التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

والفدية والقضاء عند الشافعية والحنابلة إن خافتا على ولدهما فقط ، والفدية والقضاء على المرضع فقط ، لا الحامل عند المالكية.

ومقدار الفدية عند أبي حنيفة : نصف صاع (مدان) من برّ ، أو صاع من غيره كالتمر أو الشعير ، ومد من الطعام من غالب قوت البلد عن كل يوم عند الجمهور. ومن تطوع بالزيادة على مسكين أو في مقدار الفدية على المسكين ، أو بالصيام مع الفدية ، فهو خير له. والمد ٦٧٥ غم ، والصاع ٢٧٥١ غم.

٧ ـ دل قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) على أن الصيام في السفر والمرض غير الشاق وغير ذلك خير ، والأولى حمله على العموم ، لعموم اللفظ كما قال الفخر الرازي ، وهو يقتضي الحض على الصوم مطلقا ، كما قال القرطبي.

٨ ـ امتاز رمضان باختصاصه بالصوم فيه من بين الشهور ، لأنه أنزل فيه القرآن ، أي ابتدأ إنزاله في رمضان ، ولا منافاة بين إنزاله في رمضان ، وإنزاله في ليلة القدر والليلة المباركة ، لأن هذه الليلة في رمضان.

والقرآن : اسم لكلام الله المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو مشتق من القراءة ، وهو بمعنى المقروء ، فهو مصدر : قرأ قراءة وقرآنا ، فأطلق المصدر وأريد به اسم المفعول ، كما في قوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء ١٧ / ٧٨] أو مشتق من القرآن ، لأن آياته قد قرن بعضها ببعض.

٩ ـ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) : هناك قولان في مفعول (شَهِدَ).

أحدهما ـ أن مفعول (شَهِدَ) محذوف ، والمعنى : فمن شهد البلد في الشهر ، أي لم يكن مسافرا ، ويكون الشهر منصوبا على الظرفية.

والثاني ـ أن مفعول (شَهِدَ) هو الشهر ، والتقدير : فمن شهد الشهر

١٤١

وشاهده بعقله وبمعرفته ، فليصمه ، هذا .. مع ملاحظة أن خطابات الله جميعا تتوجه إلى المكلفين ، فتكون الآية مخصوصة بمن يتأتى تكليفهم. أما الوجه الأول فيعتمد على تقدير محذوف أي إضمار ، والمقرر في الأصول : إذا تعارض التخصيص والإضمار ، تعين المصير إلى التخصيص.

ويرى الجمهور أن الآية عامة في المكلفين ، وهي تشمل المسافر والمقيم ، غير أن المسافر يترخص بالفطر كالمريض ، وعليهما عدة من أيام أخر.

ويرى الجمهور أيضا أن شهود أي جزء من أجزاء الشهر يكفي في وجوب الصوم ، إلا أن الحنفية رأوا أن صوم جميع الشهر يجب بشهود أي جزء منه ، ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك الجزء.

أما من جنّ في رمضان ، فقال المالكية : إنه يقضي ما مضى ، ولو جن سنين. وقال غيرهم : إنه لا قضاء عليه لما مضى ، كالصبي إذا بلغ ، والكافر إذا أسلم. ومن أفاق في بعض الشهر يصوم في الأصح لدى الشافعية والحنابلة ما شهد فقط ، ولا قضاء عليه لغيره.

وأما الصبي يبلغ ، والكافر يسلم في بعض رمضان ، فقال الجمهور غير الحنابلة : إنهما يصومان ما بقي ، وليس عليهما قضاء ما مضى ، ولا اليوم الذي حصل فيه البلوغ والإسلام. وقال الحنابلة في الأصح : يلزمهما قضاء اليوم الذي حدث فيه البلوغ والإسلام. وبه يعلم أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر.

وشهود الشهر : يكون برؤية الهلال أو بالعلم أنه قد رئي ، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم في رأي الجمهور (منهم أئمة المذاهب الأربعة) ، لما رواه ابن عمر أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشهر تسع وعشرون ، ولا تصوموا حتى تروه ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فاقدروا له» ، أي فأكملوا المقدار ،

١٤٢

بدليل حديث أبي هريرة عند النسائي : «فأكملوا العدة». وهذا موافق لظاهر قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ، قُلْ : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة ٢ / ١٨٩].

وأجاز بعضهم الاعتماد على المراصد والحساب عند ثبوت إفادتها العلم القطعي بهذه المواقيت ، ولو مع المحافظة على رؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته ، للجمع بين ظاهر النص والمراد منه ، تحقيقا لاتفاق الأمة في عبادتها ، وإبعادها عن الخلاف ، ما أمكن الاتفاق وسيلة ومقصدا ، لأن العلم مقدم على الظن ، فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم ، فمن أمكنه رؤية الكعبة لا يجوز له أن يجتهد في التوجه إليها ، ويعمل بظنه الذي يؤديه إليه الاجتهاد (١).

وأفتى علماء السعودية في صفر ١٤٠٩ ه‍ بجواز الاعتماد على مكبرات الرؤية في المراصد.

١٠ ـ هل يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين؟ للعلماء رأيان : قال مالك : لا يقبل فيه شهادة الواحد ، لأنها شهادة على هلال ، فلا يقبل فيها أقل من اثنين ، كالشهادة على هلال شوال وذي الحجة.

وقال الجمهور : يقبل قول الواحد العدل ، لما روى أبو داود عن ابن عمر قال : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه. وتقبل شهادة المرأة عند الحنفية والحنابلة ، ولا تقبل عند المالكية والشافعية.

١١ ـ من رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال : قال الشافعي : من رأى هلال رمضان وحده فليصمه ، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر ، وليخف ذلك. وقال مالك وأحمد : الذي يرى هلال رمضان وحده يصوم ، لأنه لا ينبغي

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ١٥٠ ، ط ١٩٧٢ بمصر.

١٤٣

له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر ، لأن الناس يتّهمون من يفطر منهم بأنه ليس مأمونا ، ثم يقول أولئك إذا ظهر أمرهم : قد رأينا الهلال. وإذا لم ير الهلال بسبب كسوف الشمس مثلا ، كما حدث في رمضان عام ١٤٠٤ ه‍ ، وصام بعض الناس ثمانية وعشرين يوما ، بسبب رؤية هلال شوال ، وجب قضاء يوم ، إكمالا لعدة الشهر ، وهو ٢٩ يوما على الأقل.

١٢ ـ اختلاف المطالع : قال الجمهور : إذا رئي الهلال في بلد وجب على أهل البلاد الأخرى الصيام ، سواء قربت البلاد أو بعدت ، توحيدا للصوم بين المسلمين ، ولا عبرة باختلاف المطالع.

وقال الشافعية : إن قرب البلد فالحكم واحد ، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم ، والمسافة بين القريب والبعيد في الأصح لديهم بحسب مسافة القصر (٨٩ كم). ومثل هذا الرأي لم يعد مقبولا.

١٣ ـ لا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا ، بل هو لليلة التي تأتي ، وهو الصحيح.

١٤ ـ دل قوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) على الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل ، فهذه الآية دليل على مشروعية التكبير في عيد الفطر. ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، ثلاثا. ومن العلماء : من يكبّر ويهلّل ويسبح أثناء التكبير ، ومنهم من يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

وأما وقت التكبير ومدته : فقال أبو حنيفة ومالك : يندب التكبير في عيد الفطر بالخروج من داره إلى المصلى ، فإذا انقضت الصلاة ، انقضى العيد. وقال الشافعي وأحمد : يندب التكبير في أي وقت عقب الصلاة وفي أي زمن من

١٤٤

غروب شمس ليلة العيد إلى أداء صلاة العيد ، أي من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة.

١٥ ـ ما يفطّر الصائم وما لا يفطره : يفطر الصائم بالأكل والشرب والجماع عمدا بالنص والإجماع ، ويفطر أيضا بالدواء ، والقيء عمدا ، والاستمناء (إخراج المني بغير جماع) ، وإنزال الماء إلى الجوف أثناء المبالغة في المضمضة والاستنشاق ، وتناول الدخان المعروف «التبغ» ، وابتلاع النخامة في رأي الشافعية ، وتناول أي شيء مادي يصل إلى الجوف عمدا ، سواء أكان مغذيا أم غير مغذ.

ولا يفطر الصائم بالفصد اتفاقا ، كما لا يفطر عند الجمهور بالأكل ونحوه ناسيا ، ويفطر عند المالكية.

ولا يفسد الصوم بالقطرة أو بالحجامة ، أو بالحقنة ، أو بالاكتحال في العين في رأي الحنفية والشافعية ، ويفطّر الاكتحال بكحل يتحقق معه وصوله إلى الحلق في رأي الحنابلة والمالكية ، وكذا تفطر الحجامة عندهم إذا ظهر دم. ولا يفسد الصوم بالسواك والمضمضة والاستنشاق من غير مبالغة ، ولا بالاغتسال والسباحة. ويفطر عند المالكية بوصول ماء المضمضة والاستنشاق والسواك ولو سهوا أو خطا ولو من غير مبالغة.

ولا يفطر إذا غلبه القيء ولم يبتلع منه شيئا ، ولا بخلع الضرس ما لم يبتلع شيئا من الدم أو الدواء. ولا بحقنة في إحليل الرجل في رأي الحنفية والمالكية ، وأما في إحليل المرأة فيفطر عند الحنفية ، وتفطر الحقنة مطلقا عند الشافعية. ولا يفطر بإنزال المذي عند الحنفية والشافعية ، ويفطر به عند المالكية والحنابلة في حال التقبيل أو المباشرة فيما دون الفرج.

وأما المجامع ناسيا ففيه أقوال ثلاثة :

١٤٥

أحدها ـ لا قضاء عليه ولا كفارة ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين.

والثاني ـ عليه القضاء بلا كفارة ، وهو قول مالك.

والثالث ـ عليه الأمران وهو المشهور عن أحمد.

وتجب الكفارة بالجماع عمدا في نهار رمضان باتفاق الفقهاء ، وكذا بالأكل والشرب عمدا عند الحنفية والمالكية ، ويجب الإمساك بقية النهار. ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في رأي أكثر العلماء.

وتتداخل الكفارة ، فلا تجب إلا واحدة بتكرر الإفطار في أيام عند الحنفية ، وتتعدد الكفارة بتعدد الإفطار في أيام مختلفة في رأي الجمهور.

واختلف العلماء فيما يجب على المرأة التي يطؤها زوجها في شهر رمضان : فقال المالكية والحنفية والحنابلة : عليها مثل ما على الزوج إن مكنته طائعة ، ولا كفارة عليها إن كانت مكرهة. وقال الشافعي : ليس عليها كفارة ، وعليها القضاء فقط ، سواء طاوعته أو أكرهها.

ولا كفارة على من أمنى بالنظر أو التفكير عند الجمهور ، وعليه الكفارة عند الحنابلة ، ولا يفسد صومه أيضا عند الحنفية.

١٤٦

أحكام الصيام

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

الإعراب :

(أُجِيبُ) إما صفة لقريب ، أو خبر بعد خبر ، وروعي الضمير في (فَإِنِّي).

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) ليلة : منصوب على الظرف ب أحل.

(وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير (تُبَاشِرُوهُنَ).

البلاغة :

(الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) كناية عن الجماع ، وعدّي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء.

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) : استعارة ، شبّه كل واحد من الزوجين ، لاشتماله على صاحبه في الاقتراب والعناق والضم ، باللباس المشتمل على لابسه.

(الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) : استعارة ، يراد بها تشبيه بياض الصبح بالخيط الأبيض ، وسواد الليل بالخيط الأسود ، والخيطان مجاز ، والتشبيه بالخيطين ، لأنهما ضعيفان عند الطلوع. وقال الزمخشري : إنه تشبيه بليغ ، لأن قوله : (مِنَ الْفَجْرِ) أخرجه من باب الاستعارة ، كما أن قولك : «رأيت أسدا» مجاز ، فإذا زدت : «من فلان» رجع تشبيها. وقوله :

١٤٧

(مِنَ الْفَجْرِ) بيان للخيط الأبيض ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للثاني. ويجوز أن تكون (مِنَ) للتبعيض ، لأنه بعض الفجر وأوله (الكشاف : ١ / ٢٥٨).

المفردات اللغوية :

(فَإِنِّي قَرِيبٌ) منهم بعلمي ، فأخبرهم بذلك (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) فليلبوا دعوتي إياهم بالإيمان والطاعة (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) يداوموا على الإيمان بي. (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) يهتدون. (لَيْلَةَ الصِّيامِ) ليالي الصوم.

(الرَّفَثُ) الأصل فيه : الفحش من الكلام أو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، ثم أطلق على الجماع أو كل ما يريده الرجل من المرأة ، لأنه لا يخلو مما ذكر غالبا.

(هُنَّ لِباسٌ ..) كل من الزوجين بمثابة لباس للآخر ، لأنه يستر صاحبه ، كما يستر اللباس ويمنعه من الفجور ، والتعبير القرآني كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه (تَخْتانُونَ) تخونون أنفسكم بالجماع ليلة الصيام.

(الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) : أول ما يبدو من بياض النهار ، كالخيط الممدود رقيقا ثم ينتشر.

(الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) : هو ما يمتد من سواد الليل ، مختلطا مع بياض النهار ، كأنه خيط ممدود (مِنَ الْفَجْرِ) أي الصادق ، بيان للخيط الأبيض ، وأما بيان الأسود فهو محذوف أي : من الليل ، واكتفى بالأول ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني. شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد.

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ) من الفجر إلى (اللَّيْلِ) أي غروب الشمس ، والإتمام : الأداء على وجه التمام.

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أي نساءكم ، وحقيقة المباشرة : مس كلّ بشرة الآخر : أي ظاهر جلده ، والمراد به الجماع (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) : الاعتكاف : لغة : اللبث وملازمة الشيء ، وشرعا : المكث في المسجد طاعة لله وتقربا إليه.

(حُدُودُ اللهِ) مفردها حد : وهو في اللغة : الحاجز بين شيئين ، ثم أطلقت على ما شرعه الله لعباده من الأحكام ، فإن جاء بعدها : (فَلا تَقْرَبُوها) فالمراد بها ممنوعاته ومحارمه ، وإن جاء بعدها : (فَلا تَعْتَدُوها) فالمراد بها أحكامه ، أي ما حده وقدره ، فلا يجوز أن يتعداه الإنسان. وإن أريد بالحدود : الأحكام عامة ، فيكون المقصود من قوله : (فَلا تَقْرَبُوها) أي لا تتعرضوا لها بالتغيير ، أو لا تقربوا الحد الحاجز بين حيّز الحق وحيّز الضلال ، مثل منع الاقتراب من الحمى في حديث : «فمن حام حول الحمى ، يوشك أن يقع فيه».

١٤٨

سبب نزول الآية (١٨٦):

أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده ، قال : جاء أعرابي إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أقريب ربنا ، فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه فنزلت الآية : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي ..) ورويت أسباب أخرى ، سأذكرها في التفسير والبيان.

سبب نزول الآية (١٨٧):

أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال : كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا ، امتنعوا ، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له : قيس بن صرمة صلى العشاء ، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب ، حتى أصبح ، فأصبح مجهودا ، وكان عمر أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر ذلك له ، فأنزل الله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ ..) إلى قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام ، كان كل إنسان يجتهد فيما يراه أحوط وأقرب للتقوى ، حتى نزلت هذه الآية.

سبب زيادة (مِنَ الْفَجْرِ) :

قال الزمخشري : لو لم يذكر (مِنَ الْفَجْرِ) لم يعلم أن الخيطين مستعاران ، فزيد (مِنَ الْفَجْرِ) فكان تشبيها بليغا ، وخرج من أن يكون استعارة.

فإن قلت : فكيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان ، حتى قال : عمدت إلى عقالين : أبيض وأسود ، فجعلتهما تحت وسادتي ، فكنت أقوم من الليل ، فأنظر إليهما ، فلا يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت ، غدوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبرته فضحك ، وقال : «إن كان وسادك لعريضا».

١٤٩

وروي : «إنك لعريض القفا ، إنما ذاك بياض النهار ، وسواد الليل». قلت : غفل عن البيان ، ولذاك عرّض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قفاه ، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته.

فإن قلت : فما تقول فيما روي عن سهل بن سعد الساعدي : «أنها نزلت ولم ينزل: من الفجر ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ، ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب ، حتى يتبينا له ، فنزل بعد ذلك : من الفجر ، فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار» (١). وكيف جاز تأخير البيان ، وهو يشبه العبث ، حيث لا يفهم منه المراد ، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة ، ولا بتشبيه ، قبل ذكر : الفجر ، فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة ، وهي غير مرادة؟!.

قلت : أما من لا يجوز تأخير البيان ، وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين ، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم ، فلم يصح عندهم هذا الحديث. وأما من يجوزه ، فيقول : ليس بعبث ، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ، ويعزم على فعله ، إذا استوضح المراد منه (٢).

التفسير والبيان :

هذه الآيات تذكير للعباد وتعليم للمؤمنين ما يراعونه في عبادة الصيام وغيرها من الطاعة والإخلاص والآداب والأحكام ، والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء الذي يعدّهم للهدى والرشاد. وقال البيضاوي في وجه الربط بين الآيات : واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة ، وحثهم على القيام بوظائف التكبير

__________________

(١) رواه البخاري عن ابن أبي مريم ، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن ابن أبي مريم.

(٢) الكشاف : ١ / ٢٥٨

١٥٠

والشكر ، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم ، مجيب لدعائهم ، مجاز على أعمالهم ، تأكيدا له وحثا عليه.

وقد روي أن سبب نزول الآية : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع المسلمين يدعون الله بصوت مرتفع في غزوة خيبر ، فقال لهم : «أيها الناس ، اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا ، وهو معكم».

وروي أيضا عن قتادة : أن الصحابة قالوا : كيف ندعوا ربنا يا نبي الله؟ فأنزل الله هذه الآية.

وروي كذلك أنه : لما نزلت آية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ، فهموا منها تحريم الأكل بعد النوم ، ثم إنهم أكلوا ، وندموا ، وتابوا ، وسألوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل يقبل الله تعالى توبتنا؟ فنزلت.

وليس المراد بالقرب هنا قرب المكان ، بل المراد : القرب بالعلم وما تقتضيه إجابة الدعاء. ويرى السلفيون : أن ما ذكر في القرآن والسنة من قرب الله ومعيّته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته ، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء.

ومعنى الآية (١٨٦) : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) أي عن شأن من شؤون ذاتي ، وهي جهة القرب أو البعد ، فإني قريب منهم ، أي أعلم أحوالهم ، وأسمع أقوالهم ، وأرى أعمالهم ، وهو المراد بالقرب في آية أخرى مماثلة : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق ٥٠ / ١٦] فليس بيني وبين أحد حجاب ، وأجيب دعوة من يدعوني مخلصا لي ، دون وسيط ، وقرن دعاءه بالعمل الخالص لوجه الله تعالى.

وإجابة الدعاء تشمل الهداية للأسباب كتيسير سبل الرزق والشفاء والنجاح ، وتحقيق النتائج المترتبة على الأسباب بالتوفيق والرعاية.

١٥١

وتتطلب إجابة الدعاء : الاستجابة لأوامر الله بالإيمان الصحيح ، والطاعة وإقامة العبادات النافعة للعباد من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها ، وحينئذ يجازيهم الله على عملهم أحسن الجزاء. وإذا صدرت الأعمال الخالصة لله مقترنة بالإيمان ، كانت سبيلا للرشاد والاهتداء إلى الخير الشامل للدنيا والآخرة ، لأنهم إن أجابوا ما دعاهم إليه الله ، أجابهم إلى ما يطلبون. والاستجابة هنا : الاستسلام والانقياد. والإيمان : الإذعان القلبي.

وبما أن كلمة «لعل» تفيد الرجاء ، وذلك مستحيل على الله ، لاستعلائه واستغنائه ، فيكون المراد بها حيث وردت في القرآن : راجين بعملكم الرشاد ، أو بمعنى التعليل ، أي لترشدوا ، أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون.

قال ابن تيمية : وهو سبحانه فوق العرش ، رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم ، مطّلع إليهم ، فدخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه. وفي الصحيح : «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».

ومعنى قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) : أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله ، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

قال ابن كثير : وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة ، بل وعند كل فطر ، كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة» فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر ، دعا أهله وولده ودعا. ورواه ابن ماجه بلفظ : «إن للصائم عند فطرة دعوة ما ترد» وكان عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر :

١٥٢

«اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي» وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ، ولو بعد حين» (١).

هل الدعاء يفيد؟

زعم بعضهم أن الدعاء لا فائدة فيه ، لأن الأمر المدعو فيه إن كان في علم الله واقعا ، فهو لا بد واقع ، وإن لم يكن واقعا فهو غير واقع لا محالة. وقرر الجمهور أن الدعاء أهم مقامات العبودية ، لقوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ٤٠ / ٦٠] فالله طلبه منا ، مما يدل على فضله ، وبين في آية أخرى أنه تعالى إذا لم يسأل غضب ، فقال : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام ٦ / ٤٣].

وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء مخ العبادة» (٢) وقال أيضا : «الدعاء هو العبادة»(٣) وقرأ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر ٤٠ / ٦٠] وقال أيضا : «الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ، ونور السموات والأرض» (٤).

وهناك أمور معلقة على شروط وأسباب في تقدير الله ، منها الدعاء. والدعاء عبادة ، لأنه معرفة ، إذ يتطلب أن يكون الداعي عارفا بربه تمام المعرفة ، وأنه القادر على كل شيء ، والقاهر فوق عباده.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٢١٩

(٢) رواه الترمذي عن أنس ، لكنه ضعيف.

(٣) رواه أحمد وابن أبي شيبة ، والبخاري في الأدب وأصحاب السنن الأربع وابن حبان والحاكم عن النعمان بن بشير.

(٤) رواه أبو يعلى والحاكم عن علي ، وهو صحيح.

١٥٣

وهذه الآية دليل قاطع على فائدة الدعاء ، ومعناها كما بينا : إذا سألوك عن المعبود ، فأخبرهم أنه قريب ، يثيب على الطاعة ، ويجيب الداعي ، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. والمراد بقوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي بالإجابة ، وقيل : بالعلم.

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) أي أقبل عبادة من عبدني ، ومنها الدعاء ، والدعاء بمعنى العبادة ، والإجابة بمعنى القبول. بدليل الأحاديث السابقة. وكان خالد الرّبعي يقول : «عجبت لهذه الأمة في (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة ، وليس بينهما شرط.

لكن إجابة الدعاء مقيدة بقيود بالنسبة للعبد ، منها :

عدم الاعتداء بتجاوز حدود الله ، فكل مصرّ على كبيرة عالما بها أو جاهلا ، فهو معتد ، وقد أخبر تعالى أنه لا يحب المعتدين ، فقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٥] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري : «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجّل له دعوته ، وإما أن يدّخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها».

وفي رواية مسلم عن أبي هريرة : «لا يزال يستجاب للعبد ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، ما لم يستعجل ، قيل : يا رسول الله ، ما الاستعجال؟ قال : يقول : قد دعوت وقد دعوت ، فلم أر يستجيب لي ، فيستحسر (١) عند ذلك ، ويدع الدعاء».

ومنها أكل الحرام وما في معناه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «الرجل يطيل

__________________

(١) أي ينقطع عن الدعاء ويملّه.

١٥٤

السفر أشعث أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء ، يا ربّ ، يا ربّ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له؟» وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته.

وإجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به.

فمن شرط الداعي : أن يكون عالما بأن لا قادر إلا الله ، وأن الوسائط في قبضته ومسخّرة بتسخيره ، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب ، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.

وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام ، وألا يملّ من الدعاء.

ومن شرط المدعو فيه : أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا ، كما جاء في الحديث السابق : «ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم». ويدخل في الإثم جميع الذنوب ، ويدخل في الرحم : جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. وقال سهل بن عبد الله التّستري : شروط الدعاء سبعة : أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال.

ومن شرائط الدعاء كما ذكر ابن عطاء : أربع :

أولها ـ حفظ القلب عند الوحدة.

ثانيها ـ وحفظ اللسان مع الخلق.

ثالثها ـ وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحلّ.

رابعها ـ وحفظ البطن من الحرام.

ومواقيت الدعاء : وقت الأسحار ، والفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار ، وحالة السفر

١٥٥

والمرض ، وعند نزول المطر ، والصّف في سبيل الله. كل هذا جاءت به الآثار.

فإذا تحققت شروط الدعاء وقيوده استجيب ، قال ابن عباس : «كل عبد دعا استجيب له ، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه ، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ، ذخر له».

أما آية الصيام (١٨٧) فأرشدت إلى ما يأتي :

١ ـ إباحة الجماع في أثناء الليل ، وحرمته كالأكل والشرب أثناء النهار : وقد كان الجماع حراما بعد الإفطار والنوم ، ثم نسخ ، كما بينا في أسباب النزول. ومحظورات الصيام في الآية هي الأكل والشرب والجماع ، أما القبلة والجسّة ونحوها فلا تفطر ، لكن ذلك في رأي المالكية والشافعية : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن البصري والشافعي : إن قبّل فأمنى ، فعليه القضاء ولا كفارة. ولو قبل فأمذى ، لم يكن عليه شيء. وقال أحمد : من قبّل فأمذى أو أمنى ، فعليه القضاء ، ولا كفارة عليه ، إلا من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وأوجب مالك عليه القضاء والكفارة ، ولا كفارة على من أنزل بالنظر عند الجمهور ، وعليه الكفارة عند الحنابلة ، ولا يفسد صومه أيضا عند الحنفية.

٢ ـ وجوب الإمساك عن المفطرات ، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، بشرط النية قبل الفجر في رأي الجمهور غير الحنفية ، لأن الصيام من جملة العبادات ، فلا يصح إلا بنية (١). ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها ، لكن لا يخرج من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية. وقال الحنفية : تبييت

__________________

(١) وقال الزمخشري : قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي صوم الوصال (الكشاف : ١ / ٢٥٨).

١٥٦

النية غير لازم ، لأن قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) يدل على ذلك ، لأن «ثم» يفيد التراخي.

٣ ـ قرر جمهور العلماء صحة صوم من طلع عليه الفجر ، وهو جنب ، قال ابن العربي : «وذلك جائز إجماعا ، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ، ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا ، فإن صومه صحيح» (١) ، لأن الجنابة لا تؤثر في صحة الصوم ، للزومها الصوم للضرورة ، لأنه يجوز له الوطء قبل الفجر ، ولأن آية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ترشد إلى احتمال بقاء الشخص جنبا حتى مطلع الفجر ، فيصاحب جزءا من الصوم ، وهو جنب ، لأن (حَتَّى) غاية للتبيين ، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ، ويحرم عليه الأكل ، إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر.

لكن الغسل فرض للصلاة ، لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة ٥ / ٦].

٤ ـ الحائض إذا طهرت : قال الجمهور : إذا طهرت الحائض قبل الفجر ، وتركت التطهر حتى تصبح ، وجب الصوم عليها وأجزأ ، سواء تركت التطهر عمدا أو سهوا كالجنب.

وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرّطت في الاغتسال.

وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان ، فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أم بعده ، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا ، ولا كفارة عليها.

٥ ـ الحجامة لا تفطر الصائم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتجم عام حجة الوداع وهو محرم

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٩٤ وما بعدها.

١٥٧

صائم ، فيكون ذلك ناسخا لحديث شداد بن أوس عام فتح مكة : «أفطر الحاجم والمحجوم».

٦ ـ إن ظن أن الشمس قد غربت لغيم أو غيره ، فأفطر ، ثم ظهرت الشمس ، فعليه القضاء في رأي أكثر العلماء. ومثله لو أذّن المؤذن خطأ قبل الغروب ، أو ضرب مدفع الإفطار قبل الغروب ولو بدقيقة ، فأفطر بناء عليهما ، وجب القضاء.

وإن أفطر وهو شاك في غروب الشمس ، كفّر مع القضاء في رأي مالك ، إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها.

ومن شك في طلوع الفجر ، لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه ، فعليه القضاء كالناسي ، في مذهب مالك ، وقال أبو حنيفة والشافعي : لا شيء عليه حتى يتبين له طلوع الفجر. فإن تبين طلوع الفجر وجب عليه القضاء باتفاق أئمة المذاهب إذ «لا عبرة بالظن البين خطؤه».

ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غمّ عليه الهلال في أول ليلة من رمضان ، ثم بان أنه من رمضان. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ، ثم بان خلافه.

قال ابن كثير : وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور ، لأنه من باب الرخصة ، والأخذ بها محبوب ، ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحث على السحور ، ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تسحروا فإن في السّحور بركة».

والمقصود بالفجر : الفجر الصادق ، لا الفجر الكاذب ، بدليل حديث عائشة في الصحيحين : «لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم ، فإنه ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» ـ لفظ

١٥٨

البخاري ، وحديث قيس بن طلق عن أبيه «ليس الفجر المستطيل في الأفق ، ولكن المعترض الأحمر».

وفي حديث مرسل جيد : «الفجر فجران : فالذي كأنه ذنب السّرحان ـ أي الذئب ـ لا يحرم شيئا ، وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق ، فإنه يحل الصلاة ، ويحرم الطعام».

٧ ـ دل قول تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) على النهي عن صوم الوصال ، إذ الليل غاية الصيام. ويؤكد المنع منه ما رواه البخاري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والوصال ، إياكم والوصال» فيكره الوصال في رأي جمهور العلماء. وحرمه بعضهم لما فيه من مخالفة ظاهر القرآن والتشبه بأهل الكتاب. أخرج مسلم وأبو داود : «إن فصل (١) ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب : أكلة السّحر». وأخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السّحر ، قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال : لست كهيئتكم ، إني أبيت ، لي مطعم يطعمني وساق يسقيني» وهذا يدل على إباحة تأخير الفطر إلى السحر ، وهو الغاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك.

قال القرطبي : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات (٢).

ودلت هذه الآية أيضا على أن وقت الإفطار عند غروب الشمس ، بدليل ما جاء في الصحيحين عن عمر رضي‌الله‌عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، فقد أفطر الصائم».

__________________

(١) بمعنى الفاصل.

(٢) تفسير القرطبي : ٢ / ٣٣٠

١٥٩

وقد فهم الحنفية من هذه الآية لزوم إتمام ما شرع فيه من صوم التطوع ، لأن لفظ الصيام عام يتناول كل صوم ، فكل صوم شرع فيه ، لزمه إتمامه ، لأن الله سبحانه أمر بإتمام الصوم إلى الليل ، والأمر للوجوب ، فإن لم يتم لزمه قضاؤه. وهكذا الحكم في جميع النوافل من صلاة وحج وصيام ، يجب إتمامها بالشروع فيها ، وعليه إعادتها مطلقا ، سواء أكان معذورا أم غير معذور. ودليلهم قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣٣] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال ، فوجب عليه عدم إبطاله ، فإذا بطل أو أبطله ، فقد ترك واجبا ، ولا تبرأ ذمته إلا بإعادته.

وفصل المالكية فقالوا : إن أبطله ، فعليه القضاء ، وإن كان طرأ عليه ما يفسده ، فلا قضاء عليه.

وقال الشافعية والحنابلة : إن أفسد ما دخل فيه من تطوع ، فلا قضاء عليه إلا في الحج النفل عند الحنابلة ، فيجب إتمامه. ودليلهم قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة ٩ / ٩١] وقوله عليه الصلاة والسلام : «الصائم المتطوع أمير نفسه.

٨ ـ ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء ، لما رواه أبو داود والدار قطني عن أنس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء».

ويستحب الدعاء بعد الإفطار ، لماروى الدار قطني عن ابن عباس قال : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أفطر قال : «اللهم لك صمنا ، وعلى رزقك أفطرنا ، فتقبل منا ، إنك أنت السميع العليم» وروى أبو داود عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا أفطر : «ذهب الظمأ ، وابتلّت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله».

ويندب إفطار المسلم ، لما رواه ابن ماجه عن زيد بن خالد الجهني قال :

١٦٠