المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

بسقوط التكليف المعلوم بالامتثال أو التعذر ، غاية الأمر أنه يحتمل حدوث تكليف جديد في الصورة الرابعة ، وهو أجنبي عن مفاد قاعدة الاشتغال.

بل قد يدعى ذلك أيضا في الصورة الثانية والثالثة ، للعلم سابقا بالتكليف بالمقيد ، والمفروض سقوطه بالامتثال أو التعذر ، مع الشك في تجدد التكليف بالفاقد للقيد.

لكنه لا يخلو عن إشكال ، لأن اشتراك التكليف بالفاقد للقيد بعد تعذره مع التكليف بالواجد له حين القدرة عليه في تمام الغرض في الصورة الثانية مستلزم لرجوعهما إلى تكليف واحد تخييري تابع لغرض واحد يشك في امتثاله.

ومرجع التكليف المذكور إلى التكليف بأحد أمرين : الإتيان بالواجد للقيد حين القدرة عليه ، والإتيان بالفاقد له حين تعذره ، ولذا لا يجب حفظ القدرة على القيد ، نظير التخيير من أول الأمر بين الاتيان بالتمام حين الحضر ، والإتيان بالقصر حين السفر ، فتعذر القيد على تقدير عدم الامتثال لا يوجب تبدل التكليف ، بل تبدل الامتثال لتبدل طرف التخيير المقدور ، وحيث فرض الشك في امتثال التكليف بالطرف الأول كان مقتضى قاعدة الاشتغال إحراز الفراغ عنه بامتثاله بالطرف الثاني ، نظير ما لو شك المكلف بعد السفر في أنه صلى تماما قبله.

كما أن اشتراك التكليف بالفاقد للقيد بعد تعذره مع التكليف بالواجد له حين القدرة عليه في بعض الغرض في الصورة الثالثة مستلزم لانحلال التكليف ـ تبعا للغرض ـ إلى تكليفين : تعييني بالواجد للقيد بلحاظ توقف بعض مراتب الغرض عليه ، وتخييري بأحد أمرين : الإتيان بالواجد له في ظرف

٤٠١

القدرة عليه ، والإتيان بالفاقد له في ظرف العجز عنه ، ومع الشك في الامتثال في ظرف القدرة على القيد وإن كان يعلم بسقوط الأول إما بالامتثال أو التعذر ، إلّا أنه لا يعلم بسقوط الثاني ، بل يحتمل بقاؤه وعدم امتثاله ، فيجب إحراز الفراغ عنه بالاتيان بالفاقد ، نظير ما سبق في الصورة الثانية. فلاحظ.

المقام الثاني : في مقام الإثبات

من الظاهر أنه لا مجال لحمل التقييد بالوقت على الصورة الثانية ، لما سبق من أن لازمها جواز التعجيز عن القيد ، مع وضوح لزوم المحافظة على الوقت في الموقت وعدم جواز تأخيره عنه. فيدور أمره بين الصور الأربع الاخرى.

وحينئذ فتارة : يكون لدليل الواجب الموقت إطلاق يقتضي وجوبه خارج الوقت ، بأن استفيد التوقيت من دليل منفصل. واخرى : لا يكون له إطلاق يقتضي ذلك.

كما أن دليل التوقيت تارة : يكون ظاهرا في انحصار الواجب بالوقت ، بحيث لا يجب بعده ، نظير قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) في عدم مشروعيتها بدونها. واخرى : لا يكون ظاهرا في ذلك ، بل في مجرد لزوم الإتيان به في الوقت.

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١ ، باب : ١ و ٢ من أبواب الوضوء.

٤٠٢

فإن كان لدليل الواجب إطلاق يقتضي وجوبه خارج الوقت ، ولم يكن لدليل التوقيت ظهور في انحصار الواجب بالوقت ، لزم البناء على وجوبه بعد الوقت لو لم يؤت به فيه ، عملا بالإطلاق المذكور.

وأمكن حينئذ حمله على الصورة الاولى ، وإن لم يظهر أثرها المتقدم ، وهو صحة الفعل الفاقد للقيد مع التمكن منه ، لامتناع فرض ذلك في الوقت ، لاستحالة انفكاك الفعل عنه مع القدرة عليه ، وليس هو كسائر القيود ـ كالطهارة ـ مما يمكن خلو الفعل عنه مع القدرة عليه ، ليكون عدم صحته حينئذ مانعا من حمل التقييد به على الصورة المذكورة.

كما يمكن حمله على الصورة الثالثة الراجعة لكونه قيدا حال القدرة عليه ، دون حال تعذره.

ودعوى : أنه يلغو التقييد بالنحو المذكور في الوقت ، لأنه في حال وجوده يمتنع انفكاك الفعل عنه ، وليس هو كغيره من القيود التي يمكن انفكاك الفعل عنها حال القدرة عليها كي يمنع التقييد منه.

مدفوعة : بأنه يكفي في رفع لغوية التقييد بالوقت في خصوص حال القدرة عليه لزوم المحافظة عليه ، الذي سبق أنه اللازم في هذه الصورة.

وإنما يتجه لزوم اللغوية في الصورة الثانية التي لا يجب فيها المحافظة على القيد ، والتي سبق عدم احتمالها في المقام.

وإن كان لدليل التوقيت ظهور في الانحصار لزم البناء على عدم وجوبه بعد الوقت وإن كان لدليله إطلاق ، لوجوب رفع اليد عن المطلق بالمقيد ، ويتردد بين الصورة الرابعة والخامسة.

وأما لو لم يكن له ظهور في الانحصار ولا كان لدليل الواجب إطلاق ،

٤٠٣

فلا طريق لإثبات وجوبه بعد الوقت ولا لنفيه ، بل يتردد بين جميع الصور الأربع المذكورة.

وربما يدّعى أن مقتضى قاعدة الميسور ـ بناء على شمولها للشروط ـ وجوبه بعد الوقت ، وان تعذر خصوصية الوقت حينئذ لا يوجب سقوط الواجب من أصله.

بل لو تمت كان مقتضاها وجوبه بعده حتى لو كان لدليل التوقيت ظهور في الانحصار ، لحكومتها على أدلة الأجزاء والشرائط الظاهرة في الارتباطية بينها مطلقا ، المستلزم لسقوط الواجب بتعذر بعضها.

لكن الظاهر عدم تمامية القاعدة من أصلها ، على ما ذكرناه في التنبيه الخامس من مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين. فراجع.

ومن هنا كان المرجع فيما لو لم يكن لدليل الواجب إطلاق ولا لدليل التوقيت ظهور في الانحصار هو الاصول العملية. والظاهر أن المحكم أصل البراءة.

ولا مجال لاستصحاب وجوب الواجب بعد الوقت ، لاحتمال كون الوقت قيدا في الواجب ، لا واجبا فيه مستقلا عنه ـ كما في الصورة الاولى ـ فيكون ما بعد الوقت مباينا لما علم وجوبه سابقا ، ومع احتمال تعدد الموضوع لا يجري الاستصحاب ، ولا عبرة بالتسامح العرفي في وحدة الموضوع ، على ما ذكره في محله.

الأمر الثاني : لو فرض قصور دليل الواجب عن إثبات وجوبه بعد الوقت ، لعدم الإطلاق فيه ، أو لظهور دليل التوقيت في الانحصار فقد ورد

٤٠٤

في كثير من الفرائض والنوافل ، كالصلاة والصوم وغيرهما.

وحينئذ يقع الكلام في أن القضاء من سنخ الأداء ، إما لوفائه بتمام غرضه مع كون مصلحة الوقت مباينة لمصلحة الواجب ـ كما هو مقتضى الصورة الاولى ـ أو لوفائه ببعض مصلحته ، لكون الوقت دخيلا في بعض مراتبها ـ كما هو مقتضى الصورة الثالثة ـ أو أنه من سنخ آخر لا يكون محصلا لشيء من مصلحة الأداء ، لفوتها بتمامها بفوت الوقت ، وإنما هو تدارك لفوته ، نظير تدارك فوت الصحة بالدواء ، فيناسب الصورة الرابعة.

وقد سبق ظهور الفرق في جريان قاعدة الاشتغال عند الشك بعد الوقت في الامتثال فيه ، حيث تجري في الصورة الاولى والثالثة ، دون الرابعة.

إذا عرفت هذا فقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن الصورة الاولى والثالثة وإن كانتا ممكنتين ثبوتا ، إلّا أن ظاهر أدلة القضاء هو الصورة الرابعة ، لأن ظاهر لفظ القضاء هو تدارك ما فات في وقته ، ولا معنى للتدارك في الصورتين المذكورتين ، حيث يكون الفعل خارج الوقت مأمورا به بنفس الأمر فيهما.

وفيه : أنه إن اريد بتدارك ما فات في وقته مجرد الإتيان بالواجب بعد وقته ، فهو لا ينافي الصورتين المذكورتين ، وإن اريد به تدارك النقص الحاصل بسبب فوت الواجب ، بحيث يكون الفرق بين الأداء والقضاء هو الفرق بين حراسة المال المانعة من تلفه وضمانه بعد تلفه بسبب التفريط في الحراسة ، فهو بعيد عن المرتكز عرفا لمعنى القضاء ، بل المرتكز عرفا أن ما يؤتى به قضاء لشيء من سنخه لا مباين له ، ولذا لا يصدق القضاء في المثال المذكور ونظائره من الأمثلة العرفية والشرعية ، ويطلق عند العرف على مثل أداء الدين

٤٠٥

بعد وقته وعند المتشرعة على الصوم بعد شهر رمضان لمن تركه فيه لمرض أو سفر مع ظهور دليله في أنه من سنخه.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ...)(١) فإنه ظاهر في وحدة الأمر تبعا لوحدة الغرض والملاك ، وإن اختلف الزمان الواجب فيه الصوم باختلاف الأحوال ، كما يناسبه صدره المتضمّن فرض الصيام أياما معدودات ، وذيله المتضمن تعليل القضاء بقوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ، حيث لا يناسب اختصاص الفرض بصوم رمضان وأن صوم المسافر والمريض بعده جبر لما حصل لهما من نقص بسبب الإفطار فيه ، نظير الضمان في المثال المتقدم.

ويؤيد ما ذكرنا تفسير اللغويين للقضاء بالأداء والوفاء للدين أو العهد أو نحوهما. وهو الظاهر من قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ)(٢) وقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ)(٣) وقوله : (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٣ ـ ١٨٥.

(٢) سورة القصص : ٢٩.

(٣) سورة الأحزاب : ٢٣.

٤٠٦

قَضاها)(١) وقوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ)(٢) وقوله : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ)(٣) وقوله (صلّى الله عليه وآله) : «مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر» (٤) إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة في الكتاب والسنة وغيرهما الظاهرة في أن قضاء الشيء هو أداؤه بنفسه ، والظاهر عدم خروج المعنى المتشرعي الحادث عن ذلك ، وإن اختص بما إذا كان بعد الوقت.

هذا ، وقد أيد (قدس سره) مدعاه بثبوت القضاء في الحج والصوم المنذورين ، مع أن الوجوب تابع لقصد الناذر ، وهو في الفرض لم يتعلق إلّا بالفعل المقيد بزمان خاص ، فيستحيل بقاء الأمر التابع لقصده بعد فوت الوقت المقصود.

ويندفع : بأن قضاء الحج المنذور ليس عليه دليل إلّا الإجماع كما قيل ، ولا يعلم من حال المجمعين إرادة المعنى الخاص من القضاء ، بل لعلهم نزلوا البدلية منزلة القضاء.

واما قضاء الصوم المنذور فأكثر نصوصه قد تضمّنت وجوب يوم بدل يوم أو مكان يوم (٥) ، ولم أعثر على ما تضمّن لفظ القضاء إلّا خبر صالح بن عبد الله : قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) : إن أخي حبس فجعلت

__________________

(١) سورة يوسف : ٦٨.

(٢) سورة البقرة : ٢٠٠.

(٣) سورة النساء : ١٠٣.

(٤) راجع الوسائل ج ١١ ، باب : ١ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه.

(٥) الوسائل ج ٧ ، باب : ٧ من أبواب بقية الصوم الواجب ، وج ١٦ ، باب : ١٠ من كتاب النذر والعهد.

٤٠٧

على نفسي صوم شهر ، فصمت. فربما أتاني بعض إخواني فأفطرت أياما أفأقضيه؟ قال : «لا بأس» (١).

ومرسل عبد الله بن جندب عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أنه سأله عن رجل جعل على نفسه نذرا صوما فحضرته نية في زيارة أبي عبد الله؟ قال : «يخرج ولا يصوم في الطريق ، فإذا رجع قضى ذلك» (٢).

وهما ـ مع عدم صراحتهما في الصوم المعين ـ قد يحملان على نحو من التسامح في الإطلاق.

هذا ، مع قرب أن يكون تشريع القضاء مبنيا على لحاظ الشارع القيود المأخوذة في المنذور بنحو الانحلال تعبدا ، وإن كانت مأخوذة في النذر بنحو الارتباطية ، ولذا ورد وجوب أداء المنذور مع تعذر بعض قيوده الآخر غير الوقت (٣).

فلا يخرج بذلك عما ذكرنا من كون القضاء ارتكازا من سنخ الأداء ناشئ عن ملاكه وغرضه.

وأما ما ذكره بعض أفاضل العصر (رحمه الله) من أن القضاء لما كان هو تدارك ما فات فهو مختص بالصورة الرابعة ، لأن ما فات من مصلحة الوقت في الصورة الاولى والثالثة لا يقبل التدارك ، وما يقبل التدارك ـ وهو

__________________

(١) الوسائل ج ٧ ، باب : ١٧ من أبواب بقية الصوم الواجب ، حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٦ ، باب : ١٣ من أبواب كتاب النذر والعهد ، حديث : ١.

(٣) راجع الوسائل ج ٧ ، باب : ١٣ و ١٦ من أبواب بقية الصوم الواجب ، وج ١٦ ، باب : ٨ وباب : ٢٠ من كتاب النذر والعهد وغيرهما.

٤٠٨

أصل الواجب ـ لا فوت بالإضافة إليه ، بل هو كالواجبات المطلقة متى ما اتي به يكون أداء.

ففيه : أن تفسير القضاء بذلك لم يرد في كلام الشارع أو نحوه ممن يؤمن عليه الخطأ في تحديد المفهوم ، وإنما ورد في كلام بعضهم للتعبير عما ارتكز في معنى القضاء ، فلا مجال للخروج به عما ذكرنا من المعنى الارتكازي له ، بل لا بد من كون ذكر الفوت مبتنيا على ملاحظة فوت الوقت من حيثية دخله في بعض مراتب ملاك الواجب ، لا لتحقق الفوت بلحاظ أصل الواجب ، وإلا لم يصدق معه القضاء ، لما سبق.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل بعد الرجوع للمرتكزات العرفية والمتشرعية في كون القضاء من سنخ الأداء ، وإن كان فاقدا لخصوصيته الدخيلة في بعض مراتب مصلحته.

ومن هنا كان المنصرف من إطلاق دليل القضاء أخذ جميع ما يعتبر في الأداء فيه لو فرض إجمال أمره من هذه الجهة.

نعم ، اشتهر عند المتشرعة إطلاقه تبعا لكثير من الاستعمالات الشرعية على خصوص ما إذا كان الفائت مصلحة الوقت ، دون غيره من القيود الشرعية التي لا يكون تعذرها مسقطا لأصل الواجب ، حيث لا يصدق على فاقدها عند التعذر بالمعنى المذكور.

كما لا بد من كون مصلحة الوقت من مراتب مصلحة الواجب ، بحيث يكون الوقت وقتا للواجب ، كما في الصورة الثالثة ، فلو لم تكن من مراتبها وكانت مستقلة عنها لم يصدق القضاء ، كما في الصورة الاولى.

فلو نذر المكلّف أن يأتي بالصلاة في وقتها الفضيلي فلم يأت بها فيه

٤٠٩

لا يصدق على الاتيان بها بعد ذلك القضاء ، كما لا يصدق الفوت بالإضافة إليها ، لعدم كون النذر موجبا لتوقيتها.

ومنه يظهر عدم صدقه مع الإخلال بالفورية ـ بناء على وجوبها ـ لو كانت واجبة بملاك آخر ، لا قيدا في الواجب.

ولذا لا يكون وفاء المماطل بالدين قضاء ، إلّا إذا كان الدين موقتا ، وإن وجبت المبادرة في الوفاء مع إطلاق الدين ـ أيضا ـ بملاك حرمة حبس الحق عن أهله.

كما ظهر بذلك ـ أيضا ـ أنه لا بأس بإطلاق الفوت والقضاء فيما لو استفيد وجوب الواجب خارج الوقت من إطلاق دليل الواجب مع عدم ظهور دليل الوقت في الانحصار. ولا مجال لما يظهر من غير واحد من الإشكال في ذلك.

نعم ، لا بد من كون المستفاد من دليل الوقت توقيت الواجب به ، بحيث يكون دخيلا في ملاكه ، لا مجرد وجوب إيقاعه فيه بملاك آخر ، من باب أنه واجب في واجب.

هذا كله لو كان الأمر بالفعل خارج الوقت متضمنا لعنوان القضاء ، أما لو لم يكن كذلك ، بل تضمّن مجرد الأمر به بعنوانه فالظاهر أن المنصرف منه عرفا كونه من سنخ ما وجب في الوقت لاتحاد سنخ الغرض منهما ، لا مباينا له ، كما في الصورة الرابعة ، فالوقت دخيل في بعض مصلحة الواجب ، لا في تمامها ، ليكون الوجوب بعد الوقت بلحاظ مصلحة اخرى مباينة لمصلحة الواجب في الوقت. وعليه يكون قضاء بالمعنى المتقدم وإن لم يصرح بلفظه.

٤١٠

كل ذلك بسبب مألوفية ذلك وشيوعه عند العرف والمتشرعة ، واستبعاد اختلاف سنخ الغرض مع الاتفاق في الجنس.

وقد تحصل من جميع ما سبق : أنه مع إطلاق دليل الواجب وعدم ظهور دليل الوقت في الانحصار يكون وجوب الإتيان بالموقت بعد الوقت مستفادا من نفس دليل الواجب بلا حاجة إلى دليل آخر. وفي غير ذلك لا بد فيه من دليل خاص ، وهو دليل القضاء.

لكن الدليل المذكور لا يكشف عرفا عن أمر مباين للأمر الأول ، تبعا لتباين متعلقيهما واختلاف سنخ الغرض منهما ، بل عن حال الأمر الأول ، وأنه بنحو يقتضي التكليف بالموقت بعد الوقت قضاء له ، لإمكان استيفاء بعض مصلحته ، وأن المأتي به بعد الوقت من سنخ المأتي به قبله.

وعليه فما اشتهر من أن القضاء بأمر جديد ـ في غير صورة الإطلاق المتقدمة ـ إنما يصح لو اريد به أنه محتاج للأمر في مقام الإثبات من دون تعدد فيه ثبوتا. فتأمل جيدا.

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الأمر الثالث : كما يمكن أن يكون الموقت بنحو يجب قضاؤه بعد الوقت يمكن أن يكون بنحو يجزي تقديمه عليه.

وإجزاء ذلك تارة : يكون لوفاء الفعل السابق بالغرض ، فلا يجب الفعل في وقته لاستيفاء غرضه.

واخرى : يكون لمانعيته من تحصيل الغرض بنحو يتعذر استيفاؤه بالفعل في الوقت.

أما الأول فلا بد فيه من كون الوقت شرطا للتكليف ، ليمتنع الامتثال

٤١١

بالفعل السابق عليه ويكون من تقديم الفعل على وقته ، إذ لو لم يكن الوقت شرطا له وكان التكليف فعليا قبله فلا مجال لتوقيت نفس الواجب به بعد فرض وفاء الفعل السابق عليه بغرضه ، ومع إطلاق التكليف والمكلف به معا بالاضافة إلى الوقت لا يكون الفعل السابق عليه مقدما على وقته ، بل امتثالا لتكليفه في وقته.

وأما الثاني فكما يمكن مع اشتراط التكليف بالوقت يمكن مع إطلاقه ، حيث يكون الوقت شرطا للواجب بسبب عدم ترتب غرضه عليه إلّا فيه ، فيكون تقديمه عليه تقديما للواجب على وقته مطلقا.

لكن لا بد من النهي عنه لو كان التكليف فعليا أو علم بتحقق شرط فعليته بعد ذلك ، لما فيه من تفويت الغرض الفعلي في وقته ، وإن كان مسقطا للواجب في وقته لو جيء به وخولف النهي.

هذا ، وحيث كان ظاهر الإجزاء هو الوفاء بالغرض كان ظاهر التعبير به في الأدلة إرادة الوجه الأول ، لا الثاني.

الأمر الرابع : حيث سبق أن الموسع هو الذي يكون وقته أوسع منه ، والمضيق هو الذي يكون وقته بقدره فقد قال سيدنا الأعظم (قدس سره) في حقائقه : «ويمتنع أن يكون الزمان أضيق ، لأن التكليف بالفعل تكليف بالمحال ، نعم ، قد يكون الزمان وقتا لبعضه ، كما في من أدرك ركعة من الوقت ، بناء على كون خارج الوقت ليس وقتا لباقي الفعل ، كما هو الظاهر ، لعدم التلازم بين التنزيلين ، كما ذكرناه في محله».

وكأنه أشار إلى ما ذكره في مستمسكه في شرح المسألة الحادية عشرة من فصل أوقات الفرائض التي تعرض فيها لذلك.

٤١٢

قال (قدس سره) : «ثم إن الظاهر من النص والفتوى تنزيل الصلاة الواقع منها في الوقت ركعة منزلة الصلاة الواقع تمامها فيه ، ومقتضاه ترتيب احكامها عليها ، لا تنزيل خارج الوقت المساوي لثلاث ركعات ـ مثلا ـ منزلة نفس الوقت ، ليكون مفاده ترتيب أحكامه عليه. فلاحظ».

وما ذكره (قدس سره) في محله ، لعدم تعرض الأدلة للوقت بنحو تقتضي سعته ، بل لنفس الصلاة بنحو تقتضي إجزاءها وتماميتها ، ففي خبر الأصبغ بن نباته : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة» (١). لكن لم يتضح عاجلا الأثر العملي لذلك.

وقد يستفاد منه (قدس سره) هناك ظهور الأثر في وجوب المبادرة ، إذ بناء على استفادة سعة الوقت من النصوص يجوز تأخير الصلاة إليه اختيارا ، حيث تقع في وقتها ، وبناء على دلالتها على كون الوقت لبعض الصلاة ، لتمحضها في تنزيل الصلاة الواقع بعضها خارج الوقت منزلة الصلاة الواقع تمامها فيه ، يجب المبادرة بالصلاة وإيقاعها بتمامها في الوقت ، عملا بمقتضى التوقيت.

ويشكل : بعدم الفرق بين الوجهين في ذلك ، لأن مفاد دليل التوقيت تعيين الوقت ووجوب إيقاع الصلاة بتمامها فيه ، فإن كان مفاد التنزيل توسيع الوقت كان حاكما على دليل التوقيت بلحاظ مفاده الأول ، وإن كان مفاده تنزيل الصلاة الواقع بعضها في الوقت منزلة الصلاة الواقعة فيه بتمامها كان حاكما عليه بلحاظ مفاده الثاني.

فالظاهر عدم تبعية وجوب المبادرة وعدمه لأحد الوجهين ، بل إن كان

__________________

(١) الوسائل ج ٣ ، باب : ٣٠ من أبواب المواقيت ، حديث : ٢.

٤١٣

للتنزيل المذكور إطلاق يشمل حال الاختيار ـ كما هو مقتضى الخبر المتقدم ـ لم تجب المبادرة ، لما ذكرنا من حكومته على دليل التوقيت بلحاظ أحد مفاديه.

وإن لم يكن له إطلاق كذلك ، بل كان مختصا بحال الاضطرار ، وجبت المبادرة مع التمكن ، عملا بدليل التوقيت ، حيث لا يكون دليل التنزيل حاكما عليه إلّا في حال التعذر لضيق الوقت ـ ولو بسوء الاختيار ـ فتجب المبادرة معه إلى الصلاة ولا يجوز تأخيرها بعد الوقت محافظة على الوقت الاضطراري بعد تعذر الاختياري.

الأمر الخامس : أشرنا في أول الكلام في هذا التقسيم إلى عدم اختصاصه بالواجب ، بل يجري في المستحب.

وأما المنهي عنه ـ من المكروه والمحرم ـ فالظاهر جريانه فيه أيضا ، لإمكان اختصاص الفعل المنهي عنه بزمان خاص ، تبعا لاختصاص المفسدة به ، ولا إشكال فيه مع كون الوقت مضيقا ، حيث يقتضي تركه في تمام الوقت.

وأما فرض كونه موسعا بنحو تكون المفسدة مقتضية لترك الفعل في بعض الوقت غير المعين لا في تمامه ، فهو وإن كان ممكنا ، إلّا أنه لا يناسب النهي ، لما سبق من ابتنائه على استيعاب أفراد المنهي عنه بالترك ، لا البدلية فيها ، فلا بد في مطابقة التكليف للملاك من أن يكون بصورة الأمر بالترك مدة من الزمان في ضمن الوقت ، كالأمر بترك الماء ساعة من يوم خاص ، أو ترك السفر يوما من شهر خاص ، فتكون السعة في المأمور به لا في المنهي عنه.

كما أنه يمكن فيه تشريع القضاء وإجزاء الترك قبل الوقت عن الترك فيه على النحو المتقدم في الواجب.

٤١٤

المبحث السابع

في تقسيم المأمور به إلى

تعبدي وتوصلي

وينبغي تمهيد الكلام بذكر امور :

الأمر الأول : المراد بالتعبدي في هذا التقسيم ما يتوقف سقوط أمره على موافقته بوجه قربي من الأمر ـ على الكلام الآتي في تحديد الوجه القربي ـ والتوصلي بخلافه ، فيسقط أمره بمجرد حصوله.

ولعله إلى ذلك ترجع عباراتهم على اختلافها الذي قد يكون ناشئا من اختلافهم في كيفية أخذ الوجه القربي واعتباره ، وهو أمر يأتي الكلام فيه ، ولا ينبغي التعرض له هنا ، بل يقتصر هنا على التعريف بالرسم بذكر الأثر المتفق عليه عند الكل.

وأما تفسير التوصلي بما يمكن الإتيان به لأجل فائدته للعلم بها ، والتعبدي بما لا يمكن أن يؤتى به إلّا للتعبد بأمر المولى من دون أن يعلم بالفائدة الموجبة للأمر به ـ كما قد ينسب للقدماء ـ فهو مصطلح آخر خارج عن محل الكلام في المقام.

الأمر الثاني : هذا التقسيم ككثير من التقسيمات السابقة لا يختص بالواجب ، بل يجري في المستحب بلا إشكال ، وإن قصرت عنه بعض كلماتهم.

٤١٥

وأما جريانه في المنهي عنه فهو مبني على ما يأتي الكلام فيه من أن القصد القربي في التعبدي هل هو من شئون المتعلق المأخوذة فيه ، أو هو أمر خارج عنه يعتبر فيه شرعا بأمر آخر ، أو عقلا في مقام الامتثال.

فعلى الثاني يجري التقسيم في النهي ، حيث لا يقتضي النهي عن الماهية إلّا محض الترك ، وإن أمكن لزوم التقرب فيه لأمر خارج عنه تارة فيكون تعبديا ، وعدمه اخرى فيكون توصليا.

أما على الأول ـ الذي هو الظاهر ـ فلا يجري في النهي ، بل لا يكون النهي إلّا توصليا ، ولا يكون التعبدي إلّا أمرا ، لأن قصد التقرب أمر وجودي ، ومقتضى الخطاب تحقيقه لا تركه ، وما يقتضي فعل المتعلق هو الأمر لا النهي.

غايته أن المأمور به التعبدي تارة : يكون هو الفعل المقيد بالقصد القربي ، كالصلاة. واخرى : يكون هو الترك المقيد به ، كالصوم. ولعل ارتكازية الأول هي المنشا لعدّهم الصوم مأمورا به تعبديا من دون أن يبدلوا ذلك بعدّ ما يمسك عنه الصائم محرمات تعبدية.

الأمر الثالث : ذكروا للمقربية وجوها كثيرة ، كقصد الامتثال ، وقصد المصلحة ، وطلب الثواب وخوف العقاب ـ الاخرويين أو الدنيويين ـ وغيرها.

وفي الجواهر أن الجميع محمول على إرادة قصد الامتثال وراجع إليه. وظاهر شيخنا الاستاذ (قدس سره) موافقته ، كما قد يظهر من غيره ، وعن شيخنا الأعظم (قدس سره) موافقته فيما عدا قصد المصلحة وأنه في عرضه ، وربما قيل : إنها جميعا في عرض واحد.

٤١٦

كما ربما يمنع من تحقق التقرب وصحة العبادة مع الأخيرين ، بل نسب للمشهور ، وعن السيد رضي الدين بن طاوس القطع به ، وعن قواعد الشهيد نسبته إلى قطع الأصحاب أو أكثرهم ، وعن الرازي اتفاق المتكلمين عليه ، وعن العلامة في جواب المسائل المهنائية اتفاق العدلية على عدم استحقاق الثواب معهما.

هذا ، ولا ينبغي التأمل في أن المعيار في المقربية عند العرف قصد ملاك المحبوبية للمتقرب منه بما هو كذلك ، وهو عبارة عن الجهة الموجبة لمحبوبية الفعل أو الترك لمن يراد التقرب منه ، وهي أسبق مرتبة من أمره وعلة له ، وقد تستكشف تارة به ، واخرى بغيره ، كما لو تعذر الأمر منه لعجز أو غفلة أو غيرهما.

لكن لا بد من فعلية الملاك بحيث يبلغ مرتبة استتباع الإرادة والخطاب لو لا المانع.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن جميع الدواعي القربيّة في عرض واحد ، وأن الجامع بين الجميع كون العمل لله سبحانه ، كما يستفاد من قوله (عليه السلام) : «وكان عمله بنية صالحة يقصد بها ربه».

فيدفعه : أن إضافة العمل لله سبحانه بحيث يحسب عليه إنما تصح مع ملاحظة نحو علاقة له به ، والظاهر أن العلاقة المصححة له ما ذكرنا من كونه واجدا لملاك المحبوبية ، فلا بد من قصده.

إن قلت : هذا لا يناسب ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية من انتزاع التكليف من الإرادة التشريعية التي هي منتزعة من الخطاب بداعي جعل السبيل وجعل مقتضاه في حساب المخاطب منتسبا إليه ، والتي سبق أنها مباينة

٤١٧

للإرادة التكوينية سنخا وإن كانت في بعض الموارد مسببة عنها. إذ المحبوبية من شئون الإرادة التكوينية ، لا من شئون الخطاب بالوجه المذكور ، مع أنه لا إشكال في أنه يكفي في التقرب المعتبر في التعبدي قصد امتثال التكليف المنتزع من الإرادة التشريعية المذكورة.

قلت : المراد بملاك المحبوبية ما يعم ملاك التكليف الموجب للإرادة التشريعية ، فكما أن قصد ملاك المحبوبية الموجب للإرادة التكوينية يكون مقربا من باب تقرب المحسن بإحسانه لمن أحسن إليه ، كذلك قصد ملاك الإرادة التشريعية يكون مقربا من باب تقرب العبد للمولى والمكلّف للمكلّف ، فإذا علم العبد بثبوت الملاك بالنحو المذكور وبلوغه مرتبة جعل التكليف كفى قصده في تقربه من المولى بما هو مولى ، وإن لم يخاطبه المولى ـ تبعا للملاك المذكور ـ لمانع من غفلة أو عجز أو نحوهما ـ لو كان ممكنا في حقه ـ لأن ذلك كاف في حسن الطاعة أو وجوبها ، ولا يتوقف وجوبها وحسنها على الخطاب فعلا ، كما يظهر بأدنى تدبر في المرتكزات العقلائية.

وعليه يبتني ما ذكروه في مسألة الضد من إمكان التقرب بالمهم بقصد الملاك ، فيصح لو كان عبادة ، وإن قيل بعدم الأمر به بسبب المزاحمة للأهم وعدم ثبوت الأمر الترتبي ، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

ومن هنا ظهر أن مقربية قصد الامتثال إنما هي لكونه في طول قصد ملاك المحبوبية ، فهو راجع إليه. كما أن قصد المصلحة إن اريد به قصدها بما هي هي فهو ليس مقربا من المولى ، لعدم دخله به ، وإن اريد به قصدها بما أنها ملاك للتكليف المولوي فهو عبارة اخرى عما ذكرناه من قصد ملاك المحبوبية.

٤١٨

وأما قصد تحصيل الثواب ودفع العقاب فهما في طول قصد موافقة ملاك المحبوبية ومبنيان عليه لا في عرضه ، وتوضيح ذلك : أن موافقة ملاك المحبوبية لما لم يكن داعيا ذاتيا للمكلف لم يصلح للداعوية إلّا بلحاظ جهات خاصة تكون داعية في طول داعويته.

وتلك الجهات تارة : ترجع إلى المولى نفسه ، ككونه أهلا للطاعة ، أو لحب العبد له المقتضي لسعيه فيما يحبه ، أو شكرا منه لنعمه ، أو نحوها.

واخرى : ترجع للعبد نفسه ، كطلب الرفعة عند المولى ، واستحقاق الشكر منه ، ودفع المحذور واستجلاب المحبوب الدنيويين أو الاخرويين.

والظاهر عدم منافاة شيء منها للتقرب ، فتصح العبادة مع الجميع إذا كان قصدها في طول قصد ملاك المحبوبية ، بنحو داعي الداعي ، كما هو محل الكلام.

ودعوى : أن العمل برجاء المحبوب أو دفع المكروه الدنيويين أو الاخرويين من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مقام السيد المستحق للعبادة ، ولا يتحقق بها التقرب ، بل لا يكون التقرب إلّا مع صدور العمل لأجله.

مدفوعة : بأن ذلك إنما يتم إذا لم يلحظ رضا المولى ومحبوبيته داعيا للعمل ، بل كان الداعي بالمباشرة هو دفع المكروه وجلب المحبوب على أنه أثر العمل ، نظير اللوازم الخارجية الطبعية ، أو عوضه ، نظير اجرة الأجير ، حيث تكون داعويتها لعمله بالمباشرة ، لا في طول محبوبية المستأجر لعمله.

بخلاف ما إذا كان جلب المحبوب ودفع المكروه ملحوظا على أنه داعي الداعي مع كون الداعي بالمباشرة هو محبوبية المولى ، بأن يأتي العبد بالعمل لأنه محبوب للمولى وطاعة له ، كي يرضى عنه ويكون أهلا لرحمته وبعيدا عن

٤١٩

نقمته ، فإن ذلك لا يمنع من التقرب للمولى واستحقاق الشكر منه بالإحسان للعبد والإنعام عليه ودفع المكروه عنه.

نظير التحبب للعشيرة بالإحسان إليهم ، لأنهم جناحه الذي به يطير ويده التي بها يصول ، حيث لا إشكال في كونه مقربا منهم ومستوجبا لشكرهم وامتنانهم واستحقاق الجزاء منهم.

إن قلت : قد تقرر في محله أن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي ، فإذا أمر زيد بإطاعة عمرو ، فأمر عمرو بشيء ، فمن أتى به إطاعة له بداعي إطاعة زيد ، كان الداعي الحقيقي له هو إطاعة زيد ، فيكون متقربا له لا لعمرو ، فإذا كان الداعي لامتثال أمر المولى وإرضائه هو تحصيل ثوابه أو دفع عقابه ، كان الداعي الحقيقي تحصيل الثواب أو دفع العقاب ، ولا ينظر إلى داعوية إرضائه ، ليكون مقربا منه.

قلت : هذا إنما يتم إذا كان الداعي الأول مجرد موافقة أمر الامر ، نظير موافقة أمر المستأجر ، دون ما إذا كان هو موافقته من حيثية محبوبيته المستتبعة لرضاه والتحبب إليه ، فإنها لا تنافي التقرب منه وإن كان الداعي الحقيقي هو ما وراء ذلك من موافقة أمر الغير أو تحصيل الثواب وتجنب العقاب.

ولذا كان الإحسان للمؤمنين رغبة في إرضائهم وتحصيل محبوبهم بداعي أمر الشارع موجبا للتقرب منهم واستحقاق شكرهم والجزاء منهم بحسب المرتكزات العقلائية والمتشرعية ، وإن كان الداعي الحقيقي هو أمر الشارع.

بل لا ينبغي التأمل في عدم منافاة داعوية تحصيل المحبوب ودفع المكروه الدنيويين والاخرويين للتقرب والعبادية بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية ،

٤٢٠