المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

وفي المقام إذا كان الملاك الملحوظ للمولى يقتضي التعبدية فحيث يستحيل استيفاؤه بأمر واحد يتعين للمولى أن يأمر أولا بذات العبادة ، ثم يأمر ثانيا بالإتيان بها بقصد امتثال الأمر الأول الذي لا يلزم منه شيء من المحاذير السابقة ، وحيث فرض أن الأمرين ناشئان عن غرض واحد كانا ارتباطيين في مقام الامتثال ، ويمتنع سقوط أحدهما بالامتثال دون الآخر.

وقد أورد المحقق الخراساني (قدس سره) على تعدد الأمر في مثل ذلك بعدم الحاجة إلى الأمر الثاني حينئذ ، بل على الامر أن يتكل على ما يحكم به العقل من أنه مع عدم حصول الغرض بمجرد موافقة الأمر الأول يجب على المكلف موافقته بالنحو الذي يحصل به الغرض بالإتيان بجميع ما يكون دخيلا فيه ، وإن لم يؤخذ في الأمر.

وقد دفعه سيدنا الأعظم (قدس سره) بأنه إنما يتم مع علم المكلف بعدم حصول الغرض ، وكذا مع الشك لو قيل بحكم العقل بالاحتياط ، أما لو قيل بحكمه بالبراءة فلا مانع من الأمر الثاني مولويا ، ليكون رافعا لحكم العقل.

بل لو قيل بأن حكم العقل بالاحتياط منوط بعدم البيان من الشارع الأقدس صح الأمر مولويا وكان واردا على حكم العقل.

والظاهر رجوع ما ذكره بعض الأعيان المحققين إلى ذلك ، بل لا يبعد رجوع ما ذكره بعض المحققين إليه في الجملة أيضا.

لكن لا يخفى أن ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) ناظر إلى مقام الثبوت ، لا الإثبات ، فمرجعه إلى أنه بعد فرض عدم وفاء مجرد موافقة الأمر الأول بالغرض يحكم العقل بموافقته بالنحو الذي يحصل به الغرض من دون

٤٤١

حاجة إلى أمر شرعي ، بل هو يلغو معه.

أما مقتضى الوظيفة الظاهرية عند الشك في حصول الغرض بمحض الموافقة فهو أمر آخر يأتي في المقام الثاني المعد لمقام الإثبات ، فإن قلنا هناك بتوقف عدم الاكتفاء بمحض الموافقة على البيان الشرعي ـ وحكم العقل بالبراءة بدونه ـ لزم على المولى البيان محافظة على الغرض.

بل قد يلزم البيان عليه أو يحسن حتى لو قيل بلزوم الاحتياط تجنبا لفوت الغرض بسبب قصور بعض المكلفين على استيضاح الحكم المذكور أو غفلته عن احتمال عدم حصول الغرض بمجرد الموافقة.

لكن البيان لا يكون بالجعل الآخر والأمر الثاني الذي هو محل الكلام ، بل بمحض الكشف عن حال الغرض ، لتنقيح صغرى حكم العقل المذكور.

وبعبارة اخرى : مراد المحقق الخراساني (قدس سره) اكتفاء الشارع في مقام الثبوت بحكم العقل بلزوم تحصيل الغرض عن الأمر الثاني ، لا اكتفاؤه في مقام الإثبات بحكم العقل بالاحتياط في تحصيل الغرض عند الشك فيه عن بيان حال غرض الأمر الأول.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن شأن العقل إدراك أن الشيء قد أراده الشارع ، وليس من شئونه الأمر والتشريع حتى يكون شارعا في قبال الشارع.

لاندفاعه : بأن المدعى ليس هو إلزام العقل بقصد الامتثال ابتداء ، ليكون شارعا في قبال الشارع ، بل بتوسط فرض توقف غرض الشارع عليه ، نظير حكمه بوجوب الإطاعة في فرض ورود الأمر الشرعي.

ومرجع ذلك إلى أن موضوع وجوب الإطاعة عقلا لا يختص بالأمر ،

٤٤٢

بل يعم تحصيل الغرض ولو بدونه.

إلّا إن يكون مراده إنكار ذلك وتخصيص موضوع وجوب إلا طاعة بالأمر.

لكنه في غير محله ، على ما يأتي في الوجه الثالث من وجوه الفرق بين التعبدي والتوصلي إن شاء الله تعالى.

فالعمدة في دفع ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) أن حكم العقل بلزوم غرض المولى وإن تم إلّا أنه لا يمنع من أمر المولى بما يتوقف عليه حصول غرضه ، ولا يستلزم لغويته ، وإلا لزم اكتفاء المولى ببيان موضوعات أغراضه عن جميع أحكامه ، ولا يحتاج في التعبد حتى إلى الأمر الأول الذي يعترف (قدس سره) به.

بل يأتي في الوجه الثالث أن تعلق غرض المولى بشيء بعد فرض عدم غفلته مستلزم للأمر به استقلالا ، أو في ضمن غيره جزءاً أو شرطا ، فلا موضوع لما ذكره (قدس سره).

نعم ، ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) مبني على إمكان الإهمال في مقام الثبوت وعدم انحصار أمر الجعل بالإطلاق والتقييد ، إذ حينئذ لا يكون عدم تقييد متعلق الأمر الأول مستلزما لإطلاقه ثبوتا ، ليكون مخلا بالغرض ، بل يكون المتعلق مهملا من هذه الجهة ثبوتا ، فلا يلزم إلّا قصوره عن استيفاء الغرض ، ويتوقف استيفاؤه على متمم الجعل وهو الأمر الثاني.

أما بناء على امتناع الإهمال ، وإن المتعلق لا يخرج عن الإطلاق والتقييد ـ كما يأتي في المقام الثاني ـ فعدم تقييد متعلق الأمر الأول مستلزم لإطلاقه ، المستلزم لإخلاله بالغرض الممتنع في نفسه ، ولكون الأمر الثاني من سنخ

٤٤٣

الناسخ لإطلاق الأمر الأول لا المتمم له ، وهو خلاف الفرض.

ولأجله لا بد من البناء على قصور متعلق الأمر الأول ابتداء واختصاصه بواجد القيد ثبوتا وإن لم يؤخذ بلسان التقييد ، فلا يكون الأمر الأول قاصرا عن استيفاء الغرض ، ليحتاج إلى متمم الجعل بالأمر الثاني ، بل وافيا به ، غاية الأمر أنه يحتاج إلى بيان قصور متعلقه في مقام الإثبات ، نظير ما ذكرناه آنفا بناء على اختصاص القصد القربي بقصد الامتثال.

مضافا إلى أن الأمر الأول لما لم يكن وافيا بغرض المولى ـ بالفرض ـ فقصد امتثاله لا يكون مقربا ، إلّا بلحاظ ما سبق في الجهة الاولى من إمكان التقرب بقصد بعض ما يحصل الغرض أو مقتضيه في ظرف تمامية العلة له ، وهو لو تم اقتضى الاكتفاء مع وحدة الأمر بقصد مقتضي الامتثال وموافقة الأمر الضمني الوارد على ذات العبادة ، الذي سبق منا أنه معه لا يتم ما ذكره (قدس سره) في وجه امتناع تقييد متعلق الأمر مع وحدته.

ومن هنا كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره (قدس سره) من ابتناء التعبدي على متمم الجعل وتعدد الأمر. فلاحظ.

الوجه الثاني : في أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في ماهية الأمر وسنخه.

قد يدعى أن التعبدي سنخ من الأمر يقتضي إيجاد متعلقه بقصد امتثاله ، بخلاف التوصلي فإنه سنخ آخر منه يقتضي تحقيق متعلقه مطلقا ، فالفرق بينهما نظير الفرق بين الوجوب والاستحباب ، حيث يقتضي الأول منهما لزوم الإطاعة بخلاف الثاني من دون فرق بينهما في المتعلق.

ولا يخفى أن تخصيص مقتضى التعبدي بقصد الامتثال مبني على

٤٤٤

ما هو المشهور من انحصار القصد القربي به ، أما بناء على الاكتفاء فيه بوجه آخر فيكون هو الفارق في المقام.

ومن هنا لا مجال للإشكال فيه من بعض الأعاظم (قدس سره) بعدم اختصاص الداعي القربي بالقصد المذكور ، كي يدعى كونه من لوازم ذات الأمر.

نعم ، استشكل فيه ـ أيضا ـ باستحالة كون دعوة الأمر موجودة بوجوده وفي عرضه ، وإلا لتقدم الشيء على نفسه.

وكأنه راجع إلى أن تأخر داعوية الأمر رتبة تمنع من إفادة الأمر نفسه لزومها بحيث يوجد بإنشائه.

لكنه ـ مع ابتنائه على اختصاص الداعي القربي بقصد امتثال الأمر الذي سبق الكلام فيه ـ إنما يتم لو كان المدعى دخل لزوم الداعوية في مفهوم الأمر التعبدي ، بحيث يكون به امتيازه ، ويكون مقوما له وينشأ بإنشائه ، أما لو كان المدعى أن ما به امتيازه عن التوصلي أمر آخر يستلزم لزوم داعوية الأمر في مقام الامتثال فلا مانع من ذلك ، نظير اقتضاء كل أمر لأن يمتثل مع أن امتثال الأمر متأخر عنه رتبة كداعويته.

ومجرد التأخر الرتبي لا يمنع من وجود المتأخر بإيجاد المتقدم ، كما هو الحال في جميع اللوازم وإن كانت متأخرة رتبة عن ملزوماتها.

ومن هنا كان الظاهر أن اختلاف ماهية الأمر بالنحو المذكور بمكان من الإمكان.

نعم ، لا شاهد عليه ، بل لا يدرك العقل للأمر إلّا حقيقة واحدة ، وأن إطاعته مطلقا تكون بتحقيق متعلقه في الخارج ، ولا يعتبر في مقام الإطاعة

٤٤٥

إلّا ما اعتبر في المتعلق شطرا أو شرطا.

هذا ما تقتضيه المرتكزات المحكمة في المقام ، والتي هي المرجع في مثل ذلك من دون حاجة للبرهان.

الوجه الثالث : في أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في الغرض الداعي للأمر.

من الظاهر أن اختلاف التعبدي والتوصلي في الغرض الداعي للأمر ليس موردا للإشكال في نفسه ، وإنما الإشكال في أن الاختلاف بينهما في الغرض هل يستلزم الاختلاف بينهما في المتعلق مع وحدة الأمر أو تعدده ـ كما هو مقتضى الوجه الأول ـ أو في سنخ الأمر ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني ـ أولا يستلزمه ، بل يكون حتى مع وحدة سنخ الأمر ومتعلقه.

وقد اختار الثاني المحقق الخراساني (قدس سره) حيث أصر على وحدة الأمر والمتعلق فيهما من دون أن يشير للاختلاف بينهما في السنخ ، ومع ذلك ذكر أن الأمر التوصلي يحصل غرض الامر منه بمجرد موافقته ، فيسقط بذلك تبعا لحصول الغرض.

بخلاف التعبدي فإن حصول غرضه منه يتوقف على موافقته بقصد الامتثال ، فلا يسقط بدونه ، لتبعية الأمر للغرض حدوثا وسقوطا ، فيجب قصد الامتثال عقلا وإن لم يؤخذ فيه شرعا ، لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الامر بمجرد موافقة الأمر بوجوب موافقته بنحو يحصل به الغرض كي يسقط الأمر.

وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام في تعدد الأمر.

لكن استشكل فيه بعض الأعاظم (قدس سره) ، أولا : بابتنائه على

٤٤٦

اختصاص القصد القربي بقصد الامتثال.

وثانيا : باستحالة كون دعوة الأمر غرضا منه وموجودة بوجوده.

وثالثا : بعدم لزوم متابعة الغرض.

إلّا أنه يظهر حال الأول مما تقدم في الوجه الثاني.

كما أن ظاهره كون المراد بالثاني ما تقدم منه في دفع الوجه المذكور. ويظهر اندفاعه مما تقدم.

مضافا إلى أنه ـ لو تم ـ إنما يمنع من استناد لزوم داعوية الأمر للأمر نفسه ، بنحو يكون هو المقتضي لها ـ كما تقدم في الوجه الثاني ـ وليس هو محل الكلام هنا ، بل المدعى استناده إلى تعلق الغرض المستكشف بالأمر أو بغيره وأنه هو المقتضى للموافقة بالوجه المذكور.

ومجرد صدور الأمر عن مثل هذا الغرض لا يستلزم استناد لزوم الداعوية للأمر المذكور ، كما لعله ظاهر. ولعله لذا اهمل في تقرير درسه للكاظمي.

وأما الثالث فهو وإن ذكر في تقريري درسه ، وقد أصر عليه شيخنا الاستاذ (قدس سره) ، مدعيا أن موضوع الإطاعة الواجبة عقلا يختص بالأمر الشرعي ، وأن الشارع إنما عبدنا بأحكامه دون أغراضه ومرغوباته ، إلّا أنه حكي عنه (قدس سره) العدول عن ذلك مدعيا إلزام العقل بموافقة غرض المولى ، لاندراجه تحت الكبرى العقلية بلزوم الإطاعة ، وعليه جرى غير واحد من الأكابر ، بل يظهر من بعضهم المفروغية عنه.

وهو الموافق للمرتكزات العقلية القطعية في باب الإطاعة والمعصية.

بل لزوم موافقة الأمر والنهى ارتكازا إنما هو بلحاظ كاشفيتهما عرفا عن غرض الامر والناهي ، الذي هو الموضوع الحقيقي لوجوب الإطاعة عقلا ،

٤٤٧

لا لخصوصيتهما فيه ، فيجب القيام بغرض المولى لو علم به وإن لم يصدر أمر أو نهي من قبله ، لعجزه عنهما أو تخيله عدم الفائدة فيهما.

بل يكفي في ذلك عندهم بلوغ الملاك مرتبة لو التفت المولى إلى بلوغها لتعلق غرضه به وأمر أو نهي على طبقه ، وإن كان غافلا لسهو أو نوم أو نحوهما ـ لو أمكن في حقه ـ على ما أشرنا إليه عند الكلام في معيار المقربية.

وقد تقدم في الأمر الخامس من الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية ما ينفع في المقام.

وأما ما سبق من شيخنا الاستاذ (قدس سره) من أن الشارع إنما عبدنا بأحكامه ، فالمراد به غير ظاهر ، إذ لم يصدر من الشارع تعبد بالأحكام في قبال جعلها ، كي يصلح لأن يكون بيانا منه لما ينبغي إطاعته ـ لو كان من شأنه التعرض لذلك ـ بل ليس وراء جعله الأحكام إلّا حكم العقل بلزوم الإطاعة ، فاللازم النظر في موضوعه ، وقد ذكرنا أن المعيار فيه الغرض.

نعم ، عدم مطابقة الأمر للغرض سعة وضيقا إنما تمكن مع غفلة المولى وجهله بعدم استيفاء غرضه بالأمر ، ولا يعقل في حق الملتفت العالم ـ كالشارع الأقدس ـ إلّا بناء على إمكان الإهمال في مقام الثبوت ، حيث لا يكون الأمر مخالفا للغرض في مورد الإهمال.

أما بناء على امتناع الإهمال ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقام الثاني ـ فعدم مطابقة الأمر للغرض وعدم وفائه به مستلزم لمخالفة الأمر للغرض ، الذي هو ممتنع في نفسه ، بل لا بد معه من التطابق بينهما وقصور متعلق الأمر عما لا يحصل به الغرض لبا وبنتيجة التقييد لو فرض امتناع

٤٤٨

تحديده بلسان التقييد ، على ما يظهر بالرجوع لما تقدم عند الكلام في تعدد الأمر ، وحينئذ لا أثر للنزاع في لزوم موافقة الغرض.

كما لا مجال لما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن القصد القربي إنما يجب عقلا لتوقف غرض الشارع عليه من دون أن يؤخذ في متعلق الأمر ، بل لا بد من البناء على اختصاص متعلق الأمر بالواجد للقصد المذكور ، ويجب الاقتصار عليه عقلا لوجوب إطاعة الأمر.

ومن هنا لا معدل عن الوجه الأول ، الذي سبق إمكانه في نفسه ومطابقته للمرتكزات. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

المقام الثاني

في الدوران بين التعبدي والتوصلي في مقام الإثبات

والكلام في هذا المقام إنما يكون في مقتضى الدليل والأصل بعد الفراغ عن الفرق بينهما في مقام الثبوت بأحد الوجوه المتقدمة وهو ينحصر بجهتين.

الجهة الاولى : في مفاد الدليل.

ومن الظاهر أن مقتضى الإطلاق التوصلية بناء على إمكان التقييد بالقصد القربي ، لأنه يكون كسائر القيود التي شأن الإطلاق نفيها.

إما بناء على امتناع التقييد فقد ذكر غير واحد أنه لا مجال للتمسك بالإطلاق ، بل هو ممتنع في ظرف امتناع التقييد ، لأن الإطلاق ليس هو محض عدم التقييد ، كي يلزم في مورد امتناعه ، بل عدم التقييد في المورد القابل للتقييد ، فليس التقابل بينهما من تقابل النقيضين ، بل من تقابل العدم والملكة ،

٤٤٩

فمع امتناع التقييد يمتنع الإطلاق أيضا.

ولا يخلو المراد بذلك عن إجمال.

إذ تارة : يراد به أن امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق في مقام الثبوت ، وفي مرحلة ورود الحكم على الماهية واقعا ، فلا يكون الحكم مطلقا ولا مقيدا لبا ، بل يكون مهملا من هذه الجهة ثبوتا ، فيعمل به على إهماله تبعا للغرض الموجب له ـ كما تقدم من المحقق الخراساني (قدس سره) ـ أو يحتاج إلى جعل آخر ، وهو الذي عبر عنه بعض الأعاظم ب (متمم الجعل) ، وجعل منه الأمر الثاني في المقام.

واخرى : يراد به أن امتناع التقييد مانع من ظهور الكلام في الإطلاق في مقام الاثبات ، فلا يكون بيانا على سريان الحكم ، بل يكون مجملا من هذه الجهة ، ويحتاج إلى بيان آخر ، وإن كان دائرا بين الإطلاق والتقييد ثبوتا غير خارج عنهما ، لامتناع الإهمال.

فالواسطة بين الإطلاق والتقييد على الأول الإهمال ، وعلى الثاني الإجمال. ولا بأس بالكلام في الأمرين ، فإن محله طبعا وإن كان هو مبحث المطلق والمقيد ، إلّا أن ابتناء الكلام في هذه المسألة عليه وأهميتها وتشعب مبانيها تلزم باستيفاء الكلام فيها بالبحث في كلا الأمرين.

أما الأول : فعمدة الوجه فيه ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الإطلاق وإن كان عبارة عن عدم التقييد ، إلّا أنه لا بد فيه من ورود الحكم على المقسم ، لأنه هو القابل للأمرين ، فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فيمتنع كل منهما مع امتناع ورود الحكم على المقسم ، كما هو المفروض في المقام ، لأن انقسام المتعلق إلى ما يؤتى به بقصد امتثال الأمر وما يؤتى به

٤٥٠

لا بقصده إنما هو في رتبة متأخرة عن ورود الأمر عليه ، ولا يقبل الانقسام إلى ذلك في مرتبة ورود الأمر عليه.

وهكذا الحال في جميع القيود المنتزعة في مرتبة متأخرة عن ورود الحكم ، كالعلم به والالتفات إليه ، بل يتعين الإهمال بالإضافة إليها.

وفيه : أن التقابل بين الإطلاق والتقييد وإن كان من تقابل العدم والملكة ، فلا بد فيهما من فرض موضوع قابل لهما ، إلّا أن موضوعهما هو الماهية الخارجية القابلة للوجود في ضمن أفراد كثيرة ، دون الماهية المجردة التي لا وجود لها في الخارج ، والجزئي الذي لا يقبل الانطباق على كثيرين.

وحينئذ فالماهية المذكورة المأخوذة موضوعا للحكم أو متعلقا له إن لحظت بنفسها ولم يؤخذ فيها ما يمنع من انطباقها على بعض الأفراد لزم سريان الحكم لتمام أفرادها ، ولزم الإطلاق البدلي أو الشمولي الانحلالي أو المجموعي ، وإن أخذ فيها ما يوجب قصورها عن بعض الأفراد لزم التقييد ، ولا يعقل الإهمال وخلوّ الأمر عن الوجهين ، لأن الماهية إن كانت وافية بنفسها بالغرض الموجب لجعل الحكم بنظر الحاكم لزم الاكتفاء بها وتعين الإطلاق ، وإن لم تكن وافية به فلا مجال للاكتفاء بها بعد كون انطباقها على تمام الأفراد قهريا ، فيلزم من الاكتفاء بها الاخلال بالغرض ، وهو ممتنع ، بل لا بد من أخذها بنحو تقصر في موضوعيتها عما لا يفي بالغرض ، إما بالتقييد صريحا بالعنوان الدخيل في الغرض لو أمكن أو بنتيجة التقييد بقصر الحكم على الحصة المقارنة للقيد بواقعها لا بعنوانها المنتزع من القيد.

فإن أراد من الإهمال مجرد عدم التقييد صريحا مع قصور الموضوع بنتيجة التقييد ، فهو خلاف ما نفهمه من الإهمال ، ولا يستلزم قصور الجعل

٤٥١

ثبوتا بنحو يحتاج إلى المتمم الذي ذكره ، بل غاية الأمر احتياج الحصة التي هي موضوع الحكم إلى البيان بوجه غير التقييد.

وإن أراد منه عدم شمول الحكم ولا قصوره ، بل يكون مسكوتا عنه في المورد الذي لا يفي بالغرض ، كالفرد الخارج عن الماهية تخصصا ، فلا مجال له بعد فرض لحاظ الماهية وكون انطباقها على جميع أفرادها قهريا.

وأما ما ذكره (قدس سره) من أنه لا بد في الإطلاق من ورود الحكم على المقسم ، فيندفع : بأن المقسم في المقام ليس إلّا الماهية المفروض ورود الحكم عليها لأن مقسمية الماهية لتمام حصصها واقعي قهري.

ومجرد امتناع تعنون الحصة بالقيد في مرتبة ورود الحكم على الماهية إنما يمنع من مقسمية الماهية للحصة بعنوانها المنتزع من القيد ، لا من مقسميتها لها بواقعها ، المستلزم لشمول الإطلاق لها بالواقع المذكور أو قصوره عنها كذلك ، ولا يعقل الإهمال ، كما ذكرنا.

ولو لا ذلك لزم الإهمال بالإضافة إلى ما يفي بالغرض وهو الواجد للقيد أيضا ، لأنه يشارك ما لا يفي به في عدم مقسمية الماهية له بعنوانه المنتزع من القيد في مرتبة ورود الحكم عليها ، ولازمه لغوية الجعل. فلاحظ.

ثم إن ما ذكرنا كما يجري بناء على أن الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في موضوعه ، وأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ـ كما هو الظاهر ـ كذلك يجري بناء على أن الإطلاق عبارة عن لحاظ سريان الحكم لتمام أفراد الماهية ، وأن التقابل بينه وبين التقييد تقابل الضدين.

إذ لا يراد ـ على المبنى المذكور ـ بلحاظ السريان لتمام أفراد الماهية لحاظ السريان إليها بعناوينها المنتزعة من كل قيد يفرض فيها ، بنحو يستلزم

٤٥٢

السريان في مورد كل قيد لحاظه في مقام جعل الحكم ، كي يمتنع السريان في مورد القيود التي يمتنع لحاظها في مقام الجعل.

بل المراد لحاظ السريان إلى الأفراد بواقعها المقارن لأي عنوان يفرض من دون لحاظ العنوان ، ولذا لا إشكال في بنائهم على الإطلاق بالإضافة إلى القيود التي يمكن لحاظها ، لكن يعلم غفلة المتكلم عنها حين الخطاب والجعل ـ لو أمكن في حقه الغافلة ـ ولا يعتبر في التعميم بلحاظ كل قيد إلى إحراز التفات المتكلم إليه عند الإطلاق وتعميمه بالإضافة إليه.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في امتناع الإهمال ثبوتا ، بل لا بد من كون الحكم الوارد على الماهية مجعولا واقعا بنحو الإطلاق أو التقييد ، بمعنى قصوره عن بعض الحصص واقعا ولو بنتيجة التقييد ، وإن لم تلحظ بعناوينها المنتزعة من بعض القيود ، لامتناع لحاظه في مرتبة جعل الحكم.

وأما الثاني فعمدة الوجه فيه : أن ظهور المطلق في الإطلاق إنما يتم بمقدمات الحكمة التي منها كون عدم التقييد مع دخله في الغرض منافيا للحكمة ، لأنه بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان المستتبع للعمل يلزمه ذكر تمام ما هو الدخيل في مراده ، ليقع العمل تبعا له مطابقا لغرضه.

وهذا إنما يتم إذا كان التقييد ممكنا في نفسه ، إذ لو كان ممتنعا لا يكون الإخلال به مع دخله في الغرض منافيا للحكمة ، فلا يكون عدم ذكره كاشفا عن عدم إرادته ، لينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

وفيه : أن تعذر التقييد في المقام لا يستلزم تعذر بيان إرادة المقيد ، بل يمكن بيانه بطريق آخر ، فعدم بيانه بالطريق المذكور كاشف عن عدم إرادته ومستلزم لانعقاد الإطلاق ، كعدم التقييد مع إمكانه.

٤٥٣

على أن التعذر لا يمنع من ظهور المطلق في الإطلاق لو ورد في مقام البيان ، بل لو لم يكن مرادا لا ينبغي الخطاب به ، ويلزم البيان بطريق آخر يطابق المراد ويوافق الغرض.

ومجرد كون قرينة الحكمة من مقدمات الإطلاق لا ينافي ذلك ، على ما يتضح في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

ومن هنا لا يكون امتناع التقييد ـ بعد ما سبق من امتناع الإهمال ثبوتا ـ مانعا من ظهور المطلق في الإطلاق لو ورد في مقام البيان.

وعليه يكون الإطلاق في المقام التوصلية ، ويحتاج البناء على كون المأمور به تعبديا إلى الدليل الخاص.

وينبغي تتميم البحث في المقام بذكر امور ...

الأول : أن ما تقدم في تقريب الإطلاق مبني على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في متعلق الأمر.

أما بناء على أن الفرق بينهما في سنخ الأمر فلا موضوع للتمسك بإطلاق المأمور به ، بل غاية الأمر التمسك بإطلاق الأمر ، لدعوى : أن كون الأمر تعبديا يحتاج إلى مئونة بيان ، نظير التمسك بإطلاقه لإثبات كونه وجوبيا ؛ لدعوى : أن الاستحباب يحتاج إلى مئونة البيان ، كما تقدم من بعضهم.

لكن حيث كان المحكم في مفاد الإطلاق الارتكازيات المتفرعة في المقام على إدراك الفرق في سنخ الطلب ثبوتا ، وقد سبق عدم إدراكنا للفرق بينهما ، فلا يتيسر لنا التصديق بمفاد الإطلاق المذكور ولا دفعه ، بل يختص الجزم بأحد الأمرين بمن يدعى الفرق المذكور.

٤٥٤

وأما بناء على أن الفرق بينهما في الغرض الداعي له وأنه في التوصلي يحصل بمجرد الموافقة ، وفي التعبدي لا يحصل إلّا بالموافقة بالوجه القربي من دون فرق في المتعلق ، فمن الظاهر أن الإطلاق إنما ينهض بتعيين متعلق الأمر ، وأما كاشفيته عن مورد الغرض فهي بضميمة لزوم مطابقة الأمر للغرض ، فمع فرض ابتناء الكلام على عدم لزوم التطابق بينهما ، وإمكان قصور متعلق الأمر عنه فلا مجال لاستفادة مورد الغرض من الإطلاق.

إلّا أن يدعى بناء العقلاء على أن الأصل التطابق بينهما في فرض الشك فيه ، ليتم بضميمته استفادة مورد الغرض من الإطلاق.

لكن التصديق بمفاد الأصل المذكور فرع وضوح إمكان عدم التطابق بينهما ، وهو غير متعقل لنا في فرض التفات الحاكم ، بل الظاهر امتناعه.

بل سبق منا عند الكلام في الوجه المذكور أن عدم مطابقة الأمر للغرض إنما تمكن بناء على إمكان الإهمال ثبوتا ، ومع فرض الإهمال لا موضوع للإطلاق في مقام الإثبات ، ليقع الكلام في مفاده ، ويمكن دعوى كاشفيته عن موضوع الغرض.

الثاني : بناء على عدم جواز التمسك بإطلاق المادة في فرض امتناع التقييد ، إما للزوم الإهمال ثبوتا ، أو لعدم صلوح الإطلاق للبيان في مقام الإثبات فقد يدعى ظهور الأمر في التوصلية ، لا من جهة الإطلاق المذكور ، كما جرى على ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) على ما في التقريرات.

فإنه بعد أن منع من التمسك بالإطلاق بالإضافة للقيود المنتزعة في رتبة متأخرة عن تعلق الأمر بالفعل قال : «فالحق الحقيق بالتصديق هو أن ظاهر الأمر يقتضي التوصلية ، إذ ليس المستفاد من الأمر إلّا تعلق الطلب الذي هو

٤٥٥

مدلول الهيئة للفعل [بالفعل. ظ] على ما هو مدلول المادة ، وبعد إيجاد المكلف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب ، لامتناع طلب الحاصل».

لكن ما ذكره إن ابتنى على ظهور الصيغة في طلب المادة بنفسها بنحو يطابق الغرض فهو عبارة اخرى عن الرجوع لإطلاق المادة الذي أنكره في صدر كلامه.

وإن ابتنى على ظهورها في طلب المادة في الجملة من دون أن ينهض بالإطلاق من حيثية القيد المذكور ، بل لا بد من الإهمال أو الإجمال ـ ليناسب ما سبق منه ـ فمن الظاهر أن طلب المادة في الجملة لا يستلزم إجزاء المأتي به لا بقصد التقرب ، لعدم ثبوت صدق المطلوب عليه ، ليلزم من عدم سقوط الطلب به طلب الحاصل.

وإن ابتنى على خروج قصد التقرب عن المأمور به ودخله في الغرض الذي عليه المدار في سقوط الأمر ، بنحو لا يلزم من إطلاق المأمور به مطابقته للغرض ، فلا بد من التزام عدم امتناع طلب الحاصل إذا لم يحصل به الغرض ، وأنه يلزم عقلا تحقيق المطلوب بالوجه الذي يحصل به الغرض ، وإلا لزم امتناع التعبدي.

نعم ، قال : ـ بعد كلام له ـ «وأما الشك في التقييد المذكور فبعد ما عرفت من أنه لا يعقل أن يكون مفادا بالكاشف عن الطلب لا بد له من بيان زائد على بيان نفس الطلب ، والأصل عدمه. واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان ـ كما هو المحرر في أصالة البراءة ـ من غير فرق في ذلك بين الكواشف اللفظية أو غيرها».

وظاهره الرجوع في العمل على التوصلية للأصل العملي ، وهو

٤٥٦

لا يناسب ما قربه في كلامه السابق من ظهور الأمر في التوصلية ، ومن هنا كان كلامه (قدس سره) مضطربا.

بل يظهر بمراجعة جملة من كلماته في فرائده وما نسب له في التقريرات شدة اضطراب مبانيه في المسألة ، حيث يظهر من بعضها كون القصد القربي معتبرا في المأمور به شطرا أو شرطا وإن احتاج إلى بيان آخر ، ويظهر من بعضها كونه خارجا عنه ومن شئون الامتثال لتوقف الغرض عليه ، مع اختلافها فيما هو المرجع عند الشك فيه من ظهور الأمر أو الأصل العملي المقتضي للبراءة أو الاشتغال.

وقد ذكرنا جملة منها في تعليقتنا على الكفاية ، ولا مجال لاستقصائها هنا.

أما بعض الأعاظم (قدس سره) فبعد ما سبق منه من امتناع كل من الإطلاق والتقييد من حيثية القيد الخاص ولزوم الإهمال ، وأنه لا بد في كون الواجب تعبديا من تتميم الجعل بالأمر الثاني ، ذكر أن مقتضى الإطلاق المقامي التوصلية.

بدعوى : أنه إذا كان المولى في مقام بيان تمام جعله ولم ينصب قرينة على الجعل الثاني المتمم للجعل الأول فمقتضى إطلاق المقام تمامية الجعل الأول وعدم احتياجه للمتمم ، فيحرز بذلك التوصلية.

لكنه يشكل : بأنه لما كان مبنى كلامه على الإهمال وعدم الإطلاق ثبوتا ، فلا معنى لكشف الإطلاق المقامي عن تمامية الجعل التي لا تكون إلّا بالإطلاق أو التقييد ، بل لا بد للجعل من متمم يفيد فائدة التقييد أو فائدة الإطلاق.

٤٥٧

غاية الأمر أن يكون الإطلاق المقامي كاشفا عن كون الجعل المتمم بخصوص أحد الوجهين ، ولم يتعرض (قدس سره) في كلامه لذلك ولا لوجهه.

ولا يسعنا الجزم بأحد الوجهين بعد ما استوضحناه من عدم تمامية مبنى المسألة في كلامه.

الثالث : ذهب جماعة منهم الكلباسي في الإشارات ـ على ما حكي ـ إلى أن مقتضى الأصل اللفظي التعبدية.

ويستدل على ذلك بوجوه :

أولها : أن غرض المولى من الأمر جعله محركا للعبد نحو العمل المأمور به ، فلا بد في موافقة الغرض المذكور من الاتيان بالمأمور به بداعي امتثال الأمر ، فيكون الأمر تعبديا ، ويحتاج الاكتفاء به بدونه إلى دليل مخرج عن ذلك.

وبهذا الوجه لا يبقى مجال لإطلاق المادة الذي تقدم أن مقتضاه التوصلية.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من ابتنائه على لزوم قصد الامتثال في التعبدي ، وقد تقدم عدم لزومه.

فيدفعه : أن عدم لزوم قصد الامتثال والاكتفاء بالقصد القربي ـ بالوجه الذي تقدم منا أو منه ـ إنما هو لعدم الدليل على وجوبه والاقتصار على القصد القربي ، أما لو فرض نهوض هذا الوجه بإثبات وجوبه لزم البناء عليه ورفع اليد عما تقدم.

فالعمدة الإشكال فيه تارة : بأن الالتزام بذلك في الأمر يقتضي الالتزام

٤٥٨

به في النهي ، إذ لو كان الغرض من الأمر جعله محركا للعبد نحو المأمور به كان الغرض من النهي كونه داعيا لترك المنهي عنه ، بل يلتزم بنظيره في الترخيص ، حيث يكون الغرض منه اعتماد العبد عليه في السعة في مقام العمل ، مع وضوح عدم كون النهي والترخيص تعبديين.

ولا يظن بأحد الالتزام بأن ذلك للدليل الخاص مع ظهور الخطاب بهما في التعبدية.

واخرى : بأنه ليس الغرض من الشيء إلّا ما يترتب عليه ولا يتخلف عنه ، ومن الظاهر أن فعلية محركية الأمر قد تتخلف عنه بالمعصية أو غيرها ، فلا تكون غرضا منه ، بل ليس الغرض منه إلّا إحداث الداعي العقلي الصالح للمحركية نحو العمل ، وهو مشترك بين التعبدي والتوصلي.

وثالثة : بأن الغرض الذي يجب متابعته ويلزم مطابقة المأمور به له سعة وضيقا وإطلاقا وتقييدا هو الغرض من المأمور به ، وهو الملاك المترتب عليه ، لا الغرض من الأمر نفسه ، كمحركية المأمور أو إحداث الداعي العقلي له أو نحوهما ، فلو كان غرض الامر من الأمر تحبيب الفعل للمكلف ـ لتخيل أنه لا يفعله لو لم يحبه ـ لم يستلزم ذلك تقييد المأمور به بداعي الحب ، فلو فعل المأمور به لا بداعي الحب امتثل وسقط الأمر.

كيف ولا ريب في أن الداعي المذكور هو الداعي في جميع الأوامر حتى التوصلية ، فلو لا عدم ملازمته لتقييد المتعلق بقصد الامتثال لامتنع كون الأمر توصليا؟!

ودعوى : أن جميع الأوامر تعبدية ، وأن قيام الدليل على عدم اعتبار قصد الامتثال في سقوط الأمر لا يكشف عن عدم اعتبار القصد المذكور في

٤٥٩

متعلقه ، بل غاية الأمر أن يكون الفعل الخالي عنه رافعا لموضوع الامتثال ، فيسقط الأمر به لتعذر امتثاله ، نظير سقوط أحكام الميت بحرقه ، ولا يكون الفعل المذكور امتثالا له. وإليه ترجع جميع الأوامر التوصلية.

غريبة جدا ، وإن ادعاها من لا يستهان به في مجالس المذاكرة أو الدرس ، على ما ببالي.

لوضوح أن سقوط الأمر بالعمل الخالي عن القصد المذكور في تلك الموارد ليس لتعذر استيفاء الملاك معه ، نظير سقوط أحكام الميت بحرقه ، ولذا لا يكون محرما ، بل لحصول الملاك به ، كما يحصل مع القصد المذكور ، ومع عموم مورد الملاك لا وجه لتقييد المتعلق.

ثانيها : قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(١).

ويشكل بأن الظاهر من الإخلاص لله تعالى في الدين في غير مورد من الكتاب المجيد هو التوحيد في مقابل الشرك ، وأما التقرب بالعمل فهو إخلاص العمل له.

ويناسب إرادة ما ذكرنا في المقام قوله تعالى : (حُنَفاءَ) حيث تضمن جملة من الآيات أخذ الحنيفية في التدين بدين الإسلام ، ومقابلتها بالشرك.

كما يناسبه ـ أيضا ـ عطف الصلاة والزكاة اللتين هما من الواجبات الاستقلالية الزائدة على التوحيد المطلوبة معه ، والمعتبر فيهما الإخلاص بمعنى التقرب ، فلا يناسب عطفهما عليه لو كان هو المراد بالإخلاص ، ولا سيّما مع

__________________

(١) سورة البينة : ٥.

٤٦٠