المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

كون الأمر به إرشاديا لبيان شرطيته ، من دون أن يكون مطلوبا مولويا استقلاليا.

على أنه لو سلم إرادته من الآية فهي لا تنفع فيما نحن فيه ، لأن اللام في قوله : (لِيَعْبُدُوا) إن كانت للغاية بلحاظ نفس الأمر أو لتقوية العامل ـ التي قد تكون هي لام الإرادة التي ذكرها بعضهم ـ فهي لبيان المأمور به ، وتدل الآية على أنهم لم يؤمروا إلّا بالعبادة الخالصة لله تعالى ـ إن كان الحصر حقيقيا ـ أو لم يؤمر بالعبادة إلّا على وجه الإخلاص ـ لو كان الحصر إضافيا ـ لا أنه يعتبر في الواجبات أن تقع على وجه الإخلاص ، فهي ظاهرة في بيان قضية خارجية أخبر بها عن حال أحكامهم والتشريعات الثابتة لهم ، لا قضية حقيقية تشريعية تتضمن اعتبار الإخلاص في المأمور به ، لتنفع في حقنا.

فالمقام نظير ما لو قال : لم نأمرهم إلّا بالصلاة عن طهارة ، فإنه لا يقتضي اعتبار الطهارة في كل صلاة حتى غير ما امروا به ، بخلاف ما لو قيل : وجعلنا عليهم ألا صلاة إلّا بطهور ، فإنه يقتضي شرطية الطهور في كل صلاة تفرض وإن لم تجب عليهم.

وإن كانت اللام للغاية بلحاظ المأمور به فهي ظاهرة في أنهم امروا بأشياء فائدتها التوفيق للعبادة الخالصة ، نظير ما تضمن بيان فوائد كثير من الواجبات والمستحبات ، ولا دلالة لها على تعيين ما امروا به وأنه عبادي أو غيره.

مع أنه وارد لبيان حكم أهل الكتاب ، فالاستدلال به في حقنا مبني على جريان استصحاب أحكامهم أو أصالة عدم النسخ فيها ، وهو ـ مع أنه خلاف التحقيق ـ لا ينفع في الخروج عن الإطلاق الذي تقدم أنه يقتضي

٤٦١

التوصلية.

اللهم إلّا أن يستفاد من قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ثبوت الحكم المذكور في جميع الأديان. فينهض حينئذ برفع اليد عن الإطلاق المذكور.

ثالثها : ما في غير واحد من النصوص من أنه لا عمل إلّا بنية ، وأن الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى (١).

وربما يظهر من بعضهم الاستدلال به بحمله على النفي الحقيقي بلحاظ دلالته على توقف الأفعال الاختيارية على النية.

لكنه ـ مع بعده في نفسه ، لأنه أمر تكويني خارجي لا غرض ببيانه ـ أجنبي عما نحن فيه ، لأن النية المعتبرة في التعبدي عبارة عن قصد الفعل بنحو مقرب ، ولا يتوقف الفعل الاختياري على ذلك.

مع أن لزوم كون الفعل اختياريا بالمعنى الذي يتوقف على النية أول الكلام ، بل مقتضى الإطلاق عدمه ، كما كان مقتضى إطلاق أدلة الضمان ـ مثلا ـ ترتبه على الإتلاف ولو لم يكن عن قصد.

فالأولى تقريب الاستدلال به بظهوره في الحث على النية بلسان نفي الموضوع ادعاء ، لعدم ترتب أثره ، وهو راجع إلى تقييد إطلاق موضوع الأثر بالواجد للنية ، نظير قولهم عليهم السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) وحيث كان ظاهر النصوص المذكورة إرادة قصد القربة من النية كان مقتضى إطلاقها التعبدية في الواجبات.

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١ ، باب : ٥ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) راجع الوسائل ج ١ ، باب : ١ من أبواب الوضوء.

٤٦٢

لكنه يشكل : بأنه بعد تعذر حمله على الحقيقة فليس حمله على إناطة الإجزاء بالنية الراجع لشرطيتها في متعلق الحكم الشرعي بأولى من حمله على إناطة الثواب ونحوه بها ، لأن كلا منهما مورد لغرض مهم صالح لأن يبين ويصح نفي الحقيقة توسعا بلحاظه.

ودعوى : منافاة ذلك لما ذكروه من أن نفي الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة من نفي الكمال.

ممنوعة ، للفرق بأن الكمال مرتبة زائدة على الصحة ، وتعلق الغرض به متفرع على تعلقه بها ، فنفي الموضوع لأجله معها مبتن على تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، وليس كذلك الثواب والإجزاء ، بل هما أمران متباينان بينهما عموم من وجه موردي يمكن تعلق الغرض بكل منهما بانفراده.

ومثلها دعوى : أن مقتضى الإطلاق العموم لكلا الأمرين. لاندفاعها بعدم الجامع بينهما عرفا ، إذ لو اريد نفي الثواب كانت القضية ارتكازية ، ولو اريد نفي الإجزاء كانت تعبدية محضة ترجع إلى تقييد إطلاقات التشريع بالنية.

وبهذا يظهر أن الأول أظهر في نفسه ؛ لأن انس الذهن بالقضايا الارتكازية يوجب انصراف الذهن إليها مع صلوح الكلام لها ، فإرادة غيرها يحتاج إلى قرينة صارفة ، وبدونها يحمل الكلام عليها عرفا.

ولا سيّما مع استلزام الثاني كثرة التخصيص بنحو ظاهر عند الخطاب بالكلام ، لأن عدم العبادية في كثير من الأعمال في الجملة من الواضحات التي لا تخفى بحال ، خصوصا مع شمول إطلاقها للمستحبات ، بل لموضوعات الأحكام الوضعية التي يرغب المكلف في ترتبها بتحقيق موضوعاتها.

٤٦٣

ومن ثم كان ظاهر القضية آبيا عن التخصيص ارتكازا ، لوضوح أن الآبي عنه هو المعنى الأول الارتكازي.

على أن هذا المعنى هو المتعين من قولهم عليهم السلام : «إنما الأعمال بالنيات» و «لكل امرئ ما نوى». لظهورها في اختلاف العمل باختلاف النية ، لا في نفي العمل عند عدمها ، ليصلح للحمل على عدم الإجزاء بدونها.

ومن الغريب ما في الجواهر من الاستدلال بالنبوي : «إنما الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى ، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عزّ وجل ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلّا ما نوى» (١) ، مع صراحته في إرادة الثواب ، ووروده في الجهاد الذي هو توصلي.

رابعها : ما تضمّن الأمر بالإطاعة ، بدعوى : أن الإطاعة لا تكون إلّا بقصد الامتثال ، فيصلح لتقييد الإطلاق المقتضي للتوصلية.

وفيه : أن الظاهر من الإطاعة في المقام محض الموافقة في مقابل المخالفة ، فتكون الأوامر المذكورة للإرشاد ، كما يظهر من مقابلته بالمخالفة في مثل قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٢) ومن عطف الرسول وحده أو مع أولي الأمر في كثير من الآيات ، مع وضوح عدم اعتبار قصد امتثال أمر غيره تعالى.

ويناسبه ظهور الأوامر المذكورة في مطلوبية الإطاعة استقلالا ، لا في

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب : ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث : ١٠.

(٢) سورة التغابن : ١٢.

٤٦٤

الإرشاد لقيديتها في متعلق الأوامر الاخرى.

وظهور شمولها للنواهي مع عدم الإشكال في عدم اعتبار قصد الامتثال فيها ، ككثير من الأوامر.

والتزام خروجها تخصيصا ـ مع استلزامه تخصيص الأكثر ـ ليس بأولى من حملها على المعنى الذي ذكرناه.

بل ما ذكرناه أولى بعد كونه ارتكازيا ينصرف الذهن إليه ، نظير ما ذكرناه في الوجه السابق ، ولذا كانت آبية عن التخصيص ارتكازا.

وقد تحصل من جميع ما سبق : أنه لا قرينة عامة داخلية أو خارجية مخرجة عن الإطلاق الذي ذكرناه المقتضي للتوصلية.

فلا بد من العمل عليه إلّا في الموارد التي يخرج عنه فيها بالأدلة الخاصة المقتضية للتعبدية.

الجهة الثانية : في مقتضى الأصل العملي ، الذي هو المرجع مع عدم الاصل اللفظي.

ولا ينبغي التأمل بناء على ما سبق من دخل القصد القربي في متعلق الأمر العبادي بنحو التقييد أو بنتيجته في كون المقام من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، التي كان التحقيق فيها جريان البراءة من الأمر المشكوك والاكتفاء في مقام الامتثال بالأقل الذي يعلم التكليف به.

وكذا بناء على وجوبه بأمر ثان ، لأن الأمر الثاني لما كان متمما للجعل الأول فالشك فيه شك فيما يعتبر في الواجب الارتباطي المستفاد من الأمرين معا.

كما أنه بناء على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في سنخ الأمر

٤٦٥

فلا يبعد البناء على عدم منجزية العلم الإجمالي بأحد التكليفين إلّا للأثر المشترك بينهما المتيقن في مقام العمل ، وهو لزوم محض الموافقة ، دون ما يمتاز به التكليف التعبدي من لزوم التقرب به ، فهو نظير ما لو علم إجمالا بوجوب شيء أو استحبابه ، حيث لا ينهض العلم المذكور لتنجيز خصوصية الوجوب وما به امتيازه من لزوم الموافقة ، بل تختص منجزيته بالأثر المشترك بينهما ، وهو حسن الموافقة.

وأما لو كان الفرق بينهما في الغرض الداعي للتكليف ـ كما جرى عليه المحقق الخراساني (قدس سره) وسبقه إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) على اضطراب في كلامه أشرنا إليه عند الكلام في ظاهر الأمر بناء على عدم الرجوع للإطلاق ـ فقد ذكروا أنه لا مجال للرجوع للبراءة والبناء عملا على التوصلية ، حتى لو قيل بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

وما يظهر منهم في وجه الفرق بينهما : أن الشك هناك في تحديد المكلف به ، فقد يتجه دعوى الرجوع في عدم التكليف بالزائد للبراءة ، لعدم المنجز له ، فيكون العقاب عليه بلا بيان ، وللأدلة الشرعية المتضمنة عدم المؤاخذة على ما لا يعلم ، ويقتصر على الأقل لتنجزه بالعلم بالتكليف به على كل حال.

أما هنا فحيث فرض عدم الشك في مقدار الواجب ، لعدم دخل القصد القربي فيه مطلقا وإن كان تعبديا ، فلا موضوع معه للبراءة من التكليف بالزائدة لا العقلية ، ولا الشرعية ، لاختصاصهما بالشك في التكليف.

بل حيث كان الشك في المقام في سقوط التكليف المعلوم بدون القصد المذكور ، لاحتمال اعتباره في مقام الامتثال تبعا لدخله في الغرض لزم

٤٦٦

الاحتياط به ، لإحراز الفراغ عن التكليف المعلوم بحدوده.

لكن لا يخفى أن احتمال عدم سقوط التكليف لعدم حصول الغرض في المقام لما كان متفرعا على احتمال دخل القصد القربي في الغرض وعلى لزوم موافقة غرض المولى وتبعية سقوط التكليف لحصول غرضه ، فهو يجري في الشك في دخل شيء في المأمور به ، الذي هو موضوع مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لما هو المعلوم من ملازمة احتمال دخل شيء في المأمور به لاحتمال دخله في غرض الأمر به ، ومع فرض اختصاص أدلة البراءة في الشك في التكليف فهي لا تقتضي إلّا السعة من حيثية التكليف ، لا من حيثية الغرض ، بل يرجع الشك من حيثية الغرض للشك في سقوط التكليف بدونه بعين البيان المذكور هنا.

ومن هنا ذكرت شبهة الغرض وجها للاحتياط في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

فلا بد في البناء على البراءة من دفعها ، وقد ذكر جملة من الوجوه لذلك تنفع كلها أو جلها في المقام لو تمت.

وعمدتها ـ حسبما ذكرناه في محله ـ أن بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض من وظيفة المولى بعد فرض تصديه لحفظ غرضه بالتكليف ، ولا يجب حفظه على المكلف إلّا من حيثية ما بين دخله فيه ، دون غيره من الجهات ، فمع قصور بيانه عن دخل بعض الامور فيه لا يتنجز وجوب حفظه من حيثيته ، كما لا يتنجز احتمال عدم امتثال التكليف لاحتمال دخل ما لم يبين المولى دخله في متعلقه من الأجزاء والشرائط.

ومن الظاهر أن هذا الوجه يجري في المقام لأن المفروض تصدي المولى

٤٦٧

لحفظ غرضه بالتكليف ، وقصور بيانه عن إثبات دخل قصد التقرب فيه ، فلا يتنجز حفظ الغرض من حيثيته بعين البيان المتقدم.

ومن هنا كان الظاهر على جميع المباني البناء على البراءة عند احتمال كون الواجب تعبديا ، إما لأن هذه المسألة من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ـ التي كان التحقيق فيها البراءة ـ أو لأنها نظيرها.

بل ربما كان جريان البراءة فيها أظهر منه في تلك المسألة ، بناء على أن الفرق بين التوصلي والتعبدي في سنخ الأمر ، لما تقدم.

وقد تحصل من جميع ما تقدم أن التحقيق كون خصوصية التعبدية كسائر الخصوصيات المأخوذة في المتعلق ، والتي يكون مقتضى الإطلاق نفيها ، ومقتضى الاصل البراءة منها.

وإنما أطلنا الكلام فيها لكثرة الشبهات التي أثيرت حول ذلك من الأعيان والأكابر في العصور المتأخرة ، والتي أوجبت تعقد هذه المسألة وغموض الحال فيها واضطراب مبانيها.

ونأمل منه تعالى أن نكون قد وفقنا للخروج منها بالوجه المناسب. وهو ولي العصمة والسداد ، ولا حول ولا قوّة إلّا به.

بقي في المقام امور

الأول : ذكرنا في الأمر الثالث من مقدمات الكلام في هذه المسألة أنه يكفي في التقرب قصد ملاك المحبوبية وإن لم يقصد امتثال الأمر.

ولا إشكال في الاكتفاء بذلك في التعبدي لو كان الدليل المثبت لكونه تعبديا ظاهرا في الاكتفاء بقصد التقرب ، أما لو كان مجملا من هذه الجهة

٤٦٨

فيتوقف الاكتفاء به على أن تكون التوصلية مقتضى الإطلاق أو الأصل ، لأنها إن كانت مقتضى الإطلاق كان دليل التعبدية مقيدا له ، ومع دوران القيد بين الأقل والأكثر يتعين الاكتفاء بالأقل ، اقتصارا في الخروج عن الإطلاق على المتيقن.

وكذا إذا كانت مقتضى الأصل ، لمشاركته للإطلاق في لزوم الاقتصار في الخروج عنه على المتيقن.

أما إذا كان مقتضى الدليل العام أو الخاص المثبت لكون الواجب تعبديا هو اعتبار ما زاد على قصد التقرب فلا بد من البناء عليه ، كما أشرنا إليه عند الكلام في الوجه الأول من وجوه الاستدلال على أصالة التعبدية.

كما أنه بناء على أن التعبدية مقتضى الأصل ، لرجوع الشك فيها للشك في سقوط التكليف والفراغ عنه ، فاللازم مع عدم الدليل الخاص أو العام على التوصلية الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل دخله مما زاد على قصد التقرب ، كقصد الامتثال وغيره.

ومنه يظهر الحال في قصد الوجه ـ الذي هو عبارة عن قصد الأمر بخصوصيته من الوجوب أو الاستحباب داعيا ـ والتمييز ـ الذي هو عبارة عن قصد الفعل بعنوانه المنتزع من كونه متعلقا للوجوب أو الاستحباب بخصوصيته ، أو تمييز الأجزاء الواجبة أو المستحبة ـ فإنهما كقصد الامتثال زائدان على قصد التقرب ، فيدفعان بالإطلاق أو الأصل ، بناء على ما سبق من أنهما يقتضيان التوصلية.

ومثلهما الكلام في الاجتزاء بالامتثال الاحتمالي إذا أصاب الواقع بالامتثال الإجمالي مع التكرار وبدونه ، لأنه يكفي في التقرب بالفعل الإتيان به

٤٦٩

لاحتمال كونه مطلوبا بنحو الشبهة البدوية أو المحصورة ، فعدم الاجتزاء بذلك لاعتبار أمر زائد على التقرب يحتاج إلى دليل مخرج عن مقتضى الإطلاق والأصل.

وقد ذكرنا في الفصل الخامس من مباحث القطع الكلام في وجوه الاستدلال على ذلك. فراجع.

الثاني : لا يخفى أن إشكال التعبدي والنقض والإبرام فيه يختص بما إذا كان الأمر نفسه تعبديا بمعنى أنه قد اخذ في متعلقه التقرب به من حيثيته ، إما بقصد امتثاله أو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف به أو نحوهما ، أما لو كان الأمر توصليا وقد اعتبر التقرب في موضوعه ولو من غير جهته ، أو اعتبر التقرب به في موضوع حكم آخر فلا إشكال أصلا ، بل هو كسائر القيود غير المترتبة على الحكم المقيد والتي يمكن لحاظها في مرتبة سابقة عليه.

ومن ذلك عبادية الطهارات ، لوضوح أن أمرها النفسي ـ وهو الأمر بالكون على الطهارة ـ توصلي لا يعتبر في امتثاله التقرب به فيها ، بل هو راجع إلى استحباب الكون على الطهارة بالمعنى الاسم المصدري ، وإن كان إحداث الطهارة بالمعنى المصدري بداعي أمر آخر غير الاستحباب المذكور.

وكذا الحال في مطلوبيتها الغيرية ، سواء قيل بثبوت الأمر الشرعي الغيري ، أم بعدمه وأن لزوم المقدمة عقلي لتوقف امتثال ذي المقدمة عليها ، ومقربيتها بلحاظ كونها شروعا في امتثاله ـ كما هو التحقيق ـ لما هو المعلوم من أن مطلوبية المقدمة ليست تعبدية ، فلا يعتبر في مقدمية المقدمة التقرب بأمرها المقدمي ، بل يكفي حصولها بأي وجه اتفق.

غاية الأمر قيام الدليل على ان سببية أسباب الطهارات لها مشروطة

٤٧٠

بإيقاعها بوجه عبادي ، ومن الظاهر أن عبادية الطهارة لا تتفرع على سببية أسبابها لها ، لتتوجه شبهة امتناع تقييدها بها ، على نحو ما سبق في التعبدي.

ومن هنا لو فرض الشك في معيار التعبدية المعتبرة وأنه يكفي محض التقرب أو ما زاد عليه فالمتعين الاكتفاء بمحض التقرب اقتصارا في الخروج عن إطلاق دليل سببية أسباب الطهارة لها على المتيقن.

ومن الظاهر أن يكفي في الجهة المصححة للتقرب العلم بالأمر بالشيء أو بمقدميته لما هو المأمور به ، ولو كانا توصليين ، كما يكفي في ذلك اعتقاد أحد الأمرين أو احتماله ـ بنحو يؤتى بالفعل لرجاء حصوله ـ وإن انكشف خطأ الاعتقاد المذكور أو عدم مطابقة الاحتمال للواقع.

بل يكفي في ذلك التهيؤ لامتثال أمر غير فعلي بما يتوقف عليه يعلم أو يتوقع فعليته بعد ذلك.

فيتجه صحة الطهارات في جميع ذلك ، ولا ملزم بتوقفها على ثبوت الأمر واقعا وفعليته.

وبهذا يظهر الحال في كثير من الفروع المترتبة على اعتبار النية في الطهارات ، والتي تعرض لها الفقهاء في محالها المناسبة.

الثالث : ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن التوصلي قد يطلق ويراد به ، تارة : ما لا يعتبر صدوره عن قصد واختيار. واخرى : ما سقط بفعل الغير باستنابة أو تبرع. وثالثة : ما يسقط بالفرد المحرم.

وقد أطال الكلام في مقتضى الإطلاق والأصل لو شك في كون المأمور به توصليا بأحد المعاني المذكورة وعدمه.

والذي ينبغي أن يقال : ظاهر الأمر بفعل شيء لزوم صدوره عن

٤٧١

المأمور ، بحيث يصح نسبته إليه ، وإن لم يقصده بذاته ، فضلا عن أن يقصده بعنوانه الخاص الذي اخذ في متعلق الأمر كعنوان الغسل.

ولذا كان إطلاق دليل ضمان المتلف للمثل أو القيامة والقاتل للدية شاملا لمن يقع منه أحد الأمرين من دون قصد إليهما.

نعم ، لا بد فيه من استناد الفعل إليه بحيث يستقل به ولو بفعل سببه التوليدي الذي لا يحتاج معه إلى توسط فعل الغير ، وبدون ذلك لا يصح نسبة الفعل للشخص ، فمن اوقع على شخص فقتل أو على مال فتلف لا يصح نسبة القتل والاتلاف إليه ، بل إلى موقعه.

ومنه يظهر أن مقتضى الظهور المذكور عدم الاجتزاء بفعل الغير مع الاستنابة فضلا عن التبرع ، بل لا بد فيه من دليل عام أو خاص يقتضي بدلية فعل المستناب والمتبرع عن فعل المكلف.

نعم ، قد لا يكون ظاهر الدليل تكليف الشخص بفعل المأمور به ، بل بتحققه في الخارج بأي وجه اتفق ، كما لو قيل : يجب عليك أن تكون أرض الدار طاهرة يوم الجمعة ، بناء على ما سبق في مبحث الواجب الكفائي من إمكان التكليف بوجود الماهية في مقابل عدمها المطلق ، من دون أن يقتضي التكليف بخصوصية إيجادها.

وحينئذ يتجه الاكتفاء بفعل الغير مع عدم الاستنابة ولا التبرع ، فضلا عما إذا كان مع أحدهما.

بل الاكتفاء بحصول المكلف به في الخارج ولو من غير فاعل مختار ، كما لو طهّر المطر في المثال المتقدم أرض الدار.

غايته أنه لا يكون المكلف معه ممتثلا ولا مشاركا في الامتثال ، بل

٤٧٢

يسقط التكليف عنه بحصول المكلف به وتحقق الغرض الداعي له.

ودعوى : أنه من باب سقوط التكليف بتعذر الامتثال ، لارتفاع موضوعه من دون حصول المكلف به ، نظير تعذر إجراء أحكام الميت عليه بتلفه. ولذا يكون خلاف الاصل للشك معه في المسقط ، بل خلاف الإطلاق ، لأن مقتضى الإطلاق بقاء التكليف وإمكان امتثاله ما دام المكلف به مقدورا.

مدفوعة : بأن ذلك إنما يتم في فرض عدم حصول الغرض وتعذر تحصيله ، ولذا يجب على المكلف المنع منه ، لما فيه من التعجيز عن الامتثال ، كما في حرق الميت في المثال ، لا في مفروض الكلام من حصول الغرض المستلزم لحصول المكلف به ، لتبعيته له ، ولذا لا يجب المنع منه.

هذا ، ولو فرض إجمال الدليل وعدم الإطلاق فحيث كانت خصوصية المباشرة زائدة على الماهية كان الأصل عدم التكليف بها.

ودعوى : أن الشك في المقام حيث كان في سقوط التكليف فالمرجع معه الاشتغال.

مدفوعة : باختصاص الاشتغال بما إذا كان الشك في السقوط للشك في الامتثال مع تحديد المكلف به ، دون مثل المقام مما كان الشك فيه للشك في حدود المكلف به.

بل هو من صغريات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، التي كان التحقيق فيها البراءة.

وأصالة عدم سقوط التكليف بغير الامتثال ، لا أصل لها ، وإنما الأصل عدم سقوطه مع عدم حصول المكلف به الذي يتنجز التكليف به ، والمفروض حصوله في المقام وإن لم يكن امتثالا ، كما يظهر مما ذكرنا.

٤٧٣

وأما السقوط بالفرد المحرم فهو موقوف على أن يكون الفرد المحرم واجدا لملاك الوجوب ، ولا يكون تحريمه مستلزما لخروجه عن إطلاق الواجب رأسا ، بل يكون واجدا لكلتا الجهتين المقتضيتين لكل من الوجوب والتحريم ، وإن فرض عدم فعلية وجوبه ، لامتناع اجتماعه مع التحريم الفعلي ، لأن عدم فعلية وجوبه لا تنافي إجزاءه بعد فرض واجديته للملاك.

والمعيار في إحراز حال الفرد ، وأنه واجد للملاك أو لا موكول لمسألة اجتماع الأمر والنهي ، لأنه راجع لإحراز موضوعها ، وقد ذكرناه في مبحث التزاحم في مقدمات الكلام في تعارض الأدلة. ولا مجال للكلام فيه هنا مع ذلك. والحمد لله رب العالمين. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٤٧٤

الفصل السابع

في أن متعلق الأمر والنهي هو الطبائع أو الافراد

قد اختلفت كلماتهم في تحرير محل النزاع في المقام ، بنحو قد يظهر منه عدم الاتفاق عليه في كلام المتنازعين وأن كل طرف يختار ما لا يدفعه الآخر ويدفع ما لا يختاره.

ومن هنا كان المناسب التعرض لما ينبغي البناء عليه في ضمن امور قد يتضح بها الحال.

الأول : لا ريب في أن محط الأغراض والملاكات هو الوجود الخارجي ، دون الماهية بنفسها مع قطع النظر عنه ، فلا يعقل تعلق الأمر والنهي بالماهية من حيث هي. ولا يظن من أحد النزاع في ذلك.

نعم ، قد يظهر من استدلال القائلين بتعلق الأمر والنهي بالأفراد بأن الطبيعة من حيث هي لا وجود لها في الخارج ، منافاة القول بتعلقهما بالطبائع لما ذكرنا.

لكن الظاهر أنه في غير محله ، ولعله يبتني على الجمود على لفظ الطبيعة ومقابلتها بالفرد.

كما أن الاستدلال المذكور قد يكشف عن كون مراد القائلين بتعلق الأمر بالأفراد تعلقه بالطبيعة الخارجية الموجودة بوجود الفرد ، في مقابل تعلقه

٤٧٥

بالطبيعة من حيث هي ، دون ما يأتي مما قد ينسب لهم ، وهو يناسب ما ذكرنا من عدم تحديد محل النزاع.

الثاني : قيام الغرض والملاك والمصالح والمفاسد بأفراد الماهية بنحو يقتضي الأمر والنهي تارة : يكون لاستناد الغرض إلى خصوص ما به الاشتراك بينها ، ويكون ما به امتياز كل منها مقارنا لمورد الملاك غير دخيل فيه ، كما لو كان منشأ تعلق الغرض بإكرام العلماء بنحو البدلية أو الاستغراق مجرد العلم المشترك بينهم ، بحيث لو فرض ـ ولو محالا ـ تجرده عن كل خصوصية لكفى في تعلق الغرض بالإكرام.

واخرى : يكون لدخل ما به امتياز كل منها فيه بنحو البدلية ، كما لو كان كل من العلم والإحسان والكرم والشرف كافيا في تعلق الغرض بإكرام من اتصف بها ، وكان من في الدار بين عالم ومحسن وكريم وشريف ، فيتعلق الغرض بإكرام من فيها.

وحيث كان متعلق الأمر والنهي هو موضوع الغرض تعين في الصورة الاولى تعلق الأمر بالجهة المشتركة بين الأفراد ، دون خصوصياتها ، وفي الثانية تعلقه بالخصوصيات بنحو الاستغراق أو البدلية ، وعدم الاكتفاء بالجهة المشتركة ـ كالكون في الدار في المثال ـ بعد عدم وفائها بالغرض.

ولو كان الأمر بدليا كان التخيير في الأولى عقليا ، وفي الثانية شرعيا ، على ما ذكرناه في أول مبحث الواجب التخييري ضابطا في الفرق بين التخييرين.

لكن يظهر من غير واحد أن مراد القائلين بتعلق الأمر والنهي بالأفراد دخل الخصوصيات الفردية في متعلقهما مطلقا حتى في الصورة الاولى.

٤٧٦

وهو بعيد جدا ، بل أنكره بعضهم أشد الإنكار ، قال بعض المحققين (قدس سره) : «جعل اللوازم الغير الدخيلة في الغرض مقومة للمطلوب بعيد جدا عن ساحة العلماء والعقلاء».

ولعل منشأ النسبة إليهم الجمود على لفظ الأفراد من دون ملاحظة بقية كلماتهم ، وقد سبق أن استدلالهم المتقدم يناسب كون مرادهم بذلك ما يقابل تعلقهما بالطبيعة من حيث هي.

هذا كله في مقام الثبوت ، وأما في مقام الإثبات فمن الظاهر أن جعل الطبيعة متعلقا للأمر والنهي ظاهر في الصورة الاولى ، دون الثانية ، لرجوع الثانية إلى أن ذكر الطبيعة لمحض الإشارة بها للأفراد ، من دون أن تكون بنفسها موردا للغرض ، والحكم ، وهو خلاف الظاهر جدا ، بل خلاف المقطوع به في غالب الموارد.

الثالث : لا يخفى أن قيام الوجودات الخارجية بلحاظ الجهة المشتركة بينها بالملاكات من المصالح والمفاسد الموجبة لتعلق الغرض بتحقيقها أو بتركها هو الموجب لتعلق الأمر والنهي بتلك الجهة المعبر عنها بالماهية الخارجية ، بمعنى أن الحاكم يلحظ تلك الجهة بما لها من حدود مفهومية ويجعلها موضوعا لأمره ونهيه ، وحيث كان مقتضى الأمر تحقيق متعلقه في الخارج ومقتضى النهي تركه كان الأمر داعيا للوجود الخارجي بلحاظ واجديته للجهة المشتركة ، والنهي داعيا لتركه بلحاظ ذلك.

وحينئذ فبلحاظ تعلق الأمر والنهي بالجهة المشتركة يتجه دعوى تعلقهما بالطبيعة ، وبلحاظ داعويتهما لتحقيق الوجود الخارجي أو لتركه يتجه دعوى تعلقهما بالأفراد.

٤٧٧

ولم يتحصل لنا بعد النظر في كلماتهم وجود مخالف في ذلك ، كما لم يتضح لنا وجود نزاع جوهري يصح الكلام فيه في هذه المسألة زائد على ما بينا ، بل يقرب كون النزاع المذكور فيها شبيها بالنزاع اللفظي ناشئا عن عدم تحديد محل النزاع.

نعم ، ربما يكون النزاع فيها مبتنيا على بعض مباحث المعقول ، كما يظهر من بعض المحققين (قدس سره) حيث ذكر : أنه إما أن يبتني على النزاع في إمكان وجود الكلي الطبيعي في الخارج وامتناعه ، فمن يقول بإمكانه يقول بإمكان تعلق الأمر والنهي بالماهية ، للقدرة عليها ، ومن يقول بامتناعه يقول بتعلقهما بالأفراد ، لأنها المقدورة ، دون الماهية.

أو على النزاع في أصالة الماهية أو الوجود ، فمن يقول بالأول يقول بتعلق التكليف بالماهية ، ومن يقول بالثاني يقول بتعلقهما بالأفراد.

وحيث لا يسعنا الكلام في تحقيق أحد الأمرين ، بل لا يبعد عدم رجوع النزاع فيهما إلى محصل ، فلا مجال لإطالة الكلام في هذه المسألة بأكثر مما ذكرنا.

الرابع : لا يخفى أن تعلق التكليف بمتعلقه ليس على حدّ تعلق سائر الأعراض بمتعلقها ، لوضوح أن العرض الخارجي لا يقوم إلّا بمعروضه الخارجي ، ويمتنع فعليته مع عدم فعليته ، أما التكليف فوجود متعلقه موجب لسقوطه بالامتثال أو العصيان ، ولا يكون فعليا إلّا في ظرف عدم وجوده.

بل هو يتعلق بمتعلقه بما له من حدود مفهومية ـ كما سبق ـ من دون أن يكون موجودا في الخارج ، لكن بنحو يدعو إلى إيجاده أو إلى تركه. فإضافته إليه نظير إضافة التناقض للنقيضين والتضاد للضدين.

٤٧٨

ويشاركه في ذلك من الأحكام الوضعية الملكية المتعلقة بالكليات من الأعمال والأعيان ، دون المتعلقة بالامور الشخصية ودون بقية الأحكام الوضعية.

ومنه يظهر أنه لا موقع للإشكال في تعلق الطلب بالوجود بأنه إن كان سابقا على المطلوب لزم وجود العرض دون معروضه ، وإن كان متأخرا عنه لزم طلب الحاصل ، إذ يفي ما ذكرناه ببيان الحال ، ولا ينبغي معه إطالة الكلام فيما ذكره بعضهم في دفعه.

٤٧٩
٤٨٠