التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

الزكاة عليها ، دل على أنه لم يرد الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها (١).

وكذلك ابن العربي قال : ليس في المال حق سوى الزكاة ، وقد كان الشعبي فيما يؤثر عنه يقول : في المال حق سوى الزكاة ، ويحتج بحديث يرويه الدار قطني عن فاطمة بنت قيس أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في المال حق سوى الزكاة» وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي ، ولا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، وليس في المال حق سوى الزكاة ، وإذا وقع أداء الزكاة ، ونزلت بعد ذلك حاجة ، فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق العلماء. أي أن المراد بقوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) إيتاء المال تطوعا ، والمراد بقوله (وَآتَى الزَّكاةَ) إيتاء الزكاة المفروضة.

وقد قال مالك : يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم ، وإن استغرق ذلك أموالهم ، وكذا إذا منع الوالي الزكاة ، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة نظر ، أصحها عندي وجوب ذلك عليهم (٣).

وقال القرطبي : استدل بالآية : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) من قال : إن في المال حقا سوى الزكاة ، وبها كمال البر ، وقيل : المراد الزكاة المفروضة ، والأول أصح ، للحديث المتقدم : «إن في المال حقا سوى الزكاة». والحديث وإن كان فيه مقال ، فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) فذكر الزكاة مع الصلاة ، وهو دليل على أن المراد بقوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ليس الزكاة المفروضة ، فإن ذلك كان يكون تكرارا ، والله أعلم (٤).

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ١٣١

(٢) وأخرجه أيضا ابن ماجه في سننه ، والترمذي وقال : «هذا حديث ليس إسناده بذاك وأبو حمزة ميمون الأعور يضعّف.

(٣) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٥٩ ـ ٦٠.

(٤) تفسير القرطبي : ٢ / ٢٤١ ـ ٢٤٢

١٠١

وعلى كل فإن إيتاء المال فضلا عن الزكاة ، مع حب المال أمر مرغب فيه شرعا بلا شك عملا بهذه الآية ، وبحديث أبي هريرة قال : «جاء رجل إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل؟ فقال : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقير ، وتأمل الغنى ، ولا تمهل ، حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان». وعن ابن مسعود في قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) قال : أن تؤتيه وأنت صحيح ، تأمل العيش ، وتخشى الفقر.

ويؤيد الاتجاه الأول القائل بأن إيتاء المال على حبه هو تطوع حديث : «نسخت الزكاة كل صدقة» يعني وجوبها.

ويكون لإنفاق المال صورتان : صورة الزكاة المفروضة : وهي إعطاء المال على كيفية مخصوصة ، وبقدر معين. وصورة الزكاة المطلقة : وهي إعطاء المال من غير تقييد بمقدار معين ولا تحديد بامتلاك نصاب ، بل ترك تقييده وتحديده لحال الأمة وأفرادها. فإذا ما أعطي المال بصورتيه ، أمكننا القضاء على ظاهرة الفقر ، وحققنا المقصود من التكافل الاجتماعي في الإسلام ، وحينئذ نستغني عن استيراد المبادئ الاشتراكية الغربية أو الشرقية التي ظهرت لعلاج عيوب الرأسمالية الطاغية ، وأمكننا الوصول إلى الحل الوسط المعقول الذي لا يقوم على الإجبار والإكراه أو نزع الملكية جبرا عن الملاك ودون تعويض ، وإنما يتوخى الإبقاء على علاقات الود والحب والتعاطف بين الأغنياء والفقراء ، ويعتمد على المنهج الأمثل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ، قال الله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ، سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [آل عمران ٣ / ١٨٠] أي لا تحسبن البخل خيرا لهم ، بل هو شر لهم.

١٠٢

وأما إعطاء المساكين : فهم الذين لا يسألون ، وأما السائلون فهم الذين كشفوا وجوههم ، وقد صح عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس المسكين الذي تردّه اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له ، فيتصدق عليه».

وفي الرقاب : قال مالك والشافعي : هم عبيد يعتقون قربة. وقال أبو حنيفة : إنهم المكاتبون يعانون في فك رقابهم. والصحيح أنه عام.

وأما الوصف البارز الذي توجّه به الله تعالى لمن اتصف بصفات البر في الآية فهو : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها ، وأنهم كانوا جادّين في الدين ، وهذا غاية الثناء.

مشروعية القصاص وحكمته

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

الإعراب :

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) الضمير يعود إلى (فَمَنْ) وكذا ضمير (مِنْ أَخِيهِ) يعود على (فَمَنْ) ، وفيه حذف : تقديره : من حق أخيه ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والأخ : يراد به ولي المقتول. (شَيْءٌ) يراد به دم القتيل. وشيء : مرفوع نائب فاعل لفعل (عُفِيَ). (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ) أي لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة.

١٠٣

البلاغة :

(فَاتِّباعٌ) و (أَداءٌ) و (الْحُرُّ) و (الْعَبْدُ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(كُتِبَ) فرض عليكم ، ولزم عند مطالبة صاحب الحق به ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة ٢ / ١٨٣] ومنه الصلوات المكتوبات. (الْقِصاصُ) المماثلة في القتلى وصفا وفعلا ، أي أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه ، يعني أن يقتل القاتل ، لأنه مساو للمقتول في نظر الشرع. (فِي الْقَتْلى) : بسبب القتلى ، جمع قتيل ، كالصرعى جمع صريع ، وإنما يكون فعلى جمعا لفعيل : إذا كان وصفا دالا على الزمانة. (الْحُرُّ بِالْحُرِّ ..) إلخ أي يقتل الحر بالحر ولا يقتل بالعبد ، ويقتل العبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى ، وأنه تعتبر المماثلة في الدين ، فلا يقتل مسلم ولو عبدا بكافر ولو حرا ، وهو رأي الجمهور غير الحنفية.

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي من عفي له من جهة ولي الدم شيء من العفو ، والعفو يطلق على معان ، المناسب منها هنا اثنان : العطاء ، والإسقاط والترك. (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي فليكن مطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف ولا عنف ومن غير شطط (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي وتأدية من جهة الجاني للمجني عليه من غير مماطلة ولا تعب ولا بخس حق. (ذلِكَ) الحكم المذكور من العفو والدية.

(تَخْفِيفٌ) تسهيل. (وَرَحْمَةٌ) بكم ، حيث وسع في ذلك ، ولم يحتم واحدا منهما كما حتم القصاص على اليهود ، والدية على النصارى.

(فَمَنِ اعْتَدى) أي انتقم من القاتل بعد العفو.

(فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل (الْأَلْبابِ) جمع لب : وهو العقل.

سبب النزول :

هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية (١٧٨) (١) : فروي عن قتادة والشعبي وجماعة من التابعين : أنه كان من أهل الجاهلية بغي وطاعة للشيطان ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٢٤٥ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢٠٩ ، أسباب النزول للواحدي : ص ٢٦

١٠٤

فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة ، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم ، قالوا : لا نقتل به إلا حرا ، اعتزازا بأنفسهم على غيرهم. وإن قتلت لهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا ، فأنزل الله هذه الآية ، يخبرهم أن العبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، فنهاهم عن البغي.

ثم أنزل الله تعالى في سورة المائدة بعد ذلك : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة ٥ / ٤٥].

وروي عن السّدّي أنه قال في هذه الآية : اقتتل أهل ملتين من العرب ، أحدهما مسلم والآخر معاهد ، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر ، فأصلح بينهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء ـ على أن يؤدي الحر دية الحر ، والعبد دية العبد ، والأنثى دية الأنثى ، فقاصهم بعضهم من بعض. فنزلت الآية لتأييد حكمه.

التفسير والبيان :

كانت عقوبة القاتل قبل الإسلام متعددة الأنواع ، فعند اليهود القصاص ، وعند النصارى الدية ، وعند عرب الجاهلية تشيع عادة الأخذ بالثأر ، فيقتل غير القاتل ، وقد يقتلون رئيس القبيلة ، أو أكثر من واحد من قبيلة القاتل ، وربما طلبوا بالواحد عشرة ، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرا.

ثم قرر الإسلام أخذا بالعدل والمساواة عقوبة القصاص ، لأنها تزجر الناس عن ارتكاب جريمة القتل ، وما تزال هذه العقوبة هي الزاجرة في عصرنا الحاضر ، إذ أن السجن لا يزجر كثيرا من المجرمين سفاحي الدماء. وتشريع الله هو الأعدل والأحكام والأسدّ ، لأن الله أعلم بما يصلح الناس ، وبما يربي الأمم والشعوب. وأباح الشرع أخذ الدية بدلا عن القصاص.

١٠٥

ومعنى الآية : يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم القصاص بسبب القتلى ، فتقتصوا من القاتل بمثل ما فعل في القتيل ، ولا يبغين بعضكم على بعض ، فيقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، مثلا بمثل ، ودعوا الظلم الذي كان بينكم ، فلا تقتلوا بالحر أكثر من واحد ، ولا بالعبد حرا ، ولا بالأنثى رجلا. وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى ، والحر بالعبد إذا لم يكن سيده.

فالعدل مطلوب في القصاص ، والمساواة شرط فيه ، فلا يقتل الكثير بالقليل ، ولا السيد بالمسود ، وإنما ينحصر بالقاتل ، لا يتجاوزه إلى أحد أفراد قبيلته ، أو أقاربه ، أو عشيرته.

فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه ولي الدم ، حتى ولو كان واحدا من أولياء الدم أو القتيل : وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده ، ويألمون لفقده ، بأن كان العفو من القصاص إلى الدية ، فيجب على العافي وغيره أن يحسن في الطلب من غير إرهاق ولا تعنيف ، وعلى المؤدي الأداء من غير مطل ولا تسويف. كما يجوز العفو عن الدية أيضا ، لقوله تعالى : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) [النساء ٤ / ٩٢].

ذلك الحكم الذي شرعناه من العفو عن القاتل إلى الدية أو بدون دية : تخفيف وتسهيل ورخصة من ربكم ، ورحمة لكم ، وأي رحمة أفضل من الإبقاء على الحياة وعدم سفك الدماء. ولم يكن أخذ الدية مشروعا عند اليهود ، وليس لأولياء المقتول إلا القصاص. فمن اعتدى بعد أخذ الدية وقتل القاتل ، أو تجاوز ما شرعناه وعاد إلى عادة الجاهلية ، فله عذاب شديد الألم يوم القيامة. فالتخفيف بالعفو بنوعيه قائم ، لأن أهل التوراة لهم القصاص ، وأهل الإنجيل لهم العفو بلا دية.

وحكمة القصاص : أنه يساعد على توفير الحياة الهانئة المستقرة للجماعة ،

١٠٦

ويزجر القاتل وأمثاله ، ويقمع العدوان ، ويخفف من ارتكاب جريمة القتل ، إذ من علم أنه إذا قتل غيره قتل به ، امتنع عن القتل ، فحافظ على الحياتين : حياة القاتل والمقتول ، كما أن القصاص يمنع انتشار الفوضى والتجاوز والظلم في القتل ، ويحصر الجريمة في أضيق نطاق ممكن ، ويشفي غليل ولي القتيل ، ويطفئ نار غيظه ، ويستأصل من نفسه نار الشر والحقد والتفكير بالثأر. قال ابن كثير : معنى قوله : وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة : وهي بقاء المهج وصونها ، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل ، انكف عن صنيعه ، فكان في ذلك حياة للنفوس.

والذي يقدر حق الحياة المقدسة ، ويفقه سر التشريع بالقصاص وما يحققه من مصلحة عامة وخاصة ، هم العقلاء ، فعليهم إدراك الحكمة وفهم دقائق الأحكام الشرعية. فإذا فهم العقلاء أن القصاص سبب للحفاظ على الحياة (١) ، وحذروا الناس من جريمة القتل ، اتقوا القتل وسلموا من القصاص ، فالمراد هنا من «تتقون» اتقاء القتل ، فتسلمون من القصاص ، إذ العاقل يحرص على الحياة ، ويحترس من تطبيق القصاص.

وقد اتفق علماء البلاغة إلا من شذ للوثة في عقله وهوى في نفسه ، على أن عبارة : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أبلغ وأحكم وأفصح وأوجز ، وأوفى بالمقصود من كلام فصحاء العرب : «القتل أنفى للقتل» ، لأن كل قصاص فيه صون الحياة ، أما القتل فقد يكون ظلما ، فيصبح أدعى للقتل ، وسببا في زيادته ، ولا ينفي القتل إلا إذا كان عدلا ، وأما القصاص عقوبة فهو عدل دائما ، لأنه لا يصدر عن القاضي الحكم به إلا بعد توافر الإثباتات اللازمة على جريمة القاتل ،

__________________

(١) قال أبو حيان في (البحر المحيط ٢ / ١٥) المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة أو نوع من الحياة ، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل.

١٠٧

فهو النافي للقتل حقيقة. والآية القرآنية جعلت سبب الحياة للجماعة القصاص ، لأنه قائم على التماثل والعدل والمساواة. والعقاب في محله عدل محض ، أما الكلمة العربية في الجاهلية فجعلت سبب الحياة القتل مع أن القتل لا يستلزم الحياة ، ثم إن هذه الكلمة فيها تكرار لفظ القتل ، والآية خالية من التكرار اللفظي. ويمكن تصحيح العبارة العربية بأن يقال : القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما.

والخلاصة : أن الآية أخص ، وأن ظاهر العبارة محال : وهو أن القتل سبب في نفي القتل ، أما القصاص فهو سبب الحياة ، وأن القتل ظلما قتل وليس نافيا للقتل بل هو أدعى للقتل.

فقه الحياة أو الأحكام :

امتازت الشريعة الإسلامية بأنها جمعت بسبب جريمة القتل بين تشريع القصاص الذي كان في بني إسرائيل ، وبين تشريع الدية الذي كان في النصارى ، وأصبح الخيار مقررا بين القصاص والدية والعفو مطلقا عن أي شيء. بل إن الإسلام حض على العفو في آيات كثيرة. منها : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة ٢ / ٢٣٧] ومنها : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ، إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [الإسراء ١٧ / ٣٣] وكذلك هذه الآية : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة ٢ / ١٧٨] ذكّرت المؤمنين بالأخوة التي تدعوهم إلى العفو ، وبددت من أنفسهم عوامل الغيظ والحقد ، فيعطف الأخ على أخيه ، ويتسامى عن أحقاده ، فيصفح ويسمح عنه.

أما إن أراد ولي الدم القصاص ، فعلى القاتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع ، وهذا فرض عليه ، كما أنه فرض على الولي الوقوف عند قتل القاتل ، وترك التعدي على غيره ، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسّلام «إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة

١٠٨

ثلاثة : رجل قتل غير قاتله ، ورجل قتل في الحرم ، ورجل أخذ بذحول (١) الجاهلية» ودلت الآية على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة ، قال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس : الذكر والأنثى سواء فيه. واتفق الفقهاء على ترك ظاهر : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).

وإنهاء لعادة الأخذ بالثأر ، لم يسمح الشرع للأفراد أن يطبقوا القصاص بأنفسهم ، وإنما حصر تطبيق القصاص وإقامة الحدود بولاة الأمور ، لأنّ الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ، ولا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص ، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود ، منعا من الوقوع في الفوضى وتجاوز الحق والعدل ، وليس القصاص بلازم ، إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء ، ويجوز العفو عن القصاص إلى الدية أو بلا دية.

مسائل فقهية :

١ ـ قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر :

اختلف الفقهاء في مسألتين هما : قتل الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي. فاشترط الجمهور التكافؤ بين القاتل والمقتول في الإسلام والحرية ، فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد ، ولم يشترط الحنفية التكافؤ في الحرية والدين ، وإنما يكفي التكافؤ أو التساوي في الإنسانية ، فيقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد.

استدل الجمهور بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي ـ عن عبد الله بن عمرو : «لا يقتل مسلم بكافر» ورواه البخاري عن علي أيضا ، وبقوله عليه الصلاة والسّلام في العبد ـ فيما رواه الدار قطني والبيهقي ـ عن ابن عباس مرفوعا : «لا يقتل حر بعبد».

__________________

(١) الذحل : العداوة والحقد ، أو الثأر وطلب المكافأة على الجناية الواقعة عليه.

١٠٩

واستدل الحنفية بعموم آيات القصاص بدون تفرقة بين نفس ونفس ، مثل قوله تعالى: (تِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة ٢ / ١٧٨] وقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة ٥ / ٤٥].

أما آية (الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) بعد قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) : فالمراد بها عند الحنفية الرد على ما كان يفعله بعض القبائل ، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حرا ، وفي امرأتهم إلا رجلا ، فأبطل ما كان من الظلم ، وأكد فرض القصاص على القاتل دون غيره ، فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد ، أو أنه لا يقتل الرجل بالمرأة ، لأن الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وهذا يعم كل قاتل ، سواء أكان حرا قتل عبدا أم غيره ، وسواء أكان مسلما قتل ذميا أم غيره. ثم جاءت آية : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ ..) لبيان ما تقدم ذكره على وجه التأكيد.

وقال الجمهور : إن الله قد أوجب أولا المساواة في القصاص ، ثم بين المساواة المعتبرة ، فأوضح أن الحر يساويه الحر ، والعبد يساويه العبد ، والأنثى تساويها الأنثى ، لكن جاء الإجماع مستندا إلى السنة النبوية على أن الرجل يقتل بالمرأة.

فمناط الاستدلال عندهم كلمة (الْقِصاصُ) الموجبة للمساواة والمماثلة في القتل. ومناط الاستدلال عند الحنفية كلمة (الْقَتْلى) الموجبة حصر القصاص في القاتل لا في غيره.

وإذا كان الحر لا يقتل بالعبد ـ في رأي الجمهور ـ فالمسلم لا يقتل بالذمي ، لأن نقص العبد برقه الذي هو من آثار الكفر ، فلا يقتل المسلم بالكافر.

ويظهر أن رأي الحنفية يحقق الانسجام بين صدر الآية وعجزها ، فيكون العبد مساويا للحر ، ويكون المسلم مساويا للذمي في الحرمة ، لأنه محقون الدم

١١٠

على التأبيد. أما رأي الجمهور فلا يحقق الانسجام بين بداية الآية ونهايتها ، إذ أنهم قرروا ألا يقتل الحر بالعبد ، وأن الرجل يقتل بالأنثى وبالعكس.

لكن السنة النبوية أوجبت النظر في الآية ، فقال الجمهور : جاءت الآية مبينة حكم النوع إذا قتل نوعه ، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا ، والعبد إذا قتل عبدا ، والأنثى إذا قتلت أنثى ، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة ، وفيها إجمال بينه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة ، ولم يجز قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر.

ويعضد ما ذهب إليه الحنفية من شرع قتل المسلم بالذمي : ما رواه الطحاوي عن محمد بن المنكدر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقاد مسلما بذمي ، وقال : «أنا أحق من وفى بذمته» ، وروي عن عمر وعلي قتل المسلم بالذمي ، وقال علي : «إنا أعطيناهم الذي أعطيناهم (١) ، لتكون دماؤهم كدمائنا ودياتهم كدياتنا».

وتأول الحنفية حديث «لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد بعهده» بأنه لا يقتل المسلم والمعاهد بكافر حربي ، لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهدا مثله من الذميين إجماعا ، فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي ، كما قيد بالمعطوف ، لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقا ، ويكون التقدير : لا يقتل مسلم بكافر حربي ، ولا ذو عهد بكافر حربي ، لأن الذمي إذا قتل ذميا قتل به ، فعلم أن المراد به : الحربي ، إذ هو الذي لا يقتل به مسلم ولا ذمي.

ورد الجمهور بأن حديث «أنا أحق من وفى بذمته» مرسل عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر ، وهو ضعيف الحديث ، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ، فكيف بما يرسله؟! وقال الدار قطني : «لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى ، وهو متروك الحديث».

__________________

(١) أي العهد والأمان.

١١١

وأما حديث «ولا ذو عهد في عهده» فهو كلام تام ، لا يحتاج إلى تقدير ، وهي جملة مستأنفة ، لبيان حرمة دماء أهل الذمة ، والعهد بغير نقض.

٢ ـ قتل الرجل بالمرأة :

نصت الآية على قتل الأنثى بالأنثى ، ولم تبين حكم قتل الرجل بالمرأة وبالعكس.

فقال الحسن البصري وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة ، لهذه الآية.

وقال الليث بن سعد : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.

وخالفهم الجمهور فقرروا أنه يقتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، لآية المائدة : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٤٥) ، ولقوله عليه الصلاة والسّلام ـ فيما رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي جحيفة ـ : «المسلمون تتكافأ دماؤهم».

ويسوى بين الرجل والمرأة في القصاص بالنفس وفيما دون النفس من الأعضاء في رأي مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبي ثور. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة : لا قصاص بينهما فيما دون النفس ، وإنما هو في النفس بالنفس. قال القرطبي : وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى.

٣ ـ قتل الوالد بالولد :

قال ابن المنذر : اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا ، وموجز الخلاف هو ما يأتي. قال الجمهور غير مالك : لا قود (قصاص) عليه ، وعليه ديته ، لما رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقاد الوالد بالولد» وهو حديث مشهور.

١١٢

وقال مالك : إذا قتل الرجل ابنه متعمدا ، مثل أن يضجعه ، ويذبحه ، أو يصبره (يحبس ويرمى حتى يموت) مما لا عذر له فيه ، ولا شبهة في ادعاء الخطأ ، يقتل به. أما إذا رماه بالسلاح أو بالعصا بقصد التأديب ، أو في حالة غضب ، فقتله ، لا يقتل به ، لأن شبهة الأبوة قائمة شاهدة بعدم القصد إلى القتل.

٤ ـ قتل الجماعة بالواحد :

قال الظاهرية : لا تقتل الجماعة بالواحد ، لظاهر الآية ، التي شرطت المساواة والمماثلة ، ولا مساواة بين الواحد والجماعة ، لقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة ٥ / ٤٥].

والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان ، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل ، وتقتل في مقابلة الواحد مائة ، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة ، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة ، وذلك بأن يقتل من قتل.

وذهب أئمة المذاهب الأربعة : إلى أنه تقتل الجماعة بالواحد ، قلّت الجماعة أو كثرث ، سدا للذرائع ، فلو لم يقتلوا لما أمكن تطبيق القصاص أصلا ، إذ يتخذ الاشتراك في القتل سببا للتخلص من القصاص. وقد قتل عمر رضي‌الله‌عنه سبعة برجل بصنعاء ، وقال : «لو تمالأ عليه أهل صنعاء ، لقتلتهم به جميعا» وقتل علي رضي‌الله‌عنه الحرورية (الخوارج) بعبد الله بن خبّاب (١).

وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن ، لأكبهم الله في النار» وقال فيه : حديث غريب.

__________________

(١) خرّج الحديثين الدار قطني في سننه.

١١٣

٥ ـ المماثلة في تطبيق القصاص (أداة القصاص):

للعلماء اتجاهان في كيفية استيفاء القصاص ، فذهب مالك والشافعي إلى أن آية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) يقتضي المماثلة في كيفية القتل ، فيقتص من القاتل على الصفة التي قتل بها ، فمن قتل تغريقا ، قتل تغريقا. ومن قتل بحجر قتل به ، بدليل حديث أنس الذي رواه الشيخان (البخاري ومسلم) أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رضّ رأس يهودي بين حجرين ، كان قد قتل بهما جارية من الأنصار».

وذهب الحنفية ، والحنابلة في الأصح عندهم إلى أن المطلوب بالقصاص إتلاف نفس بنفس ، والآية لا تقتضي أكثر من ذلك ، فعلى أي وجه قتله ، لم يقتل إلا بالسيف ، لحديث النعمان بن بشير الذي رواه ابن ماجه والبيهقي والدار قطني أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا قود إلا بالسيف» ، ولحديث عمران بن حصين وغيره أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نهى عن المثلة» وحديث شداد بن أوس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن ـ : «إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» فأوجب عموم لفظه على من رغب في القصاص أن يقتل الجاني بأحسن وجوه القتل.

٦ ـ أخذ الدية من قاتل العمد :

هناك نظريتان ، فذهب مالك في رواية أشهب والشافعي وأحمد : إلى أن ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص ، وإن شاء أخذ الدية ، وإن لم يرض القاتل ، لحديث أبي شريح الخزاعي عام الفتح الذي رواه أحمد عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قتل له قتيل ، فله أن يقتل أو يعفوا أو يأخذ الدية» ولأن فرضا على القاتل إحياء نفسه ، بقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). وعلى هذا يكون موجب القتل العمد أحد أمرين : إما القصاص ، وإما العفو إلى الدية ، فأيهما اختار الولي ، أجبر الجاني عليه.

١١٤

وذهب أبو حنيفة ، ومالك في رواية ابن القاسم ، وهو المشهور عنه : إلى أنه ليس لولي المقتول إلا القصاص ، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل ، إذ ليس في الآية سوى إباحة العفو أي العطاء ، أي فمن أعطي له من أخيه شيء من المال ، فليتبعه بالمعروف ، وليؤد إليه الجاني ، وليس فيها ما يدل على إلزام القاتل بالدية إذا رضيها الولي. واحتجوا بحديث أنس في قصة الرّبيّع (١) حين كسرت ثنية المرأة ، فلما حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقصاص ، وقال : «القصاص : كتاب الله ، القصاص : كتاب الله» ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ، ثبت أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص.

قال القرطبي : والأول ـ أي الاتجاه الأول ـ أصح ، لحديث أبي شريح المذكور.

٧ ـ هل للنساء عفو؟

ذهبت طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو ، منهم الحسن البصري وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي. وخالفهم بقية العلماء ، وقالوا : يجوز للنساء العفو عن القصاص.

٨ ـ هل الاتباع بالمعروف والأداء واجب أو مندوب؟

إن آية (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب ، وحسن القضاء من المؤدي ، وقراءة الرفع (فَاتِّباعٌ) تدل على الوجوب ، لأن المعنى : فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) شرط ، والجواب : (فَاتِّباعٌ) وهو رفع بالابتداء ، والتقدير : فعليه اتباع بالمعروف. مثل قوله تعالى: (فَإِمْساكٌ

__________________

(١) هي عمة أنس بن مالك ، والحديث رواه الأئمة.

١١٥

بِمَعْرُوفٍ). وعلى قراءة النصب : فاتباعا يكون الطلب على سبيل الندب.

٩ ـ حكم القاتل بعد أخذ الدية :

من قتل بعد أخذ الدية ، فحكمه عند جماعة من العلماء ، منهم مالك والشافعي : كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله ، وإن شاء عفا عنه ، وعذابه في الآخرة.

وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم : عذابه أن يقتل البتة ، ولا يمكّن الحاكم الوليّ من العفو. روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أعفى (١) من قتل بعد أخذ الدية».

وقال الحسن البصري : عذابه أن يرد الدية فقط ، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة.

وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى.

١٠ ـ القصاص للحاكم :

اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه ، دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ، وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك.

١١ ـ القصاص من الحاكم نفسه :

أجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه ، إن تعدى على أحد من رعيته ، إذ هو واحد منهم ، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل ،

__________________

(١) أعفى : من عفا الشيء : إذا كثر وزاد ، وهذا دعاء عليه ، أي لاكثر ماله ولا استغنى.

١١٦

وذلك لا يمنع القصاص ، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عزوجل ، لقوله جل ذكره : (تِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى).

وثبت عن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده : «لئن كنت صادقا لأقيدنك منه».

وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم شيئا إذ أكبّ عليه رجل ، فطعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرجون كان معه ، فصاح الرجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: «تعال فاستقد» قال : بل عفوت يا رسول الله.

وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقال : «ألا من ظلمه أميره ، فليرفع ذلك إليّ أقيده منه». فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال : كيف لا أقصّه منه ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصّ من نفسه!. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال : «خطبنا عمر بن الخطاب ، فقال : إني لم أبعث عمّالي ليضربوا أبشاركم ، ولا ليأخذوا أموالكم ، فمن فعل ذلك به ، فليرفعه إلي أقصه منه».

الوصية الواجبة

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

١١٧

الإعراب :

(حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسباب الموت ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.

(الْوَصِيَّةُ) : نائب فاعل لفعل : كتب ، وتقديره : كتب عليكم الوصية.

(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) منصوب على المصدر ، وتقديره : حق حقا.

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) الهاءات في : بدله وسمعه ويبدلونه ، فيها وجهان : أحدهما ـ إنما أتى بضمير المذكر ، دون ضمير المؤنث ، وإن كان الذي تقدم ذكر الوصية ، لأنه أراد بالوصية الإيصاء. والثاني ـ أن هذه الهاءات تعود على الكتب ، لأن (كُتِبَ) تدل عليه ، والكتب مذكر.

البلاغة :

(عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أقيم الظاهر مقام المضمر.

المفردات اللغوية :

(كُتِبَ) : فرض (الْمَوْتُ) أي أسبابه وعلاماته وأماراته كالمرض المخوف (خَيْراً) أي مالا ، قال مجاهد : الخير في القرآن كله : المال. (الْوَصِيَّةُ) : تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت ، أي فليوص من أوشك على الموت ببعض ماله لأقاربه ، وتطلق على الإيصاء والتوصية ، وعلى الموصى به من عين أو عمل.

(بِالْمَعْرُوفِ) أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث ، ولا يفضل الغني ، وهو ما لا يستنكره الناس ، بحسب حال الشخص الموصي ، بأن لا يكون قليلا بالنسبة لماله الكثير ، وألا يكون كثيرا يضر بالورثة ، ويتحدد بعدم الزيادة على ثلث التركة.

(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله. والإيصاء الواجب للأقارب منسوخ بآية الميراث ، وبحديث رواه الترمذي وغيره : «لا وصية لوارث».

(فَمَنْ بَدَّلَهُ) وغيره أي الإيصاء ، من شاهد ووصي (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) علمه (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أي الإيصاء المبدل (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقول الموصي (عَلِيمٌ) بفعل الوصي ، فيجازيه عليه.

(فَمَنْ خافَ) أي علم. (جَنَفاً) ميلا عن الحق والعدل خطأ (أَوْ إِثْماً) بأن تعمد الإجحاف والظلم ، بالزيادة على الثلث أو تخصيص غني مثلا.

(فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الوصي والموصى له ، بالأمر بالعدل. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في ذلك.

١١٨

التفسير والبيان :

هذه الآيات تذكير عام لجميع الناس بالوصية التي هي عمل من أعمال البر والخير بعد الموت ، في حال ظهور أماراته وعلاماته ، بعد أن ذكر الله القصاص في القتل ، وهو موت ، وجاء الخطاب للمجموع ، لأن الأمة متكافلة ، يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد ، فمناسبة الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص ، والدية ، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية وبيان أنه مما كتبه الله تعالى على عباده ، حتى يتنبه كل أحد ، فيوصي قبل مفاجأة الموت ، فيموت على غير وصية.

وفرض عليكم أيها المؤمنون ، إذا ظهرت علامات الموت بمرض مخوف ونحوه ، وترك الواحد منكم مالا كثيرا لورثته ، أن يوصي للوالدين والأقربين بشيء من هذا المال ، وصية عادلة ، لا تعد شيئا قليلا ولا كثيرا ، في حدود ثلث التركة ، وعدم تفضيل غني لغناه ، ودون تمييز ولا جور في الوصية إلا لضرورة ، كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم ، أو صغر ، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والحقد والنزاع بين الورثة ، حتى ولو كان الوالدان كافرين ، فللولد أن يوصي لهما بما يؤلف قلوبهما ، لأن الإحسان لهما مطلوب بنحو عام ، كما قال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) [العنكبوت ٢٩ / ٨]. (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما ، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان ٣١ / ١٥] والمراد من قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط ، وهو محدد شرعا بمقدار ثلث التركة فأقل.

أوجب الله تلك الوصية حقا مقررا على من اتقى الله وآمن بكتابه. فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصي بعد سماعه ، فإنما ذنب هذا التغيير عليه ، وبرئت منه ذمة الموصي ، وثبت له الأجر عند ربه.

١١٩

والتغيير إما بإنكار الوصية أو بالنقص فيها بعد أن علمها.

والله سميع لقول المبدلين والموصين ، عليم بنياتهم وبكل فعل ، وهذا وعيد شديد لهم ، فاحذروا العقاب.

ثم استثنى من إثم التبديل حالة الإصلاح والنصح ، وهي إذا خرج الموصي في وصيته عن منهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا ، فلمن علم بذلك أن يصلح بين الموصي والموصى له ، أو بين الورثة والموصى لهم ، بأن يرد الوصية إلى العدل والمقدار المحدد لها شرعا ، ولا إثم على هذا التبديل ، لأنه بحق ، ولا ذنب عليه في ذلك ، والله غفور لمن بدل للإصلاح ، رحيم به.

المراد بكلمة (خَيْراً) : اختلف العلماء في المال الذي تفرض فيه الوصية ، فقيل : إنه المال الكثير ، كما فسرته السيدة عائشة رضي‌الله‌عنها. وقيل : أي مال قليلا كان أو كثيرا. ثم اختلفوا في ضابط التمييز بين الكثير والقليل : فقال ابن عباس : إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي ، فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى. وقال قتادة. ألف درهم. وعن عائشة أن رجلا قال لها : إني أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف درهم ، قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة ، قالت : قال الله: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك ، فهو أفضل.

والظاهر ـ كما قال ابن عباس وجماعة من التابعين ـ : أن المراد المال مطلقا ، قليلا كان أو كثيرا ، لأن اسم الخير يقع على قليل المال وكثيره. والقضية راجعة إلى العرف ، وتقدير الموصي وعدد أفراد الورثة ، وظروف المعيشة وأوضاع الغلاء والرخص.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية في رأي جمهور العلماء وأكثر المفسرين منسوخة بآية المواريث ،

١٢٠