التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

هذا مع العلم بأن الكفار في مكة كانوا أحرارا آمنين في عبادتهم الأصنام ، والمؤمنون بالله مطرودون منها ، ومن بقي فهو خائف لا يظهر دينه.

فإن انتهوا عما كانوا عليه وكفّوا عن قتالكم ، ورجعوا عن الكفر ، وأسلموا وسالموا ، فلا تعتدوا عليهم إلا على من ظلم واعتدى ، فيكون قتاله تأديبا له وإصلاحا لشأنه ، حتى يكفّ عن ظلمه ويرتدع عن غيّه ، وتطبق عليه أحكام الشرع.

والحرمة : ما منعت من انتهاكه ، والقصاص : المساواة.

وعلى هذا تكون مقابلة العدوان وانتهاك الحرمات أمرا مطلوبا في موازين الشرع والعقل والعرف ، فمن استحلّ دمكم في الشهر الحرام ، فاستحلوا دمه فيه ، وقابلوا بالمثل هتك حرمة الشهر ، ولا تتحرّجوا بالقتال فيه للدفاع عن الدين والنفس وإعلاء كلمة الله. والحرمات وهي الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام ، يجب قصاص المشركين على انتهاكها ، ومعاملتهم بالمثل. فمن انتهك حرمتها ، فافعلوا به مثل فعله ، وإن منعوكم عن قضاء العمرة هذه السّنة بموجب العهد والاتّفاق معهم ، وقاتلوكم ، فاقتلوهم ، لأن الدفاع عن النفس أمر واجب ولا حرج فيه ولو كان في مكة ، أو في حال الإحرام ، أو في شهر حرام.

ثمّ أبان الله تعالى حكما دائما ، وسنة مستقرة : وهو أن العدوان يقابل بمثله ، وما كان على سبيل القصاص (المعاملة بالمثل) فهو مأذون فيه. ولكن مقابلة العدوان مقيدة بمبادئ الفضيلة والتقوى والمدنية والإنسانية ، فاتّقوا الله ولا تظلموا ، واحذروا أن تعتدوا ، والتزموا حدود العدل ودفع الضرر وإحقاق الحق والبقاء على المدنيات ، ومنافع الناس ، والترفع عن الانتصار للأهواء والشهوات وحظوظ النفس التي قد تتمادى في الغي والحقد والتهور والطيش ، واعلموا أن الله نصير المتقين ، ومؤيد الأتقياء ، ومثيب الصلحاء ، فهو ينصرهم

١٨١

على الأعداء ، ويحقق لهم الغلبة ، ويمكّن لهم في الأرض ، تأييدا لدين الله وإعلاء لكلمته.

والجهاد كما يكون بالنفس يكون أيضا بالمال ، فهو يحتاج إلى الأنفس المقاتلة ، وإلى الأموال التي يشترى بها السلاح ، وينفق بها على المحاربين ، لذا أمر الله بإنفاق المال في سبيل الجهاد ، فقال : وابذلوا المال في سبيل الله أي سبيل الجهاد لشراء العتاد والسلاح ونفقات الحرب ، فالإنفاق في الحروب والمال في المعارك يدعم القتال ، ويحقق النصر والفوز ، واحذروا من التلكؤ والتقصير في واجب الإنفاق ، فإنه مهلكة للأمة ، مضيعة للجماعة ، إتلاف للأنفس ، وإياكم أن تلقوا بأنفسكم إلى سبل الدمار والهلاك ، وأعدوا العدة اللازمة المكافئة للقتال بحسب كل زمان ومكان وحال كما قال الله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال ٨ / ٦٠] بتعليم الرجال القتال ، وإعداد السلاح المناسب المتطور ، وتحصين النفوس بالخلق المتين والعلم الصحيح ، فإن الجيوش الجرارة قد تصاب في كبدها من ضعفاء النفوس الذين يشتريهم العدو بالرشوة والمال وأنواع الإغراءات المادية والمعنوية ، كما أنها قد تخسر الحرب بسبب جهلها ونقص تكوينها وتقصيرها عن مستوى أعدائها في التخطيط والتدبير والتدرب على استعمال السلاح الحديث.

وما أروع وأحكم ما ختمت به هذه الآية : وهو إحسان العمل ، فأحسنوا أعمالكم بامتثال الطاعات وأتقنوها ، فالله يحب المحسنين ويجازيهم أحسن الجزاء ، وذلك مكمل للجانب الأدبي الرفيع والحضاري السامي الذي ختمت به الآية السابقة وهو التزام التقوى والفضيلة ، فتكون الخاتمتان قد جمعتا بين وسائل القوتين المادية والمعنوية ومقوماتها وقيودها.

١٨٢

فقه الحياة أو الأحكام :

يستخلص من هذه الآية وغيرها الواردة في بيان حالات مشروعية القتال ، وحكمة الإذن بالجهاد ما يأتي :

١ ـ شرع القتال في سبيل الله لرد العدوان وحماية الدعوة ، وحرية الدين الإلهي.

٢ ـ كان تشريع القتال متصفا بالعدل والحق ، فهو لا اعتداء فيه على أحد ، ولا يتجاوز فيه ما تقتضيه الضرورة الحربية ، وليس الهدف منه التدمير والتخريب ، ولا الإرهاب المجرد ، فلا يقتل غير المقاتلين ، ولا تقتل النساء والصبيان ونحوهم من الرهبان والعجزة والمرضى والشيوخ ، ولا تقطع الزروع والثمار ، ولا تذبح الحيوانات إلا لمأكلة ، كما جاء في الوصايا النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين.

٣ ـ لم يكن القتال لإكراه الناس على اعتناق الإسلام ، فذلك منفي أصلا في شريعة القرآن ، بآيات كثيرة منها : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة ٢ / ٢٥٦] (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس ١٠ / ٩٩].

٤ ـ لم يشهد التاريخ أمة منصفة ، رحيمة بالضعفاء ، مترفعة عن الدنايا وسفساف الأمور ، مثل أمة الإسلام ، كما اعترف بذلك المنصفون من قادة الفكر في الغرب ، قال الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون : «ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب». أما ما يزعمه الحاقدون والجهلة من أن الإسلام دين قام بالسيف ، فهو مجرد فرية أملاها الحقد الدفين وتشوية الحقائق وكذبها التاريخ والواقع.

وأما المفسرون فقد أثاروا وبحثوا عدة مسائل بمناسبة هذه الآية أهمها ما يأتي :

١٨٣

١ ـ هل آية (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) منسوخة؟

أ ـ قال جماعة من العلماء : مفاد هذه الآية أنه يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار ، ثم نسخت بقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ، كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة ٩ / ٣٦] وقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة ٩ / ١٢٣] وقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥] وقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ..) [التوبة ٩ / ٢٩] وهذه كلها تأمر بالقتال لجميع الكفار ، وتدل على عموم شرع القتال للمشركين ، سواء قاتلوا المسلمين أو لم يقاتلوهم.

ب ـ وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد : الآية محكمة ، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم ، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم. قال أبو جعفر النحاس : وهذا أصح القولين في السنة والنظر.

أما السنة فحديث ابن عمر الذي رواه الأئمة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة ، فكره ذلك ، ونهى عن قتل النساء والصبيان.

وأما النظر : فإن (فاعل) لا يكون في الغالب إلا من اثنين ، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة ، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم ، كالرهبان والزّمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام ، فيما رواه مالك وغيره ، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية.

أما النساء : فإن قاتلن برأي أو تحريض على القتال أو إمداد بمال قتلن ، في حالة المقاتلة وبعدها في رأي سحنون ، لعموم قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة ٢ / ١٩٠] (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة ٢ / ١٩١]

١٨٤

ولا تقتل المرأة التي لا تقاتل ، سواء في أثناء المعركة ، أو بعد الأسر والأخذ ، لمارواه الطبراني عن ابن عباس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «.. ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخا».

وأما الصبيان : فلا يقتلون أيضا ، للنهي الثابت في السنة عن قتل الذرية ، فقد ثبت أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان. وقال فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن رباح بن ربيع : «لا تقتلوا ذرّية ولا عسيفا» أي أجيرا ، ولأنه لا تكليف عليهم ، فإن قاتل الصبي قتل.

وأما الرهبان : فلا يقتلون ، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان في وصيته المشهورة (١) فيما رواه مالك في الموطأ : «.. وستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له».

وأما الزّمنى (المرضى) : فالصحيح أن تعتبر أحوالهم ، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا ، وما هم بسبيله من الزمانة.

وأما الشيوخ : ففي رأي جمهور الفقهاء : إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة ، فإنه لا يقتل ، لقول أبي بكر ليزيد ، ولأنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو ، فلا يجوز قتله كالمرأة ، وأما إن كان ممن تخشى مضرّته بالحرب أو الرأي أو المال ، فيخير فيه الإمام في رأي المالكية إذا أسره بين خمسة أشياء : القتل ، أو المن ، أو الفداء ، أو عقد الذمة على أداء الجزية ، أو

__________________

(١) أوصى أبو بكر سنة ١٣ ه‍ يزيد بن أبي سفيان بن حرب الذي أرسله قائدا على جيش إلى الشام ، بعد أن شيعه راجلا : «وإني موصيك بعشر : لا تقتلن امرأة ، ولا صبيا ، ولا كبيرا هرما ، ولا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تخربن عامرا ، ولا تعقرن شاة ، ولا بعيرا إلا لمأكلة ، ولا تحرقن نخلا ، ولا تغرقنه ، ولا تغلل ، ولا تجبن». رواه مالك في الموطأ ـ باب الجهاد.

١٨٥

الاسترقاق (في الماضي). وكذلك أجاز الشافعي بعد الأسر قتل ما عدا النساء والصبيان.

وأما العسفاء وهم الأجراء والفلاحون : فلا يقتلون في رأي مالك ، للحديث السابق عن رباح بن ربيع : «الحق بخالد بن الوليد ، فلا يقتلنّ ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب : اتقوا الله في الذرّية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا.

وقال الشافعي : يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار ، إلا أن يسلموا ، أو يؤدوا الجزية.

ج ـ ولم ير الفخر الرازي نسخ آية (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) بآية (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) لأن ذكر العام بعد الخاص يثبت زيادة حكم على حكم الخاص ، من غير أن ينسخه. وقال : وتحقيق القول : أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة ، وفي هذه الآية : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) زاد في التكليف ، فأمر بالجهاد معهم ، سواء أقاتلوا أم لم يقاتلوا ، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام بقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ..).

وأما ما روي عن مقاتل : أن آية (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) منسوخة بقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ثم تلك منسوخة أيضا بقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فقال عنه الفخر الرازي : وهو ضعيف ، أما أن قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) منسوخ ، فقد تقدم إبطاله. وأما قوله : إن هذه الآية منسوخة بقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فهو تخصيص لا نسخ. وأما قوله بنسخ آية (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فهو خطأ أيضا ، لأنه

١٨٦

لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكم باق لم ينسخ ، فثبت أن قوله ضعيف. ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متتالية ، تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى (١).

٢ ـ أمان اللاجئ إلى الحرم :

تمسك الحنفية بآية (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) في عدم قتل الكافر اللاجئ للحرم ، ما دام لم يقاتل في الحرم. وتدل أيضا بعمومها على أن القاتل إذا لجأ إلى الحرم لا يقتل. ويؤيد حكم الاثنين قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران ٣ / ٩٧] وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة ٢ / ١٢٥].

٣ ـ غاية القتال وحكمته :

شرع القتال في الإسلام للدفاع عن النفس والبلاد والأعراض والحرمات ، ولم يشرع للعدوان والتقتيل وسفك الدماء.

وكانت الغاية السامية منه إقرار حرية الدعوة إلى الدين ، وإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ، ونصرة شريعته وحماسة أهله ودعاته.

وهل سبب القتال رد العدوان والإيذاء أو الكفر؟

بالأول قال جمهور من الفقهاء ، وبالثاني قال جماعة كالشافعية بدليل آية : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وفسروا الفتنة بالشرك أو الكفر ، وبقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر الذي أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة : «أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يقولوا : لا إله إلا

__________________

(١) تفسير الرازي : ٥ / ١٢٩

١٨٧

الله» قال القرطبي : فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر ، لأنه قال : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي كفر ، فجعل الغاية عدم الكفر ، وهذا ظاهر (١). أي أن المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر ، ويثبت الإسلام ، ونظيره قوله تعالى : «تقاتلونهم أو يسلمون».

٤ ـ الظفر بالحق :

دلت آية (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) على جواز أخذ الحق من الظالم بأي طريق ، ما لم يعد سارقا. وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهم. قال ابن العربي(٢) :

من أباح دمك فمباح دمه لك ، لكن بحكم الحاكم ، لا باستطالتك وأخذ ثأرك بيدك ، ولا خلاف فيه.

ومن أخذ مالك فخذ ماله ، إذا تمكنت منه ، إذا كان من جنس مالك ، طعاما بطعام ، وذهبا بذهب ، وقد أمنت من أن تعدّ سارقا.

وأما أخذ ما ليس من جنس مالك ، فاختلف العلماء فيه ، فمنهم من قال : لا يؤخذ إلا بحكم حاكم ، ومنهم من قال : يتحرّى قيمته ، ويأخذ مقدار ذلك ، هو الصحيح عندي.

ومن أخذ عرضك فخذ عرضه ، لا تتعداه إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه. لكن ليس لك أن تكذب عليه ، وإن كذب عليك ، فإن المعصية لا تقابل المعصية ، فلو قال مثلا : يا كافر ، جاز لك أن تقول له : أنت الكافر ، وإن قال لك : يا زاني ، فقصاصك أن تقول : يا كذاب ، يا شاهد زور ، ولو قلت له

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٣٥٤

(٢) أحكام القرآن : ١ / ١١١ ـ ١١٢

١٨٨

يا زان ، كنت كاذبا ، فأثمت في الكذب ، وأخذت فيما نسب إليك من ذلك ، فلم تربح شيئا ، وربما خسرت. وإن مطلك غني دون عذر ، قل : يا ظالم ، يا آكل أموال الناس.

قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» (١) أما عرضه فيما فسرناه ، وأما عقوبته فبالسجن حتى يؤدّي.

٥ ـ المماثلة في القصاص :

وأرشدت أيضا آية (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) إلى مبدأ المماثلة في القصاص ، ونظيرها آية : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل ١٦ / ١٢٦] ، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به ، ما لم يقتله بفسق أو معصية كاللواط وإسقاء الخمر ، فيقتل بالسيف ، وهذا قول الجمهور ، واستثنى المالكية أيضا القتل بالنار أو السّم ، لا يقتل به ، لقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يعذب بالنار إلا الله» والسم نار باطنة.

وقال أبو حنيفة ، وأحمد في الأصح في مذهبه : إنه لا قود إلا بحديدة ، بدليل حديث النعمان بن بشير ـ فيما رواه ابن ماجه والبيهقي والدار قطني ـ : «لا قود إلا بحديدة ، ولا قود إلا بالسيف».

وانفرد أبو حنيفة بالقول فيمن قتل بخنق أو بسمّ أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة ، إنه لا يقتل ولا يقتص منه ، إذ القتل بمثقل عنده لا يوجب القصاص ، لأنه قتل شبه عمد ، يوجب الدية على عاقلة القاتل. وإنما القصاص يجب بالقتل بمحدّد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتّردية.

__________________

(١) اللي : المطل ، والواجد : القادر على قضاء دينه. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الشريد بن سويد.

١٨٩

٦ ـ الجهاد بالنفس والمال :

يكون الجهاد بالنفس والمال ، لأن تجهيز الجيوش يحتاج إلى عتاد وسلاح ونفقات ، كاحتياج المعارك إلى الرجال الأشداء. فلو قصّر المسلم في الإنفاق في سبيل إعلاء كلمة الله ، فقد ألقى بنفسه إلى الهلاك ، وأهلك الجماعة ، ودمر الأمة التي ينتمي إليها. وقد نزلت آية : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة ٢ / ١٩٥] كما عرفنا في الأنصار حينما تعرضوا لقحط وجدب في بعض السنوات ، وظنوا ألا حاجة للنفقة ، لأن الله قد أعز الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلم يقبل الله ذلك منهم ، لأن الجهاد فريضة دائمة ، والإعداد للقتال واجب شرعي مستمر.

٧ ـ اقتحام أهوال الحرب أو العمل الفدائي :

اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب ، وحمله على العدو وحده ، أيعد ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة؟.

قال جماعة من المالكية : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم ، إذا كان فيه قوة ، وكان لله بنية خالصة ، فإن لم تكن فيه قوة ، فذلك من التهلكة.

وقيل : إذا طلب الشهادة ، وخلصت النية ، فليحمل ، لأن مقصوده واحد من الأعداء ، وذلك بيّن في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة ٢ / ٢٠٧]. وهذا هو الفدائي بحق.

روي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال : فلك الجنة» فانغمس في العدو حتى قتل.

وقال محمد بن الحسن : لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين ،

١٩٠

وهو وحده ، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ، لأنه عرّض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين.

فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه ، فلا يبعد جوازه ، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه.

وإن كان قصده إرهاب العدو ، ليعلم صلابة المسلمين في الدّين ، فلا يبعد جوازه.

وإذا كان فيه نفع للمسلمين ، فتلفت نفسه لإعزاز دين الله ، وتوهين الكفر ، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة ٩ / ١١١] الآية ، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه.

وعليه ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أنه متى رجا نفعا في الدّين ، فبذل نفسه فيه ، حتى قتل ، كان في أعلى درجات الشهداء ، قال الله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان ٣١ / ١٧].

وروى ابن عباس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أفضل الشهداء : حمزة بن عبد المطلب ، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر ، فقتله».

١٩١

أحكام الحج والعمرة

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧))

الإعراب :

(... وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) متعلق بأتموا ، وهو مفعول لأجله ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، وعامله محذوف تقديره : كائنين لله.

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) : ما : مبتدأ ، وخبره مقدر ، وتقديره : فعليكم ما استيسر.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) مبتدأ وخبر ، ولا بد فيه من محذوف مقدر ، وفي تقديره وجهان :

أحدهما ـ أشهر الحج أشهر معلومات ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والثاني : الحج حج أشهر معلومات.

(فَلا رَفَثَ .... فِي الْحَجِ) لا : نافية للجنس ، كما في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) واسمها

١٩٢

وهو رفث : مبني على الفتح ، وبني مع «لا» لأنه معه بمنزلة «خمسة عشر». و «لا» مع النكرة المبنية في موضع مبتدأ ، وقوله (فِي الْحَجِ) خبر.

(وَما تَفْعَلُوا) ما : شرطية منصوب بتفعلوا ، وتفعلوا مجزوم بما ، ويعلمه : مجزوم لأنه جواب شرط.

البلاغة :

(حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) : كناية عن ذبحه في مكان الإحصار. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) فيه إيجاز بالحذف ، أي كان مريضا فحلق (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) فيه التفات من الغائب إلى المخاطب.

(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) فيه إجمال بعد التفصيل ، لزيادة التأكيد ، ويسمى «الإطناب».

(وَاتَّقُوا اللهَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) إظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار لتربية الهيبة والجلال.

(لِمَنْ) اللام بمعنى على ، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة.

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) نفي بمعنى النهي ، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا أي لا تماروا مع الرفقاء والخدم والمكارين ، والنفي أبلغ من النهي الصريح ، أي لا ينبغي أن يقع أصلا ، والأمر بالاجتناب في الحج مع أن وجوبه في كل حال ، لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة ، والتطريب في قراءة القرآن.

المفردات اللغوية :

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أدوهما بحقوقهما (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) منعتم عن إتمامهما بعدو أو مرض (اسْتَيْسَرَ) تيسر (الْهَدْيِ) أي سهل عليكم وهو شاة ، أو كل ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النّعم ، ليذبح ويفرق على الفقراء (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) أي لا تتحللوا (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) مكان الحلول والنزول ، حيث يحل ذبحه ، وهو مكان الإحصار عند الشافعي ومالك ، فيذبح فيه بنية التحلل ، ويفرق على مساكينه ، ويحلق به ، وبه يحصل التحلل. وفي رأي الحنفية : هو الحرم. (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كقمل وصداع ، فحلق في الإحرام (فَفِدْيَةٌ) عليه (مِنْ صِيامٍ) ثلاثة أيام (أَوْ صَدَقَةٍ) ثلاثة أصوع (١) من غالب قوت البلد ، على ستة مساكين (أَوْ نُسُكٍ) أي ذبح شاة ، وأصل النسك : العبادة ، والمراد هنا الذبيحة ، وسميت نسكا لأنها من أشرف

__________________

(١) الصاع : أربعة أمداد ، وهو عند الحنفية (٣٩٠٠ غم) ، وعند الجمهور (٢٧٥١ غم) والمد (٦٧٥ غم).

١٩٣

العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى. وأو : للتخيير. وألحق به : من حلق لغير عذر ، ومن استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره. (فَإِذا أَمِنْتُمْ) قيل : برأتم من المرض ، وقيل : من خوفكم من العدو.

(فَمَنْ تَمَتَّعَ) استمتع (بِالْعُمْرَةِ) أي بسبب فراغه منها ، أي تمتع بمحظورات الإحرام (إِلَى الْحَجِ) أي الإحرام به ، بأن يكون أحرم بها في أشهره.

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) تيسر عليه من الهدي وهو شاة يذبحها بعد الإحرام بالحج بمكة ، والأفضل يوم النحر. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدي ، لفقده أو فقد ثمنه ، فعليه صيام ثلاثة أيام في حال الإحرام بالحج ، فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة ، والأفضل قبل السادس ، لكراهة صوم يوم عرفة ، ولا يجوز صومها أيام التشريق في الأصح عند الشافعي. وسبعة أيام بعد الرجوع إلى الوطن : مكة أو غيرها.

وحاضرو المسجد الحرام : هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت في رأي الحنفية ، وإلى ما دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وقته شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة ، في رأي الشافعي ، وقال الجمهور : يجوز الإحرام بالحج فيما عدا هذه الأشهر مع الكراهة. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا ، وبالإحرام فعلا ظاهرا ، وبالتلبية نطقا مسموعا. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج ، وأوجبها الظاهرية.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة ، وكانت العمرة لا وقت لها معلوما ، بيّن أن الحج له وقت معلوم.

(فَلا رَفَثَ) جماع فيه ، (وَلا فُسُوقَ) عصيان (وَلا جِدالَ) خصام ومجادلة (١) والمراد بالنفي في الثلاثة : النهي عنها. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) كصدقة (يَعْلَمْهُ اللهُ) فيجازيكم به ، ونزل في أهل اليمن ، وكانوا يحجون بلا زاد ، فيكونون كلّا على الناس. (وَتَزَوَّدُوا) ما يبلغكم لسفركم (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) ما يتقى به سؤال الناس وغيره ، واتقوا الله يا أولي العقول.

والألباب : جمع لبّ ، ولبّ كل شيء : خالصة ، ولذلك قيل للعقل : لبّ.

__________________

(١) قال ابن مسعود وابن عباس وعطاء : الجدال هنا : أن تماري مسلما حتى تغضبه ، فينتهي إلى السباب ، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها. وقال قتادة : الجدال : السباب. ورجح القرطبي قول من قال : لا جدال في وقت الحج ولا في موضعه.

١٩٤

سبب النزول :

سبب نزول قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال : جاء رجل إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متضمخ بالزعفران ، عليه جبة ، فقال : كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فقال : أين السائل عن العمرة ، قال : ها أنا ذا ، فقال له : ألق عنك ثيابك ، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت ، ثم ما كنت صانعا في حجك ، فاصنعه في عمرتك.

وقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) : روى البخاري عن كعب بن عجرة أنه سئل عن قوله : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) قال : حملت إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا ، أما تجد شاة؟ قال : قلت : لا ، قال : صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام ، واحلق رأسك ، فنزلت فيّ خاصة ، وهي لكم عامة.

وروى مسلم عن كعب بن عجرة قال : «فيّ أنزلت هذه الآية ، أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أدنه ، فدنوت مرتين أو ثلاثا ، فقال : أيؤذيك هوامك؟ قال ابن عون ، وأحسبه قال : نعم ، فأمرني بصيام ، أو صدقة ، أو نسك ما تيسر».

وروى أحمد عن كعب قال : كنا مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، ونحن محرمون ، وقد حصر المشركون ، وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوام تسّاقط على وجهي ، فمرّ بي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أيؤذيك هوام رأسك؟ فأمره أن يحلق ، قال : ونزلت هذه الآية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ ، أَوْ نُسُكٍ).

وقوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا) : روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال :

١٩٥

كان أهل اليمن يحجون ، ولا يتزودون ، ويقولون : نحن متوكلون ، فأنزل الله : (وَتَزَوَّدُوا ، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

المناسبة :

ذكرت أحكام الصيام ، ثم ذكرت أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام والقتال فيها وفيه ، ثم ذكرت هنا أحكام الحج ، لأن شهوره بعد شهر الصيام ، فأوضح تعالى فيها حكم المحصر الذي منعه العدو من إتمام الحج ، وحكم المتمتع إلى زمن الحج من غير أهل الحرم ، ووقت الحج في أشهر معلومات.

التفسير والبيان والأحكام :

كان الحج معروفا بين عرب الجاهلية ، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، وأقره الإسلام بعد أن أبطل ما فيه من أنواع الشرك والمنكرات ، وزاد فيه بعض المناسك.

وقد فرضه الله تعالى على المسلمين سنة ست من الهجرة بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران ٣ / ٩٧] وكانت أول حجة حجها المسلمون سنة تسع بإمرة أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، ثم حج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر ، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا : ألا يطوف بعد هذا العام مشرك ، ونزلت الآية (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة ٩ / ٢٨].

واستمر المسلمون منذ ذلك التاريخ يهرعون بقلوب ملؤها الشوق والحنين والتعظيم إلى بيت الله الحرام كل عام ، من مختلف الأقطار في المشارق والمغارب ، تظللهم راية الإيمان بالله تعالى ، وترتفع أصواتهم بتلبية أوامر الله ، وتخشع نفوسهم لتلك المواقف المهيبة ، قاصدين تطهير أنفسهم من شوائب العصيان

١٩٦

ومخالفة الأوامر الإلهية ، وهم في صفوفهم وتحركاتهم الجماعية منصهرون ماديا وفعليا بمعنى المساواة ، دون تفرقة بين سيد ومسود وحاكم ومحكوم وغني وفقير ، ومتجردون من مظاهر الدنيا وزينتها ، فلا تكاد تجد في أنحاء العالم تجمعا كثيفا ومؤتمرا عالميا ، مثل مؤتمر الحج كل عام ، حيث تجد فيه مختلف الجنسيات والألوان والألسنة من كل أنحاء العالم.

ويبين الله تعالى في هذه الآيات بعض أحكام الحج وهي :

١ ـ إتمام الحج والعمرة : أي أداؤهما تامين كاملين لا ينقصهما شيء من شروطهما وأفعالهما من غير أن يفعل أثناءهما شيء من المحظورات ، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها المطلوب شرعا ، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد شيء دنيوي. والتعبير بالإتمام مشعر بأن المسلمين قد شرعوا فيهما ، وبدؤوا في العمرة سنة ست وصدوا عنها ، ولذلك تسمى العمرة التي وقعت في سنة سبع عمرة القضاء. ودل قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) على وجوب القضاء على من أحصر بمرض أو عدو إذا حل منهما بالهدي ، في رأي الحنفية ، لأن الأمر في الآية يقتضي الإيجاب بالشروع في العبادة ، والمراد بقوله (وَأَتِمُّوا ..) تمامهما بعد الشروع فيهما. وقال مالك والشافعي : إن أحصر المحرم بعدو ، فحلّ فلا قضاء عليه في الحج ولا العمرة ، والمراد بالآية : أداؤهما والإتيان بهما ، كقوله : (فَأَتَمَّهُنَ) وقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

٢ ـ اتفق العلماء على فرضية الحج ، واختلفوا في العمرة ، بالرغم من الأمر إتمامهما في هذه الآية. فقال الشافعية والحنابلة : العمرة واجبة كالحج ، لقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وقوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وقوله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة ٢ / ١٥٨]. ولما روي في

١٩٧

الصحيح أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : «من كان معه هدي ، فليهلّ بحج وعمرة» وقوله أيضا : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وروى الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الحج والعمرة فريضتان ، لا يضرك بأيهما بدأت».

وذهب المالكية والحنفية : إلى أن العمرة سنة ، لأن كل الآيات التي فرض فيها الحج ، جاءت مجردة عن ذكر العمرة : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران ٣ / ٩٧] (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ ..) [الحج ٢٢ / ٢٧] ، ولأن أحاديث أركان الإسلام لم يذكر فيها العمرة ، ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن ماجه وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي ـ «الحج جهاد ، والعمرة تطوع» وأخرج الترمذي وصححه عن جابر : أن رجلا سأل رسول الله عن العمرة ، أواجبة هي؟ قال : لا ، وأن تعتمروا خير لكم» ، وتأولوا أحاديث فريضة العمرة بأنها بعد الشروع فيها ، وهي واجبة حينئذ بلا خلاف. والظاهر هو الرأي الأول ، لأن هذه الآية (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) دليل على وجوب العمرة ، لأنه تعالى أمر بإتمامها ، كما أمر بإتمام الحج.

٤ ـ الإحصار : إن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما ، وجب عليكم إن أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر من الهدي : وهو ناقة (بدنة) أو بقرة أو شاة ، فإن لم يجدها المحصر قوّم الحيوان ، واشترى بقيمته طعاما ، وتصدق به ، فإن لم يجد ، صام عن كل مدّ من الطعام يوما. والإحصار يكون عن الحج ، وعن العمرة ، لأن المنع قد يحصل منهما على سواء.

واختلف الفقهاء في أسباب الإحصار : فذهب الحنفية : إلى أنه يشمل كل حالات المنع من دخول مكة بعد الإحرام ، بمرض أو عدو ، أو سجن أو غيره ،

١٩٨

لأن الله تعالى علّق الحكم على مطلق الإحصار : وهو الحبس ، وهو عام ، يتناول الكل.

وذهب الشافعية والمالكية : إلى أن معنى الإحصار : المنع بالعدو ، أخذا بما روي عن ابن عباس وابن عمر ، ولأن الحصر هو المنع ، والمنع لا بد له من مانع قادر على المنع ، وذلك يتصور في العدو لا في المرض ، ولأن الأمن في قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) إنما يستعمل في الخوف من العدو ، لا في المرض. وأما من أحصره المرض فلا يحلّه إلا الطواف بالبيت ، وإن أقام سنين ، حتى يفيق.

والظاهر هو الرأي الأول ، لأن الأمن عام ليس مقصورا على الأمن من العدو ، ولأن المانع هو كل حاجز عن الشيء ، والمرض حاجز عن متابعة السير وإتمام الأعمال المطلوبة في المناسك ، وتخصيص بعض أفراد العام بحكم في آية : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) لا يخصص العام المفهوم في آية : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ).

وأما اشتراط المحرم : بأن يقول : لبيك اللهم لبيك ، ومحلّي حيث حبستني من الأرض ، فلا ينفعه عند الجمهور ، وعليه دم. وأجاز أحمد وأبو ثور وإسحاق بن راهويه الاشتراط ، ولا دم ولا هدي عليه ، لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن بذلك لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فيما رواه أبو داود والدار قطني وغيرهما.

٤ ـ حلق الرأس أو التقصير : يعبر عن الدخول بالحج أو العمرة بالإحرام ، وذلك بالنية من الميقات ، وتجرد الرجال من لبس المخيط والحذاء ، ولبس النعل ، والامتناع عن الطيب والنساء والصيد البري ونحوها ، ويكون الخروج من الإحرام بما يسمى بالتحلل : وهو حلق الرأس أو التقصير ، وقد نهى الله تعالى عن الحلق قبل بلوغ الهدي مكان ذبحه ، وهو مكان الإحصار في رأي مالك والشافعي ، عملا بفعل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في عام الحديبية ، وفي الحرم المكي في رأي الحنفية ، لقوله تعالى في جزاء الصيد : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة ٥ / ٩٥]

١٩٩

فبين أن شرط الهدي أن يكون على صفة بلوغ الكعبة ، فلا يصح أن تغير هذه الصفة ، وكان الذبح من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طرف الحرم من جهة الحديبية. والظاهر الرأي الأول لأن منع العدو أو المرض لا يتحدد بمكان معين ، ويحول بين المحرم وبين تقدمه أو تجاوزه المكان الممنوع ، فكيف يتصور وصوله إلى الحرم ، وهو ممنوع منه؟! قال الله تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح ٤٨ / ٢٥] قيل : محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق.

وهل لذبح الهدي وقت معين؟ لا خلاف في أن هدي العمرة غير مؤقت بزمان مخصوص ، بل له أن يذبح متى شاء ، ويحل من إحرامه. وأما هدي الإحصار في الحج : فيذبح عند الجمهور متى شاء ويحل ، لأن قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) عام في كل الأوقات متى حصل الإحصار ، ولأن حكم الإحصار بالعمرة لا توقيت فيه ، فلا يفرق بين دم إحصار الحج ودم إحصار العمرة ، ولأن تأخير الذبح حتى يجيء يوم النحر فيه ضرر واضح.

وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد : لا يذبح الهدي قبل يوم النحر.

وهل على المحصر حلق؟ قال أبو حنيفة ومحمد : ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وقال الجمهور : يحلق المحصر أو يقصر ، لأن ذلك قادر عليه ، ولقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [البقرة ٢ / ١٩٦] ولا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه ، لأن سنة الذبح الحلاق ، وللآية المذكورة : (وَلا تَحْلِقُوا ..)

٥ ـ جزاء الحلق وقتل الهوام : إذا خالف المحرم شروط الإحرام ، فحلق رأسه أو قصر بسبب المرض ، أو الأذى في رأسه من قمل أو جرح أو صداع وغيره ، أو قلم ثلاثة أظافر ، أو قبّل زوجته مثلا ، أو تطيب أو ادّهن في جسمه مثلا ، فعليه فدية مخير فيها بين صيام ثلاثة أيام أو صدقة وهي إطعام ستة مساكين ، أو

٢٠٠