المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

والمانعية ونحوهما ، واقتصروا في السببية على السببية لنفس الحكم.

وكيف كان ، فالوجه المتقدم في المقام الأول لكون السببية ونحوها انتزاعية جار هنا ، فليس المجعول إلا التكليف بالفعل الخاص ، وهو المقيد بالشرط أو عدم المانع أو نحوهما ، لأنه مورد الملاك وموضوع الغرض والامتثال ، وليست شرطية الشرط للمكلف به ومانعية المانع منه إلا من الإضافات المنتزعة من ذلك ، التي يمتنع انفكاكها عنها ، وليست مجعولة مثله ، لعدم كونها موردا للغرض ولا موضوعا لما هو المهم من الأثر.

نعم ، هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات الشرط والمانع ونحوهما اقتضت دخلها في ترتب الملاك على المكلف به.

إلا أن التبعية المذكورة كتبعية التكليف للملاك من سنخ تبعية المعلول لعلته الإعدادية ، خارجة عن محل الكلام ، على ما سبق توضيحه في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) هناك.

لكنه (قدس سره) لم يذكر ذلك هنا ، وبنى على ما ذكرنا من انتزاع الشرطية المذكورة ونحوهما من التكليف ، من دون أن يشير لوجه الفرق بين المقامين.

هذا ، وبعض الأعيان المحققين (قدس سره) مع أنه التزم بجعل السببية والشرطية للحكم ـ كما سبق ـ منع من جعل الشرطية للمكلف به ونحوها ، كما منع من انتزاعها من التكليف.

بدعوى : أن لازمه عدم قيدية شيء لشيء لو لا وجود حكم في البين ، مع بداهة فساده ، لأن الشيء قد يكون قيدا لشيء وطرفا لإضافته ولو لم يكن في العالم حكم ، كالرقبة المؤمنة وزيد العالم ، فلا يكون التكليف دخيلا إلا في

٨١

إضافة الشرطية للواجب بما هو واجب ، كدخله في سائر الإضافات له من مكانه وزمانه وغيرهما ، حيث لا يصح إضافتها للواجب بما هو واجب إلا في رتبة متأخرة عن التكليف ، من دون أن تعد من الأحكام الوضعية ولا من الامور المجعولة أو المنتزعة قطعا.

أما أصل الإضافة فهي غير تابعة للتكليف ، بل هي امور واقعية منتزعة من الإضافة والربط بين الشيء وذات الواجب في المرتبة السابقة على وجوبه ، مع قيام الوجوب بالربط المذكور ، كقيامه بذات العمل ، فهو متقدم على الوجوب كتقدم الموضوع على العرض ، لا منتزع منه.

ويشكل : بأن الأمر الذي لا يتوقف على الحكم إنما هو مقارنة الحصة الخاصة من الذات للقيد في الخارج ، أما التقييد فهو كالإطلاق لا موضوع له إلا في مقام الحكم الخبري أو الإنشائي على الماهية الكلية وإن لم توجد بعد في الخارج ، فالرقبة وإن كانت قد تتصف في الخارج بالإيمان مع قطع النظر عن الحكم عليها ، إلّا أنه لا موضوع لإطلاقها أو تقييدها به إلا في مقام الحكم عليها بما هي أمر كلي قابل للوجود في الخارج.

نعم ، التقييد المذكور في مرتبة سابقة على الحكم ـ وإن كان ملزوما له ـ لأخذه في موضوعه الذي هو بمعنى معروضه.

أما الشرطية فهي منتزعة من نحو من الترتب بين الشيئين ، بحيث يتوقف أحدهما على الآخر ، لا من مجرد التقارن بينهما ، فإن توقفت ذات الشيء على الشرط كان شرطا لوجوده ، كتوقف فعل المكلف على قدرته ، وتوقف السفر على فتح باب المدينة ، وإن توقفت خاصيته عليه كان شرطا له بما هو ذو عنوان منتزع من الخاصية المذكورة ، كتوقف نفع الغسل على حرارة الماء ،

٨٢

وتوقف إضرار شرب الماء على برودته ، حيث تكون حرارة الماء وبرودته شرطا للغسل والشرب بما أن الغسل نافع والشرب ضار ، لا بذاتيهما.

وفي المقام حيث لا يراد بشرط المكلف به في كلماتهم شرط ذاته الذي تكون شرطيته تكوينية لا دخل للشارع بها ، بل شرط دخوله في حيز التكليف الذي تكون شرطيته تابعة للجعل الشرعي في الجملة ومتفرعة على تقييده به في مقام التكليف به ، فلا معنى لدعوى سبق الشرطية رتبة على التكليف ، لأن التقييد من الخصوصيات المقوّمة لشخص التكليف.

كما لا مجال لدعوى جعلها في قباله ، لاستحالة انفكاكها عنه ، بل يتعين كونها منتزعة منه كسائر الإضافات اللاحقة له التابعة لخصوصيته ، كالسببية والشرطية لنفس التكليف.

على أن ما ذكره (قدس سره) لو تم هنا جرى في الشرطية لنفس الحكم ، التي سبق منه الالتزام بجعلها مع الحكم بجعل واحد ، لوضوح رجوع شرط الحكم إلى جعل سببه الذي اخذ قيدا له في دليل تسبيبه ، فمعنى شرطية البلوغ لوجوب الحج أو لنفوذ العقد أنهما شرط للاستطاعة والعقد ، وقيد فيما يكون منهما موضوعا للوجوب والنفوذ ، نظير شرطية الطهارة للصلاة.

المسألة الرابعة : وقع الكلام بينهم في حقيقة الجزئية ، وهل هي منتزعة أو مجعولة.

ولا يخفى أنها كما تتعلق بالمكلف به ـ كجزئية السورة من الصلاة ـ تتعلق بالأسباب ذات المسببات الشرعية ـ كجزئية القبول من العقد الذي هو سبب لترتب مضمونه ، وجزئية ملك الزاد من الاستطاعة التي هي سبب وجوب الحج ـ ولا وجه لتخصيصها بالأول ، كما قد توهمه كلمات

٨٣

بعضهم.

هذا ، وقد صرّح جماعة بانتزاع الجزئية من الأمر بالمركب أو جعله سببا ، من دون أن تكون مجعولة معه ، لا استقلالا ولا تبعا.

خلافا لما ذكره شيخنا الاستاذ من انتزاعها أو جعلها في رتبة سابقه على الحكم الوارد على المركب ، ولما ذكره بعض مشايخنا من جعلها تبعا لجعل الحكم المذكور على غرار ما ذكره في السببية. والظاهر الأول.

وتوضيحه : أن الجزئية والكلية عنوانان متضايفان ينتزعان من لحاظ الوحدة بين الامور المتكثرة ، حيث يكون كل منها بلحاظ الوحدة المذكورة جزء ومجموعها كلا ، ولو لا لحاظها لكانت امورا متفرقة لا يصدق على كل منها الجزء ولا على مجموعها الكل.

وتلك الوحدة تارة : تكون مقومة لمفهوم واحد ذي عنوان خاص ، كما في الماهيات المخترعة للعرف العام ـ كالدار والمدينة والبستان ـ أو الخاص الشرعي ـ كالصلاة والحج ـ أو غيره ـ كالكلام باصطلاح النحويين ـ فإن وحدتها مع تكثر أجزائها ليست حقيقية ، بل لحاظية لمخترع عنوانها من أهل العرف.

واخرى : تكون مسببة عن لحاظ اشتراك الامور المتكثرة في جهة تجمعها من دون لها عنوان خاص بها إلا العنوان الإضافي المنتزع من تلك الجهة ، كعنوان النافع ، وما في الصندوق ، ومملوك زيد ، وغيرها.

إذا عرفت هذا ، فجزئية شيء لسبب الحكم ـ كالقبول الذي هو جزء للعقد ـ أو للمأمور به ـ كالسورة التي هي جزء من الصلاة ـ موقوفة أولا : على دخل الجزء بنحو خاص في الغرض الداعي لجعل الحكم ،

٨٤

وثانيا : على أخذه في موضوع الحكم في مقام جعله في مرتبة سابقة عليه ، لما تقدم من سبق الموضوع على الحكم رتبة ، وثالثا : على ورود الحكم على الموضوع المركب من المجموع.

ولا يخفى أن لحاظ الأمر الأول منشأ لانتزاع جزئية الشيء من موضوع الغرض ، ولحاظ الثاني منشأ لانتزاع جزئيته من الأمر الملحوظ موضوعا للحكم ، ولحاظ الثالث منشأ لانتزاع جزئيته من المأمور به بما هو مأمور به أو من السبب بما هو سبب.

وحيث كان هذا الأخير هو محل الكلام في المقام ، لأنه القابل لاحتمال الجعل استقلالا أو تبعا لجعل الحكم ، تعيّن البناء على انتزاع الجزئية من الأمر ، وأنها من الإضافات التابعة لخصوصيته كالسببية.

ولا معنى لسبقها على الحكم ـ كما سبق من شيخنا الاستاذ (قدس سره) ـ إلا أن يراد بها أحد الأمرين الأولين ، فيكون النزاع لفظيا ، كما لا مجال لجعلها استقلالا ولا تبعا ـ كما سبق من بعض مشايخنا ـ لعدم الأثر لجعلها مع ذلك ، نظير ما تقدم في السببية وأخواتها.

هذا ، وربما يدعى أن الماهيات المخترعة للشارع الأقدس ـ كالصلاة والحج ـ مجعولة له في أنفسها باختراعها مع قطع النظر عن تعلق الحكم بها ، فتكون جزئيتها مجعولة تبعا لجعلها في رتبة سابقة على الحكم لا تبعا له.

لكنه ممنوع ، لأن معنى اختراع الشارع للماهية تحديد مفهومها في عالم الذهن والتصور ، لا جعلها اعتبارا كجعل الزوجية ونحوها ، كيف وأجزاؤها امور حقيقية غير قابلة للجعل التشريعي؟! ومن الظاهر أن التحديد المذكور لا يقتضي جعل جزئية الجزء ، إذ ليس هو إلا تصور المجموع وفرضه أمرا

٨٥

واحدا من دون جعل للجزئية زائدا على ذلك.

غاية الأمر ان التصور المذكور مصحح لانتزاع الجزئية للجزء من الأمر المتصور بما هو متصور ، لا بما هو مأمور به ، مع توقف انتزاع جزئيته من المأمور به أو موضوع الحكم على ورود الحكم على المجموع ، كما ذكرنا. فلا مخرج عما سبق.

نعم ، لو تم ما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره) في وجه تبعية السببية لخصوصية السبب التكوينية جرى نظيره في المقام ، لوضوح تبعية الجزئية ـ بالمعنى المذكور ـ لخصوصية تكوينية في الجزئية اقتضت دخله في الغرض الداعي لجعل الحكم.

لكنه (قدس سره) لم يذكر ذلك في المقام وبنى على انتزاع الجزئية من الأمر ـ كما ذكرنا ـ من دون أن يشير إلى وجه الفرق بين المقامين.

كما أنه لو تم ما سبق من بعض الأعيان المحققين في الشرطية للمكلف به من تبعيتها للتقييد وأنها من الامور الواقعية غير الموقوفة على الأمر بالمقيد ، جرى نظيره في المقام ، لابتناء الجزئية من موضوع الحكم على نحو من التقييد لمتعلق التكليف وقصوره على حال وجود الجزء.

لكنه (قدس سره) لم يذكر ذلك في المقام أيضا ، وبنى على ما ذكرنا من دون أن يشير إلى وجه الفرق.

المسألة الخامسة : تعرض غير واحد في هذا المقام للصحة والفساد. وقد ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) وجملة ممن تأخر عنه أن الصحة هي التمامية ، والفساد عدمها ، فهما متقابلان تقابل العدم والملكة ، وارسل في كلامهم إرسال المسلمات ، وقد يظهر منهم أن ذلك معناهما اللغوي أو

٨٦

العرفي ، بل صرح بعض مشايخنا بأن معناهما لغة تمامية الأجزاء والشرائط وعدمها.

لكنه يشكل : بأن التمامية لغة وعرفا تقابل النقص ، أما الصحة فهي تقابل المرض والسقم والعيب ، والفساد يقابل الصلاح لا الصحة ، كما يظهر بالرجوع لكلام اللغويين وملاحظة الاستعمالات.

كما أن الصحة والفساد في محل كلامهم مختصان بالأفعال الارتباطية ذات الأجزاء أو الشرائط ، والتي تكون موردا للأحكام الشرعية ، دون الأعيان وإن كانت موردا للأحكام الشرعية وأمكن اتصافها بالتمامية وعدمها. وذلك كاشف عن أن المقابلة بين الصحة والفساد وإرادة التمامية وعدمها منهما ليستا جريا على مقتضى اللغة ، بل اصطلاح خاص بأهل الفن.

ولا يبعد كون إطلاقهم الصحة والفساد على التمامية وعدمها بلحاظ ملازمة التمامية في المركبات الارتباطية لترتب الأثر المقصود ، الذي هو من لوازم الصحة ، وملازمة عدم التمامية فيها لعدم ترتبه المشبه للفساد.

وكيف كان فالظاهر أن التمامية التي هي المعيار في الصحة والفساد عندهم إنما تكون بلحاظ الغرض المهم ، لا بمعنى مطابقة الصحة لترتب الغرض مفهوما ، بل بمعنى كونه معيارا في صدقها ومصححا لانتزاعها ، فهي منتزعة من تمامية الأجزاء أو الشرائط الدخيلة في الغرض المذكور ، فلو لم يكن هناك غرض مهم لم تنتزع الصحة والفساد وإن أمكن انتزاع التمامية وعدمها ، التي هي إضافة خاصة يكفي فيها أي جهة لحظت في البين يعتبر فيها بعض الأجزاء أو الشرائط.

ومن هنا لا يتصف الإتلاف ـ مثلا ـ بالصحة بلحاظ ترتب الضمان

٨٧

عليه ، ولا يتصف الأكل نسيانا من الصائم بالفساد بلحاظ عدم ترتب الإفطار عليه ، وإن أمكن اتصافهما بالتمامية وعدمها بلحاظ مطابقة الأول لموضوع الضمان وعدم مطابقة الثاني لموضوع الإفطار.

ومنه يظهر أن الصحة والفساد أمران إضافيان يختلف صدقهما بنظر الأشخاص تبعا لاختلافهم في الغرض المهم من العمل ، كما نبه له غير واحد.

ولعله لذا وقع الاختلاف في تعريفهما ، فعن بعض المتكلمين تفسيرهما بموافقة الأمر الوارد في الشريعة وعدمها ، وعن بعض الفقهاء تفسيرهما بإسقاط الإعادة والقضاء وعدمه ، من دون أن يرجع ذلك للاختلاف في مفهوم الصحة والفساد.

نعم ، الظاهر عدم اختصاص الغرض المهم للفقيه بإسقاط الإعادة والقضاء ، بل يعم غيره من الآثار المسببة عن الفعل المقصودة منه ، كالتذكية في الذبح ، والزوجية في العقد ، والبينونة في الطلاق ، والطهارة في الغسل ، وغيرها.

إذا عرفت أن الصحة والفساد أمران انتزاعيان ، وأنهما عبارة عن تمامية العمل ومطابقته لموضوع الغرض المهم وعدمه ، فمن الظاهر أن المطابقة وعدمها أمران واقعيان لا دخل للشارع بهما.

نعم ، ترتب الغرض على موضوعه كبرويا تارة : لا يستند للشارع الأقدس ، بل يكون عقليا ، كسقوط الإعادة والقضاء بالإتيان بالمأمور به الواقعي ، حيث تقرر في محله أنه إجزاء عقلي لا دخل للشارع به ، وليس المجعول للشارع إلا الأمر به.

واخرى : يستند إليه ، كسقوط الاعادة والقضاء واقعا في مورد عدم

٨٨

مطابقة المأتي به للمأمور به ـ كما في موارد حديث لا تعاد ونحوها ـ أو ظاهرا في موارد التعبد بصحة العمل ، وكترتب مضامين العقود والإيقاعات عليها ، فان الآثار المذكورة موقوفة على حكم الشارع الأقدس بها تبعا لموضوعاتها.

لكن هذا لا يستلزم كون صحة العمل الخارجي في الموارد المذكورة حكما شرعيا بعد ما عرفت في حقيقة الصحة.

نعم ، لو كانت الصحة نفس ترتب الأثر دون التمامية الملازمة له اتجه استنادها للشارع في هذه الموارد. لكنه خلاف ظاهرهم. فتأمل جيدا.

هذا عمدة ما ينبغي التعرض له من الأحكام الوضعية ولم يبق مما ذكر في كلماتهم منها إلا الامامة ، والولاية ، والنيابة ، والوكالة ، والقضاوة ، والرخصة ، والعزيمة.

والظاهر أن الأربعة الاول من الأحكام الوضعية وداخلة في موضوع المسألة الاولى ، لتبعيتها للجعل والاعتبار ممن بيده الاعتبار ، وأخذها في موضوع الأحكام الشرعية ، كوجوب الطاعة وجواز التصرف ونفوذه. كما أن القضاوة نحو من الولاية والنيابة.

وما يظهر من غير واحد من المفروغية عن عدم كون الإمامة من الأحكام الوضعية وأنها كالنبوة. كما ترى! إذ لا ينبغي التأمل في تبعية الإمامة للجعل بعد قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(١) وما تضمنته جملة من النصوص من أنها تابعة لجعل الإمام ونصبه من قبله تعالى.

فإن كانت النبوة كذلك فالالتزام بأنها من الأحكام الوضعية غير عزيز ،

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٤.

٨٩

وإن اعتبر فيها ـ كالامامة ـ كمال النفس وصفاؤها بمرتبة خاصة ، لا أنهما شرطان لأهلية المنصب لا مقومتان له ، وإن كانت النبوة تابعة لسبب تكويني فلا وجه لقياس الإمامة عليها.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من منع كون الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعية ، مع المفروغية عن عدم كون الوكالة والنيابة منها ، بدعوى : أنه لو بني على هذا التعميم لزم عدّ النبوة والإمامة منها.

وأما الرخصة والعزيمة فهما من شئون الحكم التكليفي ، إذ المراد بهما أن سقوط الخطاب بالواجب أو المستحب إن كان مع بقاء مشروعيته فهو رخصة ، وإن كان مع ارتفاعها فهو عزيمة ، فيكون مرجع الرخصة إلى ثبوت الحكم الاقتضائي ببعض مراتبة من دون إلزام ، ومرجع العزيمة إلى عدم ثبوته. ولا وجه لعدّهما من الأحكام الوضعية.

تذنيب

نسب للمحقق الخراساني (قدس سره) أن للحكم مراتب أربعة : الاولى : الاقتضاء. الثانية : الإنشاء. الثالثة : الفعلية. الرابعة : التنجز.

والمستفاد منه (قدس سره) في المقدمة الثامنة والتاسعة لمبحث اجتماع الأمر والنهي أن المراد بالحكم الاقتضائي هو الحكم الناشئ عن المقتضي الملاكي ، وإن لم يكن فعليا بسبب مزاحمة ملاك آخر له مساو له أو أهم منه ، فيمكن وجود حكمين اقتضائيين في موضوع واحد تبعا لوجود المقتضي

٩٠

الملاكي على طبق كل منهما ، وإن كان الحكم الفعلي على طبق أحدهما أو مخالفا لهما.

لكن ظاهر سيدنا الأعظم (قدس سره) في المقدمة الأولى من مقدمات الاستدلال على امتناع الاجتماع ، أن الحكمين في الفرض المذكور إنشائيان لا اقتضائيان.

أما المحقق الخراساني فالمستفاد من كلماته المتفرقة ومنها في مبحث الواجب المشروط ، أن الحكم الإنشائي هو الحكم المنشأ تبعا للملاك التام في المتعلق من المصلحة أو المفسدة غير المزاحمة ، وإن لم يكن فعليا لوجود المانع منه ، الذي قد يلزم بتشريع حكم آخر يكون تابعا لمصلحة فيه لا في المتعلق.

وعليه حمل التكليف المشروط قبل تحقق شرطه ، والأحكام في أول البعثة ، حيث ظهرت بالتدريج ، والأحكام المودعة عند الحجة (عجل الله فرجه) التي يكون هو المظهر لها وغيرها.

وأما الحكم الفعلي فهو الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر ، الناشئ عن الأمر والنهي حقيقة ، المسبب عن الإرادة والكراهة ، والمستتبع للعمل ، والموضوع للتنجز والمعصية ، سواء كان ناشئا عن مصلحة في نفسه ، أم عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه غير مزاحمة بما يمنع من تشريع الحكم على طبقها.

وأما الحكم المنجز فهو الحكم الفعلي البالغ مرتبة الداعوية العقلية ، الفعلية بسبب ارتفاع العذر عن مخالفته لوصوله وجدانا أو تعبدا أو لكونه موضوعا للأصل التنجيزي.

هذا ما تيسّر لنا الاطلاع عليه من كلماته المتفرقة في الكفاية.

٩١

ويشكل : بأن الملاكات الدخيلة في جعل الأحكام وإن كانت مختلفة من حيثية قيامها بنفس جعل الحكم أو بمتعلقه بنحو الاقتضاء ، مع وجود المزاحم فيه أو بدونه ، ومع وجود المانع الخارجي من تشريع الحكم على طبقها ـ الذي قد يلزم بتشريع حكم آخر ـ أو بدونه ، إلا أن الظاهر أنها لا تصلح لتشريع الأحكام وجعلها ، إلا إذا كانت موردا للغرض فعلا بنحو يستتبع السعي نحوها بتشريع الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر ، والصالح لترتب العمل عليه ، لعدم المزاحم لها في المتعلق وعدم المانع من تشريع الحكم على طبقها ، أما بدون ذلك فلا جعل وجدانا ، ولا حكم بأي مرتبة فرضت ، لعدم الأثر المصحّح لجعله بعد عدم ترتب العمل عليه ، وعدم كونه موضوعا للطاعة والمعصية والعقاب والثواب.

وأما ما تكرّر في كلماتهم في مقام الجمع بين الأدلة من حمل الدليل على الحكم الاقتضائي في بعض الموارد ، الراجع إلى ثبوت الحكم من حيثية العنوان المأخوذ فيه ، وإن لم يكن فعليا لوجود المانع ، فهو لا يرجع إلى جعل حكم اقتضائي يعم حال وجود المانع ثبوتا ، بل إلى بيان حال العنوان إثباتا وأن من شأنه أن يستتبع حكما فعليا لو لم يبتل بالمانع ، فمع ابتلائه بالمانع لا حكم اقتضائي على طبقه ، ولعل ذلك هو مراده من الحكم الاقتضائي ، كما قد يناسبه ما يأتي منه في حاشية الرسائل.

نعم ، الغرض الداعي لجعل الحكم تارة : يكون فعليا ، فيستلزم الخطاب بالحكم التنجيزي. واخرى : يكون منوطا بأمر غير متحقق فعلا فلا مجال للخطاب بالحكم إلا معلقا على ما انيط به الغرض ، ويكون هو موضوع الحكم ، كما في القضية الشرطية.

٩٢

وقد وقع الكلام بينهم في أن الخطاب بالنحو الثاني هل يستتبع جعلا ووجودا فعليا لحكم تعليقي يترتب العمل عليه بعد تحقق الشرط ، بحيث يكون وجود الشرط ظرف العمل بالحكم الموجود سابقا ، من دون أن يكون سببا لفعلية الحكم ، أو لا؟ بل لا يكون للحكم وجود فعلي جعلي إلا بتحقق ما علق عليه ، وليس مفاد القضية الشرطية إلا الكشف عن ذلك.

ولا مجال للبناء على استتباع الشرطية جعل حكمين تعليقي مقارن لإنشائها ، وفعلي عند تحقق الشرط. وقد أفضنا الكلام في ذلك عند الكلام في استصحاب الحكم عند الشك في نسخه.

وكيف كان ، فليس في المقام إلا إنشاء الحكم معلقا على موضوعه لو لم يكن فعليا ، ثم فعليته بنحو ما على تقدير فعلية موضوعة ، والحكم المجعول واحد تابع لأحدهما ، من دون أن يكون هناك حكم سابق على ذلك بالرتبة تابع لنحو خاص من الملاك يسمى بالحكم الاقتضائي أو الإنشائي.

وأما الملاك فهو من الامور التكوينية التي لا دخل للحاكم بها ولا تكون من مراتب حكمه.

وأما الأحكام الشرعية في أول البعثة فليس لها أي نحو من الوجود ، ولم يكن جعلها إلا تدريجيا حسب اختلاف أزمنة الخطاب بها.

كما أن الأحكام التي تظهر على يدي الحجة (عجل الله فرجه) إما أن تكون تعليقية على موضوعات خاصة لا تكون فعلية إلا بظهوره ، أو أنها تشرع حينئذ ، وإن كان (عليه السلام) عالما من أول الأمر بتشريعها في وقتها آخذا لها من آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، وبهذا يصح إسنادها للنبي (صلى الله عليه وآله) ولا تنافي ما تضمّن عدم نسخ

٩٣

شريعته ، وأن حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الأعلام من محشي الكفاية من الاعتراف بمرتبتين للحكم ، وهما الإنشاء والفعلية ، بدعوى : كونهما مجعولين تشريعا.

حيث ظهر مما سبق أن المجعول ليس إلا شيء واحد ، وهو الحكم التعليقي الذي هو مفاد القضية الشرطية ، أو الفعلي التابع لفعلية الموضوع ، لا كلا الأمرين ، وإن كان لهما نحو من الوجود.

هذا ، وقد قال المحقق الخراساني (قدس سره) في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من حاشيته على الرسائل : «فاعلم أن الحكم بعد ما لم يكن شيئا مذكورا يكون له مراتب في الوجود :

أولها : أن يكون له شأنه ، من دون أن يكون بالفعل بموجود أصلا.

ثانيها : أن يكون له وجود إنشاء من دون أن يكون له بعثا وزجرا وترخيصا فعلا.

ثالثها : أن يكون له ذلك مع كونه كذلك فعلا ، من دون أن يكون منجزا يعاقب عليه.

رابعها : أن يكون له ذلك كالسابقة مع تنجزه فعلا. وذلك لوضوح إمكان اجتماع المقتضي لإنشائه وجعله مع وجود مانع أو فقد شرط ، كما لا يبعد أن يكون ذلك قبل بعثته (صلى الله عليه وآله) ، واجتماع العلة التامة له مع وجود المانع من أن ينقدح في نفسه البعث أو الزجر ، لعدم استعداد الأنام لذلك ، كما في صدر الإسلام بالنسبة إلى غالب الأحكام».

وقد ادعى بعد ذلك أن الحكم المشترك بين الكل ولا يختلف فيه العالم

٩٤

والجاهل بالإجماع والضرورة هو الحكم بالمرتبتين الاوليين ، وأن الثالثة ـ كالرابعة ـ تختلف بحسب الأزمان والأحوال والأشخاص ، مدعيا إمكان دعوى الإجماع والضرورة على ذلك.

والظاهر أن قوله : «إمكان اجتماع المقتضي لإنشائه ...» بيان للمرتبة الأولى ، وهي الشأنية ، فيناسب ما تقدم في الحكم الاقتضائي. وقوله : «واجتماع العلة التامة ...» بيان للمرتبة الثانية وهي الإنشائية ، فيناسب ما تقدم في الحكم الإنشائي.

ولا يخفى أن ما ذكره في المرتبة الأولى من أنه لا وجود للحكم فيها أصلا لا يناسب جعلها من مراتب وجوده بعد أن لم يكن شيئا مذكورا.

كما أنه مما تقدم من عدم جعل حكم آخر غير الحكم الفعلي يظهر أنه لا واقع للمرتبة الثانية.

وما ذكره من أنها هي المشتركة بين الكل دون الحكم الفعلي راجع للتصويب الباطل بالاجماع والضرورة.

ولعل الملجئ له لذلك هو محاولة الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى مع ما قد ينفع في المقام.

وبهذا ينتهي الكلام في حقيقة الحكم الشرعي مقدمة لعلم الاصول ، ويقع الكلام في المباحث الاصولية بقسميها : النظرية المحضة ، والناظرة لمقام العمل ، ونستمد منه تعالى العون والتأييد ، والتوفيق والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٩٥
٩٦

٩٧
٩٨

القسم الأول

في الاصول النظرية

وقد سبق أن البحث فيها عن مدركات واقعية لا تبتني بنفسها على العمل ، وإن ترتب عليها بضميمة أمر خارج عنها. كما تقدّم أنها تنحصر بمباحث الألفاظ ومباحث الملازمات العقلية.

وحيث كان البحث في الألفاظ مباينا للبحث في الملازمات العقلية سنخا ومخالفا له في المباني ، كان المناسب فصلهما وجعل كل منهما في مقام مختص به.

٩٩
١٠٠