التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه أصحاب السنن وغيرهم عن عمرو بن خارجة ـ : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث» فصار وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخا ، قال ابن كثير : بالإجماع ، بل منهي عنه للحديث المتقدم عن عمرو بن خارجة.

أما الأقارب غير الوارثين : فيستحب أن يوصى لهم من الثلث ، استئناسا بهذه الآية ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الصحيحان ـ عن ابن عمر : «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» قال ابن عمر : «ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك ، إلا وعندي وصيتي». والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا.

وهناك أقوال في نسخ هذه الآية وهي :

١ ـ ذهب ابن عباس والحسن البصري وطاوس ومسروق وآخرون : إلى أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين نسخت ، وبقيت واجبة للقرابة غير الوارثين ، لأن الوصية كانت واجبة بالآية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين ، فنسخت منها الوصية للوارثين ، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب.

واختار ابن جرير الطبري في تفسيره هذا المذهب. ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاح المتأخرين ، وإنما هو تخصيص.

٢ ـ وذهب ابن عمر وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وآخرون : إلى أن هذه الآية كلها منسوخة بآية المواريث ، في حق من يرث وحق من لا يرث ، بدليل ما رواه الشافعي عن عمران بن حصين رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم ، فأعتقهم عند الموت ، فجزأهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أجزاء ، فأعتق اثنين ، وأرقّ أربعة» (١) فلو كانت الوصية واجبة

__________________

(١) رواه الدارقطني عن عمران بن حصين رضي‌الله‌عنه (تفسير القرطبي : ٢ / ٢٧١ ـ ٢٧٢).

١٢١

للأقربين ، باطلة في غيرهم ، لما أجازها النبي في العبدين ، لأن عتقهما وصية لهما ، وهما غير قريبين.

٣ ـ حكى الرازي في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وإنما هي مفسرة بآية المواريث ، والمعنى : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء ٤ / ١١].

ولا منافاة حينئذ بين ثبوت الوصية للأقرباء ، وثبوت الميراث ، فالوصية عطية من حضره الموت ، والميراث عطية من الله تعالى ، وقد جمع الوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.

ولو قدّر حصول المنافاة بين آية الميراث وآية الوصية لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لآية الوصية ، بمعنى أن آية الوصية يراد بها القريب الذي لا يرث ، إما لمانع من الإرث كالكفر واختلاف الدار ، وإما لأنه محجوب بأقرب منه ، وإما لأنه من ذوي الأرحام. وهذا رأي طاوس ومن وافقه.

مسائل فقهية :

١ ـ مقدار الوصية : ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد الذي أراد أن يوصي : «الثلث والثلث كثير» وقوله أيضا : «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم ، زيادة لكم في أعمالكم». وأجاز الحنفية : الوصية بالمال كله إن لم يترك الموصي ورثة ، لأن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء ، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر : «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» ومن لا وارث له ، فليس ممن عني بالحديث.

٢ ـ وأجمع العلماء على أن من مات ، وله ورثة ، فليس له أن يوصي بجميع

١٢٢

ماله. وأجمعوا على أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها ، قبل الموت.

٣ ـ وقال أئمة المذاهب الأربعة والأوزاعي : من أوصى لغير قرابته ، وترك قرابته محتاجين ، فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماض ، لكل من أوصى له ، من غني وفقير ، قريب وبعيد ، مسلم وكافر.

ورأى طاوس والحسن البصري : أنه إذا أوصى لغير الأقربين ، ردت الوصية للأقربين ، ونقض فعله.

٤ ـ وذهب جمهور العلماء إلى أن المريض مرض الموت يحجر عليه في ماله ، فلا تنفذ وصاياه وتبرعاته. وقال الظاهرية : لا يحجر عليه.

٥ ـ وأجاز أكثر العلماء الوصية بأكثر من الثلث أو لوارث إن أجازها الورثة ، لأن المنع من الزائد عن الثلث أو لوارث ، كان لحق الوارث ، فإذا أسقط الورثة حقهم ، كان ذلك جائزا صحيحا ، وكان كالهبة من عندهم ، روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تجوز الوصية لوارث ، إلا أن يشاء الورثة» وروى أيضا عن عمرو بن خارجة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة».

ومنع الظاهرية الوصية بأكثر من الثلث ، وإن أجازها الورثة.

٦ ـ رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته :

أ ـ قال طاوس والحسن وعطاء وآخرون : ليس لمن أجاز الوصية للوارث حال حياة الموصي الرجوع في الإجازة بعد الموت ، وتنفذ الوصية عليهم ، لأن المنع من هذه الوصية إنما وقع من أجل الورثة ، فإذا أجازوه جاز ، كما أنهم إذا أجازوا الوصية لأجنبي بأكثر من الثلث ، جاز بإجازتهم.

ب ـ وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد : لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا ،

١٢٣

لأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت ، وإنما يملك المال بعد وفاته ، فقد أجاز من لا حق له في المال ، فلا يلزمه شيء.

ج ـ وفرق مالك فقال : إذا أذنوا في صحة الموصي ، فلهم أن يرجعوا ، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله ، فذلك جائز عليهم ، لأن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء ، فإذا أذنوا له في صحته ، فقد تركوا شيئا لم يجب لهم ، وإن أذنوا له في مرضه ، فقد تركوا ما وجب لهم من الحق ، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه ، لأنه قد فات.

٧ ـ وصية الصبي المميز والسفيه والمجنون :

لا خلاف في صحة وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه ، واختلف في غيره : فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به ، وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ، ولم يأت بمنكر من القول (أي لم يوص بمعصية) فوصيته جائزة ، لأن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه أجاز وصية صبي من غسان بلغ من العمر عشر سنين (مميز) كان قد أوصى لأخوال له ، فرفع أمره إلى عمر ، فأجازها. أي أن المالكية ومثلهم الحنابلة أجازوا وصية المميز وهو ابن عشر سنين فأقل مما يقاربها.

وقال الحنفية والشافعية : لا تجوز وصية الصبي ، لأن عبارته قبل البلوغ غير معتبرة في التبرع. واستثنى الحنفية وصيته في أمور تجهيزه ودفنه على سبيل الاستحسان مع اشتراط تحقق المصلحة في ذلك ، وهو أيضا واجب.

واتفق أئمة المذاهب الأربعة على القول بصحة وصية السفيه : وهو الذي لا يحسن تدبير المال ، وينفقه على خلاف مقتضى الحكمة والشرع.

١٢٤

ولم يجيزوا وصية المجنون والمعتوه والمغمى عليه ، لأن عبارتهم ملغاة لا يتعلق بها حكم. وأجاز الحنفية وصية المجنون إذا كان جنونه غير مطبق ، أما إذا كان مطبقا بأن استمر بصاحبه دون إفاقة مدة شهر فأكثر فتبطل وصيته.

٨ ـ تبديل الوصية :

من سمع الوصية من الموصي أو سمعه ممن ثبت به عنده ، وذلك عدلان ، ثم بدله ، فإثمه على المبدل ، ويخرج الموصي بالوصية عن اللوم ، ويتوجه إلى الوارث أو الولي. وهذا يدل كما قال بعض علماء المالكية : على أن الدّين إذا أوصى به الميت ، خرج عن ذمته ، وصار الولي مطلوبا به ، له الأجر في قضائه ، وعليه الوزر في تأخيره ، وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرّط في أدائه ، وأما إذا قدر عليه وتركه ، ثم وصّى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه (١).

٩ ـ الوصية بمعصية :

لا خلاف في أنه إذا أوصى الموصي بما لا يجوز ، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه ، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث.

١٠ ـ الإصلاح والحكم بالظن :

معنى آية (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً ..) من علم أو رأى واطلع بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق ، فلا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل ، لأن فعله تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.

وفي هذه الآية دليل على الحكم بالظن ، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٧٣ ، تفسير القرطبي : ٢ / ٢٦٩

١٢٥

السعي في الإصلاح. وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا ، إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له.

١١ ـ أفضلية الصدقة حال الحياة :

لا خلاف في أن الصدقة في حال حياة الإنسان أفضل منها عند الموت ، لما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام ، وقد سئل : «أي الصدقة أفضل؟ فقال : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح ..» الحديث ، وروى الدار قطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة» وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع».

١٢ ـ الإضرار في الوصية :

من لم يضرّ في وصيته ، كانت كفارة لما ترك من زكاته ، لحديث رواه الدار قطني عن معاوية بن قرّة عن أبيه : «من حضرته الوفاة ، فأوصى ، فكانت وصيته على كتاب الله ، كانت كفارة لما ترك من زكاته».

فإن ضر في الوصية حرم الإيصاء ، لما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الإضرار في الوصية من الكبائر». وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت ، فيضارّان في الوصية ، فتجب لهما النار».

١٢٦

فرضية الصيام

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))

الإعراب :

(كَما كُتِبَ) الكاف في موضع نصب ، إما لأنّها صفة لمصدر محذوف ، وتقديره : (كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب) وما : مصدرية ، أي مثل كتابته ، وإما لأنّها حال من الصيام ، وتقديره : (كتب عليكم الصيام مشبّها كما كتب على الذين من قبلكم).

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) منصوب بتقدير فعل ، وتقديره : صوموا أياما معدودات ، فحذف صوموا لدلالة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) عليه. ولا يجوز نصبه بالصيام ، لوجود فاصل أجنبي بينه وبين صلته وهو (كَما كُتِبَ).

(وَأَنْ تَصُومُوا) مبتدأ ، وخبره : (خَيْرٌ لَكُمْ).

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مبتدأ مرفوع ، وخبره مقدر ، وتقديره : فعليه عدة من أيام أخر.

١٢٧

و (مِنْ أَيَّامٍ) صفة مرفوعة لكلمة عدة و (أُخَرَ) جمع أخرى ، وهو فعلى التي هي للتفضيل وهي صفة أيام ، وممنوعة من الصرف للوصف والعدل عن آخر.

(فِدْيَةٌ) مبتدأ ، وخبره : وعلى الذين يطيقونه ، مقدم عليه. (طَعامُ مِسْكِينٍ) بدل من فدية. ولم يجمع (مِسْكِينٍ) لأن الواجب في ابتداء الإسلام كان إطعام مسكين ، ثم نسخ ذلك بقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) والطعام بمعنى الإطعام ، كالعطاء بمعنى الإعطاء. (شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ ، وخبره : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). و (هُدىً) حال من القرآن ، أي هاديا للناس. و (بَيِّناتٍ) عطف عليه.

(الشَّهْرَ) منصوب على الظرفية ، وتقديره : «فمن شهد منكم الشهر في المصر» لأن المسافر قد شهد الشهر ولا يجب عليه الصوم فيه. (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) معطوف على محذوف ، تقديره : ليسهل عليكم ولتكملوا العدة.

البلاغة :

(كَما كُتِبَ) تشبيه يسمى «مرسلا مجملا» والتشبيه في الفرضية لا في الكيفية.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) مجاز بالحذف تقديره : من كان مريضا فأفطر ، أو على سفر فأفطر.

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قال بعضهم : إن الآية على إضمار حرف النفي ، أي لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه. ولا داعي لذلك ، لأن الطاقة تعني تحمل الشيء بمشقة وشدة ، والمعنى : يتحملونه بجهد شديد.

(الْيُسْرَ) ... و (الْعُسْرَ) فيه طباق السلب.

المفردات اللغوية :

(كُتِبَ) فرض. (الصِّيامُ) في اللغة : الإمساك والكف عن الشيء والترك له ، وفي الشرع : هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس ، بنيّة من أهله ، احتسابا لوجه الله ، وإعدادا للنفس لتقوى الله. (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي في الفرضية ووجوب الصوم ، وقيل : مقداره ، وقيل : كيفيته من الكف عن الأكل والشرب ، والرأي الأول أرجح ، إذ يكفي في فهم الآية أن يكون الله كتب صوما ما على الذين من قبلنا ، وهذا مسلّم به عند أهل الأديان ، فمن المعروف أن الصوم مشروع في جميع الملل ، حتى الوثنية ، فهو معروف عند

١٢٨

قدماء المصريين واليونان والرومان والهنود. وفي التوراة الحالية مدح الصيام والصائمين ، وثبت أن موسى عليه‌السلام صام أربعين يوما ، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعا تذكارا لخراب أورشليم وأخذها ، ويصومون يوما من شهر آب. وكذلك الأناجيل الحالية تمدح الصيام وتعتبره عبادة كالنّهي عن الرّياء وإظهار الكآبة فيه ، وأشهر صوم النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح ، وهو الذي صامه موسى وعيسى والحواريون ، ثم وضع رؤساء الكنيسة أنواعا أخرى من الصيام.

(تَتَّقُونَ) المعاصي ، فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدأ المعصية ، ويورث التقوى ، ويقمع الهوى ، ويردع عن الأشر والبطر والفواحش ، ويهوّن لذات الدنيا. (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) إن كل ما فرض صومه هنا هو رمضان ، فيكون قوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) عنى به رمضان ، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين. ووصفها بقوله (مَعْدُوداتٍ) تسهيلا على المكلف بأن هذه الأيام معدودة.

(يُطِيقُونَهُ) أي يتحملونه بمشقة شديدة وجهد كبير ، ويؤيده قراءة : «يطوقونه» مثل الكبير الهرم والحامل والمرضع والمريض مرضا لا يرجى برؤه. (فِدْيَةٌ) الفدية : هي إطعام مسكين عن كل يوم ، من أوسط ما يطعم أهله في يومه ، أكلة واحدة ، وهو مدّ من غالب قوت البلد ، وهو يساوي (٦٧٥ غ).

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) بالزيادة على القدر المذكور في الفدية. (فَهُوَ) أي : التطوع خير له. والصوم خير من الإفطار والفدية. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خير لكم ، فافعلوه في تلك الأيام.

(أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر.

(هُدىً) هاديا من الضلالة. (وَبَيِّناتٍ) آيات واضحات. (مِنَ الْهُدى) مما يهدي إلى الحق من الأحكام ، ومن (الْفُرْقانِ) مما يفرق بين الحق والباطل.

(فَمَنْ شَهِدَ) حضر بأن كان مقيما غير مسافر. (الْيُسْرَ) السهولة والتخفيف بإباحة الفطر في المرض والسفر ، والمريض وكذا المسافر يختار الأيسر عليه ، ويكون هو الأفضل في حقه. وآية (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ..) تعليل لما قبله ، أي يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام ، وسائر ما يشرعه لكم من الأحكام ، أن يكون دينكم يسرا تاما لا عسر فيه. وفي هذا ترغيب في الرخصة. (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) اللام للتعليل ، وهي معطوفة على التعليل المستفاد من قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) كأنه قال : رخص لكم في حالي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر ، وأن تكملوا العدة ، فمن لم يكملها أداء ، لعذر المرض أو السفر ، أكملها قضاء بعده ، فالله شرع لكم القضاء حال الفطر والسفر. (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) عند إكمال العدة. (عَلى ما هَداكُمْ) إليه من الأحكام النافعة لكم ، بأن

١٢٩

تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده ، وأنه يربيهم بما يشاء من الأحكام ، ويؤدبهم بما يختار من التكاليف.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على هذه النعم كلها ، وإعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها.

سبب نزول الآية (١٨٤):

أخرج ابن سعد في طبقاته عن مجاهد قال : هذه الآية نزلت في مولاي قيس بن السائب : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ : فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فأفطر ، وأطعم لكل يوم مسكينا.

التفسير والبيان :

تستمر الآيات بعد بيان القصاص والوصية في سرد الأحكام الشرعية ، فلا حاجة لمعرفة المناسبة بين كل حكم وما يليه.

فالله فرض عليكم الصيام ، كما فرض على المؤمنين أتباع الملل الأخرى من لدن آدمعليه‌السلام ، وناداهم بوصف الإيمان المقتضي للامتثال ، وأبان أن الصوم فرض على جميع الناس ، ترغيبا فيه ، وتوضيحا أن الأمور الشاقة إذا عمّت ، سهل تحملّها ، وشعر المؤدون لها بالراحة والطمأنينة ، لقيامها على الحق والعدل والمساواة.

ثم إن الصوم مطهرة للنفس ، ومرضاة للرّب ، ويعدّ النفوس لتقوى الله في السرّ والعلن ، ويربي الإرادة ، ويعلم الصبر وتحمل المشاق وضبط النفس عند المكاره ، وترك الشهوات ، لذا قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصوم نصف الصبر».

وإعداد الصوم للتقوى يحدث من نواح مختلفة أهمها ما يأتي :

١ ـ يربي في النفس الخشية من الله تعالى في السرّ والعلن : إذ لا رقيب على الصائم إلا ربه ، فإذا شعر بالجوع أو بالعطش الشديد ، وشمّ رائحة الطعام

١٣٠

الشهي ، أو ترقرق في ناظريه برودة الماء وعذوبته ، وأحجم عن تناول المفطر ، بدافع إيمانه ، وخشية ربّه ، حقق معنى الخوف من الله ، وإذا ازينت الشهوات له ، وترفع عنها ، خوفا من انتهاك حرمة الصوم ، فقد استحيا من الله ، وراقب ربّه. وإذا استبدت الأهواء بالنفس ، كان سريع التذكر ، قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ ، تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٠١].

ومن أعظم فوائد الصوم الروحية : أن الصائم يحتسب الأجر والثواب عند الله ويصوم لوجه الله وحده.

٢ ـ يكسر حدّة الشهوة ، ويخفف من تأثيرها وسلطانها ، فيعود إلى الاعتدال وهدوء المزاج ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم واصفا الصوم لمن يتعذر عليه الزواج ـ فيما رواه الجماعة عن ابن مسعود ـ : «.. ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء» ، أي بمثابة الخصاء مضعف للشهوة. وقال أيضا ـ فيما رواه النسائي عن معاذ ـ : «الصوم جنّة» أي وقاية من المعاصي.

٣ ـ يستدعي الإحساس المرهف والشفقة والرحمة التي تدعوه إلى البذل والعطاء ، فهو عند ما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا من البائسين ، فيحمله الصيام على مواساتهم ، وهذا من أوصاف المؤمنين التي ذكرها الله : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح ٤٨ / ٢٩].

٤ ـ فيه تحقيق معنى المساواة بين الأغنياء والفقراء ، والأشراف والعامة ، في أداء فريضة واحدة ، وهذا من فوائد الصيام الاجتماعية ، كالحالة السابقة.

٥ ـ يعوّد على النظام في المعيشة ، وضبط الإرادة فيما بين فترتي السحور والإفطار في وقت واحد ، ويحقق الوفر والاقتصاد إذا التزمت آداب الصيام.

١٣١

٦ ـ يجدد البنية ، ويقوي الصحة ، ويخلص الجسد من الرواسب والتخمرات الضارة ، ويريح الأعضاء ، ويقوي الذاكرة إذا حزم الإنسان أمره ، وتفرغ لعمله الذهني دون أن يشغل نفسه بتذكر المتع الجسدية ، ويجمع ذلك كله قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة ـ : «صوموا تصحوا». وهذا يكون بعد الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى عادة ، بعد أن يتعود الإنسان على الصوم ، ويستعلي على حالات الاسترخاء في الفترة الأولى من بدء الصيام.

وكل هذه الفوائد الجسدية والروحية والصحية والاجتماعية مشروطة بالاعتدال في تناول وجبات الإفطار والسحور ، وإلا أصبح الحال عكسيا ، وانقلب الأمر وبالا وعناء وضررا إذا أتخم الإنسان معدته ، ولم يعتدل في طعامه وشرابه.

وكذلك يشترط في الصوم لتحقيق تلك الغايات عفة اللسان وغضّ البصر والامتناع عن الغيبة والنميمة واللهو الحرام ، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى : «من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه من أجلي» (١) أي من أجل الله. وربّ صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش. فالإمساك عن المفطرات المعنوية مثل الإمساك عن المفطرات المادية الحسية ، سواء بسواء.

والصوم محدود في أيام معدودات معينة قليلة وهي شهر في العام كله ، ويمر عادة بنحو سريع ، لأن أيام رمضان مباركة تفيض بالخير والإحسان ، فهو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه ابن خزيمة عن سلمان ـ : «أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار» ، وقال أيضا ـ فيما رواه الطبراني عن ابن مسعود ـ : «رمضان سيّد الشهور» ، «لو علمت أمتي ما في رمضان من الخير ، لتمنت أن يكون السنة كلها» رواه الطبراني وغيره عن أبي مسعود الغفاري.

__________________

(١) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة.

١٣٢

فالمراد من الأيام المعدودات في رأي أكثر المحققين (ابن عباس والحسين وأبي مسلم) : شهر رمضان.

وليس الصوم واجبا إلا على المستطيع الصحيح المقيم ، أما المسافر والمريض مرضا شديدا يشق معه الصوم ، فيباح لهما الإفطار ، وعليهما القضاء في أيام أخر من العام ، لأن المرض والسفر الطويل وهو الذي يباح فيه قصر الصلاة (وهو ٨٩ كم) مشقة ، والمشقة تجلب التيسير ، كما قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة ٢ / ١٨٥].

والمعتبر : السفر بسير الدواب المعتادة في الماضي ، لا بوسائط النقل والمواصلات السريعة اليوم ، وقدره بعضهم بثلاثة أميال عملا بما روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ (١) ، صلى ركعتين» ـ يريد أنه يقصر الصلاة ، فالعبرة بقطع مثل هذه المسافة ، لا بالزمن الذي تقطع فيه. وقدر الحنفية المسافة بثلاثة أيام ، وقدرها الجمهور بيومين معتدلين ، وهي ذهابا ستة عشر فرسخا أو ثمانية وأربعون ميلا هاشمية ، وهي تساوي حوالي ٨٩ كم ، عملا بما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما ، قال : «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» والبريد : أربعة فراسخ.

وأكثر الأئمة (مالك وأبي حنيفة والشافعي) على أن الصوم للمسافر أفضل إن لم يشق عليه. ويرى أحمد والأوزاعي أن الفطر أفضل عملا بالرخصة. ويشترط لجواز إفطار المسافر عند بدء السفر : أن يكون السفر في رأي الجمهور (غير الحنابلة) قبل الفجر ، فلو أصبح المقيم صائما ، فسافر ، فلا يفطر ، تغليبا لجانب

__________________

(١) الميل : ١٨٤٨ م ، والفرسخ : ٣ أميال أو ٥٥٤٤ م.

١٣٣

الحضر ، لأنه الأصل. ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط ، لكن الأفضل الصيام ، خروجا من الخلاف.

والذي يتحمل الصوم بمشقة شديدة كالشيخ الهرم والمريض مرضا مزمنا ، والحامل والمرضع إن خافتا على أولادهما فقط ، عليه عند الشافعي وأحمد القضاء والفدية : وهي طعام مسكين. فإن خافتا على أنفسهما ولو مع أولادهما ، فعليهما القضاء فقط.

فمن تطوع وزاد في الفدية عن طعام مسكين لليوم الواحد ، فهو خير له وأكثر ثوابا. والتطوع : بأن يطعم أكثر من مسكين في اليوم ، أو يطعم أكثر من القدر الواجب ، أو يصوم مع الفدية.

وصوم هؤلاء المعذورين خير لهم إن كانوا يعلمون وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين ، إذا لم يتضرروا ، لما روي أن أبا أمامة قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مرني بأمر آخذه عنك ، قال : «عليك بالصوم ، فإنه لا مثل له».

ثم بيّن الحق تعالى أن هذه الأيام القليلة هي شهر رمضان المبارك الذي بدئ فيه بإنزال القرآن واستمر نزوله منجّما (مقسطا) في ثلاث وعشرين سنة ، الذي هو هداية للناس إلى الصراط المستقيم ، مع وضوح آياته دون غموض ، وكونها فارقة بين الحق والباطل. وفسّر بعضهم نزول القرآن في شهر رمضان : بنزوله ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وليلة القدر في رمضان هي خير من ألف شهر.

والحكمة في إيراد (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) بعد قوله (هُدىً لِلنَّاسِ) : هي الدلالة على أن الهدى نوعان : هدى بيّن واضح تفهمه العقول العادية لأول وهلة ، وهدى لا يدركه إلا خواص الناس ، والأول أكثر فائدة.

فمن شهد أو حضر منكم الشهر ، وهو سليم معافى ، لا عذر له من سفر أو

١٣٤

مرض ، فيجب عليه الصيام ، لأنه أحد أركان الإسلام الخمسة. ومن لم يشهد الشهر ، كسكان البلاد القطبية ـ التي يتساوى فيها الليل والنهار كل نصف عام ، أي يكون الليل فيها نصف سنة في القطب الشمالي ، بينما يكون نهارا في القطب الجنوبي ، فعليهم أن يقدروا مدة تساوي شهر رمضان بحسب أقرب البلاد المعتدلة إليهم ، أو بحسب مكة والمدينة اللتين وقع فيهما التشريع.

ثم أعاد الله تأكيد الرخصة في الإفطار مرة ثانية ، حتى لا يظن تعميم وجوب الصوم بعد قوله : (فَلْيَصُمْهُ) وبعد بيان مزايا الصوم وأهميته ، لأن الله يريد في كل ما شرع من أحكام ، ومنها رخصة الإفطار لذوي الأعذار ، أن يحقق اليسر للناس ويدفع عنهم العسر.

وأمر أصحاب الأعذار في حالي المرض والسفر ونحوهما بالقضاء أو الفدية ، لأنه يريد إكمال عدّة الشهر ، ولنكبّر الله ونعظمه ونشكره على نعمه كلها ، ومنها إعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها.

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت هذه الآيات على أحكام كثيرة ، أبيّنها بإيجاز :

١ ـ للصوم فضل عظيم وثواب جسيم ، ويكفي في فضله أن الله خصه بالإضافة إليه ، كما جاء في الحديث القدسي الذي يخبر به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربّه : «يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به» ، وتخصيص الصوم بأنه له ، مع أن العبادات كلها له ، لأمرين ذكرهما القرطبي :

أحدهما ـ أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ، ما لا يمنع منه سائر العبادات.

١٣٥

الثاني ـ أن الصوم سرّ بين العبد وبين ربّه ، لا يظهر إلا له ، فصار مختصا به ، وما سواه من العبادات ظاهر قد يدخله الرياء.

٢ ـ الصوم يعدّ النفس للتقوى ، لقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فهو سبب تقوى الله ، لأنه يميت الشهوات ، ولأنه كما قال عليه الصلاة والسلام : «الصيام جنّة ووجاء»(١).

٣ ـ يجوز للمريض والمسافر الإفطار في رمضان ، ويجب عليهما القضاء في وقت آخر. والمرض المبيح للفطر في رأي أكثر الفقهاء : هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس ، أو زيادة في العلة. والعبرة في ذلك بما يغلب على الظنّ. وهذا الضابط هو الذي يتفق مع حكمة الرخصة في الآية : وهي إرادة اليسر ودفع العسر. وظاهر اللفظ : اعتبار مطلق المرض ، بحيث يطلق عليه اسم المرض ، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري.

وأما السفر المبيح للفطر : فهو الذي يبيح قصر الصلاة الرباعية ، وقدره في رأي الجمهور ستة عشر فرسخا أو ثمانية وأربعون ميلا هاشمية ، أو مسيرة يومين معتدلين أو مرحلتين بسير الأثقال ودبيب الأقدام ، والبحر كالبر. ودليلهم ما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : «يا أهل مكة ، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» وقدروها بحوالي ٨٩ كم.

وقدر السفر الذي يبيح الترخيص عند الحنفية : هو قدر ثلاث مراحل أو أربع وعشرين فرسخا ، أو مسيرة ثلاثة أيام سيرا وسطا ، وهو سير الإبل ، والأقدام في البر ، وسير السفن الشراعية في البحر ، ويكتفون بسير معظم اليوم ، وقدروه ب ٩٦ كم. واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : «يمسح المقيم يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن» ولا يكون كذلك حتى تكون مدة السفر

__________________

(١) أي أن الصوم يضعف شهوة الجماع ، كما أن الوجاء (الخصاء) يقطعها.

١٣٦

ثلاثة أيام ، لأن الشرع جعل علة امتداد مدة المسح إلى الثلاثة : السفر ، والرخص لا تعلم إلا من الشرع. وأيضا ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتبار الثلاثة الأيام سفرا ، وذلك في حديث ابن عمر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه نهى عن أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم» وهو حديث متفق عليه ، فيرجح على أخبار رواها أبو سعيد وأبو هريرة مفادها منع المرأة من السفر يومين.

وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة ، فإن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، لأن في الآية إضمارا تقديره : فمن كان منكم مريضا أو على سفر ، فأفطر ، فعليه عدة من أيام أخر. وروى أبو داود في سننه عن عائشة : أن حمزة الأسلمي سأل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هل أصوم على السفر؟ فقال : «صم إن شئت ، وأفطر إن شئت». وقد ثبت عن جماعة من الصحابة (ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، وأبي الدرداء ، وسلمة) عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صام في السفر ، وصام الصحابة مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح في رمضان ، ثم إنه قال لهم : «إنكم قد دنوتم من عدوكم ، والفطر أقوى لكم ، فأفطروا».

وقال بعض الصحابة (ابن عباس وابن عمر) : الواجب على المسافر والمريض الفطر ، وصيام عدة من أيام أخر ، لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : «ليس من البر الصيام في السفر» ، وردّ الجمهور بأن هذا كلام خرج على حال مخصوصة ، وذلك ما رواه شعبة من طريق جابر بن عبد الله عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى رجلا يظلل عليه ، والزحام عليه شديد ، فقال: «ليس من البرّ الصيام في السفر» ، فمن سمع وذكر الحديث ، ذكره مع سببه ، وبعضهم اقتصر على ذكر الحديث.

وقرر أكثر الأئمة : أن الصوم للمسافر أفضل لمن قوي عليه ، لقوله تعالى :

١٣٧

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي أن صومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه خير لكم من الفدية ، لما فيه من مجاهدة النفس وقوة الإيمان ومراقبة الله. وذهب أحمد والأوزاعي وجماعة إلى أن الفطر أفضل ، لقول الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

واتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر ، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية ، بخلاف المقيم ، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض ، والمقيم لا يفتقر إلى عمل ، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين.

ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج.

واتفقوا على أن المسافر سفر الطاعة كالحج والجهاد وصلة الرحم وطلب المعاش الضروري وسفر التجارات والمباحات : له الإفطار. وأما سفر العاصي فيجوز له الإفطار عند الحنفية ، لأن السفر نفسه ليس بمعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره ، فلا يؤثر على رخصة القصر ، ولأنه قد يتوب إذا تذكر نعمة الله عليه بالسماح له بالفطر والقصر وغيرهما.

وقال الجمهور غير الحنفية : لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر ونحوها ، لما في الرخصة من الإعانة على المحرم ، والشرع نهى عن ذلك.

٤ ـ دل قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) على أن المريض أو المسافر واجبه الأصلي الصوم ، ويرخص له في الفطر ، فإذا أفطر فليقض أياما مكان الأيام التي أفطر فيها ، وهذا رأي الجمهور ، لأن معنى الآية : من كان منكم مريضا أو مسافرا ، فأفطر ، فعليه صيام أيام أخر ، بعد ما أفطر. وإذا صام أهل البلد تسعة وعشرين ، وفي البلد رجل مريض لم يصح ، فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما.

١٣٨

ويستحب في رأي الجمهور ولا يجب تتابع أيام القضاء ، لأن آية (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مطلقة ، لم تخص متفرقة من متتابعة ، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر. وروى الدار قطني بإسناد صحيح عن عائشة رضي‌الله‌عنها ، قالت : نزلت «فعدة من أيام أخر متتابعات» فسقطت: «متتابعات».

ودلت هذه الآية أيضا على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان ، لأن اللفظ إذا شمل الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض.

فإن جاء رمضان آخر ولم يقض ، لزمه في رأي الجمهور كفارة : وهي أن يطعم لكل يوم مسكينا. وقال أبو حنيفة : لا كفارة عليه ، عملا بظاهر الآية : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). ودليل الجمهور ما رواه الدار قطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة فيمن فرّط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر ، قال : «يصوم هذا مع الناس ، ويصوم الذي فرّط فيه ، ويطعم لكل يوم مسكينا».

٥ ـ من أفطر متعمدا أو جامع في نهار رمضان وجب عليه عند الحنفية والمالكية خلافا لغيرهم الكفارة : وهي عتق رقبة مؤمنة عند الجمهور ، ولو غير مؤمنة عند الحنفية ، فإن عجز صام شهرين متتابعين ، فإن عجز أطعم ستين مسكينا. ولا كفارة بالإفطار أو الجماع في قضاء رمضان.

والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة ، فمات من علته تلك ، أو سافر ، فمات في سفره ذلك : أنه لا شيء عليه.

ومن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه عنه أحد : قال مالك والشافعي وأبو حنيفة : لا يصوم أحد عن أحد ، لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤] (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم ٥٣ / ٣٩] (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام ٦ / ١٦٤] ، ولما خرجه النسائي عن ابن

١٣٩

عباس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يصلي أحد عن أحد ، ولا يصوم أحد عن أحد ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة».

وقال أحمد : يستحب للولي أن يصوم عن الميت إذا مات بعد إمكان القضاء ، لأنه أحوط لبراءة ذمة الميت ، ويصوم عنه أيضا إذا كان الصوم نذرا ، لما رواه مسلم عن عائشة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات ، وعليه صيام ، صام عنه وليه» وهذا عام في الصوم ، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس ، قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر ، أفأصوم عنها؟ قال : «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه ، أكان يؤدي ذلك عنها؟» قالت : نعم ، قال : «فصومي عن أمك».

٦ ـ ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن آية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ليست بمنسوخة ، وأنها محكمة في حق من لا يقدر على الصيام ، وفيه ضرر ، كالشيخ الفاني والشيخة الفانية ، وعليهم الفدية : طعام مسكين.

فالناس على ثلاث أحوال : الأصحاء المقيمون ، ويلزمهم الصوم عينا في رمضان ، والمرضى والمسافرون ، ولهم الفطر إن أرادوا ، وعليهم إن أفطروا أيام أخر ، وقوم لا يقدرون على الصوم ، وفيه ضرر ، فهؤلاء يفدون.

والراجح أن هذه الآية تتناول الحامل والمرضع ، سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما أو ولدهما ، فقال : أي مرض أشد من الحمل؟ تفطر وتقضي.

وأجمع العلماء على أن الواجب على الشيخ الهرم الفدية ومثله المريض الذي لا يرجى برؤه ، أما الحامل والمرضع ، فعليهما القضاء دون الفدية عند الحنفية ،

١٤٠