المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

يدركها العقل في المفاهيم المذكورة ملازمة لصدقها.

بقي شيء :

وهو أنه بناء على ما سبق في الأمر الثالث من أن التعبد الظاهري إنما يكون بلحاظ العمل المترتب بالنظر للقضايا الشرعية ، بلا توسط أمر خارج عنها ـ إما لكون الأمر المتعبد به مجعولا للشارع يترتب عليه العمل بلا واسطة ، أو لكونه موضوعا لحكم شرعي ، وإن لم يكن بنفسه مجعولا للشارع ـ فلا ينبغي التأمل في عدم إمكان التعبد الظاهري بالامور الحقيقية التكوينية إلّا إذا كانت موضوعا للأحكام الشرعية ، حيث يترتب عليها العمل بلحاظها ، دون العمل المترتب عليها بلا واسطة ، لعدم كونه مترتبا بلحاظ قضية شرعية.

كما لا ينبغي التأمل في شمولها للامور الاعتبارية بلحاظ العمل المترتب عليها بلا واسطة ، كالحجية ـ بناء على جعلها شرعا ـ حيث يجوز الاعتماد عليها عقلا في مقام التعذير ، وتجب متابعتها في مقام التنجيز ، فضلا عن العمل المترتب عليها بواسطة حكمها الشرعي ، كالطهارة والنجاسة ـ بناء على جعلهما شرعا ـ حيث يكونان موضوعا لأحكام تكليفية تكون موردا للعمل عقلا.

وأما الامور الانتزاعية ، فالظاهر أنها كالامور الخارجية ، فيصح التعبد بها بلحاظ العمل المترتب على أحكامها الشرعية ، دون العمل المترتب عليها بلا واسطة.

أما الأول : فلأن لها نحوا من الوجود العرفي في عالمها عرفا ، وإن لم يكن

٦١

خارجيا ولا اعتباريا ، فيصح عرفا أخذ الشارع لها في موضوع أحكامه ، وإذا كانت موضوعا للأحكام الشرعية أمكن التعبد بها بلحاظها.

إن قلت : لما لم يكن لها تقرر في عالم الخارج ولا الاعتبار ، وكانت متقومة باللحاظ من دون أن يكون لها مطابق وراء ذلك ، امتنع أخذها في موضوع الأحكام الشرعية التي تتبع في فعليتها فعلية موضوعاتها ، والتي لا إشكال في فعليتها مع عدم اللحاظ ، فلا بد من كون الموضوع حقيقة هو منشأ الانتزاع ، ويكون هو موضوع التعبد الظاهري إن تمّت فيه شروطه.

قلت : الامور الانتزاعية وإن لم يكن لها نحو من التقرر دقة إلّا أن لها نحوا من التقرر عرفا ، لغافلتهم عن مقتضى الدقة المذكورة ، وقد تقرر في محله أن المعيار في تطبيق أدلة الأحكام الواقعية والتعبدات الظاهرية ليس هو الدقة العقلية المغفول عنها عرفا ، بل النظر العرفي ، بحيث يكون التطبيق بنظرهم حقيقيا لا تسامحيا مجازيا ، فلاحظ.

وأمّا الثاني : فلأنها غير مجعولة شرعا حسب الفرض. نعم ، قد يصح نسبة جعلها للشارع الأقدس بلحاظ جعله لمنشا انتزاعها لو كان أمرا جعليا. لكنه ليس بمعنى كونه مفاد القضية الشرعية التي هي المعيار في شمول أدلة التعبّد الظاهري ، بل بمعنى كونه مسببا توليديا عنها ملازما في الخارج لها ، ومثل هذا لا يكفي في شمول أدلة التعبد ، بل هو نظير الأصل المثبت.

هذا كله في الأمر الانتزاعي المقابل للأمر الحقيقي والاعتباري ، وربما يراد بالأمر الانتزاعي أو العنوان الانتزاعي ما يحكم به أو عليه في كلام الشارع أو المتشرعة ، مع أنه ليس في الحقيقة محكوما به ومجعولا اعتبارا ، ولا محكوما عليه بما له من المفهوم.

٦٢

إما لكونه منتزعا في مرتبة متأخرة عن ورود الحكم ، فلا يكون موضوعا للحكم ، لاستحالة أخذ المتأخر في المتقدم ، كما لا يكون محكوما به ولا مجعولا ؛ لصدقه بمجرد جعل الحكم بلا حاجة إلى جعل آخر ، وإنما يمكن الإخبار به الراجع إلى الإخبار عن الحكم.

وإما لكون المحكوم به أو عليه هو الواقع الخارجي المطابق له بعنوان آخر ، فهو مسوق لمحض الحكاية عن الموضوع بما له من عنوان خاص.

فالغصب قد يحكم عليه بالحرمة ، كما قد يحمل على بعض التصرفات ، مع عدم أخذ عنوان الغصب في موضوع الحرمة بما هو أمر وجودي ذو مفهوم عرفي بسيط ، بل ليس موضوعه إلا التصرف في حق المسلم ونحوه ممن يحترم ما له من دون إذن منه أو ممن يقوم مقامه ، فهو مركب من التصرف في الحق ، وإسلام صاحبه أو نحوه ، وعدم الإذن.

وعنوان الغصب إما أن يراد به التصرف في حق الغير بالنحو المنافي لاحترامه شرعا ، أو هو منتزع من الموضوع المركب المذكور وحاك عنه ، من دون أن يكون موضوعا بمفهومه.

ولازم ذلك عدم جريان التعبد فيه بعنوانه ، لعدم كونه مجعولا شرعا ولا موضوعا للحكم الشرعي ، بل فيما ينتزع منه ، وهو الحكم المجعول شرعا ، أو موضوعه ذو العنوان الخاص.

والظاهر أن الأمر الانتزاعي قد يراد منه في المقام هذا المعنى ، كما قد يراد منه المعنى السابق ، كما يتضح عند الدخول في محل الكلام.

إذا عرفت هذا ، فالكلام في حقيقة الأحكام الوضعية يكون في ضمن مسائل :

٦٣

المسألة الاولى : الظاهر أن الأحكام الوضعية التي اخذت في موضوع الأحكام الشرعية الاخرى : كالحرية ، والرقية ، والزوجية ، والرهنية ، والملكية ، والوقفية ، وغيرها من الامور الاعتبارية المجعولة للشارع الأقدس تأسيسا ، أو إمضاء لما عليه العرف ؛ لظهور أدلتها في ذلك ، ولا سيّما ما كان ثبوته تبعا لإنشائه ممن له السلطنة شرعا في العقود والإيقاعات ، لوضوح أن قصد المنشئ لها إيجادها اعتبارا ، فيكون ذلك هو الظاهر من أدلة النفوذ والإمضاء الشرعية ، وهو المطابق للمرتكزات المتشرعية ، بل العرفية في كثير منها.

خلافا لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) (١) قال : ـ في تعقيب حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب ، عند الكلام في حقيقة الصحة والفساد ، بعد أن ذكر أنهما في المعاملات عبارة عن ترتب الأثر وعدمه ـ «فإن لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي ، كالبيع لإباحة التصرفات والنكاح لإباحة الاستمتاعات ، فالكلام فيها يعرف مما سبق في السببية وأخواتها.

وإن لوحظت سببا لأمر آخر ، كسببية البيع للملكية ، والنكاح للزوجية والعتق للحرية ، وسببية الغسل للطهارة ، فهذه الامور بنفسها ليست أحكاما شرعية. نعم ، الحكم بثبوتها شرعي ، وحقائقها إمّا امور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية ، كما يقال : الملكية كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب ، والطهارة نقيض النجاسة. وإما امور واقعية كشف عنها الشارع».

ولا يخفى أن عدم كون هذه الامور أحكاما شرعية لا يناسب كون الحكم بثبوتها شرعيا ، إلا أن يراد بالحكم بثبوتها الإخبار عنه ، كما أن التعبير

__________________

(١) الشيخ مرتضى الأنصاري. (منه).

٦٤

عنها بالاعتبارية مبني على التوسع في معنى الاعتبار ، وتعميمه للانتزاع بالمعنى الأخير الذي أشرنا إليه في آخر الأمر الرابع ، كما يتضح بملاحظته.

وكيف كان فلا مجال لما ذكره (قدس سره) بعد ما ذكرنا من ظهور أدلة هذه الامور في جعلها اعتبارا.

على أن كونها امورا انتزاعية من الأحكام التكليفية الثابتة في مواردها لا يناسب أخذها في أدلة تلك الأحكام موضوعا لها. لما ذكرناه آنفا من امتناع موضوعية العنوان المنتزع من التكليف له.

ولا مجال لاحتمال الإشارة بها لما هو الموضوع بعنوان آخر ، لأنه ـ مع مخالفته لظاهر أخذها في أدلة تلك الأحكام ـ موقوف على وجود عنوان صالح للموضوعية مطابق لها مدرك للعرف ، وإلا لم يكن عمليا ، لعدم إدراك موضوعه ، ومن الظاهر أنه لا وجود للعنوان المذكور.

كما لا يناسب عدم اتفاق أفراد الحكم الوضعي وأحواله في الأحكام التكليفية ، واشتراك أكثر من حكم وضعي في بعض الأحكام التكليفية ، فالزوجية لا تستلزم جواز الاستمتاع ، بل يحرم الاستمتاع بالزوجة حال الإحرام ، كما لا تختص به ، بل يشاركها فيه ملك اليمين ، وملك اليمين إنما يقتضي جواز الاستمتاع إذا كان المالك ذكرا والمملوك انثى دون بقية الصور.

كما ان الملك لا يقتضي جواز التصرف دائما ، فيحرم التصرف في العين المرهونة ، ولا يختص به ، بل يشاركه فيه بعض أفراد الوقف ، بل المباحات الأصلية التي لا تكون موردا لحكم وضعي.

فلو كان عنوان الحكم الوضعي منتزعا من الحكم التكليفي لزم اختلاف مفهومه وحقيقته باختلاف الأحكام التكليفية في مورده ، كما يلزم صدقه في

٦٥

جميع موارد ثبوت الحكم التكليفي المنتزع منه ، مع وضوح بطلان ذلك.

وقد اعترف (قدس سره) بذلك في النجاسة عند الكلام في حقيقتها من كتاب الطهارة ، قال : «ويظهر من المحكي عن الشهيد في قواعده أن النجاسة حكم الشارع بوجوب الاجتناب استقذارا واستنفارا ، وظاهر هذا الكلام أن النجاسة عين الحكم بوجوب الاجتناب ، وليس كذلك قطعا ، لأن النجاسة مما يتصف به الأجسام ، فلا دخل له في الأحكام. فالظاهر أن مراده أنها صفة انتزاعية من حكم الشارع بوجوب الاجتناب للاستقذار والاستنفار.

وفيه : أن المستفاد من الكتاب والسنة أن النجاسة صفة متأصلة يتفرع عليها تلك الأحكام ، وهي القذارة التي ذكرناها ، لا أنها صفة منتزعة منها ، كالشرطية والسببية والمانعية».

وأما كونها امورا واقعية كشف الشارع عنها فهو خلاف المقطوع به في أكثر تلك الأحكام ، حيث لا يشك في تبعيتها حدوثا وارتفاعا للانشاء والجعل ونحوهما ، من دون أن يكون لها ما بإزاء في الخارج.

نعم ، قد يعتد بالاحتمال المذكور في خصوص الطهارة والنجاسة ، لعدم تبعيتهما للإنشاء ليدرك العرف اعتباريتهما ، بل هما تابعان للامور التكوينية الذاتية كالبولية ، أو العرضية كالملاقاة للنجاسة ، حيث يمكن دعوى تأثيرها لهما بلا توسط الجعل الشرعي.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من منع ذلك ، لبداهة أن الطهارة والنجاسة بمعنى النظافة والقذارة من الامور الاعتبارية العرفية ، كما يشاهد أن العرف والعقلاء يستقذرون بعض الأشياء دون بعض ، غايته أن الشارع قد أضاف بعض الأفراد لذلك مما لا يستقذره العرف ، وهو ناشئ عن

٦٦

تخطئته للعرف ، مع كون المفهوم عرفيا.

ففيه : أن نظافة الشيء وقذارته العرفيتين أمران واقعيان يدركهما العرف فيه فيميل إليه ويقبله ، أو يتنفر عنه ويستقذره ، وليستا من الامور الجعلية التابعة لاعتبار من بيده اعتباره.

غايته أن تبعية الميل أو الاستقذار للأمر الواقعي المدرك ليس لكونه علة تامة لهما ، بل قد يكون للعادة والتنفير دخل فيهما ، ولذا قد يختلفان موردا باختلاف المجتمعات والأشخاص ، وذلك إنما يقتضي كونهما إضافيين لا اعتباريين.

كما أن عدم اختصاصهما بالشرع ووجودهما عند العرف لا يستلزم كونهما اعتباريين ، إذ قد يستقل العرف بإدراك الامور الواقعية والتأثر بها.

بل ما ذكره (قدس سره) من فرض التخطئة لا يناسب الامور الاعتبارية ، لأن التخطئة إنما تكون في الامور الواقعية التي لها واقع محفوظ ويختلف في تشخيصها وإدراكها ، أما الامور الاعتبارية فالاختلاف فيها لا يرجع للتخطئة ، بل لمحض عدم اعتبار أحد الحاكمين لما اعتبره الآخر.

على أن المرتكزات الشرعية في النجاسة والطهارة ، والعرفية في النظافة والقذارة قاضية باختلاف الاوليين عن الاخريين سنخا وتباينهما حقيقة ، لأنها وإن اشتركت في اقتضاء الاجتناب وعدمه عملا ، إلا أن ترتبهما على الأولين راجع إلى حسن الاجتناب بنحو يقتضي المدح ويبعد عن الذم ، وعلى الأخيرين راجع لمحض ملائمة النفس من دون أن يستوجب مدحا أو يدفع ذما.

وقد يشعر باختلاف سنخهما وحقيقتهما ما في صحيح زرارة عن أبي

٦٧

عبد الله عليه السلام قال : «إن سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي وأنت في الصلاة فلا تغسله ... فإنما ذلك بمنزلة النخامة. وكلّ شيء خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل أو من البواسير ، وليس بشيء ، فلا تغسله من ثوبك إلا أن تقذره» (١) ، لظهوره في إقرار الغسل للاستقذار وعدم الردع عنه ، لعدم قذارة الشيء واقعا ، المستلزم لعدم الموضوع له.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن كون الطهارة والنجاسة من الامور الواقعية لو تمّ في الواقعيتين منهما لا يتم في الظاهريتين ، بل لا إشكال في كونهما مجعولين للشارع الأقدس.

لاندفاعه أولا : بأن الحكم بالطهارة والنجاسة ظاهرا لا يرجع إلى جعلهما في قبال الواقع ، لينظر في حقيقتهما ، بل إلى التعبد بهما في مقام الإثبات والعمل بما لهما من المعنى الواقعي ، كالتعبد الظاهري بالموضوعات الخارجية من الحياة والموت وخروج المني وغيرها ، على ما ذكرناه في حقيقة الحكم الظاهري ، فليس في المقام إلا الامور الواقعية ـ الخارجية أو الاعتبارية ـ التي تدرك بالوجدان تارة ، ويتعبد بها ظاهرا في مقام العمل اخرى.

وثانيا : بأنه لو كان مرجع التعبد بالشيء ظاهرا إلى جعله فهو إنما يمكن في التعبد بالأحكام القابلة للجعل ، أما الامور الواقعية ـ كالخمرية والإسكار ـ فلا يرجع التعبد بها إلى جعلها ، لتبعيتها لأسبابها التكوينية وعدم قابليتها للجعل التشريعي ، بل لا بد من رجوعه لجعل أحكامها ، فلو تمّ كون الطهارة والنجاسة الواقعيتين من الامور الخارجية غير الجعلية فاللازم رجوع التعبد بهما إلى جعل أحكامهما ، لا جعلهما بأنفسهما.

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب : ١٢ من أبواب نواقض الوضوء ، حديث : ٢.

٦٨

ولعله لأجل ذلك حكي عن شيخنا الأعظم (قدس سره) الجزم بأن الطهارة والنجاسة من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع.

وإن كان الظاهر خلوه عن الدليل ، غاية الأمر التوقف والتردد في ذلك. ولعلّه لذا كان الظاهر من كلامه الأول المتقدم التردد بين كونهما انتزاعيتين وكونهما واقعيتين ، ومن كتاب الطهارة ـ قبل الكلام الثاني المتقدم ـ التردد بين كونهما حقيقيتين وكونهما اعتباريتين.

بل الإنصاف أن البناء على كونهما اعتباريتين جعليتين هو الأنسب بملاحظة الأدلة ، كصحيح داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسّع عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض ، وجعل لكم الماء طهورا ، فانظروا كيف تكونون؟!» (١). لظهوره في كون طهورية الماء حكما امتنانيا ، فيلزم كون الطهارة المترتبة عليها كذلك ، لامتناع ترتب الأمر التكويني على الأمر التشريعي.

وقريب منه في ذلك قوله عليه السلام : ـ في الصحيح ـ «ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طورا» (٢) ، حيث يلزم حمله على الجعل التشريعي دون التكويني بقرينة السياق ، لأن طهورية التراب تشريعية حسبما يظهر من بعض النصوص (٣). فتأمل.

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب : ١ من أبواب الماء المطلق ، حديث : ٤.

(٢) الوسائل ج ١ ، باب : ١ من أبواب الماء المطلق ، حديث : ١.

(٣) راجع الوسائل ج ٢ ، باب : ٧ من أبواب التيمم.

٦٩

وكذا ما ورد في انتضاح ماء غسل الجنابة في الإناء من نفي البأس به مع الاستشهاد بقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) ، لوضوح أن الحرج لا دخل له في الأمور الخارجية.

وما في رواية جابر في الطعام الذي تقع فيه الفأرة من النهي عن أكله ، حيث قال السائل : الفأرة أهون من أن أترك طعامي لأجلها ، فقال عليه السلام : «إنك لم تستخف بالفارة ، وإنما استخففت بدينك ، إن الله حرّم الميتة من كلّ شيء» (٢) ، بناء على أن المراد بالتحريم النجاسة لمناسبتها لمورد الرواية.

على أن ملاحظة موارد ثبوتهما تبعّد كونهما واقعيتين تكوينيتين لخصوصية في الجسم المعروض لهما ، وتقرّب كونهما اعتباريتين جعليتين تابعتين للملاكات المختلفة الملحوظة للشارع ولو كانت خارجة عن خصوصية الجسم ، كالتنفير والحرج ، فماء الاستنجاء طاهر أو لا ينجّس من بين الغسالات ، والدم المتخلّف في الذبيحة طاهر من بين دمائها ، وبعض الامور تطهر بالتعبية ، والكافر وما يلحق به قد اشتهر القول بنجاستهم عينا ، إلى غير ذلك.

هذا ، وقد ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن نجاسة ما يستقذر عرفا حقيقية واقعية ، بخلاف غيره ، حيث لا تكون نجاسته إلا ادعائية تنزيلية.

وهو كما ترى ـ مع مخالفته لظاهر الأدلة ـ يبتني :

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب : ٩ من أبواب الماء المضاف ، حديث : ١ و ٥.

(٢) الوسائل ج ١ ، باب : ٥ من أبواب الماء المضاف ، حديث : ٢.

٧٠

أولا : على مطابقة النجاسة للقذارة العرفية مفهوما ، وقد سبق المنع منه.

وثانيا : على اطلاع العرف على جميع القذارات ، بحيث يكشف عدم استقذارهم للشيء عن عدم قذارته ، ولا مجال للبناء عليه ، لإمكان اطلاع الشارع على ما يخفى على العرف من القذارات ، ولا سيما مع اختلاف الأعراف فيها.

على أن لازمه البناء على نجاسة المستقذرات العرفية وترتب أحكام النجاسة عليها ، عملا بعموماتها ، إلا ما دلّ الدليل على عدم ترتب الأحكام عليه ، فيخرج عن العمومات تخصيصا لا تخصصا ، ولا يظن من أحد البناء على ذلك.

مضافا إلى أن بعض النجاسات غير المستقذرة لم تستفد نجاستها من الحكم بها بعنوانها ، ليتعيّن حمله على الادعاء والتنزيل بلحاظ جميع الأحكام بعد تعذر حملها على الحقيقة ؛ لفرض عدم استقذارها عرفا ، بل مما تضمّن بعض آثار النجاسة ولوازمها العرفية ، كالأمر بالغسل والإهراق ونحوهما ، فمع فرض عدم حملها على النجاسة لا وجه للتعدي إلى سائر الأحكام. فتأمل جيدا.

ثم أن ما ذكرنا في وجه كون النجاسة والطهارة الخبثية اعتباريتين يجري نظيره في الحدث الأكبر والأصغر ، والطهارة الحدثية المائية والترابية ، فإن سبر النصوص قاض بتبعيتهما للجعل الشرعي تبعا للملاكات الخارجة عن خصوصية البدن ، كما يظهر مما تضمّن طهورية الماء والتراب (١) ، وما تضمّن

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١ ، باب : ١ من أبواب الماء المطلق ، وج ٢ باب : ٧ من أبواب التيمم.

٧١

تعليل تخفيف الوضوء بأن الفرائض إنما وضعت على قدر أقل الناس طاقة (١) ، وتعليل غسل أعضاء الوضوء ومسحها بأن آدم (عليه السلام) قد باشر بها الخطيئة (٢) ، وتعليل عدم وجوب الغسل من البول والغائط بأنه شيء دائم لا يمكن الاغتسال منه كلما يبتلى به ، و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٣) ، وما تضمن أن الوضوء حدّ من حدود الله ليعلم من يطيعه ومن يعصيه ، وإن المؤمن لا ينجسه شيء (٤) ، وأن غسل الجنابة أمانة ائتمن الله عليها عبيده ليختبرهم بها (٥).

بل هو المقطوع به بلحاظ الاكتفاء في أسباب الطهارة بالميسور من ذي الجبيرة ونحوه ، وبما تقتضيه التقية ، والانتقال للطهارة الترابية عند تعذر المائية ، وغير ذلك.

ونظيرهما ـ أيضا ـ التذكية ، للاكتفاء فيها بالميسور في كثير من الموارد ، واعتبار بعض ما يقطع بعدم دخله في خاصّية الحيوان المذبوح كالتسمية والاستقبال ، مع سقوطهما في بعض الحالات من نسيان أو ضرورة ، أو نحوهما إلى غير ذلك.

المسألة الثانية : الظاهر أن الحجية من الامور الاعتبارية المجعولة بنفسها ، كما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره).

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب : ١٥ من أبواب الوضوء ، حديث : ١٣.

(٢) الوسائل ج ١ ، باب : ١٥ من أبواب الوضوء ، حديث : ١٦.

(٣) الوسائل ج ١ ، باب : ٣ من أبواب الجنابة ، حديث : ٤.

(٤) الوسائل ج ١ ، باب : ٥٢ من أبواب الوضوء ، حديث : ١.

(٥) الوسائل ج ١ ، باب : ١ من أبواب الجنابة ، حديث : ١٤.

٧٢

ومرجعها إلى كون الشيء بنحو صالح لأن يعتمد عليه في إحراز الواقع والبناء عليه في مقام العمل ، ويترتب عليها وجوب العمل بالحجة عقلا. لا أن المجعول للشارع هو وجوب العمل بالحجة ، أو جوازه طريقا للواقع الذي قامت عليه ، مع كون الحجية منتزعة من ذلك من دون أن تكون مجعولة بنفسها.

ويشهد لما ذكرنا المرتكزات العقلائية ، لارتكاز أن اعتماد العقلاء على الحجج التي عندهم في أعمالهم التابعة لأغراضهم الشخصية بعين ملاك اعتمادهم عليها في خروجهم عن تكاليفهم المولوية ، الشرعية أو العرفية ، مع وضوح عدم التكليف الطريقي في مورد الأغراض الشخصية. بل قد لا يحرز في مورد التكاليف العرفية ، كما لو احتمل غفلة المولى العرفي عن قيام الحجة على التكليف أو على موضوعه ، ليلزم بالعمل بها تبعا لما عليه العقلاء أو يردع عنها.

ويناسب ذلك التوقيع الشريف : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله» (١) ، لظهوره في كون الحجية بنفسها وعنوانها من الامور المتقررة الثابتة ، كما هو الحال في سائر ما تضمن عنوان الحجية مما ورد في أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم ، وعبر عنها في الكتاب الشريف بالسلطان.

بل لو كان المراد بالرجوع لرواة الحديث تطبيق العمل على قولهم ، لا سؤالهم مقدمة لذلك ، كان التوقيع صريحا في ترتب وجوب العمل على الحجية ، لا انتزاعها منه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١١ من صفات القاضي من كتاب القضاء ، حديث : ٩.

٧٣

هذا ، وقد نوقش في ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا بعد ما ذكرنا ، وبعد ما يأتي في أول الكلام في مسألة قيام الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي ، حيث تعرّضنا هناك لمفاد جميع الأحكام الظاهرية حسبما تقتضيه مناسبة ذلك المقام.

كما يأتي الكلام في حقيقة الحجية التخييرية عند الكلام في مقتضى الأصل في المتعارضين من مبحث التعارض ، لمناسبة يقتضيها ذلك المقام ، ولا مجال معه لإطالة الكلام في ذلك هنا.

بقي شيء

وهو أن احتياج الحجية للجعل إنما هو في غير الحجج الارتكازية ، أما الحجج الارتكازية فهي بسبب الارتكاز المذكور الناشئ عن إدراك خصوصية فيها مقتضية للعمل بها لا تحتاج إلى جعل الحجية لها حتى إمضاء ، ولذا يصح الاعتماد عليها في مقام التعذير ، ويجب العمل بها في مقام التنجيز ، حتى مع احتمال غفلة المولى ـ لو كان ممن يمكن الغافلة في حقه ـ عن الحاجة إليها بنحو لا يحرز إمضاؤه لحجيتها.

نعم ، للمولى الردع عنها ، وبلحاظ ذلك كانت تابعة للمولى ، لأنه إذا كان رفعها بيده كان بقاؤها تابعا له. وبذلك فارقت العلم.

ويأتي تمام الكلام في ذلك عند الاستدلال بالسيرة على حجية خبر الواحد إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة : وقع الكلام بينهم في حقيقة السببية ، والشرطية ، والمانعية ، والرافعية ، ونحوها مما يرجع إلى مقام العلية والتأثير في الشيء وجودا وعدما ، وهل أنها من الامور التكوينية أو المجعولة بالأصل أو التبع

٧٤

أو المنتزعة؟

ولا كلام فيما لا تعلق له منها بالحكم الشرعي ولا بمتعلقه ، بل الامور التكوينية ، كسببية النار للإحراق ، وشرطية الجفاف فيه ، ومانعية الرطوبة منه ، ورافعية الدواء للألم ، إذ لا إشكال في عدم تبعيتها للجعل والتشريع الذي هو المهم في المقام ، والذي هو المعيار في كون الشيء حكما ، بل هي من الامور الانتزاعية ، التي تقدم الكلام فيها في الأمر الرابع ، وأن منشأ انتزاعها نحو الترتب بين طرفيها التابع لخصوصية ذاتيهما ، من دون أن تستقل بالجعل التكويني ، فضلا عن التشريعي.

وكأن ذلك هو مراد بعض الأعيان المحققين من دعوى كونها من الامور الحقيقية غير التابعة للجعل التكويني ، فضلا عن التشريعي.

وإنما الكلام فيما له نحو تعلق بالحكم ، حيث يكن تابعا للجعل في الجملة ، وهو ..

تارة : يلحظ بالإضافة إلى نفس الحكم التكليفي أو الوضعي ، كسببية الاستطاعة لوجوب الحج ، والعقد للزوجية ، وشرطية البلوغ لتكليف الإنسان أو لنفوذ عقده ، ومانعية الحيض من وجوب الصلاة ، والرهن من نفوذ العقد على العين المرهونة ، ورافعية الاضطرار للحرمة ، والإبراء لانشغال الذمة بالدّين.

واخرى : يلحظ بالإضافة إلى المكلف به ، كسببية الوضوء والغسل للطهارة ، وشرطية الستر للصلاة ، ومانعية النجاسة منها ، وقاطعية الكلام لها ونحو ذلك.

فالكلام في مقامين ..

٧٥

المقام الأول : في ما يكون بالإضافة إلى نفس الحكم.

وقد أصرّ شيخنا الأعظم (قدس سره) في تعقيب حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب على كونه منتزعا من جعل الحكم على النحو الخاص ، من دون أن يكون مجعولا مستقلا في قباله ، ولا تابعا في الجعل له ، فضلا عن أن يكون هو المجعول الأصلي ويكون الحكم تابعا له. وحكى عن شرح الزبدة نسبة ذلك للمشهور ، وعن شرح الوافية للسيد صدر الدين أنه الذي استقر عليه رأي المحققين.

مستدلا عليه بالوجدان ، لأن الحاكم لا يجد من نفسه جعل أمر غير الحكم ، ولا يراد من بيان هذه الامور لو وقعت في لسان الحاكم أو من يحكي عنه إلا بيان نحو جعل الحكم ، من دون أن يقصد بيان جعلها.

نعم ، لا يراد بذلك اتحادهما مفهوما ، إذ لا ريب في أنهما محمولان مختلفان الموضوع.

لكن حكي عن بعضهم البناء على كون السببية مجعولة ، منهم المحقق الأعرجي في شرح الوافية ، مدعيا بداهة اختلاف التكليف عن الوضع وعدم رجوع أحدهما للآخر ، وإن كانا متلازمين في مقام الجعل فيكون جعل أحدهما مستلزما لجعل الآخر ، قال بعد بيان ذلك : «فقول الشارع : دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة ، والحيض مانع منها ، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفا ، وهو إيجاب الصلاة عند الزوال ، وتحريمها عند الحيض ، كما أن قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(١) و «دعي الصلاة أيام اقرائك»

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٨.

٧٦

خطاب تكليفي وإن استتبع وضعا ، وهو كون الدلوك سببا والإقراء مانعا.

والحاصل : أن هناك أمرين متباينين كل منهما فرد للحكم ، فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام».

وقد جرى على ذلك بعض الأعيان المحققين (قدس سره) مدعيا أنه بعد انتزاع كل من السببية والحكم من الجعل المتضمن لإناطة الحكم بموضوعه لا بد من البناء على جعلهما معا بجعل واحد ، من دون وجه لدعوى انتزاعية أحدهما من الآخر الذي يختص بالجعل.

أقول : جعل التكليف والامور الاعتبارية الوضعية إنما يصح بلحاظ الأثر والعمل المترتب عليها ولو في الجملة ، وإلا كان جعلها لغوا غير مصحح لاعتبارها بنظر العقلاء.

ومن هنا لا مجال لدعوى اعتبار كل من الحكم والسببية وجعلهما في عرض واحد ، لكفاية أحدهما في ترتب الآثار العملية المهمّة بلا حاجة إلى انضمام جعل الآخر إليه.

بل لا بد إما من جعل أحدهما في طول الآخر للترتب بينهما في الجعل ، بأن يدعى ـ مثلا ـ عدم جعل الحكم الذي هو مورد الآثار إلا في مرتبة متأخرة عن جعل السببية ، فلا بد من جعلها مقدمة لجعله ، وإما من الاقتصار في الجعل على السببية ، لكونها مورد الآثار دون الحكم ، بل يكون منتزعا منها ، من دون أن يكون له وجود اعتباري جعلي مباين لها ، أو الاقتصار في الجعل على الحكم ، لكونه مورد الآثار دون السببية ، بل تكون منتزعة منه ، كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره.

ولا مجال للأول ، لعدم ترتب الحكم على السببية الجعلية لا تكوينا

٧٧

ولا تشريعا.

أما الأول فلامتناع الترتب التكويني بين الجعليات ، والالتزام بترتب التكليف عليها رأسا بلا توسط الجعل ـ مع كونه خروجا عن المدعى من كونه جعليا ـ مخالف للمرتكزات العقلائية في تبعية تكليف المولى لجعله.

وأما الثاني فلأن الترتب التشريعي بين الأمرين الجعليين فرع إمكان التفكيك بينهما ، كالزوجية وجواز الاستمتاع ، مع بداهة تعذر ذلك في المقام.

كما لا مجال للثاني ، لظهور الأدلة طبقا للمرتكزات العقلائية والعرفية في جعل الحكم بنفسه. كما أن التكليفي منه هو الموضوع للإطاعة والمعصية بمقتضى المرتكزات العقلائية ، والوضعي منه هو الموضوع للأحكام الشرعية في ظاهر الأدلة.

بل لا معنى لجعل السببية دون الحكم بعد كونها نحو نسبة قائمة به وبالسبب.

فالمتعين الثالث ، وهو اختصاص الجعل الاعتباري بالحكم وكون السببية والشرطية ونحوهما امورا انتزاعية ، لكن لا بمعنى مطابقتها للحكم مفهوما ، لبداهة التباين المفهومي بينهما ، كما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) ، ولا بمعنى كونها منتزعة من الحكم بنفسه ، لأنها إضافة قائمة به وبالسبب أو نحوه.

بل هي منتزعة من خصوصية جعله المتضمن للترتب بينهما والمستفاد من الكبرى الشرعية ، ومجرد انتزاعها من الخطاب به والجعل المتضمنين له ـ كما سبق من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) ـ لا يقتضي جعلها اعتبارا مثله ، لما تقدم في الأمر الرابع من أن الامور الانتزاعية ليس لها وجود

٧٨

خارجي أو اعتباري في قبال منشأ انتزاعها ، بل ليس الموجود في الخارج أو في عالم الاعتبار إلا منشأ انتزاعها ، ومنه ينتزع ذهنا النسب المختلفة المتقابلة وغيرها ، فكما تنتزع من جعل الحكم بالنحو الخاص السببية تنتزع المسببية ، وكما تنتزع من نحو الترتب بين العلة والمعلول العلية تنتزع المعلولية ، إلى غير ذلك مما تقدّم.

وإنما يصح نسبتها للجاعل والحكم بتبعيتها للجعل بلحاظ جعله لمنشا انتزاعها. فلاحظ ما سبق في الأمر الرابع.

أما المحقق الخراساني (قدس سره) فقد ذكر أنه لا مجال لانتزاع السببية ونحوها من الحكم لتأخره عن السبب فلا يكون منشأ لانتزاع السببية له ، بل هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات السبب اقتضت دخله في الحكم بالنحو الخاص ، من دون أن تكون تابعة للجعل.

وفيه : أن تأخر المسبب عن السبب إنما يقتضي امتناع كون المسبب منشأ لانتزاع ذات السبب ، لا امتناع كونه منشأ لانتزاع عنوان السببية له التي هي كسائر الإضافات القائمة بالذات والمتأخرة عنها رتبة.

على أن المدعى ليس هو انتزاع السببية من الحكم بما له من الوجود الخارجي الخاص ، المتأخر عن السبب ، بل من خصوصية جعله التي تضمنتها الكبرى الشرعية ، كعنوان المسببية في التكليف ، نظير انتزاع التقدم والتأخر للمتقدم والمتأخر من خصوصية وجودهما الزمانية أو المكانية ، من دون أن ينافي ذلك ترتبهما.

وأما الخصوصية التكوينية التي أشار إليها فهي عبارة عن دخل السبب في ملاك الحكم الداعي لجعله ، وتبعية السببية للخصوصية المذكورة كتبعية

٧٩

الحكم للملاك مما لا إشكال فيه في الجملة ، إلا أنها ليست محلا للكلام ، لأنها من سنخ تبعية الشيء لعلته الإعدادية ، ومحل الكلام التبعية التي هي من سنخ تبعية الشيء لعلته التامة.

ولا إشكال في تبعية الحكم والسببية ـ بالمعنى المذكور ـ للجعل ، ولا يكفي فيهما الملاك ولا خصوصية السبب التكوينية.

غايته أن الجعل يتعلق بالحكم فيكون مجعولا بنفسه ، ولا يتعلق بالسببية ، بل يكون منشأ لتحقق منشأ انتزاعها من دون أن تكون مجعولة بنفسها ، لما تقدم.

المقام الثاني : في ما يكون بالاضافة إلى المكلف به

لا يخفى أن المكلف به وإن كان أمرا اختياريا للمكلّف ، إلا أنه قد يكون فعلا له بالمباشرة ، كالصلاة والصوم ، وقد يستند إليه بالتسبيب ، بتوسط فعله لسببه التوليدي.

والثاني : إن كان أمرا خارجيا ـ كالإحراق ـ كان سببه خارجيا ، كجعل الجسم في النار ، والسببية بينهما تابعة لخصوصيتهما التكوينية ، لا للجعل ، فتخرج عن محل الكلام.

وإن كان أمرا جعليا ـ كالطهارة والتذكية ، بناء على ما سبق من أنهما من الأحكام المجعولة ـ كان فعله بفعل سببه الشرعي الذي هو الموضوع له في الحقيقة ، وكانت السببية بينهما سببية للحكم الشرعي ، فتدخل في ما سبق في المقام الأول ، من دون خصوصية لهذا المقام ، لأن التكليف بالمسبب لا يوجب اختلاف حقيقة السببية قطعا.

ولعله لذا لم يذكروا فيما يتعلق بالمكلف به السببية ، بل الشرطية

٨٠