المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

الثاني : وقع الكلام في دخول مدخول أدوات الغاية في حكم المغيّى وعدمه ، بمعنى أن مفاد الأدوات هل هو الاستمرار إلى ما قبل المدخول مع كون نفس المدخول مسكوتا عنه أو مبدأ لانقطاع الاستمرار ـ على الكلام في المفهوم ـ أو أن مفادها الاستمرار حتى بالإضافة إليه ، وأن المسكوت عنه أو مبدأ الانقطاع هو ما بعده؟

ولا يخفى أن البحث في ذلك يرجع لتحديد المنطوق ، ويرجع لتحديد المفهوم بتبعه ، لا ابتداء.

كما أن محل الكلام هو صورة فقد القرينة على أحد الأمرين ، وإلا فكثيرا ما تتحكم القرائن الخاصة الحالية والمقالية في تعيين أحدهما.

وربما استدل على الأول بما عن نجم الأئمة من أن الغاية من حدود المغيّى ، فيتعين خروجها عنه.

وهو كما ترى! لأن كونها حدا بالمعنى المذكور أول الكلام ، بل للقائل بالوجه الثاني دعوى كونها آخره الذي ينتهي به ، لا الذي ينتهي إليه.

أما ابن هشام فقد فصل في المغني بين (إلى) و (حتى) مدعيا البناء على الدخول في الثانية دون الاولى ، حملا على الغالب في البابين.

لكن الغلبة إنما تنفع إذا أوجبت الظهور النوعي ، لأن مجرد الغلبة مع القرائن الخاصة ليست من القرائن العامة التي يلزم العمل عليها في مورد فقد القرينة ، وكون الغلبة في المقام ـ لو سلمت ـ بالنحو المذكور غير ظاهر.

فلعل الأولى التوقف في مورد فقد القرينة.

والذي يهون الأمر كثرة احتفاف الكلام بما يصلح شاهدا على أحد

٦٠١

الأمرين وإن كان هو مساق الكلام الذي هو من سنخ القرينة الحالية.

الثالث : الظاهر أن (من) المذكورة للابتداء في مساق أدوات الغاية ، بالإضافة إلى ما قبل مدخولها تشترك مع أدوات الغاية بالإضافة إلى ما بعد مدخولها في الكلام المتقدم في المفهوم.

كما أنها بالإضافة إلى نفس مدخولها تشترك مع تلك الأدوات في الكلام المتقدم في الأمر السابق الراجع إلى دخوله في حكم المغيّى وخروجه عنه.

٦٠٢

الفصل الرابع

في مفهوم الحصر

لا يخفى أن حصر الحكم بمورد ملازم لانتفائه عن غيره وثبوت نقيضه فيه ، الذي هو عبارة أخرى عن المفهوم ، فلا معنى للنزاع في مفهوم الحصر.

فلا بد من رجوع الكلام في المقام إلى الكلام في تشخيص مفاد أدوات خاصة وهل أنها دالة على الحصر ، ليكون لها مفهوم أولا ، بل هي متمحضة في الدلالة على ثبوت الحكم في المورد من دون أن تتضمن الحصر.

وهي عدة أدوات ..

منها : أدوات الاستثناء مثل (إلّا) و (غير) و (سوى) و (عدا) وغيرها مما ذكره النحويون ، وإنما تقع موردا للكلام إذا وردت للاستثناء ، دون ما إذا وقعت للتوصيف ، بل تبتني دلالتها على المفهوم حينئذ على الكلام في مفهوم الوصف.

هذا ، والظاهر شيوع استعمال (غير) للتوصيف دون الاستثناء ومألوفيته ، كما في قوله تعالى : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)(١) ، وقولنا : أكرم عالما غير فاسق ، و : أكرمت رجلا غير فاسق ،

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٧.

٦٠٣

لتوقف الاستثناء على شمول الحكم لتمام الأفراد أو الأحوال ، ولا يجري مع كونه بدليا أو واردا على المبهم الذي لا عموم فيه ، كما في الامثلة المذكورة ، ولا سيّما الأول حيث كان ما بعد (غير) فيه مباينا لما قبلها لا من أفراده ، فيراد بالوصف فيه بيان حال الموضوع ، لا تقييده مع شيوعه ، كما في الأخيرين.

ومن هنا يشكل البناء على الاستثناء في المورد الصالح له وللوصف ، كما في قولنا : أكرم العلماء غير العدول. إلّا أن يعين أحد الأمرين بكيفية الإعراب أو بقرينة خارجية.

وأما (إلّا) فقد ذكر النحويون أنها قد تكون وصفية مستشهدين بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١) على كلام لا مجال للإطالة فيه ، كما ذكروا ورودها عاطفة وزائدة.

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمل في أن المتبادر منها الاستثناء ولو بسبب شيوع استعمالها فيه ، فيتعين الحمل عليه في غير مورد امتناعه ، الذي لا مجال للكلام في ضبطه.

كما أن الظاهر عدم استعمال بقية الأدوات في التوصيف.

إذا عرفت هذا ، فلا إشكال في ظهور الاستثناء في ثبوت الحكم لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه ، وهو المراد بالمنطوق في المقام.

وأما بالإضافة إلى المستثنى فقد وقع الكلام في ظهوره في ثبوت نقيض الحكم السابق له ، بحيث يدل على الحصر بالإضافة إليه ، ليكون له مفهوم كما

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٢.

٦٠٤

هو المعروف بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه. أو عدمه ، بل يكون مسكوتا عنه ، لتمحض الاستثناء في تضييق دائر الموضوع ، كما عن أبي حنيفة.

والحق الأول ؛ لتبادر ذلك منه ، حيث يتضح بالنظر إليه الفرق بين الاستثناء ومثل الوصف مما يتمحض في تضييق الموضوع ، ويأتي مزيد توضيح له بعد الكلام في حجة القول الثاني.

ومعه لا حاجة إلى الاستدلال عليه بقبول إسلام كل من قال كلمة الاخلاص ، مع وضوح أنه لو لا دلالة الاستثناء على ذلك لم تدل على التوحيد إذا صدرت ممن لا يعترف بوجود مدبر للكون ، كالدهرية. لأن الاستدلال المذكور وإن كان تاما ، إلّا أن الأمر أوضح من أن يتشبث له به.

وأما الإشكال في الاستدلال بذلك بأن مجرد الاستعمال لا يدل على الوضع ، لإمكان استناد الدلالة عليه لقرينة حال أو مقال.

فهو كما ترى! لوضوح أن قبول الإسلام بذلك لم يكن مشروطا باطلاع القائل على القرينة واستناده إليها.

ومثله دعوى : أن قبول الإسلام بذلك شرعا لا يستلزم دلالته على التوحيد لغة ، بل هو نظير الشعار الذي يعتمد على التباني ، والاصطلاح.

لوضوح اندفاعها بما هو المعلوم من أن قبول الإسلام بها شرعا فرع دلالتها على إقرار القائل بالتوحيد إما لدلالتها عليه لغة أو بالقرينة ، وحيث سبق المنع من الثاني تعين الأول.

وهو المناسب للنصوص الشارحة للاسلام بالشهادتين (١) ، ولتأكيد

__________________

(١) راجع الكافي ج ٢ ، ص ١٨ ـ ٢٥ ، طبع الحروف في ايران.

٦٠٥

كلمة الإخلاص بقولنا : (وحده لا شريك له).

هذا ، وقد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأن خبر (لا) إن قدر (موجود) لم تدل على امتناع إله غيره تعالى ، وإن قدر (ممكن) لم تدل على فعلية وجوده تعالى.

وقد حاول غير واحد الجواب عن ذلك ، ولعل أقرب الوجوه ما ذكره في التقريرات وغيرها من أنه لا يعتبر في التوحيد المعتبر في الإسلام إلّا إثبات الالوهية له تعالى فعلا ونفيها عن غيره كذلك.

وأما نفي إمكان الوهية غيره فهو بواسطة ملازمة واقعية لا يضر خفاؤها وعدم العلم بها في جريان حكم الاسلام ، وليس الإذعان به مأخوذا في التوحيد الذي هو أول ركني الإسلام.

نعم ، لا يبعد كونه من ضروريات الإسلام الزائدة على أركانه ، فلا يعتبر الالتفات إليها والإذعان بها فيه ، وإن كان إنكارها بعد الاطلاع على حالها من الدين موجبا للخروج منه ، لمنافاته للإذعان به ، كما يشهد به الرجوع لارتكازيات المتشرعة ، وللاستدلال عليه في الكتاب والسنة بقضايا برهانية واضحة عند المسلمين كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١).

على أنه لو فرض أخذ نفي إمكان ألوهية غيره تعالى في التوحيد الذي هو ركن الإسلام أمكن ذلك بحمل القضية على بيان الانحصار به تعالى خارجا مع كون الضرورة جهة لها بتمامها ارتكازا ، لا أن الإمكان قيد في موضوع عقد السلب منها ، كي لا تدل على فعلية وجوده وألوهيته تعالى.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٢.

٦٠٦

هذا وقد استدل على ما سبق عن أبي حنيفة من عدم ظهور الاستثناء في ثبوت نقيض الحكم السابق للمستثنى ليكون له مفهوم بمثل : لا صلاة إلّا بطهور.

بدعوى : أنه لو كان له مفهوم لدل على حصول الصلاة مع الطهارة ولو مع فقد بقية الأجزاء والشرائط ، ولا إشكال في عدم دلالته على ذلك.

وقد اجيب عن ذلك بوجوه ..

الأول : أن الاستعمال مع عدم إرادة المفهوم لا ينافي الوضع للمفهوم ، لأن الاستعمال مع القرينة المعينة للمراد أعم من الحقيقة.

وفيه : أنه لا مجال لاحتمال الاعتماد على القرينة في مثل هذا التركيب ، لشيوعه مع عدم ظهور العناية والقرينة المخرجة عن مقتضى الظهور الأولى فيه ، وليس هو كالاستعمالات الشخصية التي قد يستند فهم المراد منها إلى القرائن المكتنفة للكلام.

وبعبارة أخرى : الاستدلال ليس بعدم إرادة المفهوم من هذا التركيب ، كي يمكن استناد فهم ذلك للقرينة ، بل بعدم ظهوره بنفسه فيه مع قطع النظر عن القرينة.

الثاني : أن المفروض في موضوع الحصر في مثل هذا التركيب تمامية بقية الأجزاء والشرائط ، فعدم تحقق الصلاة مع الطهارة ـ مثلا ـ لفقد بعض الأجزاء أو الشرائط الأخر لا يكون منافيا للمفهوم ، بل خارجا عن موضوعه.

والظاهر رجوع ما في التقريرات والكفاية لهذا الوجه وما قبله.

ويندفع : بأنه بعيد عن المرتكز الاستعمالي لهذا التركيب ، لعدم الالتفات فيه للتقييد بتمامية الأجزاء والشرائط.

٦٠٧

بل لا مجال للبناء عليه ، لأن لازم خروج فاقد بعض الأجزاء والشرائط الأخر موضوعا قصور المنطوق والمفهوم معا عنه ، فكما لا يقتضي المفهوم حصوله مع الطهارة لا يقتضي المنطوق عدم حصوله بدونها ، مع أنه لا ريب في عموم المنطوق له. فإذا قيل : لا صلاة إلّا بطهور ، و : لا صلاة إلّا بركوع ، كان مقتضاهما بطلان الصلاة الفاقدة للطهارة والركوع معا من جهتين ، لا أنهما ساكتان عنها لخروجها عن موضوع كل منهما.

الثالث : ما في هامش بعض نسخ الكفاية من أن المراد من مثله نفي الإمكان ، لا الوجود ، ولازمه في المثال إمكان الصلاة مع الطهارة ، لا ثبوتها فعلا ، لينافي ما سبق.

وفيه : أن التركيب بنفسه إنما يقتضي نفي الوجود دون الإمكان ، كما هو الحال في مثل : لا ياتي زيد إلّا أن يجيء عمرو ، و : لا اكل إلّا أن أغسل يدي ونحوهما ، وإنما استفيد عدم الإمكان في المقام بلحاظ كون القضية تشريعية مسوقة لبيان شرطية الطهارة للصلاة ، ويمتنع تحقق المشروط مع عدم شرطه ، ومن الظاهر أن ذلك يجري في جميع الأجزاء والشروط ، فكما لا تمكن الصلاة مع فقد الطهارة لا تمكن مع فقد بعض الأجزاء والشروط الأخر وإن كانت الطهارة موجودة ، فتنافي المفهوم ، فوجود الطهارة كما لا يستلزم وجود الطهارة مطلقا لا يستلزم إمكانها كذلك ، ولم ينفع ما ذكره في دفع الإشكال.

على أن الإشكال لا يختص بالمثال المتقدم ، بل يجري في نظائره من التراكيب مما هو ظاهر في نفي الوجود دون الإمكان ، كالمثالين المتقدمين ، كما هو ظاهر.

٦٠٨

الرابع : ما عن بعض مشايخنا من أن المستثنى في المقام لما كان هو الظرف مثل : (بطهور) فلا بد من تقدير متعلق له ، فيكون المعنى : لا صلاة إلّا صلاة بطهور.

ومرجع ذلك إلى أن الصلاة لو وقعت مع الطهور ، لا أنها يلزم أن تقع مع جميع أفراده.

ويندفع : بأن كون الصلاة لو وقعت وقعت مع الطهور ليس هو مفاد المفهوم ، بل لازم المنطوق ، وأما مفاد المفهوم فهو وقوع الصلاة مع الطهور بنحو القضية التنجيزية ، كما كان مفاد المنطوق سلبها بدونه كذلك ، وحيث هو غير مطرد في فاقد بعض الأجزاء والشرائط الاخرى يعود الإشكال.

وأما تقدير متعلق الظرف المستثنى بنفس الصلاة فهو إنما يتم لو كان الاستثناء من عموم أفراد الصلاة المنفية ، وليس كذلك ، بل الظاهر أنه استثناء من عموم أحوال نفي الصلاة ، فكأنه قيل : لا صلاة في جميع الأحوال إلّا حال وجود الطهور.

فلعل الأولى أن يقال في الجواب : إن حكم المستثنى منه لما كان هو السلب المطلق للصلاة بدون الطهارة بنحو الاستيعاب والاستغراق فمفهومه المستفاد من الاستثناء ليس إلّا نقيضه وهو وجودها في الجملة مع الطهارة ، لا وجودها معها مطلقا ، إذ ليس نقيض السلب الكلي إلّا الإيجاب الجزئي دون الإيجاب الكلي ، وهكذا الحال في نظير المثال من التراكيب. وقد تقدم توضيح ذلك في التنبيه الثالث من مبحث مفهوم الشرط. فراجع.

نعم ، لو لم يدل الكلام على وجود الصلاة مع الطهارة حتى في الجملة بحيث يكون مسكوتا عنه اتجه سوقه شاهدا لعدم الدلالة على المفهوم.

٦٠٩

لكن لا مجال لإنكار دلالته على ذلك.

وبالجملة : وضوح دلالة الاستثناء على ثبوت نقيض الحكم للمستثنى مانع من رفع اليد عنه بمثل هذه الاستعمالات الشائعة وكاشف عن ابتنائها على ما لا ينافيه إجمالا لو لم يتسن معرفته تفصيلا.

ومما يوضح ذلك ويؤكده ما اشتهر تبعا للمرتكزات الاستعمالية من دلالة الاستثناء على الحصر ، إذ لا حصر مع كون حكم المستثنى مسكوتا عنه.

ولا سيما وأنه لا يراد به دلالته على انحصار الحكم بما عدا المستثنى ، بل على انحصار نقيضه بالمستثنى المبتني على المفروغية عن ثبوت النقيض له ، بل كونه المقصود بالأصل منه ، كما يناسبه حسن تأكيده بما يدل على انحصاره به ، مثل (وحده) و (لا غير) ، إذ انصراف التأكيد إليه شاهد بكونه هو المقصود بالأصل ، وأن ذكر حكم المستثنى منه للتمهيد له. فلاحظ.

نعم ، الحصر المذكور إنما هو بالإضافة إلى أفراد المستثنى منه دون غيرها ، إلّا أن يكون الاستثناء منقطعا ، فيدل على الحصر بالإضافة إلى ما يناسبه مما يدخل معه ومع المستثنى منه تحت جامع عرفي واحد ، فلو قيل : ما في الدار رجل إلّا حمار ، كان ظاهره نفي وجود ما يناسب الحمار من غير أفراد الرجل ، كالجمل والثور ، لأن الظاهر عدم خروج (إلّا) فيه عن الاستثناء الذي لا يصح عرفا إلّا بعموم المستثنى منه للمستثنى المستلزم لإرادة الجامع العرفي بينهما ، كما ذكرنا.

وما في بعض الكلمات من كون (إلّا) فيه بمعنى (لكن) بعيد عن المرتكزات الاستعمالية.

٦١٠

ولازم ما ذكرنا دلالة الاستثناء المفرغ ـ وهو الذي يحذف المستثنى منه فيه ويختص بالنفي ـ على الحصر الحقيقي وعموم النفي لجميع ما عدا المستثنى ، لأن حذف المتعلق مع عدم القرينة يقتضي الحمل على العموم.

غاية الأمر أنه كثيرا ما يراد به الحصر الإضافي ، بلحاظ خصوص جهة ملحوظة للمتكلم يقتضيها سياق الكلام أو غيره من القرائن المحيطة به ، والتي لا مجال لضبطها ، بل تختلف باختلاف خصوصيات الموارد.

ومنها : (إنما) حيث كان المعروف فيها إفادة الحصر ، على ما يظهر من تصريح أهل اللغة ، بل عن بعضهم أنه لم يظهر مخالف فيه ، وعن آخر دعوى إجماع النحاة عليه ، كما ذكر في التقريرات أنه المنقول عن أئمة التفسير.

ويقتضيه التبادر ، حيث لا إشكال في ظهورها في انحصار المتقدم بالمتأخر.

غاية الأمر أنها ـ كسائر أدوات الحصر ـ كثيرا ما تستعمل في الحصر الإضافي بلحاظ خصوص بعض الجهات المقصودة بالنفي مما يقتضيه قرينة حال أو مقال ، بل هو المتعين دائما في حصر الموصوف بالصفة ، نحو : إنما زيد شاعر أو تاجر أو عامل ، حيث لا يراد به نفي كل صفة أخرى عنه ، لما هو المعلوم من عدم خلوه عن كثير من الصفات ، كالحياة والتكلم وغيرهما ، بل نفي خصوص بعض الصفات مما تقتضيه قرينة السياق ، كالعلم أو الشجاعة أو غيرهما.

وذلك لا ينافي دلالتها على الحصر بما هو نسبة خاصة ، لأن الفرق بين الحصر الحقيقي والإضافي في طرف النسبة المذكورة لا في أصلها.

ولذا لا يصح الإتيان بها لمحض بيان ثبوت الحكم للموضوع من دون

٦١١

حصر أصلا.

نعم ، الحصر الإضافي محتاج إلى قرينة ، وبدونها يتعين الحمل على الحصر الحقيقي.

لكن استشكل في التقريرات في دلالتها على الحصر. قال : «والإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك ، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها ، بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعا لبعض الكلمات العربية ، كما في أداة الشرط وأما النقل المذكور فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللغوي في تشخيص الأوضاع ...».

وكأن الذي أوجب التباس الحال عليه شيوع استعمالها في الحصر الإضافي ، وإلا فتبادر الحصر منها في الجملة مما لا ينبغي أن ينكر ، كشيوع استعمالها فيه في عرفنا.

على أنه يكفي إدراكه من استعمالاتها فيه في العصور السابقة ، حيث قد يتيسر الإطلاق على معاني الألفاظ المستعملة لهم إذا كان استعمالها كثيرا شائعا ، حيث قد يدرك من مجموعها مفاد اللفظ بنفسه مع قطع النظر عن القرينة.

هذا ، وقد أنكر الرازي دلالتها على الحصر في مقام الجواب عن استدلال الإمامية بقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(١) قال : «لا نسلم أن الولاية

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٥.

٦١٢

المذكورة في الآية غير عامة ، ولا نسلم أن كلمة (إنما) للحصر. والدليل عليه قوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ)(١) ولا شك إن الحياة الدنيا لها أمثال اخرى سوى هذا المثل. وقال : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(٢) ، ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها».

لكن الآيتين الكريمتين لا تنافيان دلالة (إنما) على الحصر.

اما الاولى فلأن وجود أمثال أخر للدنيا في الحصر المذكور لو كان حقيقيا ، دون ما لو كان إضافيا ـ كما هو الظاهر منه ـ لدفع توهم ابتنائها على البقاء الذي هو مقتضى الاهتمام بها والركون إليها من عامة الناس ، فإن ذلك منهم مظهر لغافلتهم عن حالها ، فحسن حصرها بالمثل المذكور في الآية لردعهم عن ذلك وتنبيههم لما يخالف مقتضى حالهم وإن كان لها أمثال أخر.

ولذا حسن الحصر ب (إلّا) بنظيره في قول الشاعر :

وما الدهر إلّا منجنونا بأهله

 ...

ومنه يظهر الحال في الآية الثانية ، فإن المراد بها الحصر الإضافي أيضا توهينا لحالها ، وردعا لمن يرغب فيها ويعتد بها ، لكن مع ابتنائه على التغليب ـ ولو ادعاء ـ إغفالا لما يكسبه أهل البصائر والكمال من الدرجات العالية والتجارة السامية.

ولذا حسن الحصر المذكور ب (إلّا) قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا

__________________

(١) سورة يونس : ٢٤.

(٢) سورة محمد (ص) : ٣٦.

٦١٣

لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(١) وقوله سبحانه : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)(٢).

وأما ما ذكره من أن اللهو واللعب قد يحصل في غيرها.

فهو إنما ينافي حصر اللهو واللعب بها ، لا حصرها بهما الذي تضمنته الآية الشريفة.

هذا ، وقد ذكر بعضهم من أدوات الحصر (بل) على بعض وجوهها التي ذكرها أهل اللغة.

ولا يسعنا تفصيل الكلام في وجوهها وتمييز موارد استعمالها ، بل نحيل في ذلك على ما ذكروه.

كما أنه قد تكون هناك بعض الأدوات الاخرى تدل على الحصر بنفسها أو بالقرينة لا مجال لنا لاستقصائها ، بل توكل لمباحث اللغة ونظر الفقيه في مقام الرجوع للأدلة.

ومنها : تعريف المسند إليه باللام ، حيث يدل على اختصاصه بالمسند ، نحو : العالم زيد ، والنجس من الميتة ما كان له نفس سائلة ، ونحوهما.

ومحل الكلام ما إذا لم تكن اللام للعهد ، وإلا اقتضت انحصار المعهود بالمسند ، دون أصل الماهية بلا كلام.

وقد استشكل في ثبوت المفهوم في المقام بما قد يرجع إليه ما أشار إليه المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه موقوف إما على كون الحمل أوليا ذاتيا ، لملازمة التطابق المفهومي للتساوي المصداقي في الخارج أو على كون اللام

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣٢.

(٢) سورة العنكبوت : ٦٤.

٦١٤

للاستغراق ، أو كون الماهية ملحوظة بنحو الإرسال ، حيث يلزمهما اتحاد تمام أفراد الماهية في الخارج بالمسند ، المستلزم لمباينتها لما يباينه.

لكن الحمل الأولي خلاف الأصل في القضايا المتعارفة ، بل الأصل فيها هو الحمل الشائع الصناعي ، الذي ملاكه الاتحاد الخارجي ، بل هو المتعين في غالب الموارد ، حيث يعلم بعدم التطابق المفهومي بين طرفي الحمل.

كما أن الأصل في اللام أن تكون للجنس ، وحملها على الاستغراق محتاج إلى القرينة ، كحمل الماهية على الإرسال ، بناء على إمكانهما ذاتا وقيام القرينة عليهما في بعض الموارد ، على ما لعله يأتي الكلام فيه في مبحث المطلق والمقيد.

وعلى ذلك فليس مفاد القضايا المفروضة في محل الكلام إلّا حمل المسند على الجنس والماهية وحمل الشيء على الجنس والماهية لا يقتضي اختصاصهما به ، ولا يدل عليه.

لكنه يشكل : بأنه إن اريد من عدم اختصاصهما به إمكان اتصافهما بغيره مما يجتمع معه في الخارج ، فإذا قيل : الكاتب متحرك الأصابع ، لم يناف اتصافه بغير ذلك كالأكل والمشي ، فهو مسلم ، إلّا أنه لا ينافي الحصر المدعى في المقام ، إذ ليس المراد به في المقام إلّا كون تمام أفراد الماهية مطابقة للمسند ، بحيث لا يباينه منها شيء ، فاذا قيل : العالم زيد ، كان ظاهره اتحاد تمام أفراد العالم مع زيد ، وإن امكن اتحادها مع عنوان آخر يجتمع معه ، كالعادل والمتكلم.

وإن اريد من عدم اختصاصهما به إمكان اتصافهما بغيره مما يباينه ولا يجتمع معه في الخارج ، المستلزم لمباينة بعض أفرادها للمحمول ، فهو في

٦١٥

غاية المنع ، إذ لا ريب في ظهور حمل الشيء على الجنس في اتصاف تمام أفراده به ولو بضميمة مقدمات الإطلاق ، فاذا قيل : الإنسان أبيض ، كان ظاهره اتصاف تمام أفراده بالبياض ، وعدم اتصاف بعضها بغيره مما يضاده ، فليس فيها أحمر ولا أسود.

وبذلك يتم المدعى ، لأنه إذا كان ظاهر قولنا : العالم زيد ، كون تمام افراد العالم متصفا بأنه زيد لزم عدم عالمية غير زيد من أفراد الإنسان المباينة له ، كما لا يخفى.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في الدلالة على الحصر بالوجه المذكور ، ولا سيّما بعد مطابقته للمرتكزات الاستعمالية.

قال سيدنا الأعظم (قدس سره) في حقائقه تعقيبا على ما ذكره المحقق المذكور : «ظهور قولنا : القائم زيد ، في الحصر أقوى من كثير من الظهورات التي بنى عليها المصنف (قدس سره) وغيره ، والرجوع إلى العرف شاهد عليه ، وكفى بإجماع البيانيين مؤيدا له ، فلا مجال للتأمل فيه. بل الظاهر من كلام جماعة ممن تعرض للمقام المفروغية عن ثبوت المفهوم ، وأن الكلام في وجهه ، فالنقص والإبرام إنما يكون فيه ، لا في ثبوت المفهوم».

هذا ، مضافا إلى شيء ، وهو أن الظاهر من حمل أحد الشيئين على الآخر ليس محض انطباق أحدهما على الآخر ، غير المستلزم لاختصاصه به ، بل التطابق بينهما ، بحيث يكون أحدهما عين الآخر ـ مفهوما لو كان الحمل أوليا ذاتيا ، وخارجا لو كان الحمل شايعا صناعيا ـ كما هو مفاد (هو هو) ، ولازم ذلك اختصاص أحدهما بالآخر وعدم انطباقه على ما يباينه.

وعلى هذا يبتني التعريف بالرسم في مثل قولنا : الانسان هو الحيوان

٦١٦

الضاحك ، أو الخفاش هو الطائر الولود ، مع وضوح أن الحمل فيه شايع صناعي ، ولو لم يكن مقتضى الحمل التطابق لم يصلح الحمل للتحديد ، لإمكان كون أحدهما أعم من الآخر مطلقا أو من وجه.

ولا مجال للنقض على ذلك بالحمل مع تنكير أحدهما ، كما في قولنا : الإنسان ماش ، وزيد عالم ، لأن مفاد النكرة ـ التي هي أحد الطرفين ـ ليس نفس الجنس ارتكازا ، كمفاد المعرف باللام ، بل ما يعم مفاد الحصة منه ، فلا يدل الحمل المذكور إلّا على التطابق بين الإنسان والماشي وبين زيد والعالم في الجملة ، ولو بلحاظ التطابق بينهما وبين حصة من كل منهما ، ومرجعه إلى مجرد انطباق جنس الماشي على الإنسان ، وجنس العالم على زيد ، وإن لم يطابقاهما ولم يختصا بهما.

ومثله في ذلك الحكم بالشيء على الموضوع بنسبة أخرى غير نسبة الحمل ، حيث يكفي حصوله له وإن لم يختص به ، نحو قولنا : زيد في الدار ، أو جاء ، أو : جاء زيد ، أو غير ذلك.

وبذلك يتضح عدم الفرق في الدلالة على الحصر بين كون المعرف بلام الجنس مسندا إليه ، الذي هو محل الكلام وكونه مسندا ، كما في قولنا : زيد العالم ، والخفاش هو الطائر الولود ، وهو المطابق للمرتكزات العرفية الاستعمالية التي هي المعيار في الظهور الحجة.

وأما ما في التقريرات من أن الماهية قد تعتبر على وجه لا يستفاد منها الحصر ، سواء كانت موضوعا ، أم محمولا معرفا ، كما إذا قيل لمن سمع الأسد ولم يشاهد فردا منه : الأسد هذا ، أو : هذا الأسد.

فيندفع : بأن المحمول في الأول والموضوع في الثاني وإن كان هو الفرد

٦١٧

المشار إليه بلفظ (هذا) والذي لا تختص به الماهية ، إلّا أنه مسوق عبرة للماهية على عمومها ، كما في قولنا : هذا اسمه أسد.

ومن هنا فالحمل المذكور في الحقيقة أولي ذاتي ، أو واجد لملاكه إن لم يكن منه اصطلاحا.

ولو أريد به الحمل على الفرد بنفسه لم يصح إلّا أن يقال : هذا أسد ، أو : أسد هذا ، أو : هذا من أفراد الأسد ، لما ذكرناه من أن مفاد النكرة ما يعم الفرد من الجنس والماهية ، لا نفس الجنس على ما هو عليه.

ثم إن ما ذكرنا كما يجري في المعرف باللام يجري فيما يشبهه مما يحكي عن الجنس والماهية في مقام التعريف ، كالموصول في قولنا : الذي يجب إكرامه زيد ، أو : زيد هو الذي يجب إكرامه. ومثله المضاف إذا اريد به العهد الجنسي ، نحو قول الشاعر :

إن أخاك الحق من يسعى معك

ومن يضر نفسه لينفعك

نعم ، قد لا يراد بالإضافة العهد ، بل محض النسبة بين الطرفين ، كما هو كثير فيما يقع خبرا نحو قولنا : زيد أخو عمرو أو عدوه أو جاره أو نحوها ، حيث لا يراد به إلّا أنه أخ له أو عدو أو جار من دون إشارة للجنس ، أو لفرد معهود.

ولعله خارج عن أصل معنى الإضافة ، كما تعرض له بعض البيانيين.

ومنها : تقديم ما حقه التأخير. فقد ذكر البيانيون أنه يدل على حصر المتأخر بالمتقدم ، كتقديم المفعول في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(١).

__________________

(١) سورة الفاتحة : ٤.

٦١٨

وقد صرح في التلخيص وشرحه أن دلالته ليست بالوضع ، بل بفحوى الكلام حسبما يدركه منه ذو الذوق السليم.

لكنهم ذكروا ـ أيضا ـ في وجه تقديم المسند وغيره من متعلقات الفعل التي حقها التأخير وجوها أخرى ، كالتشويق في مثل قول الشاعر :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو اسحاق والقمر

والاهتمام كقولنا : أمير جاءني ، وغيرهما.

ومرجع ذلك إلى تبعية الدلالة على التخصيص للمناسبات والقرائن المكتنفة للكلام والتي لا يتيسر لنا ضبطها.

وقد تعرضوا لضوابطها واختلفوا فيها ، وقد يبلغ بعضها مرتبة الإشعار ، الذي يكفي في البلاغة ، دون الظهور الحجة الذي هو المهم في المقام.

كما أن ذلك قد يجري في تقديم ما حقه التقديم ، كالمسند إليه ، على ما ذكروه.

ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك ، بل يوكل تشخيصه للفقيه عند النظر في الأدلة ، مستعينا في فهمها واستظهار المراد منها بما ذكروه ، مع تحكيم ذوقه وسليقته.

٦١٩
٦٢٠