيره ، وبئس المصير.

كما أرشدت الآية إلى أن المخلص في عمله لله ، والذي جاهد في سبيل الله ، يستحق رضوان الله ورحمته ، ويظفر بجنان الخلد ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ..) إلى قوله : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة ٩ / ١١١].

والفريق الأول يوجد في كل أمة ، فقد يخدع الشخص فردا واحدا أو أفرادا معدودين ، وقد يخدع الأمة بأجمعها ، فيوقعها في مهاوي الشرّ والعذاب. وقد يعتمد هذا الصنف على الأيمان الكاذبة ، فيحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ١٤٣

(٢) تفسير القرطبي : ٣ / ١٦

٢٣٠

ويدّعي ، وفي معنى الحلف : أن يقول الإنسان : الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا ، وأريد كذا ، قال العلماء : إن هذا آكد من اليمين ، ورأى بعض الفقهاء : أن من قاله كاذبا يكون مرتدا ، لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى ، وعلى كل حال : إن أقل ما يدل عليه هذا هو عدم المبالاة بالدين ، ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عزوجل ، فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذين (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) [البقرة ٢ / ٩](١).

ودلّ التعبير القرآني الموجز : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) على حقيقة ثابتة وهي أن وجود فئة المخلصين بين الناس رحمة عامة للعباد ، لا خاصة بهم ، فكثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم ، إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم ، وعلى من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة ، بل عليه أن يكون حكيما يقدّر الأمور بقدرها ، إذ ليس المقصود بهذا الشراء : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ..) [التوبة ٩ / ١١١] إهانة النفس ولا إذلالها ، وإنما المراد دفع الشرّ ، وفعل الخير العام ، رأفة بالعباد ، وإيثارا للمصلحة العامة (٢).

وكون آية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ..) نزلت في الأخنس ، فلا يخصصها ، وإنما هي عامة في كل من يتصف بصفته ، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، قال سعيد المقبري : إن في بعض الكتب : إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر (٣) ، لبسوا للناس مسوك (٤) الضأن من اللين ، يشترون الدنيا بالدين ، قال الله تعالى : عليّ تجترئون

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ١٩٦

(٢) المرجع السابق : ٢ / ٢٠٤

(٣) جاء في الترمذي حديث : «إن في بعض كتب الله أن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر ..» الحديث.

(٤) المسوك : الجلود ، جمع مسك.

٢٣١

وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران ، فقال محمد بن كعب القرظي : «هذا في كتاب الله» فقال سعيد : وأين هو من كتاب الله؟ قال : قول الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية ، فقال سعيد : قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية ، فقال محمد بن كعب : «إن الآية تنزل في الرجل ، ثم تكون عامة بعد». قال ابن كثير : وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح (١).

الدعوة إلى قبول الإسلام واتباع أحكامه وجزاء المخالف

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

الإعراب :

(كَافَّةً) منصوب على الحال من ضمير (ادْخُلُوا).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٢٤٦

٢٣٢

(سَلْ) فعل أمر ، وأصله «اسأل» إلا أنه حذفت الهمزة تخفيفا ، ونقلت حركتها إلى السين قبلها ، فاستغنى عن همزة الوصل. و (كَمْ) منصوب على الظرف ، وتقديره : كم مرة ، وعامله : (آتَيْناهُمْ). وجملة (آتَيْناهُمْ) مع (كَمْ) في موضع نصب مفعول ثان لفعل (سَلْ). ولا يجوز أن يكون العامل في (كَمْ) هو (سَلْ) ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.

(زُيِّنَ) لم يقل «زينت» وإن كانت (الْحَياةُ) مؤنثة لسببين ، لوجود الفاصل بينهما ، ولأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي ، فيجوز ترك علامة التأنيث ، مثل : حسن الدار ، واضطرم النار.

البلاغة :

(هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام إنكاري في معنى النفي ، بدليل مجيء (إِلَّا) بعدها ، أي ما ينتظرون. (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) التنكير للتهويل. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) عطف على المضارع : (يَأْتِيَهُمُ اللهُ) للدلالة على تحققه ، فكأنه قد كان. (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أظهر لفظ الجلالة لتربية المهابة والروعة.

(زُيِّنَ) أورد بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه ، مستقرا في طبعهم. (وَيَسْخَرُونَ) عطف بالمضارع لإفادة استمرار السخرية منهم.

المفردات اللغوية :

(السِّلْمِ) : التسليم والانقياد ، ويطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام ، والمراد هنا الإسلام. (كَافَّةً) في اختيار السيوطي : حال من السلم ، أي في جميع شرائعه ، وقال أهل اللغة : حال من (ادْخُلُوا) أي جميعا. (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي طرق ، جمع خطوة ، والمراد تزيينه ووساوسه بالتفريق. (عَدُوٌّ مُبِينٌ) بيّن العداوة. (زَلَلْتُمْ) ملتم عن الدخول في الإسلام جميعه ، والزلل في الأصل : عثرة القدم ، ثم استعمل في الانحراف عن الحق. (الْبَيِّناتُ) الحجج الظاهرة والأدلة التي ترشد إلى أن الإسلام الذي دعيتم إليه هو الحق. (عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه شيء عن الانتقام منكم. (حَكِيمٌ) في صنعه ، يعاقب المسيء ، ويكافئ المحسن. (هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينتظرون أي تاركو الدخول فيه. (يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أي يأتيهم عذابه أو أمره كقوله : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي عذابه. (فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة ، وهي ما أظلك. (مِنَ الْغَمامِ) السحاب الأبيض الرقيق. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي تمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي في لا حرة فيجازي الناس.

٢٣٣

وقال أهل السلف : الإتيان في ظلل من الغمام كالمجيء في آيات أخرى : مما وصف به الله تعالى نفسه ، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، والقول في صفاته كالقول في ذاته ، ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

(آيَةٍ بَيِّنَةٍ) معجزة ظاهرة لا يخفى أنها من عند الله ، كالعصا واليد البيضاء وفلق البحر وإنزال المن والسلوى ، فبدلوها كفرا. (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) التبديل : تغيير الشيء من حال إلى حال ، ونعمة الله : آياته الباهرة التي آتاها أنبياءه ، وجعلها مصدر الهداية والنجاة. (الْعِقابِ) العذاب.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) حسّن لأهل مكة. (الْحَياةُ الدُّنْيا) بالتمويه ، فأحبوها. (وَيَسْخَرُونَ) يستهزئون من الذين آمنوا لفقرهم ، كبلال وعمار وصهيب ، ويتعالون عليهم بالمال. (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك وهم هؤلاء. (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير تقدير ولا حصر ولا تعداد على حسب الإيمان والتقوى والكفر والفجور ، أو أنه كناية عن السعة ، فيرزقهم رزقا واسعا في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فبالتسلط على أولئك الساخرين ، وأما في الآخرة فبالفوز بالجنة والرضوان الإلهي ، وهذا كما يقال : «هو ينفق بغير حساب» على معنى أنه ينفق كثيرا.

سبب النزول :

نزلت الآية (٢٠٨) في عبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود لما عظموا السبت وكرهوا الإبل بعد قبول الإسلام ، قالوا : يا رسول الله ، يوم السبت يوم نعظمه ، فدعنا فلنسبت فيه ، وإن التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها بالليل ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) الآية. هذا ما رواه ابن جرير عن عكرمة.

وروى عطاء عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآمنوا بشرائعه وشرائع موسى ، فعظموا السبت ، وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا ، فأنكر ذلك عليهم المسلمون ، فقالوا : إنا نقوى على هذا وهذا ، وقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنعمل بها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

٢٣٤

المناسبة :

أوضح الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس في الصلاح والفساد فريقان : فريق يفسد في الأرض ويخرب العامر ، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته ، وأتبع ذلك هنا بأن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد ، لا التفرق والانقسام ، فأمرهم بقوله : كونوا على ملة واحدة ، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه.

التفسير والبيان :

يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب انقادوا إلى الله تعالى في كل شيء ، وادخلوا في الإسلام كله ، وخذوا الإسلام بجملته ، ولا تخلطوا به غيره ، وافعلوا كل ما أمركم به الإسلام من أصول وفروع وأحكام دون تجزئة أو اختيار (١) ، كالعمل بالصلاة والصيام مثلا ، وترك الزكاة والحدود ، وتناول الخمر ، وأخذ الربا ، وفعل الزنى ، ونحوه مما نراه الآن.

وحافظوا على وحدة الإسلام وجمع كلمة المسلمين ، كما قال الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ..) [آل عمران ٣ / ١٠٣] واحذروا التنازع والاختلاف ، كما قال عزوجل : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم [الأنفال ٨ / ٤٦] وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

ولا تتبعوا طرق الشيطان في التفرق في الدين أو في الخلاف والتنازع ، فهذه

__________________

(١) قال أبو حيان : إن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه ، فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام وألا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام ، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بأنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة (البحر المحيط : ٢ / ١٢٠).

٢٣٥

وسائله ووساوسه التي يزخرفها أو يزينها للناس ، يسوّل لهم المنافع والمصالح. ويصرف الشخص عن الحق والهداية ، ويفرق بين الجماعة ، كما حدث من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وحرفوا وبدلوا ، ونقصوا وزادوا ، فتمزقت وحدتهم ، وسلّط الله عليهم الأعداء.

والسبب في تحذيرنا من اتباع خطوات الشيطان : أنه العدو اللدود الظاهر العداوة ، فإن جميع ما يدعو إليه هو الضلال والباطل بعينه.

ثم توعد الله من حاد عن جادة الاستقامة ، فأعلمهم أنكم إن ملتم عن الحق ، وابتعدتم عن صراط الله وهو الإسلام ، بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات القاطعات ، وسرتم في طريق الشيطان ، طريق الخلاف والنزاع والتفريق ، فإن الله عزيز لا يغلب ، أو غالب على أمره ، لا يعجزه الانتقام منكم ، حكيم في صنعه ، لا يهمل المذنب ، وإنما يعاقبه ويؤاخذه في الدنيا والآخرة.

وهكذا الحكم في كل الأفراد ، إذا لم يلتزموا طريق الاستقامة ، ولم يتحصنوا بدرع متين من الأخلاق ، وأهملوا شرع الله كله أو بعضه ، فلن يوفقوا في الدنيا ولا في الآخرة.

ثم زاد في التهديد والوعيد ، فأورد هذا الاستفهام : ما ينتظر هؤلاء المكذبون دعوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إثباتها بالأدلة والبراهين الساطعة ، وأولئك الخارجون عن أمر الله إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من العذاب في ظلل من الغمام (السحاب) حيث ينتظرون الخير ، تنكيلا بهم ، وتأتيهم الملائكة وتنفذ ما قدره الله وأراده لهم ، وهو أمر قضاه الله وأبرمه ، فلا مفرّ منه ، والمرجع في كل الأمور في النهاية إلى الله يوم القيامة ، فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه ، فهو الأول مبدئ الخلائق ، وهو الآخر تصير إليه الأمور.

٢٣٦

وحكمة إنزال العذاب في الغمام الذي هو مظنة الرحمة والأمل في الخير ، هو إنزاله فجأة من غير سابق إنذار ، كما في آية أخرى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٥].

وهذا يومئ للمؤمن بأن يبادر إلى التوبة وإصلاح الحال ، حتى لا يفاجئه العذاب ، ويأتيه بغتة وهو لا يشعر ، فإذا لم تفاجئه القيامة ، فاجأه الموت ، أو المرض الذي يعجزه عن العمل الصالح ، كما جاء في آية أخرى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ، وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً ، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الزمر ٣٩ / ٥٤ ـ ٥٥].

ثم فتح الله سبيل الحوار والمناقشة مع بني إسرائيل عن الآيات العديدة التي حدثت على يد رسلهم ، كي يكون ذلك باعثا لهم على الإيمان برسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي قامت على مثل تلك الآيات أو المعجزات. فقال :

سل يا محمد بني إسرائيل سؤال تقريع وتبكيت وتوبيخ لهم عن الآيات الكثيرة التي جاءت على أيدي رسلهم الكرام ، مثل موسى وعيسى عليهما‌السلام ، فهي تدل دلالة قاطعة على صدقهم ، ومثلها المعجزات الدالة على صدقك ، فهي متنوعة وكثيرة تؤدي إلى الاقتناع والتصديق بالنبوات. فهل لهم أن يتعظوا ويتدبروا ، ويقلعوا عن جحودهم بالحق وطغيانهم؟ وإلا حلّ بهم من النكال مثل ما حلّ بأسلافهم.

ثم هدد كل من يغيّر سنن الله ، فقال : ومن يغير نعمة الله وهي الأدلة والبراهين الدالة على الحق والخير والهداية ، من بعد ما وصلت إليه وعرفها ، ويجعلها من أسباب ضلاله وكفره وعصيانه ، فله العذاب الشديد ، والعقاب الصارم ، والجزاء المحتم ، لأنه من سنن الله العامة القائمة على العدل والإنصاف ،

٢٣٧

تمييزا بين المحسن والمسيء ، والله شديد العقاب لمن خالف وأساء ، رؤف رحيم بمن أطاع وأحسن.

ولكن طبيعة الكافرين الجاحدين قائمة على حب الدنيا حبا شديدا ، وتحسينها في أعينهم ، وتمكّن محبتها في قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها ، وفتنوا بمباهجها وزخارفها ، وآثروها على كل شيء ، حتى ما عند الله من نعيم مقيم ، لأنهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا بالآخرة ، ثم يتبعون التأويلات والأوهام والآمال الكاذبة التي علقت في خواطرهم.

وتراهم يسخرون من المؤمنين ، ويستهزئون بالفقراء منهم ، كابن مسعود وعمار وصهيب ، ويعجبون : كيف ترك هؤلاء لذات الدنيا وعذبوا أنفسهم بالعبادات؟ كما يعجبون من الأغنياء ، كيف لا يتقلبون في النعيم ، ويستعدون لما بعد الموت ، بتصحيح الاعتقاد ، وإصلاح الأعمال ، والتخلق بفضائل الأخلاق؟ ويتلخص موقفهم أو نظرتهم بأنه موقف مادي ، لا أثر فيه للروحانية.

ثم ردّ الله على هؤلاء الساخرين الذين يظنون أنهم في لذاتهم ودنياهم خير من أهل اليقين والإيمان ، ومفاد الرد :

إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين فترة من الدهر ، بالمال أو المنصب والجاه ، أو العزة والسلطان وكثرة الأنصار والأتباع ، فإن المتقين سيكونون أعلى رتبة منهم في الآخرة ، وأعلى مقاما عند ربهم ، فهم في أعلى عليين ، والكفار في أسفل سافلين ، كما قال الله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) [مريم ١٩ / ٦٣].

وقد تساءل الزمخشري عن السبب في قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا)؟ ثم أجاب : ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن

٢٣٨

التقي ، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك (١).

هذا هو الجزاء المفضل الخالد في الآخرة ، أما الدنيا فليس الارتفاع فيها خالدا ، وإنما هو موقوت ، بل هو في الحقيقة شيء حقير ، يغتر بها سذاج الناس ، أو السطحيون العاديون ، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء.

والله سبحانه يرزق من فضله من يشاء ، ولو كان كافرا فاسقا ، ويقدر الرزق أو يقلله على من يشاء ، ولو كان مؤمنا طائعا ، ويعطي الرزق عطاء كثيرا جزيلا ، بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة ، كما جاء في الحديث : «ابن آدم ، أنفق أنفق عليك» (٢) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنفق بلالا ، ولا تخش من الله ذي العرش إقلالا» (٣) وقال الله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ ٣٤ / ٣٩] فيكون لكلمة الحساب في الآية (٢١٢) وجهان : التقدير أي من غير تقدير له ، أو كناية عن السعة وعدم التقتير والتضييق ، كما يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي ينفق كثيرا.

وتكرر معنى هذه الآية في القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء ١٧ / ١٨ ـ ٢١]. ويلاحظ أنه لم يسترط السعي لرزق الدنيا ، لأنه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصية وكنز أو ارتفاع أثمان ما يملك من عقار

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٦٩

(٢) حديث قدسي متفق عليه عن أبي هريرة بلفظ «أنفق أنفق عليك».

(٣) رواه الطبراني في الكبير والقضاعي في مسنده عن ابن مسعود ، وكذا البزاز.

٢٣٩

وعروض ، واشترط للآخرة السعي مع الإيمان ، كما خصّها هنا بالذين اتقوا من المؤمنين(١).

والرزق بلا حساب في الدنيا يكون بالنسبة إلى الأفراد ، فإنا نرى كثيرا من الأبرار ، وكثيرا من الفجار أغنياء أو فقراء ، لكن المتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا ، فلا يؤلمه الفقر ، كما يؤلم الفاجر ، إذ هو بالتقوى يجد المخلّص من كل ضيق ، ويرى من عناية الله به رزقا غير محتسب.

أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك ، وسنته فيها أن يرزقها بعملها ، ويسلبها بزللها ، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر ، ولا تعمل ولا تتدبر (٢).

فقه الحياة أو الأحكام :

الإسلام كلّ لا يتجزأ ، فمن آمن به وجب عليه الأخذ به كله ، فلا يختار منه ما يرضيه ، ويترك ما لا يرضيه ، أو يجمع بينه وبين غيره من الأديان ، لأن الله تعالى أمر باتباع جميع تعاليمه وتطبيق كل فرائضه ، واحترام مجموع نظامه ، بالحل أو الإباحة ، وبالحظر أو الحرمة ، فهو دليل الإيمان الحق به ، فضلا عن القول بأن شرائعه نسخت كل الشرائع السماوية السابقة حال تعارضها معه. واختيار غير هذا المنهاج أو الخطة يكون اتباعا لخطوات الشيطان ووساوسه وأباطيله.

وقد دلت آية (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به ، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع.

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ٢١٩

(٢) تفسير المنار ، المرجع والمكان السابق.

٢٤٠