المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

المبحث الخامس

في تقسيم المأمور به إلى

عيني وكفائي

وهذا التقسيم كسابقه في عدم الاختصاص بالوجوب ، بل يعم لاستحباب وإن قصرت عنه عناوينهم ، كما لا يجري في النهي ، بل يجري نظيره ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ، فالمراد بالعيني ما يطلب فعله من جميع المكلفين ، بنحو لا يغني امتثال أحدهم عن امتثال غيره ، بل لكل منهم امتثاله ومعصيته ، كالصلاة والصوم ، وبالكفائي ما يكتفى فيه بامتثال بعض المكلفين ، ولو تركه الكل لعوقبوا عليه ، كالصلاة على الميت.

وقد اختلفوا في حقيقة الوجوب الكفائي ـ الذي هو موضوع كلامهم ـ على أقوال يجري نظيرها في الاستحباب.

الأول : ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه سنخ خاص من الوجوب يعرف بآثاره ، نظير ما سبق منه في الوجوب التخييري.

ويشكل بنظير ما سبق هناك من عدم وضوح الفرق بين الوجوب العيني والكفائي سنخا.

الثاني : أنه عبارة عن وجوبات عينية بعدد أفراد المكلفين يكون بقاء كل منها مشروطا بعدم امتثال غيره لتكليفه ، فمع امتثال أحدها من أحدهم

٣٨١

تسقط بقيتها عن غيره ، نظير ما سبق في الواجب التخييري.

وبهذا البيان يتضح أنه لو انشغل به أكثر من واحد وفرغوا دفعة واحدة كان الكل ممتثلين ، لعدم تحقق مسقط تكليف كل منهم إلّا بعد امتثاله له.

ولا مجال للإشكال فيه بأن لازمه عدم تحقق الامتثال لو أتى به أكثر من واحد دفعة ، لعدم تحقق شرط تكليف كل منهم.

نعم ، يتجه الإشكال المذكور لو كان المراد بهذا الوجه كون عدم امتثال أحدهم في جميع الأزمنة شرطا في أصل ثبوت التكليف ، لا في بقائه.

حيث يكون امتثال كل منهم مانعا من ثبوت تكليف الآخرين المانع من صدق الامتثال على فعلهم المستلزم لعدم امتثال الكل ، لعدم المرجح ، فيبقى التكليف.

لكن يبعد جدا إرادتهم ذلك ، كيف ولازمه كون امتثال أحدهم في بعض الأزمنة كاشفا عن عدم ثبوت التكليف في حق الآخرين من أول الأمر ، لا مسقطا له بعد ثبوته؟!

نعم ، يشكل الوجه المذكور بأن الذي يكلف به كل مكلف إن كان هو الماهية على إطلاقها في مقابل العدم المحض والتي يكفي في تحققها فعل أحد المكلفين ، فلا مجال لإرجاعه للتكاليف العينية في حق جميع المكلفين ، لوضوح ابتناء التكاليف العينية في حقهم إلى تكليف كل منهم بفعله المباين لفعل غيره ، والمقابل لعدم فعله ، لا للعدم المحض.

كما لا يحتاج معه مسقطية امتثال أحدهم لتكاليف الباقين إلى تقييدها بعدمه ، لعدم بقاء موضوعها معه.

وإن كان هو الماهية الصادرة منه في مقابل عدم فعله هو لها ، بحيث

٣٨٢

يكلف كل فرد منهم بفرد من الماهية غير ما يكلف به الآخر ، فمن الظاهر عدم تعلق الغرض الفعلي قبل فعل أحدهم إلّا بفعل واحد منهم ، إما لوحدة الغرض من الأمر ذاتا وحصوله بفعل الواحد ، أو تعدده بعدد أفعال المكلفين مع تعذر حصول أكثر من واحد الراجع إلى كون الغرض واحدا بنحو البدلية ، مستتبعا للاكتفاء بمطلق وجود الماهية في قبال عدمها المطلق.

لا أن الغرض من أول الأمر متعلق بفعل الكل بنحو يقتضي إتيان كل منهم بفرد غير ما يأتي به الآخر ، غايته أنه يسقط بفعل بعضهم ، نظير : ما لو أمر جماعة بأن يسقي كل منهم أرض الزرع دلوا من الماء ، فسقاها المطر وأرواها.

كيف وقد لا يكون المكلف به قابلا للتعدد ، كتطهير المسجد وحفظ المال وكسر الإناء ونحوها؟!

وأما الإشكال على ذلك : بأن لازمه استحقاق ثواب واحد مع امتثال الكل دفعة لوحدة الغرض الحاصل من فعلهم ، لما سبق في نظير هذا الوجه من الواجب التخييري من أن تعدد الامتثال إنما يوجب تعدد الثواب مع تعدد الغرض الحاصل به ، لا مع وحدته.

فهو مندفع : بالفرق ارتكازا بين تعدد الامتثال مع وحدة الممتثل ، كما في الواجب التخييري ، وتعدده مع تعدد الممتثل ، كما هنا ، حيث يستحق كل منهم أجر عمله بعد فرض وقوعه في محله وكونه دخيلا في حصول غرض المولى وإن كان واحدا.

وإلّا فلو كان إتيان الكل به دفعة موجبا لحصول أغراض بعددهم لزم التكليف به محافظة عليها.

٣٨٣

وبالجملة : لا ريب بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية والنظر في الواجبات الكفائية العرفية في ابتناء الوجوب الكفائي على وحدة الغرض من فعل الكل المستلزم للاكتفاء بفعل أحدهم في مقابل العدم المحض ، لا في مقابل عدم فعله بنفسه.

كما يشكل هذا الوجه وما قبله : بأن الواجب الكفائي قد يتعذر قيام شخص واحد به دائما أو في بعض الحالات ، كالجهاد بالمقدار الذي يدفع به الخطر عن المسلمين ، والحج بالمقدار الذي تتعطل بدونه المشاعر ، فيمتنع رجوع التكليف به إلى تكاليف متعددة بعدد أفراد المكلفين ، سواء كانت مباينة للتكليف العيني سنخا ـ كما هو مقتضى الوجه الأول ـ أم من أفراده مع كونها مشروطة بعدم امتثال الآخرين ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني ـ بل لا بد من كونه بنحو خاص صالح لتكليف كل فرد بالقيام به استقلالا أو مع غيره حسب اختلاف الأفراد والأحوال.

الثالث : ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الوجوب الكفائي لما كان ناشئا عن غرض واحد تعين كونه وجوبا واحدا متعلقا بصرف وجود المكلف ، نظير تعلقه بصرف وجود المكلف به ، فبامتثال أحدهم يتحقق الفعل من صرف الوجود فيسقط الغرض ولا يبقى مجال لامتثال الباقين ، كما أنهم بامتثالهم جميعا يثابون جميعا ، لانطباق صرف الوجود عليهم بأجمعهم.

وفيه : أنه لا يتعقل تكليف صرف الوجود ، بل هو غير قابل للخطاب والتكليف ، لأن التكليف من الإضافات الخارجية التي لا تتعلق إلّا بالمكلّف الخارجي المعين ، كما لا تصدر إلّا من المكلف الخارجي المعين ، وإنما أمكن تعلقه بالمكلف به على إطلاقه بنحو يكتفي في امتثاله بصرف الوجود لأنه

٣٨٤

لا يتعلق به في ظرف وجوده ، بل في ظرف عدمه بنحو يقتضي إيجاده ، لأن وجوده ليس ظرفا لثبوت التكليف ، بل ظرف سقوطه بالامتثال ، فلا وجه لقياس المكلّف على المكلف به في إمكان كونه الطبيعة التي يكتفي فيها بصرف الوجود.

الرابع : ما ذكره بعض مشايخنا من أنه وجوب واحد متعلق بأحدهم على تردده ، نظير تعلق الوجوب التخييري بأحد الأطراف على تردده.

وفيه : أن مرجع الترديد في الواجب التخييري إلى التخيير ، وهو إنما يتعقل في المكلف به دون المكلّف ، نظير ما تقدم في الوجه الثالث.

على أن استحقاق العقاب والثواب فرع التكليف ، فإذا كان المكلف هو أحدهم مرددا لزم كون الثواب أو العقاب واحدا ثابتا لأحدهم كذلك حتى في فرض إطاعتهم أو عصيانهم جميعا. وهو كما ترى! لا معنى له ، بل لا يلتزم به هو ولا غيره.

هذا ، مضافا إلى الإشكال في جميع الوجوه المتقدمة : بأن لازمها أنه لو فرض عجز بعض المكلفين عن امتثال التكليف الكفائي بنفسه لم يجب عليه السعي في امتثال غيره بالنحو الذي يقدر عليه ، لسقوط التكليف عنه بالتعذر لو كان له تكليف يخصه مباين للتكليف العيني سنخا أو فرد منه مشروط بعدم امتثال الغير ـ كما هو مقتضى الوجهين الأولين ـ وخروجه عن موضوعه لو كان مشاركا للغير في التكليف الواحد الثابت لصرف الوجود أو للمردد ـ كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين ـ لوضوح امتناع تكليفه بأي وجه في ظرف عجزه.

ولا دليل على وجوب السعي لامتثال الغير لتكليفه ، غاية الأمر أنه

٣٨٥

يجب إعلام الجاهل بتشريع التكليف به ، كما يجب الأمر بالمعروف ، وقد لا يتم موضوع كل منهما ، كما قد لا ينفعان في ترتب امتثال الغير لتكليفه ، ولا يجب غير ذلك من وجوه السعي في امتثاله ، كإعلامه بتحقق موضوع التكليف ، وإقناعه بوجه آخر لا يقتضيه الأمر بالمعروف ، وتهيئة مقدمات الامتثال له.

كما لا يجب السعي لتحقيق مسقط التكليف عند تعذر امتثاله ، مثلا : لو تعذر على أحد الزوجين القيام بحقوق الآخر في ظرف مطالبته لم يجب عليه السعي للطلاق لتسقط الحقوق المذكورة عنه ، ولو وجب على زيد مشايعة صديقة إذا سافر لم يجب عليه عند تعذر مشايعته له إقناعه بالعدول عن السفر ، وهكذا.

مع أنه لا إشكال ظاهرا في أن تعذر امتثال الواجب الكفائي على بعض أفراد المكلفين لا يسقطه عنه رأسا ، بل يجب عليه السعي لقيام غيره من المكلفين به بأي وجه أمكن ، إلّا بدليل مخرج عن ذلك.

وهذا كاشف عن عدم تمامية شيء من الوجوه المتقدمة في توجيهه ، وأنه مجعول بنحو خاص يقتضي وجوب السعي بالوجه المذكور وإن لم تقتضه الوجوه المذكورة.

فلعل الأولى أن يقال : إن التكليف الكفائي عبارة عن تكليف كل فرد بالماهية لا بنحو يقتضي تكليفه بفرد منها مباين لما كلف به غيره ـ كما في التكليف العيني ـ بل بنحو يقتضي مطلق وجودها في مقابل عدمها المحض ، لوفاء ذلك بالغرض الداعي للتكليف ، كما سبق توضيحه عند الكلام في الوجه الثاني.

٣٨٦

فالفرق بينه وبين التكليف العيني ليس في السنخ ـ كما هو مقتضى الوجه الأول ـ ولا في إطلاق التكليف وتقييده ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني ـ ولا في المكلّف ـ كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين ـ بل في المكلف به ، حيث يكون المكلف به في العيني في حق كل فرد يخصه من الماهية مباين للفرد الذي يكلف به الآخر ـ يقوم به هو بالمباشرة أو يكتفي بقيام غيره مقامه فيه ـ وفي الكفائي أصل وجود الماهية الحاصل بفعل أي منهم بانفراده أو بمشاركة غيره له.

ودعوى : امتناع ذلك ، لأن وحدة المكلف به تمنع من تعدد التكليف ، وتعدد المكلف يمنع من وحدة التكليف.

ممنوعة ، بل يتعين تعدد التكليف في المقام ، لأن التكليف ـ كما ذكرناه غير مرة ـ إضافة قائمة بين المكلّف والمكلّف والمكلف به ، ومن الظاهر أنه لا يعتبر في تعدد الإضافة اختلاف تمام الأطراف ، بل يكفي اختلاف بعضها.

ومن هنا يتجه تعدد الثواب أو العقاب مع امتثال الكل دفعة أو عصيانهم ، لامتثال كل منهم لتكليفه الذي يخصه أو عصيانه له.

ومثلها دعوى : امتناع تكليف الانسان بين فعله وفعل غيره ، لخروج فعل غيره عن قدرته ، بل لا بد من تقييد المأمور به بخصوص فعله المباين لفعل غيره ، لأنه المقدور له.

لاندفاعها : بأنه لا يعتبر القدرة على تمام أفراد المأمور به ، بل يكفي القدرة عليه بالقدرة على بعض أفراده.

على أن فعل الغير قد يكون مقدورا للمكلف صالحا لأن يخاطب به ويكلف بتحصيله فيما لو كان قادرا على إحداث الداعي له للفعل في ظرف

٣٨٧

قدرته عليه ، أو إقداره عليه في ظرف تحقق الداعي له ، أو كليهما.

ولذا يصح التكليف بما لا يقدر على مباشرته له إذا كان قادرا على تفريغ ذمته منه بالاستنابة فيه. وعليه تبتني صحة الإجارة على العمل بنحو تنشغل به ذمة الأجير من دون اعتبار مباشرته له ، بل مع تعذرها عليه.

وبهذا يتجه في المقام لزوم السعي لحصول الواجب الكفائي من الغير على العاجز عن القيام به ، لأن عجزه عن فعله بالمباشرة لا ينافي قدرته على الوجود المطلق المتحقق بفعل غيره بالإعلام والإقناع وتهيئة المقدمات ، وحيث كان الوجود المذكور هو المكلف به فلا وجه لسقوطه مع القدرة عليه بالنحو المذكور ، وليس هو متمحضا في السعي لامتثال الغير لتكليفه ، كي لا يجب.

كما ظهر الوجه في لزوم استقلال شخص بالفعل تارة ، والاشتراك فيه اخرى ، والتخيير بينهما ثالثة ، لأن الوجود المطلق يتحقق بالوجهين ، فيتخير بينهما مع القدرة عليهما معا ويتعين أحدهما مع اختصاص القدرة به.

نعم ، لا يبعد كون الاشتراك في الفعل الواحد موجبا للاشتراك في ثواب واحد ، لوحدة الامتثال وإن تعددت التكاليف ، ولا يستقل كل مشارك فيه بثواب الامتثال التام ، للفرق الارتكازي في مقدار الثواب الذي يستحقه الشخص بين استقلاله بالفعل ومشاركة غيره له فيه.

بل لا يبعد ذلك مع استقلال كل منهم بفعل تام دفعة واحدة ، لأن كلا منها وإن كان امتثالا تاما لتكليفه ، إلّا أن وحدة الغرض واشتراكهم في تحقيقه تناسب وحدة الثواب واشتراكهم فيه ، بل قد يدعى ذلك في العقاب وإن كان لا يخلو عن إشكال ، خصوصا الثاني.

والأمر سهل ، لعدم تعلق ذلك بمقام العلم ، بل هو وظيفة المولى الحكيم

٣٨٨

الذي لا يخفى عليه مقدار الاستحقاق ، ورحمته وسعت كل شيء.

بقي في المقام امور

الأول : أشرنا آنفا إلى أن الوجوب الكفائي تارة : يكون مع وحدة الغرض ذاتا ، فلا بد من ترتبه على الوجود المطلق المكلف به من دون دخل لخصوصيات أفعال المكلفين ، فيكون هو المكلف به.

واخرى : يكون مع تعدده بعدد أفعال المكلفين مع تعذر استيفاء تمام الأغراض المستلزم لفعلية غرض واحد على البدل ، والموجب للاكتفاء بفعل واحد من المكلفين على البدل.

لكن الثاني يختلف ، لأن الغرض البدلي المذكور تارة : يقتضي حفظه من كل أحد ، فيكلف الكل بتحصيله بتحقيق أحد أفعال المكلفين على البدل ، والاكتفاء بالوجود المطلق لأنه لا ينفك عنه ، لا لقيام الغرض به كما في الصورة الاولى.

واخرى : يقتضي حفظ كل مكلف للغرض الحاصل بفعله على تقدير عدم حفظ الآخر لغرض فعله.

وعلى الأول يكون التكليف كفائيا يجري ما فيه ما تقدم.

أما على الثاني فيكون التكليف في حق كل واحد عينيا مقيدا بعدم امتثال غيره ، ولازمه أنه مع تعذر الامتثال على أحدهم لا يجب عليه السعي لامتثال الآخرين إلّا بدليل خاص. فلاحظ.

الثاني : أن المكلف به حيث كان هو الوجود المطلق تعين أنه مع تعذر

٣٨٩

القيام بالفرد التام على شخص لا يشرع له الامتثال بالفرد الناقص الاضطراري مع قدرة غيره على الامتثال بالفرد التام وحضوره له ، لعدم صدق الاضطرار مع ذلك للناقص ، فلا يجزي.

وهذا بخلاف ما لو كان كل فرد مكلفا بفعله ، حيث يصدق الاضطرار في حقه ، فيشرع له الفعل الناقص ، وحينئذ يتجه سقوط التكليف عن الآخرين لو كان لدليل السقوط إطلاق يشمل الاتيان بكل مشروع وإن كان ناقصا ، فتأمل جيدا.

الثالث : حيث كان الفرق بين التكليف العيني والكفائي بإطلاق المكلف به في الكفائي بنحو يكتفي فيه بصرف الوجود الصادر من كل أحد ، وتقييده في العيني بفرد خاص يختص بالمكلف الواحد ، أو أفراد متعددة يختص كل منها بفرد من المكلفين ، فإن كان هناك إطلاق يقتضي الأول ، كما لو كان الخطاب بالفعل المبني للمجهول ـ مثل : ليصلّ في المسجد ويحج البيت ـ عمل به ، وإلا فإن كان هناك ظهور يقتضي تكليف بعض المكلفين أو جميعهم بأفراد تخصهم ، كما هو ظاهر الخطاب بالفعل المبني للفاعل ـ مثل : صلّوا في المسجد وحجّ البيت ـ عمل عليه أيضا.

وإن فقد الأمران كان المرجع الاصول العملية ، وهي تختلف باختلاف الموارد.

فلو علم الشخص بتكليفه بالشيء في الجملة فحيث كانت العينية مستلزمة لخصوصية زائدة في المكلف به ، وهي الفرد المباين للفرد الذي كلف به أو يأتي به الغير ، كان مقتضى الأصل عدمها والاجتزاء بالوجود المطلق الصادر من أي شخص ، بناء على ما هو التحقيق من أن المرجع البراءة مع

٣٩٠

الشك في اعتبار الخصوصية في المأمور به ، على ما يذكر في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

نعم ، لو كان الفعل متعذرا عليه ودار الأمر بين كون التكليف عينيا يسقط بالتعذر المذكور وكونه كفائيا لا يسقط به ، بل يجب عليه السعي لتحصيله من غيره كان مقتضى البراءة الأول ، للشك في أصل التكليف.

وكذا لو علم الشخص بتكليف غيره بشيء ودار الأمر بين كونه عينيا مختصا به وكونه كفائيا يشترك هو معه فيه ، كما لو دار الأمر بين اختصاص أحكام الميت بالولي وعمومها لجميع المكلفين ، فإن مقتضى الأصل براءة ذمة غير الولي من التكاليف المذكورة.

الرابع : كما أن الأمر بالطبيعة يقتضي تكليف كل فرد من أفراد الموضوع تارة : بفرد منها يخصه. واخرى : بوجودها المطلق المقابل للعدم المحض من أي فرد فرض ، فيكون في الأول عينيا وفي الثاني كفائيا. كذلك النهي عن الطبيعة يقتضي نهي كل فرد تارة : عن إيجاده هو لها. واخرى : عن أصل وجودها.

وعلى الأول يكتفى في امتثال كل فرد بتركه هو ، ولا يجب عليه منع غيره إلّا بدليل خاص ، كدليل الأمر بالمعروف.

أما على الثاني فكما يلزم كل مكلف ترك الطبيعة يلزمه منع الغير من القيام بها ، تجنبا لأصل وجودها.

فهو نظير الوجوب الكفائي في نحو توجيه التكليف بالماهية ، وإن افترقا في كيفية الامتثال ، حيث يكتفي في امتثال الوجوب الكفائي بفعل الواحد ، ويعتبر في امتثال النهي المذكور ترك الكل.

٣٩١

لكن الفرق المذكور متفرع على الفرق بين الأمر والنهي مطلقا في كيفية الامتثال ، حيث يكتفي في امتثال الأول بصرف الوجود ، ويعتبر في امتثال الثاني ترك تمام الأفراد.

نعم ، الغالب في موارد النهي المذكور ثبوت النهي عن الخصوصية أيضا ، وهي المباشرة في حق كل فرد. فمثلا : النهي عن قتل المؤمن راجع إلى نهيين : نهي عن مباشرة قتله عينا على كل أحد ، يكفي في امتثاله في كل مكلف تجنبه له ، ونهي للكل عن تحقق ذلك ، بنحو يجب على الكل منع كل أحد منه ، وهو راجع لوجوب حفظه عليهم ، فمن لم يقتله ومنع من قتله امتثل النهيين ، ومن لم يقتله ولم يمنع من قتله امتثل الأول دون الثاني ، ومن قتله خالفهما معا ، ولذا يكون أشد معصية من الأول.

أما الوجوب الكفائي فكثيرا ما يصاحب استحبابا عينيا للمباشرة ، كما في أحكام الميت. فلاحظ.

٣٩٢

المبحث السادس

في تقسيم المأمور به إلى

مطلق وموقت

وهذا التقسيم كسابقه وإن ذكر في الواجب إلّا أنه لا يختص به ، بل يعم المستحب ، بل قد يجري في المنهي عنه ، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا ، فمن الظاهر أن الزمان لا بد منه في كل فعل حادث ، ومنه الفعل المأمور به ، فهو من لوازم المأمور به العقلية التي يمتنع أخذها فيه شرعا للزوم اللغوية.

إلّا أنه تارة : لا تؤخذ فيه خصوصية زمانية ، بل يكون مطلقا من حيثية الزمان.

واخرى : تؤخذ فيه خصوصية زمانية زائدة على ما يستلزمه عقلا من أصل الزمان.

والأول هو المطلق ، والثاني هو الموقت.

ولعل هذا هو المراد مما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الزمان وإن كان مما لا بد منه عقلا في الواجب ، إلّا أنه تارة يؤخذ فيه شرعا ، واخرى لا يؤخذ.

وإلا فلا مجال لما يظهر من كلامه من أن الزمان الذي لا بد منه عقلا

٣٩٣

قد يؤخذ في الواجب ، لما ذكرناه من أن ما لا بد منه عقلا ـ وهو أصل الزمان ـ يمتنع أخذه شرعا ، وما يمكن أخذه شرعا ـ وهو الخصوصية الزمانية ـ لا يقتضيه العقل.

هذا ، وقد تقدم في المسألة الثانية من الفصل الخامس ما يتعلق بالمطلق ، وأن إطلاق الأمر هل يقتضي الفور في مقام الجعل أو الامتثال أو لا يقتضيه؟ ومن ثمّ كان المهم في المقام الكلام في الموقت.

وقد قسموه إلى قسمين :

الأول : الموسع ، وهو الذي يكون وقته أوسع منه ، كالصلاة اليومية.

الثاني : المضيق ، وهو الذي يكون وقته بقدره ، كالصوم في نهار شهر رمضان.

وقد استشكل في الأول بما عن بعض القدماء من أنه يؤدي إلى جواز ترك الواجب ، كما في المعالم.

فإن كان المراد به أنه يؤدي إلى جواز تركه في أول الوقت ، وهو ينافي وجوبه فيه. فهو ليس محذورا ، لأن وجوبه لما كان مبنيا على السعة ، تبعا للغرض الداعي له ، فجواز الترك عن أول الوقت لا ينافيه ، نظير جواز ترك الواجب التخييري إلى بدله.

وإن كان المراد به أن سعة الوقت لما كانت تقتضي جواز التأخير عن أوله فقد يتعذر بعد ذلك ، فيفوت الواجب رأسا فوتا لا عقاب معه ، وهو ينافي وجوبه ، لفرض القدرة عليه في الجملة.

فهو مندفع : بأن السعة إنما تقتضي جواز تأخيره عن أول الوقت مع القدرة عليه في آخره ، لا مع العجز عنه. نعم ، يجوز تأخيره ظاهرا مع عدم

٣٩٤

ظهور أمارات العجز عنه في آخر الوقت لأصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء ـ كما سبق في مسألة الفور والتراخي ـ وتعذر الواجب بعد ذلك وإن استلزم فوت الواجب ، إلّا أنه يكشف عن عدم جواز تأخيره عن أول الوقت ، فهو لا يرجع إلى جواز تفويته واقعا ، لينافي وجوبه ، بل تفويته مستند إلى خطأ أصالة السلامة ، كخطإ سائر الطرق الظاهرية الذي قد يستلزم فوت امتثال التكليف فوتا لا عقاب معه من دون أن ينافي ثبوته.

ثم إن الظاهر أن الأمر بالموسع راجع إلى الأمر بالطبيعة المقيدة بما في الوقت بما لها من أفراد متكثرة طولية وعرضية ، وكما يكون التخيير بين أفرادها العرضية عقليا بسبب عدم دخل خصوصياتها في الغرض ، كذلك التخيير بين أفرادها الطولية.

وما قد ينسب إلى جماعة ـ منهم العلامة ـ من كون التخيير بين الأفراد الطولية شرعيا في غير محله.

على إشكال في النسبة ، لأن الذي حكاه في الفصول عنهم أن الواجب الموسع ينحل إلى واجبات تخييرية.

ولعل مرادهم بذلك مجرد بيان سعة المكلف به والاجتزاء بأي فرد منه في مقام العمل ، لا التخيير الشرعي المقابل للتخيير العقلي. والأمر سهل.

كما استشكل في الثاني ـ وهو المضيق ـ بما أشار إليه بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره من أنه لا بد من تقدم البعث على الانبعاث ولو انا ما ، فإن كان حدوث البعث والتكليف سابقا على الوقت لزم تقدم المشروط على شرطه ، وإن كان مقارنا لأوله لزم تأخر الانبعاث عنه ، فيكون الوقت أوسع من الواجب لا بقدره.

٣٩٥

وقد يدفع بوجهين :

الأول : ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن لزوم تقدم البعث على الانبعاث وإن كان بديهيا ، إلّا أنه ليس تقدما زمانيا ، بل رتبيا ، كما هو الحال في جميع العلل مع معلولاتها ، وحينئذ لا مانع من كون أول الوقت زمانا لكل من التكليف والانبعاث للمكلف به.

نعم ، لا بد من العلم قبل الوقت بحدوث التكليف عنده ، ليتمكن من الانبعاث فيه ، بخلاف العلم بالموضوع ـ وهو الوقت ـ فلا يعتبر تقدمه عليه.

بل أنكر بعض مشايخنا لزوم التقدم الزماني حتى للعلم بالتكليف ، مدعيا أن العلم بالتكليف المستلزم للعلم بترتب العقاب متقدم على الامتثال والانبعاث طبعا ، لا زمانا.

لكنه يشكل : بأن الاندفاع لما كان مشروطا بالعلم بالتكليف الفعلي فهو موقوف على العلم بجعل التكليف كبرويا ، وبتحقق موضوعه ، ومنه الوقت ـ بناء على كونه شرطا للتكليف أيضا ـ فلا وجه لما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من الفرق بين العلم بالحكم والعلم بالموضوع.

كما أن الظاهر أنه لا بد في تأثير العلم بالحكم الفعلي ـ المترتب على العلم بالأمرين ـ في النفس بنحو يستلزم فعلية الاندفاع من مضي زمان ما ، كما هو الحال في سائر الدواعي للعمل ، حيث لا بد من مضي زمان ما على الالتفات إليها ، لتستحكم في النفس ويترتب عليها الاندفاع ، كما قد يتضح بالرجوع للمرتكزات.

الثاني : أن الكلام فيما إذا كان الوقت قيدا للواجب ، لا للوجوب ، وحينئذ لا مانع من دعوى سبق الوجوب على الوقت بنحو الواجب المعلق.

٣٩٦

اللهم إلّا أن يكون مبنى الإشكال على امتناع الواجب المعلق ، كما هو مختار بعض الأعاظم (قدس سره).

لكن عمدة الإشكال في المعلق هو امتناع فعلية التكليف بالأمر المتأخر ، لعدم كونه اختياريا فلا يمكن الانبعاث نحوه ، كي يمكن البعث إليه ، وهو إنما يقتضي امتناع تأخر المكلف به عن التكليف مدة أطول مما يقتضيه الترتب بين البعث والانبعاث ، أما مع فرض لزوم تأخر الانبعاث عن البعث انا ما ـ كما هو مبني الإشكال في المضيق ـ فلا محذور في تأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب بقدر ذلك ، بل لا فائدة حينئذ في سعة زمان الواجب بحيث يقارن الوجوب زمانا.

وعلى ذلك لا مانع من البناء على كون زمان الواجب بقدره ، مع تقدم زمان الوجوب عليه بالقدر اللازم في الترتب بين العلم بالحكم الفعلي والانبعاث.

نعم ، كثيرا ما لا يتيسر العلم بدخول الوقت وخروجه مقارنا لأوله وآخره ، بل لا يعلم بدخوله إلّا بعد مضي شيء منه ، ولا بخروجه إلّا بعد مدة من مضيه ، لعدم وضوح حدوده ـ كالفجر والظهر والمغرب ـ بنحو التدقيق.

كما أن الفعل المأمور به قلّما يتيسر تهيئة جميع مقدماته ، بحيث يشرع فيه بمجرد دخول وقته كالصوم ، بل كثيرا ما يحتاج لبعض المقدمات القريبة التي تستغرق زمنا ولو قليلا ، كالتخطي لدخول المسجد.

ومن هنا كان الظاهر انحصار الواجب المضيق عادة بما إذا كان أمرا استمراريا يمكن الشروع فيه قبل الوقت والبقاء عليه بعده ، لا بنية الوجوب في تمامه ، بل ليقع ما يجب منه في تمام الوقت ، كما في مثل الإمساك للصوم

٣٩٧

والكون في المسجد للاعتكاف ، حيث يمكن الشروع فيهما قبل الفجر والبقاء عليهما لما بعد المغرب ليحصل المطلوب منهما في تمام وقته وبين الحدين ، ويكون الطرفان المكتنفان له مقدمة علمية ، ليتيسر بها إحراز الامتثال ، وفي مثل ذلك لا يهم البناء على مقارنة البعث للانبعاث أو على الترتب بينهما.

وهذا بخلاف مثل الصلاة ، حيث لا مجال لتوقيتها بوقت خاص بنحو يشرع بها في أوله ، ويفرغ منها في آخره ، وتطابقه دقة ، لتعسر امتثالها بالنحو المذكور ، بل تعذره عادة.

بقي في المقام امور

الأول : لا ريب في عدم دلالة الأمر بالموقت بوجه على وجوب تداركه بعد الوقت لو فات فيه ، كما ذكره غير واحد ، لأن التوقيت من أنحاء التقييد وحيث كان تعذر القيد موجبا لتعذر المقيد تعين قصور دليل الأمر بالمقيد عن إثبات وجوب فاقد القيد عند تعذره ، بل قد يكون ظاهرا في عدم وجوبه ، كما لو كان مفاد التقييد حصر الفعل المشروع بالمقيد لا مجرد الأمر به ، كما في مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) فلا بد في وجوب التدارك بعد الوقت من دليل آخر غير دليل الأمر بالموقت.

وتوضيح الكلام في ذلك يقتضي الكلام أولا في أنحاء التقييد بالوقت الممكنة ثبوتا ، ثم في مفاد الأدلة إثباتا.

المقام الأول : في مقام الثبوت

لما كان أخذ الوقت في الواجب عبارة عن تقييده به فأخذ القيد في الواجب يكون ..

__________________

(١) الوسائل ج ١ ، باب : ١ من أبواب الوضوء ، حديث : ١.

٣٩٨

تارة : لغرض مستقل عن غرضه موقوف على الإتيان بالواجب مقارنا للقيد ، من دون أن يكون القيد دخيلا في مصلحة الواجب ، كما لو وجبت الصلاة في المسجد لمصلحة إشغال المسجد من دون دخل له بمصلحة الصلاة. وهو راجع إلى كون القيد واجبا في واجب.

واخرى : لتوقف غرض الواجب عليه في ظرف التمكن منه ، بنحو لو أخل به حينئذ فقد أخل بغرضه ، لكنه مع تعذره يسقط دخله فيه رأسا ، ويكون الفاقد للقيد حينئذ محصلا لتمام الغرض.

وثالثة : كالثانية إلّا أنه مع التعذر يسقط دخله بالإضافة إلى بعض مراتب الغرض ، فيكون الفاقد في ظرف تعذر القيد محصلا لبعض الغرض بالنحو اللازم الحفظ.

ورابعة : يكون لتوقف غرض الواجب عليه مطلقا حتى في ظرف تعذره ، بحيث لا يكون الفاقد مع التعذر محصلا لشيء من الغرض ، لكن يحدث بفوت الغرض غرض آخر مباين له يقتضي تكليفا آخر مباينا للتكليف بالمقيد من سنخ التدارك له ، كالضمان بسبب الإتلاف ، أو العقوبة عليه ، كالحد والتعزير والكفارة.

وخامسة : كالرابعة ، لكن من دون أن يحدث غرض يقتضي تكليفا آخر.

وربما كانت هناك بعض الصور الاخرى ، إلّا أنه لا أثر لها أو يظهر حكمها من الصور التي ذكرناها.

وهذه الصور تختلف من جهات ..

الاولى : أنه في الصورتين الأخيرتين لو تعذر القيد لا يجب الفاقد أصلا ،

٣٩٩

بخلاف الصور الثلاث الاول.

الثانية : أنه في الصورة الثانية يجوز تعجيز النفس عن القيد ، لحصول تمام الغرض بالفاقد في ظرف العجز عنه ، بخلاف بقية الصور.

الثالثة : أنه في الصور الأربع الأخيرة لو أتى بالفاقد للقيد في ظرف القدرة عليه لم يكن مشروعا ولا امتثالا ، لعدم مطابقته للمأمور به ، فلا يجتزأ به إلّا بدليل خاص من باب الاجتزاء بغير المأمور به عنه ، بخلاف الصورة الأولى ، لفرض عدم توقف غرض أصل الواجب على القيد ، فيصح ويقع امتثالا لأمره ، وإن لم يمتثل أمر القيد.

وحينئذ إن كان موضوع الأمر بالقيد هو الاتيان بذات الواجب مقارنا له وجبت إعادته مع القيد وإن سقط أمره ، تحصيلا لمصلحة القيد ، وإن كان موضوعه الإتيان بالواجب بما هو واجب مقارنا له تعين سقوط أمر القيد ، لتعذر امتثاله بارتفاع موضوعه بعد فرض سقوط أمر المقيد بالامتثال.

وعليه يتجه عدم صحة الفاقد للقيد لو كان عبادة مع الالتفات لذلك ، لأن استلزامه تفويت مصلحة القيد الواجب موجب لمبعديته ، فيمتنع التقرب به.

الرابعة : أنه لو شك بعد تعذر القيد في الامتثال بالمقيد حين القدرة عليه كان مقتضى قاعدة الاشتغال في الصورة الاولى الإتيان بذات الواجب ، لما عرفت من رجوعها إلى تكليفين أحدهما بالذات والآخر بالقيد ، فسقوط الثاني بالامتثال أو التعذر لا ينافي بقاء الأول ، وحيث كان الشك في امتثاله كان مقتضى قاعدة الاشتغال الإتيان به.

كما أنه في الصورة الرابعة والخامسة لا مجال لقاعدة الاشتغال ، للعلم

٤٠٠