التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فطر صائما ، كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا».

٩ ـ ويستحب صيام ستة أيام من شوال ، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صام رمضان ، ثم أتبعه ستا من شوال ، كان له كصيام الدهر». وكره المالكية اتصالها برمضان.

١٠ ـ الجماع يفسد الاعتكاف ، لقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ). أما مباشرة الزوجة من غير جماع : فإن قصد بها التلذّذ فهي مكروهة ، وإن لم يقصد لم يكره ، لأن عائشة كانت ترجّل (تمشط) رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معتكف ، وكانت لا محالة تمسّ بدنه بيدها. فدل ذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة. وهو قول عطاء والشافعي وابن المنذر.

أما دواعي الجماع كالقبلة والمباشرة وإن لم ينزل فهي حرام وتفسد الاعتكاف عند المالكية ، ولا تفسده عند الجمهور ، لكن قال الشافعية : يفسد إن أنزل المني بحسب المعتاد له ، وقال غيرهم : يفسد الاعتكاف مطلقا بالإنزال في حال المباشرة بشهوة كالقبلة واللمس والتفخيذ.

١١ ـ يسن الاعتكاف في المسجد ، وهو في اللغة : الملازمة ، وفي الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وإنما هو قربة من القرب ، ونافلة من النوافل ، عمل بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأزواجه. ويلزم بالنذر.

وأجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ، لقوله تعالى : (فِي الْمَساجِدِ). وأقل الاعتكاف عند مالك يوم وليلة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد : أقله لحظة ، ولا حدّ لأكثره. ولا يشترط له عندهم الصوم ، وجعل

١٦١

المالكية الصوم شرطا مطلقا ، وشرطه الحنفية في الصوم المنذور فقط دون غيره من التطوع ، ودليل المشترطين حديث ضعيف رواه الدارقطني والبيهقي وهو : «لا اعتكاف إلا بصوم».

وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بدّ له منه ، لما روى الأئمة عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» تريد الغائط والبول.

واستحب مالك وأحمد لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد ، حتى يغدو منه إلى المصلى. وقال الشافعي والأوزاعي : يخرج إذا غربت الشمس.

١٢ ـ يجب التزام أحكام الله من أوامر ونواه ، ومنها المباشرة في الاعتكاف ، فهي حدود الله ، وسميت بذلك لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج منها ما هو منها ، ومنها سميت الحدود في المعاصي ، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها. ومنه سمي الإحداد في العدة ، لأن المعتدة تمتنع من الزينة.

أكل الأموال بالباطل

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

الإعراب :

(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) : (وَتُدْلُوا) إما مجزوم عطفا على قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا) فكأنه قال : «ولا تدلوا» ، وإما منصوب على تقدير : «أن» بعد الواو التي وقعت جوابا للنهي وهي بمعنى الجمع ، فكأنه يقول : لا تجمعوا بين أن تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، وأن تدلوا بها إلى الحكام.

١٦٢

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في (لِتَأْكُلُوا).

المفردات اللغوية :

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ) أي يأكل بعضكم مال بعض بغير وجه مشروع ، والمراد بالأكل : الأخذ والاستيلاء ، وعبر به ، لأن المقصود الأعظم من المال هو الأكل. وأكل المال بالباطل له وجهان : الأول ـ أخذه على وجه الظلم والسرقة والغصب ونحو ذلك. والثاني ـ أخذه من جهة محظورة كالقمار ، وأجرة الغناء ، ونحو ذلك من سائر الوجوه التي حرمها الشرع. وقد انتظمت الآية تحريم كل هذه الوجوه. والباطل : في اللغة : الذاهب أو الزائل ، والمراد به هنا الحرام شرعا كالسرقة والغصب. ويشمل كل ما أخذ دون مقابل ، أو دون رضا من صاحبه ، أو أنفق في غير وجه حقيقي نافع.

(وَتُدْلُوا) تلقوا بالأموال إلى الحكام رشوة للوصول إلى الحكم القضائي لصالحكم.

(فَرِيقاً) الفريق من الشيء : الجملة والطائفة منه. (بِالْإِثْمِ) أي متلبسين بالإثم ، أي الظلم والتعدي : وهو شهادة الزور أو اليمين الكاذبة الفاجرة أو نحوها ، وسمي ذلك إثما ، لأن الإثم يتعلق بفاعله.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم مبطلون آثمون ، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.

سبب النزول :

قال مقاتل بن حيان : نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي ، وفي عبدان بن أشوع الحضرمي ، وذلك أنهما اختصما إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أرض ، وكان امرؤ القيس هو المطلوب (المدعى عليه) ، وعبدان هو الطالب (المدعي) ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فحكم عبدان في أرضه ، ولم يخاصمه (١).

وقال سعيد بن جبير : إن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي ، اختصما في أرض ، وأراده امرؤ القيس أن يحلف ، ففيه نزلت : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٥٥

١٦٣

المناسبة :

مناسبة الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام ، فحبس نفسه عمّا تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة للمرأة في النهار ، ثم حبس نفسه عن الممنوعات في الصيام ، جدير به ألا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب ، ويزيده بصيرة ، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة ، فنهي عن أكل الحرام المؤدي إلى عدم قبول صيامه.

التفسير والبيان :

أبان الله تعالى في آيات الصيام حلّ أكل الإنسان من ماله ، وناسب هنا أن يذكر حكم أكل مال الغير.

نهانا الله تعالى أن يأكل بعضنا أموال بعض بغير وجه مشروع ، وأضاف كلمة (أَمْوالِ) إلى الجماعة إشعارا بأن المال في الحقيقة مال الأمة أو الجماعة ، فهي أمة واحدة متكافلة ، وتنبيها إلى أن احترام وحفظ مال غيرك احترام وحفظ لمالك. فيكون التعدي على مال الآخرين جناية على الأمة التي هو فرد منها وعضو فيها. وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي ، لأن كل واحد منهي ومنهي عنه.

والأكل بالباطل : يشمل كل ما أخذ بغير وجه الحق ، كالرّبا والقمار ، لأنه أخذ بدون مقابل ، والرشوة والدفاع بالباطل ، لأنهما إعانة على الظلم ، والصدقة على القادر على الكسب ، لأنها إذلال له ، ولا تحل للآخذ إذا كان غير مضطر إليه ، والسرقة والغصب ، لأنهما اعتداء على مال الغير ، سواء أكان غصب مال عيني أم غصب المنافع ، أم التعدي على منفعة الآخرين ، كالتسخير بدون مقابل أو الإنقاص من الأجر ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأجور الرقص والغناء ، ومهور البغايا ، ومقابل التمائم والعزائم وختمات القرآن ، والمأخوذ غشا واحتيالا وزورا

١٦٤

وبهتانا ، ونحو ذلك من أموال السحت والحرام ، التي تؤدي إلى النار ، لأن كل جسم نبت من حرام فالنار أولى به.

وقد جاء النهي عن أكل الأموال بالباطل في آيات أخرى ، منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) [النساء ٤ / ٢٩] ، ومنها : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ...) [النساء ٤ / ١٠].

ومعنى (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) : ألا تلقوا بالأموال إلى الحكام رشوة لهم ، لأخذ شيء من أموال الناس بالإثم كاليمين الكاذبة الفاجرة أو شهادة الزور ، أو نحو ذلك من وسائط الوصول إلى الحرام. وتشمل هذه الآية وجهين :

الأول ـ تقديم الأموال رشوة للحكام ، ليقضوا لهم بالباطل وأخذ حق الغير.

الثاني ـ رفع القضايا للمحاكم ، اعتمادا على الحجة الباطلة ، وتزييف الحقائق ، وشهادة الزور ، واليمين الغموس. وهذا ما حذر منه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أم سلمة الذي رواه مالك وأحمد وأصحاب الكتب الستة ، قالت : «كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء أخرى» ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له بنحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا ، فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار» ، فبكى الخصمان ، وقال كل واحد منهما : أنا حلّ لصاحبي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذهبا فتوخّيا ، ثم استهما ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» (١).

__________________

(١) ألحن : أفطن وأعرف وأقدر عليها من صاحبه. والتوخي : قصد الحق ، والاستهام :الاقتراع ، أي اقصدا الحق في القسمة ، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من النصيب أو السهم.

١٦٥

فقه الحياة أو الأحكام :

منعت هذه الآية جميع أفراد الأمة المحمدية من أن يأكل بعضهم مال بعض بغير حق ، ويشمل ذلك القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق ، وما لا تطيب به نفس المالك ، أو حرّمته الشريعة وإن أداه الإنسان برضاه ، كمهر البغي (الزانية) وحلوان الكاهن (١) وأثمان الخمور والخنازير وغيرها من وجوه اللهو الحرام.

ومن الأكل بالباطل : أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل ، فالآية صريحة في أن الإثم على من أكل ، وهو يعلم أنه ظالم في الأكل ، وأما غيره فلا إثم عليه. والحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي ، لأنه إنما يقضي بالظاهر ، كما دلّ حديث أم سلمة المتقدم ، وهو الموافق للواقع.

لكن مع ذلك ظهر خلاف في الموضوع بين الفقهاء :

فقال أبو حنيفة : ينفذ حكم القاضي في العقود والفسوخ ، ظاهرا وباطنا ، لأن مهمته القضاء بالحق ، فإذا حكم الحاكم ببينة بعقد أو فسخ عقد ، فحكمه نافذ ، ويكون كعقد عقداه ابتداء ، وإن كان الشهود شهود زور. مثل أن يدعي رجل على امرأة أنه تزوجها ، فأنكرت ، فأقام على ادعائه شاهدي زور ، فقضى القاضي بعقد الزواج بينهما ، حلّ للرجل الاستمتاع بها ، ولو قضى القاضي بالطلاق ، فرّق بينهما ، وإن كان الرجل منكرا. ونفاذ حكم القاضي على هذا النحو مقيد بشرطين :

١ ـ ألا يعلم بكون الشهود زورا.

__________________

(١) الكهانة : ادعاء معرفة الغيب أو التنجيم ، والعرافة : ادعاء معرفة الماضي والمستقبل ، والمقصود النهي عن الأمرين ، لأنهما ادعاء العلم بالغيب.

١٦٦

٢ ـ وأن يكون من الأمور التي له فيها صلاحية الإنشاء.

وقد قضى علي كرّم الله وجهه بما يؤيد هذا الرأي ، حيث جاءه رجل ادعى زواجا على امرأة وهي تنكر ، وجاء بشاهدين ، فقالت : إني لم أتزوجه ، فقال لها : زوجك الشاهدان. وكذلك قصة لعان هلال بن أمية مع امرأته ، وقضى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفرقة بينهما ، وكان ذلك بعد أن قال : «إن جاء الولد على صفة كذا فهو لهلال. وإن جاءت به على صفة كذا ، فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به على الصفة المكروهة ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا ما مضى من الأيمان ، لكان لي ولها شأن» فقصة اللعان تدل على أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب ، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه ، لحدّها وما فرّق بينهما ، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه الصلاة والسلام : «فمن قضيت له من حق أخيه شيئا ، فلا يأخذه».

وقال جمهور العلماء : ينفذ حكم القاضي ظاهرا لا باطنا ، في المال وغيره من أحكام الزواج والطلاق والجنايات ، فلا يحل الحرام ، ولا يحرم الحلال ، ولا ينشئ الحقوق ، وإنما يظهرها ، ويكشف عنها في الوقائع ، بدليل حديث أم سلمة المتقدم ، الذي أخذت منه القاعدة التالية : «نحن نحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر». وهذا هو الحق بنحو عام ، إلا ما خص منه بنص كاللعان.

وعلى أي حال ، لا يجوز لمؤمن أن يلجأ إلى المحاكم ، معتمدا على مهارة وكلاء الدعاوي (المحامين) ، وهو يعلم أنه مبطل في ادعائه.

ولا يحل لمؤمن أن يأخذ مال أخيه أو غير حقه ، وإن قضى له به القاضي ، لأن القاضي بشر معذور يقضي بالظاهر ، وحكمه لا يغير الواقع ، وإنما الذي يجب أن ينظر إليه هو الحساب الحق العدل أمام الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية ،

١٦٧

ويجزي كل إنسان بما عمل ، فهو الذي تجب مراقبته في السرّ والعلن ، وهو الذي يجب أن يخشاه المسلم في الظاهر والباطن.

وإن تقديم المال رشوة إلى الحكام ، تضييع للأموال وإهدار لها وإتلاف. فلا يصح لمؤمن أن يصانع بأمواله الحكام ويرشوهم ليقضوا له على أكثر من حقه أو غير حقه.

واتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم «مال» قل أو كثر : أنه يفسّق بذلك ، وأنه محرم عليه أخذه.

التوقيت بالشهر القمري وحقيقة البر

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

الإعراب :

(هِيَ مَواقِيتُ) مبتدأ وخبر. (الْبِرُّ) اسم (لَيْسَ) مرفوع ، وجملة : (بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ) خبرها. (وَلكِنَّ الْبِرَّ) اسم (لكِنَ) منصوب ، وخبرها محذوف وتقديره: برّ من اتقى.

البلاغة :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ، قُلْ : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) هذا يسمى في البلاغة «الأسلوب الحكيم» فقد سألوا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الهلال ، لم يبدو صغيرا ثم يزداد حتى يتكامل نوره؟فصرفهم إلى بيان الحكمة من الأهلة ، فهي الأولى بالسؤال عنها. إذ من المعلوم أن كل ما يفعله الله عزوجل لا يكون إلا عن حكمة بالغة ومصلحة لعبادة ، فدعوا السؤال عن أشكال القمر نقصا وتماما ، وانظروا في أمر ليس من البر ، وأنتم تحسبونه برّا.

١٦٨

المفردات اللغوية :

(الْأَهِلَّةِ) جمع هلال ، وهو القمر ، لم يبدو دقيقا في ليلتين أو ثلاث من أول كل شهر ، ثم يزيد حتى يمتلئ نورا ، ثم يعود كما بدأ ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس. (مَواقِيتُ) جمع ميقات ، وهو ما يعرف به الوقت أي الزمن المقدر المعين. فبالأهلة يعرف الناس أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم وصيامهم وإفطارهم ، وأوقات صلواتهم ، وزمان الحج ، فيعلم بالأهلة وقته أيضا ، وهو من عطف الخاص على العام. وإنما سمي هلالا ، لظهوره بعد خفائه ، ومنه الإهلال بالحج ، لظهور الصوت بالتلبية ، أو لأن الناس عند ظهور الهلال يرفعون أصواتهم بذكره عند رؤيته. ويسمى هلالا لليلتين أو لثلاث من الشهر ، ثم يسمى قمرا.

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) في الإحرام ، بأن تنقبوا فيها نقبا تدخلون منه وتخرجون ، وتتركوا باب البيت ، وكانوا يفعلون ذلك ، ويزعمونه برّا. (وَلكِنَّ الْبِرَّ) ذا البر. (مَنِ اتَّقى) الله بترك مخالفته ، والبر : التقوى. (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) في الإحرام كغيره. (تُفْلِحُونَ) تفوزون.

سبب النزول :

قال ابن عباس : إن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم (١) ـ وكانا من الأنصار ـ قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ويعظم ، ثم لا يزال ينقص ويدقّ ، حتى يعود كما كان ، لا يكون على حالة واحدة كالشمس ، فنزلت هذه الآية. ويروى أيضا أن اليهود سألت عن الأهلة.

وقال البراء في سبب نزول : (وَلَيْسَ الْبِرُّ ..) : كانت الأنصار إذا حجّوا ، فجاءوا ، لا يدخلون من أبواب بيوتهم ، ولكن من ظهورها ، فجاء رجل ، فدخل من قبل الباب ، فكأنه عيّر بذلك ، فنزلت هذه الآية. رواه البخاري ومسلم.

__________________

(١) كتبها بعضهم : غنيمة.

١٦٩

وقال المفسرون : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام ، إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة ، لم يدخل حائطا (بستانا) ولا بيتا ولا دارا من بابه ، فإن كان من أهل المدن نقب نقبا في ظهر بيته ، منه يدخل ومنه يخرج ، أو يتخذ سلما فيصعد فيه ، وإن كان من أهل الوبر ، خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل من الباب ، حتى يحلّ من إحرامه ، ويرون ذلك ذمّا ، إلا أن يكون من الحمس (١) : وهم قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وثقيف ، وخثعم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو النضير بن معاوية ، سمّوا حمسا لشدتهم في دينهم. قالوا : فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار ، فدخل رجل من الأنصار وهو قطبة بن عامر الأنصاري على إثره من الباب وهو محرم ، فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم دخلت من الباب وأنت محرم؟» فقال : رأيتك دخلت من الباب ، فدخلت على إثرك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أحمسيّ» ، قال الرجل : إن كنت أحمسيّا فإني أحمسيّ ، ديننا واحد ، رضيت بهديك وسمتك ودينك ، فأنزل الله هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم والحاكم عن جابر ، وهذا القول هو أصح الأقوال.

المناسبة :

هذه الآية تكملة لأحكام الصيام ، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال ، كما جاء في الحديث الثابت : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته» (٢).

ولم يذكر في الآية تحديد المسؤول عنه في الأهلة ، أهي حقائقها أم أحوالها؟ لكن الجواب ووروده بقوله تعالى : (قُلْ : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) مشعر بأن السؤال عن الحكمة في تغيرها ، وأيده الخبر في سبب النزول.

__________________

(١) الحمس : جمع أحمس ، من الحماسة : وهي الشدة ، والصلابة ، لتشددهم في دينهم.

(٢) البحر المحيط : ٢ / ٦١

١٧٠

التفسير والبيان :

يسألونك يا محمد عن سبب اختلاف حجم الأهلة نقصا وإتماما ، وهذا لا فائدة بالسؤال عنه ، لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبعث معلما لعلوم الفلك وأحوال النجوم ، وإنما الأولى أن يوجه السؤال عن الحكمة أو الغاية من الأهلة ، فأجبهم عن ذلك ، بأن الأهلة معالم للتوقيت والحساب في شؤون الزراعة والتجارة وآجال العقود والديون ، ومعالم أيضا لتوقيت العبادات من صوم وإفطار وصلاة وحج وعدة وغير ذلك.

والتوقيت بالشهر القمري والسنة القمرية سهل في الحساب ومناسب للعرب.

والمواقيت جمع ميقات بمعنى الوقت ، كالميعاد بمعنى الوعد ، وقال بعضهم : الميقات : منتهى الوقت ، كما في قوله تعالى : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف ٧ / ١٤٢] ، والهلال ميقات الشهر ، ومواضع الإحرام : مواقيت ، لأنها التي ينتهي عندها الحل.

ولما ذكر مواقيت الحج ذكر ما كان من أفعالهم فيه ، لإبطال عادة الجاهلية : وهي الامتناع بعد الإحرام بالحج أو بالعمرة من دخول البيوت من أبوابها ، وإنما كانوا يدخلونها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر ، أو من نقب في ظهر البيت إذا كانوا من أهل المدر ، زاعمين أنه من البرّ ، فقيل لهم : ليس البرّ هذا ، وليس بقربة إلى الله تعالى ، وذلك خطأ ، وإنما البرّ الحقيقي هو تقوى الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، والتّحلي بالفضائل ، والتّخلي عن المعاصي والرذائل ، والخوف من الله ومن عقابه.

فأتوا البيوت من أبوابها ، واتقوا الله في كل شيء ، رجاء أن تكونوا من المفلحين في أعمالكم ، فالمتقي في رشاد ، والعاصي في ضلال ، كما قال الله تعالى :

١٧١

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق ٦٥ / ٤] ، (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس ١٠ / ٣٢].

ويلاحظ أن أبا بكر الجصاص الرازي قال : وفي هذه الآية دلالة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة ، لعموم اللفظ في سائر الأهلّة ، أنها مواقيت للحجّ ، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج ، فوجب أن يكون المراد الإحرام (١). وهو استدلال غير ظاهر ، لأن الآية في بيان الحكمة في تغيير الأهلّة بالزيادة والنّقص : وهي أن يوقّت الناس بها في معاملاتهم ، وعباداتهم ، وحجّهم ، وليس الكلام في بيان ما يكون في الشهر من العبادات وغيرها. وجاءت السنّة القولية مبينة وقت الإحرام بالحج والعمرة ، ودلّ قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) على أن وقت الحج شهران وبعض الثالث.

فقه الحياة أو الأحكام :

الإسلام دين الموضوعية والحياة والواقع النافع ، فهو ينبذ الشكليات والمظاهر والأوضاع التي لا نفع فيها ، ويوجه الناس إلى الاعتناء بما ينفعهم ويعود عليهم بالخير والمصلحة. لذا أبان الله تعالى في آية سابقة بمناسبة تحويل القبلة أن البرّ ليس هو بالاتجاه نحو المشارق والمغارب ، وإنما البرّ هو الإحسان والتقوى والعمل الصالح.

ونبّه في هذه الآية إلى الحكمة من زيادة القمر ونقصانه ، وهي الاستفادة من الهلال في ضبط الحساب وتوقيت الزمان ومعرفة الآجال والمعاملات والأيمان ، والحج ، وأنواع عدة المرأة (العدد) ، والصوم والفطر ، ومدّة الحمل ، والإجارات والأكرية ، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ،

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٥٤

١٧٢

لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [الإسراء ١٧ / ١٢] ، وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس ١٠ / ٥] ، وإحصاء الأهلّة شهريا أيسر من إحصاء الأيام. وسمّي الشهر شهرا ، لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ، ويدلون عليه. ويؤيد الآيات أحاديث ، منها ما رواه عبد الرزاق والحاكم عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعل الله الأهلّة مواقيت للناس ، فصوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم ، فعدوا ثلاثين يوما».

والعلم بالآجال أو المدد أمر مشروط في كل العقود كالإجارة والبيع بثمن إلى أجل معلوم ، والسّلم والمساقاة والمزارعة ونحوها. وبهذا يرد على الظاهرية الذين قالوا : تجوز المساقاة إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير توقيت. ويجاب عنه : بأن هذا لا دليل فيه ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال لليهود : «أقركم فيها ما أقركم الله» ، وهذه خصوصية له ، لا يقاس عليه غيره ، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه.

وأجاز الجمهور البيع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء ونحوه ، لأن الأجل معروف ، وتأخره يسيرا متسامح فيه ، ولم يجز الشافعي ذلك للجهل بالأجل.

وقد أفرد الله الحج بالذكر ، لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت ، وأنه لا يجوز فيه التأجيل أو النسيء عن وقته ، بخلاف ما كان عليه العرب ، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدّل الشهور ، فأبطل الله قولهم وفعلهم.

واستدل مالك وأبو حنيفة رحمهما‌الله بهذه الآية على أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج ، لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك ، فصحّ أن يحرم

١٧٣

في جميعها بالحج. وخالف الشافعي في ذلك لقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة ٢ / ١٩٧] ، ولأنّ معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس ، وبعضها مواقيت للحج ، وهذا كما تقول : هذه السلعة لخالد وعمر ، أي بعضها لخالد وبعضها لعمر ، ولا يجوز أن يقال : جميعها للأول وجميعها للثاني.

وفي هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ، ولا ندب إليه ، لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب ، فدخول الدار من ظهرها لا من بابها ليس قربة يثاب عليها الشخص. وقد نهى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا اسمه أبو إسرائيل عن القيام في الشمس ، وقال : «مروه فليتكلم ، وليستظل ، وليقعد ، وليتم صومه» (١).

وأكّد الله تعالى أوامره ونواهيه في كثير من الآيات بالأمر بتقوى الله للوصول إلى الفلاح ، والمعنى : اتقوا الله ، فافعلوا ما أمركم به ، واتركوا ما نهاكم عنه ، لتفلحوا غدا أو رجاء أن تكونوا من المفلحين إذا وقفتم بين يديه ، فيجازيكم على التمام والكمال.

قواعد القتال في سبيل الله

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)

__________________

(١) رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس.

١٧٤

الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

لبلاغة :

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) فيه ما يسمى بحذف الإيجاز ، تقديره : هتك حرمة الشهر الحرام تقابل بهتك حرمة الشهر الحرام.

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) سمي جزاء العدوان عدوانا من قبيل «المشاكلة»: وهي الاتفاق في اللفظ ، مع الاختلاف في المعنى ، مثل قوله تعالى أيضا : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠] ، وقوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال ٨ / ٣٠] ، تقول العرب : ظلمني فلان فظلمته ، أي جازيته بظلمه. ومثل : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة ٢ / ١٩٣] سمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان ، إذ الظلم يتضمن العدوان ، فسمي جزاء العدوان عدوانا.

المفردات اللغوية :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لإعلاء دينه ، لأنه طريق إلى مرضاته ، فالقتال في سبيل الله : هو القتال لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. (يُقاتِلُونَكُمْ) أي يتوقع منهم قتالكم.

(وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تبدءوهم بالقتال. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين ما حدّ لهم من الشرائع والأحكام. ومحبة الله لعباده : إرادة الخير والثواب لهم. (ثَقِفْتُمُوهُمْ) وجدتموهم وأدركتموهم. (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من مكة ، وقد فعل بهم ذلك عام فتح مكة. (وَالْفِتْنَةُ) الشرك منهم أعظم من القتل لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظمتموه. وقيل : إن المراد بالفتنة : ما يقع من المشركين من صنوف الإيذاء والتعذيب. (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي في الحرم. (كَذلِكَ) أي القتل والإخراج. (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الفكر وأسلموا. (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي ويكون دين كل شخص خالصا لله ، لا يخشى غيره ، ولا يصدّ عنه ، ولا يحتاج إلى محاباة أو استخفاء. والدين : يشمل الاعتقاد والعبادة والعمل الصالح.

١٧٥

(فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك. (فَلا عُدْوانَ) أي لا تتعدوا عليهم بقتل أو غيره. (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي المتجاوزين حدودهم المعتدين على غيرهم ، فمن انتهى عن الشرك والاعتداء فليس بظالم ، فلا عدوان عليه.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) ردّ على استعظام القتال في الأشهر الحرم ، إذ هتك حرمة الشهر الحرام من المسلمين مقابل هتك حرمة الشهر الحرام من الكفار.

(وَالْحُرُماتُ) جمع حرمة : وهي ما يجب احترامه. (قِصاصٌ) أي يقتص بمثلها إذا انتهكت. (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) بالقتال في الحرم أو الإحرام ، أو الشهر الحرام. (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ..) سمّى مقابلة الاعتداء اعتداء ، لشبهها بالمقابل به في الصورة. (وَاتَّقُوا اللهَ) في الانتصار ، وترك الاعتداء. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالعون والنصر.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته بالجهاد وغيره. (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أي أنفسكم. (إِلَى التَّهْلُكَةِ) الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو تركه ، لأنه يقوي العدو عليكم. (وَأَحْسِنُوا) بالنفقة وغيرها. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي يثيبهم.

سبب النزول :

قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ..) الآية. قال ابن عباس فيما أخرجه الواحدي : نزلت هذه الآيات في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صدّ عن البيت هو وأصحابه ، نحر الهدي بالحديبية ، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه ، ثم يأتي القابل ، على أن يخلوا له مكة ثلاثة أيام ، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء. وصالحهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما كان العام المقبل ، تجهّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك ، وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم ، فأنزل الله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) يعني قريشا.

وقوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية ، قال قتادة فيما أخرجه الطبري : أقبل نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في ذي القعدة ، حتى إذا كانوا بالحديبية ، صدّهم المشركون ، فلما كان العام المقبل دخلوا مكة ، فاعتمروا في ذي القعدة ،

١٧٦

وأقاموا بها ثلاث ليال ، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية ، فأقصّه الله تعالى منهم ، فأنزل : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية.

وقوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ..) الآية ، قال الشعبي : نزلت في الأنصار ، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله تعالى ، فنزلت هذه الآية. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : كانت الأنصار يتصدقون ويطعمون ما شاء الله ، فأصابتهم سنة (قحط) ، فأمسكوا ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية.

وروى البخاري عن حذيفة قال : نزلت الآية في النفقة. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه ، وابن حبان والحاكم وغيرهم ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، لما أعزّ الله الإسلام ، وكثر ناصروه ، قال بعضنا لبعض سرّا : إنّ أموالنا قد ضاعت ، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام ، فلو أقمنا في أموالنا ، فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله يردّ علينا ما قلنا : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، فكانت التهلكة : الإقامة على أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو.

المناسبة :

وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم ، إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا ، فهي متصلة بما قبلها ، لأن الآية السابقة بيّنت أن الأهلّة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم وحجهم ، والحج يكون في أشهر هلالية مخصوصة ، كان القتال فيها محرما في الجاهلية ، فأوضحت هذه الآيات أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر ، دفاعا عن دينكم ، وتربية لمن يفتنكم عنه ، وينكث العهد ، لا لأهواء النفوس ، فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان

١٧٧

البيوت من ظهورها حال الإحرام. ثم إنه بعد الأمر بالتقوى ذكر أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس.

مشروعية القتال :

كان القتال قبل الهجرة محظورا بآيات كثيرة ، منها : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت ٤١ / ٣٤] ، (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة ٥ / ١٣] ، (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل ١٦ / ١٢٥] ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النحل ١٦ / ٨٢] ، (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا : سَلاماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٣] ، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢٢] ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق ٥٠ / ٤٥] ، (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا : يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية ٤٥ / ١٤].

ثم نسخ الله وجوب هذا كله في المدينة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥] ، وقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة ٩ / ٢٩].

وأما أوّل آية نزلت في الإذن بالقتال ، فهي كما روي عن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ، وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا : رَبُّنَا اللهُ) [الحج ٢٢ / ٣٩ ـ ٤٠].

وروي عن جماعة من الصحابة والربيع بن أنس وغيره (١) أن أول آية نزلت في الإذن بالقتال هي : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) وهذا رأي أكثر علماء التفسير (٢).

__________________

(١) قال القرطبي وأبو حيان وغيرهما : وأكثر الرواة على هذا.

(٢) البحر المحيط : ٢ / ٦٥

١٧٨

التفسير والبيان :

قاتلوا في سبيل الله ونصرة دينه وإعزاز كلمته أيها المؤمنون ، فإني أذنت لكم في قتال المشركين الذين فتنوكم عن دينكم ، وأخرجوكم من دياركم ، وقاتلوكم ونكثوا عهودكم. والمقاتلة في سبيل الله : هي الجهاد للكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته.

ولا تعتدوا بالبدء بالقتال ، ولا بقتل المسالمين ، ولا بقتل غير المقاتلة من النساء والصبيان والعجزة والشيوخ ، ولا بتخريب الدور وقطع الأشجار ، وإحراق الزروع والثمار ، فإن الله يكره الاعتداء ، ولا سيما حين الإحرام ، وفي أرض الحرم ، وفي الأشهر الحرم.

وإذا نشب القتال بينكم وبين أعدائكم ، فاقتلوهم أينما أدركتموهم ، وحيثما وجدتموهم ، ولو في أرض الحرم ، وأخرجوهم أو أجلوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة. فإنهم أخرجوكم من وطنكم وهو مكة ، وتعاونوا على إخراجكم منها ، وصادروا أموالكم ، وأخذوا ممتلكاتكم ، وفتنوكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب والاضطهاد بسبب عقيدتكم ، وهذه الفتنة في الدين أشد على المؤمن الحرّ الأبيّ من قتل النفوس ، لأن العقيدة أقدس شيء في الوجود ، وأغلى وأسمى من كل شيء في الكون ، وليس هناك بلاء ومضايقة على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده في دينه ، وتعذيبه من أجل عقيدته التي تمكنت في قلبه وعقله ونفسه ، ورأى السعادة في الدنيا والآخرة بسلامتها وصحتها ووجودها لديه ، فهي الكنز ورأس المال الرابح ، ويهون في سبيلها التضحية بالنفس والنفيس ، فيكون ما تفعلونه معهم من القتل في الحرم أقل مما يتصفون به من الفتنة ، أي التعذيب من أجل إرجاعكم إلى الكفر ، وقال بعضهم : أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشدّ خطرا من القتل الذي عيّروكم به (١).

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٦٥

١٧٩

ثم استثنى الحقّ سبحانه وتعالى مكانا خاصّا من عموم الأمة بقتل المحاربين في أي مكان ، وهو قتالهم في المسجد الحرام ، لأن من دخله كان آمنا ، فلا تقاتلوهم فيه حتى يقاتلوكم ، ولا تستسلموا لهم أبدا ، لأن الشّر بالشّر ، والبادئ أظلم ، فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم ، لأنّ سنّة الله أن يجازى الكافرون مثل هذا الجزاء ، وأن يعذبوا مثل هذا العذاب ، بسبب بدئهم بالعدوان ، وظلمهم أنفسهم ، فيلقون جزاء ما صنعوا.

فإن توقفوا عن القتال أو كفّوا عن الكفر والشّرك ، ودخلوا في دين الله ، فإن الله يتقبل أعمالهم ويغفر لهم ما تقدّم منهم ، لأنه غفور للسيئات ، رحيم بالعباد ، يمحو عنهم الخطيئات إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم ، وأحسنوا واتّقوا : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٦] ، وتفسير المنتهى عنه فيه رأيان : ذهب ابن عباس إلى أن معنى الآية : فإن انتهوا عن القتال ، وذهب الحسن إلى أن المعنى : فإن انتهوا عن الشرك ، لأنه لا غفران لهم إلا إذا انتهوا عن الشرك: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

وبعد أن بيّن الله بقوله أوّلا : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الإذن بالقتال أو البدء به ، ذكر الغاية من القتال : وهي إقرار مبدأ الحرية ، وألا يوجد شيء من الفتنة في الدين ، فقال : اقصدوا بقتالهم أن تزول الفتنة والكفر وأنواع الإيذاء والضّرر التي تلحق المسلمين بوجودهم في مكة ، وإزالة الفتنة : بألا تكون لهم قوة يفتنونكم بها في دينكم ، ويؤذونكم ، ويمنعونكم من إظهار دعوة الله تعالى.

واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين من كل شخص خالصا لله ، لا أثر لخشية غيره فيه ، وحتى يكون الدين ظاهرا قائما تمارس شعائره ، دون خوف أو إرهاب أو استخفاء ، وحتى يأمن المسلم في الحرم ، فيعلن أمور دينه دون تهيب من أحد ، فيكون معنى (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) : أن يكون الله هو المعبود وحده.

١٨٠