المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

الفصل الثامن

في أن نسخ الوجوب أو التحريم هل يقتضي

بقاء جواز الفعل أو الترك

قد وقع الكلام بينهم في أنه مع نسخ الوجوب هل يبنى على بقاء الجواز بالمعنى الأعم ، الراجع لعدم التحريم ، أو الأخص الذي هو عبارة عن الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة. ويجري نظير ذلك في نسخ التحريم بالإضافة إلى بقاء جواز الترك.

وحيث لا يكثر الابتلاء بهذه المسألة فالمناسب إيجاز الكلام فيها بالاقتصار على بيان ما تقتضيه القاعدة على مبانينا في حقيقة الحكمين المذكورين من أنهما بسيطان منتزعان من الخطاب بداعي جعل السبيل ، لا مركبان من الإذن في الفعل أو الترك والمنع من النقيض ولا أن الإذن المذكور من مراتبهما.

فنقول : حيث كانت الأحكام الخمسة متباينة في أنفسها احتاج كل منها لجعل مستقل ، ومن الظاهر أن رفع كل من الوجوب والتحريم إنما يستلزم جعل غيره من الأحكام ولو كان هو الحكم الآخر منهما ، لا خصوص أحد الأحكام الثلاثة الباقية المستلزمة للجواز بالمعنى الأعم ، فضلا عن خصوص الجواز بالمعنى الأخص الذي هو الإباحة.

٤٨١

ودعوى : أن جواز الفعل لما كان لازما أعم للوجوب وجواز الترك لازما أعم للتحريم ، ونسخ الحكم لا يستلزم نسخ لازمه الأعم كان مقتضى الأصل بقاء اللازم المذكور وعدم نسخه.

مدفوعة : بأن الوجوب والتحريم لا يستلزمان جواز الفعل وجواز الترك على أنهما حكمان شرعيان ، لتجري أصالة عدم النسخ فيهما ، لوضوح انحصار الأحكام في الخمسة ، بل على أنهما حكمان عقليان ، كما أنهما يستلزمان ثبوت ملاكيهما ، وكلاهما ليس موضوعا لأصالة عدم النسخ.

نعم ، لو حكم شرعا بجواز الفعل قبل جعل الوجوب ، وبجواز الترك قبل جعل التحريم ، فحيث لا يكون جعل الوجوب مستلزما لارتفاع الأول ، ولا جعل التحريم مستلزما لارتفاع الثاني ، لعدم التنافي بينهما عرفا ، أمكن الرجوع فيهما لأصالة عدم النسخ بعد نسخ الوجوب والتحريم.

وهذا بخلاف ما إذا ورد الخطاب بهما بعد جعل الوجوب أو التحريم ، لأنه حيث يلغو جعلهما معهما لزم حمل الخطاب بهما على محض بيان اللازم العقلي للحكم المجعول ، أو على بيان عدم جعل التحريم ، وكلاهما ليس موضوعا لأصالة عدم النسخ. فتأمل.

وحينئذ يكون المرجع هو الأصل المقتضي للبراءة ، ولو لاستصحاب عدم التحريم مع نسخ الوجوب ، وعدم الوجوب مع نسخ التحريم ، بناء على جريانه في مورد البراءة ، على ما ذكرناه في مبحث أصل البراءة.

ولا مجال لمعارضته باستصحاب عدم كل من الاستحباب والإباحة والكراهة.

٤٨٢

لأنه لا يستلزم التحريم شرعا ، بل عقلا بضميمة العلم بانتفاء الوجوب ، وليس الأصل حجة في اللازم غير الشرعي لمؤداه.

٤٨٣
٤٨٤

الفصل التاسع

في الأمر بالأمر

قد وقع الكلام في أن الأمر بالأمر بشيء هل يكون أمرا بذلك الشيء في حق المأمور الثاني أو لا؟

ويجري نظيره في الأمر بالنهي عن الشيء ، وأنه هل يقتضي النهي عنه من قبل الامر في حق المنهي أو لا؟

ولا وجه لتخصيص الكلام بالأول إلّا ذكره في مبحث الأوامر.

وحيث كان مبنى الكلام فيهما واحدا فلنجر في تحريره على ما جروا عليه من الكلام في الأمر بالأمر ، لأنه أيسر بيانا ، وبه يتضح الحال في الأمر بالنهي.

وينبغي الكلام في صور ذلك ثبوتا ، ثم فيما هو الظاهر منها في ضمن مقامين :

المقام الأول : إذا أمر زيد عمرا بأن يأمر بكرا بالسفر فهو يقع على وجوه ...

الأول : أن يكون أمرا نفسيا حقيقيا ناشئا عن ملاك مستقل به من دون ملاك يقتضي أمر زيد لبكر بالسفر حتى بعد أمر عمرو له ، ولا يكون سفره موردا لغرضه أصلا ، كما لو أراد استكشاف حال بكر وأنه يطيع

٤٨٥

عمرا أو لا.

وعليه يكون الأمر من عمرو لبيان مراده ، دون مراد زيد ، وتكون إطاعة بكر أو معصيته له لا لزيد.

كما لا أثر لهذا الأمر في حق بكر ، بل إن كان من شأنه أن يطيع عمرا أطاعه وإن لم يأمر زيد عمرا بأمره ، وإلا لم يطعه وإن أمره زيد بذلك.

الثاني : أن يكون أمرا نفسيا حقيقيا من دون أن يكون مستقلا بالملاك ، بل لتوقف ترتب الملاك المقتضي لأمر زيد بكرا بالسفر على أمر عمرو به له ، فهو راجع في الحقيقة إلى أمر زيد بكرا بالسفر المترتب على أمر عمرو به له ، إلّا أنه حيث كان الترتب المذكور موقوفا على تحقق الأمر به من عمرو أمر عمرا بتحقيق ذلك ، فهو نظير أمر شخص بتهيئة شرط ما يجب على غيره.

لكن هذا موقوف على وجوب إطاعة عمرو على بكر من قبل زيد ، نظير وجوب إطاعة المولى على العبد شرعا ، وإلا لم يمكن التوصل بأمر عمرو للغرض المذكور ، بل يكون كالوجه الخامس.

وعليه يكون أمر عمرو بكرا بالسفر محققا لموضوع أمر زيد له به ، فيكون شرط الواجب والوجوب معا ، ويكون السفر من بكر بعد أمر عمرو له به إطاعة لزيد وعمرو وتركه معصية لهما معا.

كما أنه لو علم بكر بصدور الأمر بالأمر من زيد ولم يأمره عمرو بالسفر لم يجب عليه السفر ، لا من جهة زيد ، لعدم تحقق موضوع أمره ، ولا من جهة عمرو ، لعدم صدور الأمر منه.

الثالث : أن يكون طريقيا يراد به محض التبليغ وإيصال تكليف زيد لبكر بالسفر من طريق الأمر المذكور ، مع تمامية الملاك في السفر المقتضي لأمر

٤٨٦

زيد بكرا به مطلقا من دون تعليق للتكليف ولا تقييد للمكلف به ، نظير أمر الله سبحانه الرسل بأمر اممهم بما شرعه تعالى عليهم.

وعليه لا يكون الأمر من عمرو لبيان مراده ، بل لبيان مراد زيد ، فلا تكون إطاعة بكر ومعصيته له ، بل لزيد ، عكس الوجه الأول.

كما أنه لو علم بكر بصدور الأمر المذكور من زيد كان موضوعا لإطاعته ولو لم يأمره عمرو.

الرابع : أن يكون طريقيا لتحصيل إطاعة بكر للأمر بالسفر من زيد في فرض ثبوته في حقه وعدم قيامه بامتثاله ، لتأكيد داعي الامتثال ، كما في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهو يشارك الوجه الثاني في كون الإطاعة والمعصية لزيد وعمرو معا ، ويفارقه في عدم توقف لزوم الإطاعة ـ من حيثية أمر زيد ـ على صدور الأمر من عمر ، لفرض ثبوت التكليف في حقه ، وأن أثر أمر عمرو تأكيد داعي الامتثال ، لا تحقيق موضوعه ، كما في الوجه الثاني.

الخامس : أن يكون طريقيا لتحصيل السفر من بكر من دون أن يكلف به من قبل زيد مطلقا حتى بعد أمر عمرو له به ، لمانع من تكليف زيد له به ، من إجلال أو احتقار أو غيرهما مما يمنع من فعلية ملاك التكليف في حقه ، بل يختص الأمر بالسفر بعمرو وتكون الإطاعة له لا لزيد.

وبهذا يفارق الوجوه الثلاثة الأخيرة ويشارك الوجه الأول.

لكن يفارقه في كون تحقق السفر من بكر هو الغرض الأقصى من الأمر ، على خلاف ما ذكرناه في الوجه الأول.

ومن هنا يفترقان في أن حصول السفر من بكر من دون أمر عمرو به

٤٨٧

في الأول مفوت لملاك أمر عمرو بالأمر به بعد تعذر امتثاله معه ، بخلافه في الثاني ، حيث يستلزم سقوط الأمر بحصول غرضه ، وإن لم يمتثل.

هذا وقد اقتصر المحقق الخراساني (قدس سره) على الوجوه الثلاثة الاول ، كما اقتصر بعض الأعاظم (قدس سره) على الأول والثالث ولم يشيرا للأخيرين ، بل لم أعثر عاجلا على من أشار إليهما في المقام ، مع شيوعهما وأهميتهما.

وربما كان هناك بعض الوجوه الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها ، وقد يظهر الحال فيها مما ذكرنا في هذه الوجوه.

المقام الثاني : حيث ظهر اختلاف وجوه الأمر بالأمر ثبوتا ودورانه بين الوجوه الخمسة فالظاهر أن الوجه الأول بعيد في نفسه ومخالف لظاهر إطلاق الأمر ، لأن ارتكاز اقتضاء الأمر لتحصيل متعلقه موجب لظهور الأمر به في تعلق الغرض بمتعلقه الذي هو كالمعلول له ، كسائر موارد الأمر بالعلة ، كما لا يبعد ذلك في الوجه الثاني أيضا ، لأن استبعاد تقييد المطلوب بخصوصية علة له ، بحيث لا يراد منه إلّا ما يصدر عنها يوجب انصراف إطلاق الأمر عنه وظهوره في تعلق الغرض بالمعلول من حيث هو ولو صدر بتوسط غير تلك العلة.

مع أن توقفه على فرض تكليف الامر الأول للمأمور الثاني بإطاعة الامر الثاني يوجب عدم الأثر المهم لاحتماله ، إذ مع عدم ثبوت تكليفه بذلك لا موضوع لهذا الوجه ، ومع ثبوته لا بد له من إطاعة الامر الثاني ـ كعمرو في المثال ـ إذا أمره.

نعم ، يظهر الأثر لو لم يأمره الثاني ، حيث لا يجب عليه الإتيان بالفعل

٤٨٨

على هذا الوجه والوجه الخامس ، ويجب على الوجه الثالث والرابع. وهو ليس بمهم ، فيتردد الأمر بين الوجوه الباقية.

وقد ذهب غير واحد إلى ظهور الأمر في الثالث.

قال سيدنا الأعظم (قدس سره) : «الظاهر ثبوت القرينة النوعية على كون الأمر بالأمر من قبيل الأمر بالتبليغ الملحوظ فيه التبليغ طريقا ، وليس جاريا مجرى الأوامر في كون الغرض في متعلقاتها».

ولعله ناشئ عن عدم تعرضهم للوجهين الأخيرين ، حيث يتعين الثالث بعد ما سبق وأشير إليه في كلماتهم من بعد الوجهين الأولين.

وإلا فهو غير ظاهر إلّا في ظرف كون وظيفة المأمور بالأمر التبليغ عن الامر الأول ، كما في الانبياء والأوصياء صلوات الله وسلامه عليهم ، حيث ينصرف أمره والأمر منه إلى إعمال وظيفته.

وأما في غيره فلا يتضح وجه ظهور الأمر في إرادة التبليغ ، بل هو مخالف لظاهره لغة وعرفا.

ولذا يفهم منه لزوم قيام المأمور به بوظيفة الامر الذي يدعو لتحصيل مطلوبه من ترغيب أو ترهيب أو نحوهما مما يحقق في نفس المأمور داعي الامتثال ، ولا يكتفي بمجرد التبليغ.

ومن هنا كان الظاهر تردد الأمر المذكور بين الوجهين الأخيرين.

وحيث كان الوجه الرابع مبتنيا على تكليف الامر الأول للمأمور الثاني بالفعل احتاج إلى قرينة ومئونة بيان ، وبدون ذلك يتعين الوجه الخامس ، لأنه مقتضى الأصل.

وأولى بذلك ما لو كانت هناك قرينة على عدم كونه بصدد تكليفه ،

٤٨٩

فضلا عما لو علم بذلك.

ثم إنه ذكر غير واحد أن ثمرة النزاع المذكور تظهر في عبادات الصبي ، وأنه بناء على الوجه الثالث ـ الذي عرفت من غير واحد دعوى ظهور الأمر بالأمر فيه ـ يمكن استفادة شرعيتها من قوله عليه السلام : «فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين» (١) وقوله عليه السلام : «فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما أطاقوا من صيام» (٢) وغيرهما مما ورد في أمر الولي للصبي بالعبادات.

ولا بد لأجله من حمل حديث رفع القلم على رفع الإلزام مع ثبوت أصل المشروعية ، وهذا بخلاف ما لو بني على الوجه الأول ، حيث يكون الصبي مأمورا بها من قبل الولي دون الشارع.

وفيه : أنه لو بني على ذلك فمقتضى الجمع العرفي حينئذ تخصيص عموم حديث رفع القلم بأدلة الأوامر المذكورة ، لأنها أخص مطلقا ، حيث تختص بالصلاة والصيام ، ويعم حديث الرفع جميع التكاليف ، ولا وجه معه للجمع برفع اليد عن ظهور هذه الأوامر في الإلزام.

خصوصا مع قوة ظهور بعضها وصراحة بعضها في الإلزام ، حيث تضمن أنهم يؤخذون بذلك ويجبرون عليه ويضربون (٣) ، إذ لو كان ذلك

__________________

(١) الوسائل ج ٣ ، باب : ٣ من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، حديث : ٥.

(٢) الوسائل ج ٧ ، باب : ٢٩ من أبواب من يصح منه الصوم ، حديث : ٣.

(٣) راجع الوسائل ج ٣ ، باب : ٣ من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، وج ٣ ، باب : ٢٩ من أبواب من يصح منه الصوم.

٤٩٠

طريقيا مبتنيا على محض تبليغ الحكم الشرعي فلا معنى لابتنائه على الالزام مع عدم كون الحكم الشرعي إلزاميا.

مع أنه لا يظن بأحد كما لم يعرف من الأصحاب البناء على ذلك أو فهمه من الأدلة.

ولا منشأ لذلك إلّا أن المستفاد من الأوامر المذكورة بحسب المرتكزات ليس هو الوجه الثالث ، لظهورها بل صراحة بعضها في عدم إرادة محض التبليغ ، بل الأمر الحقيقي المبتني على الترغيب والترهيب ، الذي هو اللازم في الوجه الرابع والخامس ، وحيث كانت المفروغية عن عدم تكليف الصبي بضميمة ظهور وصراحة نصوص الأوامر المذكورة في إرادة إلزام الولي للصبي تمنع من الوجه الرابع فيتعين الوجه الخامس.

كما هو المتعين فيما تضمنته النصوص أو قام عليه الإجماع واقتضته المرتكزات من لزوم منعه وتعزيره على بعض المستنكرات كالزنا واللواط وشرب الخمر وقتل النفس المحترمة وغيرها.

فهو نظير ما تضمن الأمر بمنع الصبيان والمجانين عن دخول المسجد لا يكون المراد به إلّا تجنب ذلك من دون خطاب لهم بحرمته أو بكراهته.

نعم ، يمكن مشروعية العبادات من الأوامر المذكورة لا من جهة ما ذكروه ، بل من جهة ظهور نسبة العبادات المذكورة للصبيان في أنهم يؤمرون بها على ما هي عليه بحقائقها المعهودة المستلزم للقدرة عليها كذلك ، لا أن المأمور به صورها لمحض التمرين ، وحينئذ يلزم مشروعيتها ، لتعذر التقرب بها بدونها.

ولا يفرق في ذلك بين جميع الوجوه المتقدمة للأمر بالأمر.

٤٩١

هذا ، مضافا إلى أنه إذا بني على تنزيل حديث الرفع على مجرد رفع الالزام إما لأنه الظاهر فيه ـ كما هو التحقيق ـ أو للجمع بين الأدلة أمكن إثبات مشروعية عبادات الصبي بإطلاق أدلة تشريعها ، حيث يكون مقتضى الجمع بينها وبين الحديث المذكور البناء في حق الصبي على أصل المشروعية. تمام الكلام في محله.

٤٩٢

الفصل العاشر

في الأمر بعد الأمر

ذكرنا غير مرة أن التكليف نحو من الإضافة القائمة بين المكلّف والمكلّف والمكلّف به ، وحيث كانت وحدة الإضافة تابعة لوحدة أطرافها ، والمفروض وحدة المكلف والمكلف فلا بد في تعدد التكليف من تعدد المكلف به ، ومع وحدة المكلف به من جميع الجهات يتعين وحدة التكليف وحينئذ نقول :

إذا ورد الأمر بالماهية الواحدة مرتين ـ مثلا ـ فالأمر مردد ثبوتا بين وجوه ثلاثة :

الأول : أن يراد بهما بيان تكليف واحد تابع لموضوع واحد ، وتكرار البيان للتأكيد أو غيره مما يأتي من دون أن يكشف عن تأكد في التكليف المبين ، لغرض وحدة موضوعه.

الثاني : أن يراد بهما معا بيان تكليف واحد تابع لموضوعين كل منهما صالح لترتبه عليه ، فيراد بكل منهما بيان تحقق التكليف من حيثية موضوع خاص مباين للموضوع الذي بين بالآخر تحقق ذلك التكليف من حيثيته. فيلزمه تأكد التكليف المبين تبعا لتعدد المقتضي له ، من دون تأكيد في البيان ، لفرض عدم اشتراك البيانين في مبين واحد.

٤٩٣

الثالث : أن يراد بكل منهما بيان تكليف مستقل تابع لموضوعه مباين للتكليف المبين بالآخر.

وحيث سبق استلزام تعدد التكليف لتعدد المكلف به ، فلا بد من كون متعلق كل منهما مباينا لمتعلق الآخر وإن كانا تحت ماهية واحدة ، بأن يراد من كل منهما فرد منها مباين للفرد المراد من الآخر ، في مقابل الاكتفاء بصرف الوجود.

ومرجع الثالث إلى عدم تداخل التكليفين في مقام الامتثال ، والثاني إلى التداخل فيه ، لا بمعنى تداخل التكليفين فيه ، لفرض وحدة التكليف ، بل بمعنى التداخل مع تعدد الموضوع ، إذ لا يراد بالتداخل إلّا ذلك على ما يتضح في محله من مبحث مفهوم الشرط.

أما في الأول فلا موضوع لمسألة التداخل لفرض وحدة التكليف تبعا لوحدة موضوعه ، فليس له إلّا امتثال واحد.

إذا عرفت هذا ، فمقتضى إطلاق متعلق التكليف في كل من الخطابين هو الاكتفاء بصرف الوجود المستلزم لوحدة التكليف مع تعدد موضوعه المقتضي له أو وحدته ، فيتردد الأمر بين الوجهين الأولين.

بل في فرض اتحاد موضوع الأمر في الخطابين ـ كما لو ورد مرتين : من ظاهر فليكفر ـ يتعين الوجه الأول ، لتوقف الوجه الثاني معه على عدم كون الموضوع المذكور موضوعا للحكم في أحدهما أو في كليهما ، بل هو مقارن له ، ليمكن فرض ثبوت الحكم من جهتين معه ، وهو خلاف الظاهر.

وكذا الحال لو كان الأمر فعليا لفعلية موضوعه ـ كما قال مرتين لشخص مظاهر : كفر ـ في فرض عدم غفلة الامر ـ كالشارع الأقدس ـ حيث

٤٩٤

يبعد جدا إرادته بيان التكليف من حيثية أحد الموضوعين دون الآخر في كل خطاب لو كان الموضوع متعددا.

بل حيث يكون الموضوع في مثل ذلك جهة تعليلية غير مقصودة بالبيان ، لا يكون المقصود بالبيان إلّا ثبوت الحكم فعلا ، فيكون المبين بالبيانين واحدا كما في الوجه الأول وإن كان الداعي للبيان متعددا.

ودعوى : أن التأكيد في البيان خلاف الأصل ، بل الأصل فيه التأسيس وتعدد المبين إما لتعدد التكليف أو لتعدد الجهة الموجبة له مع وحدته ، وحيث يأتي في مبحث مفهوم الشرط أن الثاني خلاف الأصل ، وأن الأصل عدم التداخل تعين البناء على تعدد التكليف ، كما هو مقتضى الوجه الثالث.

مدفوعة : أولا : بأن أصالة التأسيس ليست بنحو تنهض برفع اليد عما ذكرنا.

وثانيا : بأن تكرار البيان في الوجه الأول قد لا يكون للتأكيد ، بل لغافلة الامر ـ لو أمكن في حقه الغافلة ـ أو المأمور أو جهل أحدهما بالأمر الأول ، كما قد يكون لاختلاف مقام البيان لتعدد المناسبة المقتضية له ، كما لو أمر بالسجود عند قراءة آية العزيمة في مقام بيان أحكام قراءة القرآن ، وفي مقام بيان أقسام السجود الواجب ، حيث لا تأكيد في ذلك ، لاختصاص التأكيد بالبيان اللاحق المبتني على البيان السابق ، دون ما لا يبتني عليه ، ومن الظاهر أنه لا أصل ينفي ذلك ، ليخرج به عما ذكرنا.

وثالثا : أن منشأ البناء على أصالة عدم التداخل ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ هو ظهور دليل كل أمر في أن الموضوع الذي تضمنه سبب مستقل لتكليف مستقل ، وبذلك يخرج عن إطلاق المتعلق الذي سبقت الإشارة إليه ،

٤٩٥

فمع فرض وحدة الموضوع ، أو عدم ذكره ـ وفعلية الأمر ، لا منشأ للبناء على عدم التداخل ، ليخرج به عن إطلاق المتعلق المقتضي للاجتزاء بصرف الوجود.

نعم ، لو كان ظاهر الخطاب تعدد الجهة الموجبة للأمر ، بأن اختلف موضوعه أو شرطه ـ كما في مثل : إن أفطرت فكفر ، وإن ظاهرت فكفر ـ فلا مجال للوجه الأول ، لظهور كل منهما في بيان الأمر من حيثية الشرط أو الموضوع المذكور فيه ، فالتعدد في المبين مع انفراد كل بيان بمبين واحد. بل يتردد الأمر بين الوجهين الآخرين.

ويأتي في مبحث مفهوم الشرط إن شاء الله تعالى أن البناء في مثل ذلك على الوجه الثالث الذي هو مرجع أصالة عدم التداخل.

هذا ، وأما النهي بعد النهي فلا مجال فيه للوجه الثالث ، لفرض كونه استغراقيا يقتضي ترك تمام الأفراد سواء اتحد أم تعدد ، بل يتردد الأمر فيه بين الوجهين الأولين ، ولا أثر للتردد المذكور عملا ، على أنه مما سبق يتضح لزوم حمله على الثاني مع تعدد الموضوع أو الشرط وعلى الأول بدون ذلك ، خصوصا مع اتحاد الموضوع أو الشرط. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

وبهذا انتهى ما أردنا إيراده في مباحث الأوامر والنواهي ، فإنه وإن ذكر جماعة من الأصحاب مسائل الإجزاء ومقدمة الواجب والضد في مباحث الأوامر ، ومسألتي اجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي الفساد في مباحث النواهي ، إلّا أنه حيث كان منهجنا الاقتصار على المباحث اللفظية فلا مجال لبحث هذه المسائل هنا ، بل توكل لمباحث الملازمات العقلية لابتناء عمدة

٤٩٦

الكلام فيها عليها.

ولو كان فيها بعض الجهات المتعلقة بالألفاظ يشار إليها هناك تبعا ، لا بنحو يقتضي ذكرها في مباحث الألفاظ ، والله سبحانه ولي التوفيق.

وكان الفراغ منه ضحى الجمعة ، الثلاثين من شهر ربيع الأول ، سنة : (١٤٠١ ه‍) ، وانتهى تبييضه بعد تدريسه ليلة الأربعاء ، الخامس من شهر ربيع الثاني من السنة المذكورة. والحمد لله رب العالمين.

٤٩٧
٤٩٨

٤٩٩
٥٠٠