المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

أنكره غير واحد.

مع أنه لا يتم لو اختلف نحو تأثير كل منهما في الغرض الواحد ، كما لو كان غرض المولى إعداد الطعام للأكل ، ليرفع به الجوع ، فأمر بشراء طعام مطبوخ أو طبخ طعام مملوك ، فإن أثر الأول رفع المانع الشرعي من الانتفاع بالطعام ، وأثر الثاني تحقيق شرطه الخارجي ، وهما مختلفان ماهية ، وإن اشتركا في الغرض الأقصى المذكور الذي هو الملاك الداعي لجعل الحكم ، فلا مانع من اختلاف مؤثر كل منهما من دون أن يستندا لجامع واحد.

وكالتأديب والردع الذي يكون بمثل الصوم الموجب للألم البدني ، وبمثل الصدقة والعتق الموجبين للخسارة المالية ، مع عدم الجامع الماهوي بين الأثرين المذكورين.

اللهم إلّا أن يكون ذلك خارجا عن فرض وحدة الغرض في كلامه وداخلا في فرض تعدده ، الذي يكون التخيير فيه شرعيا عنده ، بأن يريد من الغرض الأثر المباشر لكل منهما الذي يراد من كل منهما في طول الغرض الأقصى ، والمفروض تعدده فيهما وإن اشتركا في الغرض الأقصى المترتب بالواسطة ، ولا يدخل في وحدة الغرض في مفروض كلامه إلّا ما إذا اشتركا حتى في الغرض المباشر ، كما لو خير في الفرض بين شراء الطعام واستيهابه ، حيث يكون الغرض منهما والأثر المباشر لهما رفع المانع الشرعي.

لكنه بعيد جدا عن ظاهر كلامه ، حيث جعل مورد التخيير الشرعي ما إذا تعدد الغرض وامتنع حصول غرض كل منهما في ظرف حصول غرض الآخر ، مع وضوح عدم امتناع حصول كلا الغرضين المستندين لكلا الطرفين بالمباشرة في المثال المتقدم ، فلو لم يدخل في صورة وحدة الغرض لكانت

٣٦١

القسمة غير مستوعبة ، وهو بعيد.

ومن هنا كان الظاهر أن مراده بالغرض هو الغرض الأقصى الذي هو الملاك الداعي لجعل الحكم ، والذي قد يكون واحدا ، كما في المثال السابق ، وقد يكون متعددا يمتنع حصول أكثر من واحد منه ، كما لو احتاج إلى استعمال دواء ينفع بصره وأخر ينفع سمعه ، وكان استعمال أحد الدواءين مانعا من تأثير الآخر وإن أمكن استعماله معه ، فيتعين عليه الأمر بالإتيان بأحدهما تخييرا.

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم في حقيقة الوجوب التخييري على أقوال قد تظهر الثمرة بينها في فرض الشك في كون الوجوب تخييريا ، على ما تعرضنا له في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

ويجري نظيرها في الاستحباب التخييري وإن كان خارجا عن عنوان كلامهم.

الأول : ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه سنخ خاص من الوجوب مباين للوجوب التعييني سنخا ثابت لجميع أطراف التخيير ، فلكل منها وجوبه الخاص به ، يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منها والعقاب بتركها بتمامها ، لا أن الوارد عليها بمجموعها وجوب واحد يقتضي التخيير بينها في مقام العمل.

ولعله راجع إلى ما أوضحه بعض الأعيان من المحققين (قدس سره) من أن الوجوب التخييري طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة لمتعلقه لا تقتضي وجوده إلّا في ظرف عدم الآخر ، بخلاف الطلب التعييني ، فإنه طلب تام ناشئ

٣٦٢

عن إرادة تامة لمتعلقه تقتضي وجوده مطلقا ومن جميع الجهات.

نعم ، استشكل بعض المحققين (قدس سره) في كون التخيير شرعيا مع تعدد الغرض وتعذر استيفاء أكثر من غرض واحد ، بأن مرجع ذلك إلى التزاحم الملاكي ، والتخيير فيه عقلي كالتخيير في التزاحم بين التكليفين المتساويين في الأهمية في مسألة الضد.

لكنه يندفع : بأن مرجع التخيير العقلي في التزاحم بين التكليفين والتزاحم الملاكي ـ لو تم ـ إما إلى حكم العقل بالتخيير في قبال لزوم الجمع أو ترجيح أحد المتزاحمين بعينه واكتفاء الشارع بذلك من دون أن يتصدى للتخيير في مقام الجعل ، أو إلى إدراك العقل تخيير الشارع في مقام الجعل جمعا بين قدرة المكلف وقبح الترجيح بلا مرجح ، من دون حاجة إلى بيان شرعي.

أما مرجع التخيير العقلي في المقام فهو التخيير في مقام الامتثال للتكليف بالقدر الجامع الذي يفي بالغرض من دون دخل للخصوصيتين في المكلف به والغرض ، ولو بنحو البدلية ، في قبال التخيير الشرعي التابع لدخل الخصوصيتين في المكلف به بنحو البدلية تبعا لدخلهما في الغرض ـ كما سبق ـ وإن كان التخيير الشرعي بالمعنى المذكور عقليا بالمعنى الأول الراجع لحكم العقل بالتخيير أو إدراكه تخيير الشارع ، لأن ذلك لا يستلزم عدم دخل الخصوصيتين في الغرض والمكلف به ، بل هو يبتني على ذلك.

كما استشكل فيه بعض مشايخنا تارة : بما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) ـ أيضا ـ من أن تعدد الغرض بالنحو المذكور مستلزم لتعدد العقاب في صورة العصيان وعدم استيفاء كلا الغرضين ، لتفويت كل منهما في ظرف القدرة على تحصيله لعدم الانشغال بالآخر.

٣٦٣

واخرى : بأن التضاد بين الغرضين إن رجع إلى أن سبق تحصيل أحدهما مانع من تحصيل الآخر مع إمكان تحصيلهما معا دفعة واحدة لزم على المولى الأمر بالإتيان بالطرفين دفعة واحدة محافظة على كلا الغرضين الإلزاميين.

وإن رجع إلى تعذر الجمع بينهما مطلقا ولو مع الإتيان بالطرفين دفعة واحدة لزم عدم الامتثال بالإتيان بالطرفين دفعة واحدة ، لامتناع وجود أحد الغرضين معه ، لأنه بلا مرجح.

لكن الأول يبتني على أن المعيار في تعدد العقاب على تعدد الغرض الفائت لا على قدرة المكلف على الجمع بين الغرضين ، ويأتي في بحث الترتب إن شاء الله تعالى أن الحق الثاني.

وأما الثاني فهو يندفع : بأنه لما كان مقتضى الإطلاق تحقق الامتثال بالجمع بين الطرفين كشف عن مرجح لأحدهما يقتضي تحقق الامتثال به عند الإتيان بهما دفعة ، لأنه أسبق تأثيرا في غرضه من الآخر ، فيمنع من تأثير الآخر في غرضه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من استبعاد التزاحم بين الغرضين مع القدرة على الجمع بين الفعلين ، وانه من باب فرض أنياب الأغوال.

فهو استبعاد خال عن المنشأ ، إذ لا اطلاع لنا على خصوصيات ملاكات الأحكام الشرعية ، ولا سيما مع قرب وقوعه في الأمور العرفية.

نعم ، لا ملزم في فرض تعدد الأغراض بالتزام تعذر تحصيل أكثر من غرض واحد ، حيث قد يكون منشأ التخيير مع تعدد الغرض وإمكان تحصيل الجميع وجود المانع من الإلزام بالجمع بين الأغراض ، كالحرج النوعي ،

٣٦٤

ومصلحة الإرفاق بالمكلف ونحوهما مما لا يتوقف على تعذر الجمع وبه لا يبقى موضوع للاستبعاد ، لشيوع ذلك كثيرا ، ولا للإشكالين المتقدمين من بعض مشايخنا.

إذ لا يكون كل منهما بنفسه غرضا مستقلا ، بل ليس هناك إلّا غرض واحد متعلق بهما بدلا ، فلا يفوت بتركهما معا إلّا غرض واحد فليس عليه إلّا عقاب واحد.

كما لا مانع حينئذ من ترتب غرض كل منهما عند الجمع بينهما دفعة أو تدريجا وإن لم يكن لازما.

ودعوى : أن ذلك راجع إلى وحدة الغرض ، وهو أحد الأمرين ، لأن المراد بالغرض ليس مجرد المقتضي للتكليف ، المفروض تعدده في المقام ، بل ما يبلغ مرتبة الفعلية بلحاظ سائر الجهات الدخيلة في الملاك ، ومنها مثل مصلحة الإرفاق ، وبلحاظ ذلك لا يكون الملاك إلّا أحد الأمرين.

مدفوعة : بأن أحد الأمرين ليس عنوانا جامعا حقيقيا ماهويا ، لتكون وحدته مستلزمة لوحدة المؤثر ـ بناء على ما سبق من المحقق الخراساني ـ وهو الجامع بين الأطراف ، كي يكون هو المكلف به ، ويكون التخيير عقليا ، بل هو جامع انتزاعي يحكي عن كل من الغرضين بخصوصيتيهما المتباينتين ، فالغرض الفعلي هو أحدهما على البدل ، فلا يستلزم وحدة المؤثر وهو الجامع بين طرفي التخيير ، بل يكون التخيير شرعيا بين الطرفين بخصوصيتيهما المؤثرين للغرضين بخصوصيتيهما.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن التخيير الشرعي بالمعنى المتقدم لا يتوقف على ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من تعذر الجمع بين

٣٦٥

الغرضين ، بل يجري معه ومع إمكان الجمع بينهما. كما لا يتوقف على ما ذكره من تعدد الغرض ، بل يجري مع وحدته ايضا.

ويشكل : بعدم وضوح الفرق بين التكليف التعييني والتخييري سنخا ، كعدم وضوح تعدد التكليف التخييري بعدد الأطراف ، وعدم تعقل الطلب الناقص والإرادة الناقصة ، بل الإرادة والطلب مطلقا يقتضيان تحقيق متعلقهما ، وهما على نحو واحد في التعييني والتخييري وليس التخيير ناشئا من اختلاف سنخ الطلب ، بل من اختلاف نحو تعلقه بمتعلقه.

هذا ما تقتضيه المرتكزات العرفية في المقام التي ينحصر المرجع في أمثاله بها.

الثاني : أنه راجع إلى وجوب كل طرف تعيينا ، لكن وجوب كل منها مشروط بعدم فعل الآخر.

والظاهر أنه لا يفرق في ذلك بين وحدة الغرض وتعدده مع عدم التكليف بما يحصل الغرضين لتعذر استيفائهما ، أو للمانع من التكليف بالجمع بينهما ، على ما سبق في بيان مورد التخيير الشرعي.

إذ مع وحدة الغرض لا ينحصر تحصيله بكل طرف إلّا في ظرف عدم غيره ، فلا يدعو الغرض للتكليف به إلّا مشروطا بعدم حصول غيره ، ومع تعدده لا يكون كل غرض فعليا قابلا للتكليف بما يحصله تعيينا إلّا في ظرف عدم حصول غيره ، لعدم تحقق ما يحصله ، فلا يدعو كل غرض للتكليف بما يحصله إلّا مشروطا بذلك.

وأما دعوى : أن لازمه كون الجمع بين طرفين دفعة واحدة لتكليفين ، لتحقق شرط فعليتهما معا في ظرف موافقتهما ، فيتحقق امتثالهما ، ولازمه

٣٦٦

استحقاق المكلف ثوابين ولا يظن من أحد الالتزام بذلك ، بل هو ارتكازا كالجمع بين فردين من الماهية المأمور بها تعيينا ، لا يستحق به إلّا ثواب واحد.

فقد تندفع : بأن تعدد الامتثال إنما يوجب تعدد الثواب مع تعدد الغرض الحاصل ، أما مع وحدته ، لوحدة الغرض الداعي للتكاليف أو لتعذر تحصيل أكثر من واحد منها ، فلا مجال لتعدد الثواب ، لتبعية الثواب للغرض لا للتكليف.

نعم ، يشكل فيما إذا أمكن تحصيل جميع الأغراض وكان عدم الإلزام بالجمع بينها للمانع ، لوضوح أنه مع فعلية التكليف بكل طرف لفعلية غرضه وحصوله بالامتثال لا وجه لوحدة الثواب.

الثالث : أنه راجع إلى وجوب كل من الأطراف تعيينا مطلقا ، مع كون امتثال بعضها مسقطا للتكليف بالباقي ، حيث قد يسقط التكليف بغير الامتثال لارتفاع موضوعه ونحوه.

وفيه : ـ مضافا إلى ما تقدم في سابقه من استلزامه تعدد الامتثال والثواب على ما فصل ـ أنه مع إمكان استيفاء غرض الباقي وعدم المانع من بقاء التكليف به لا وجه لسقوطه ، ومع تعذر استيفاء غرضه أو تحقق المانع من بقاء التكليف به ـ كالحرج النوعي ـ لا وجه لإطلاق التكليف به من أول الأمر ، بل لا بد من تقييد التكليف به بالنحو المناسب لغرضه ، نظير ما تقدم في الوجه الثاني ، كما أورد به في الجملة المحقق الخراساني (قدس سره).

هذا ، مضافا إلى أن ما يبتني عليه هذا الوجه وسابقه من تعدد التكليف المستلزم لتعدد الامتثال في ظرف الإتيان بالفعلين دفعة واحدة ـ ولو مع وحدة الثواب ـ بعيد عن المرتكزات العرفية ، تبعا لظهور الأدلة اللفظية الظاهرة في

٣٦٧

وحدة التكليف مع التخيير في المكلف به ، كما هو مفاد العطف ب (أو) أو نحوه ، لا في تعدد التكليف ، فلا مجال لارتكابه إلّا مع امتناع الحمل على الظاهر المذكور. وربما يأتي لذلك توضيح في الوجه الخامس.

الرابع : أن المكلف به أحد الأطراف المعين عند الله تعالى ، وهو الذي يأتي به المكلف في مقام الامتثال.

وهو وإن أمكن عقلا لو اريد به ظاهره من تعين المكلف به ثبوتا ابتداء وليس إتيان المكلف بأحد الأطراف إلّا كاشفا عن كونه هو المكلف به في حقه والذي يفي بالغرض ، حيث لا يلزم منه تبعية التكليف للامتثال ، ولا عدم تعين المكلف به على تقدير عدم إتيان المكلف بشيء من الأطراف أو جمعه بينها دفعة المستلزم لعدم التكليف.

وإنما يرد ذلك لو اريد استناد التعيين لفعل المكلف ثبوتا ، الذي هو خلاف ظاهر هذا القول.

إلّا أنه مخالف لظواهر الأدلة ، ولما هو المقطوع به في حقيقة التكليف التخييري في العرفيات ، فإن مقتضاهما عدم الفرق بين الأطراف في نسبة التكليف ، وعدم الفرق بين أفراد المكلفين في المكلف به منها.

وكأن ذلك هو الذي أوجب وهن القول المذكور حتى قيل إنه تبرّأ منه كل من المعتزلة والأشاعرة ونسبه إلى الآخر.

ومثله في ذلك ما قيل : من أن الواجب أحد الاطراف المعين عند الله تعالى ، ولا يتعين إثباتا حتى بفعل المكلف ، وإنما الآخر مسقط له من دون أن يكون مكلفا به في عرضه ، نظير طلاق الزوجة المسقط لوجوب الإنفاق عليها.

٣٦٨

مضافا إلى ما يرد عليهما : من أن اللازم عدم وجوب الإتيان بالممكن منهما عند تعذر أحدهما ، لعدم العلم بكونه مكلفا به ، وعدم وجوب فعل المسقط عند تعذر المكلف به.

الخامس : أن مرجعه إلى التكليف بأحد الأمرين لا بعينه من دون أن يكون لأحدهما اختصاص به في مقام الثبوت ، خلافا للوجه السابق ، كما لا يختلف عن التعييني سنخا ، خلافا للوجه الأول ، ولا يكون متعددا بعدد الأطراف ، خلافا للوجوه الثلاثة الاول.

هذا وقد أشرنا إلى أن عنوان أحد الأمرين منتزع من الأمرين بخصوصيتيهما ، ويحكى عنهما كذلك بنحو الترديد ، من دون أن يحكي تعيينا عن جهة مشتركة بينهما ، كما هو الحال في العناوين الذاتية ـ كالإنسان والحيوان ـ والعرضية الحقيقية ـ كالعالم ـ أو الاعتبارية ـ كالزوج ـ أو الانتزاعية ـ كالفوق ـ حيث تنتزع بأجمعها من جهة مشتركة بين الأفراد.

ومن هنا لا يكون عنوان أحد الأمرين بنفسه موردا للغرض ولا للإرادة ولا للتكليف ، بحيث يكون هو المكلف به تعيينا ويكون التخيير بين الأطراف عقليا ، كما قد يظهر من بعض كلماتهم.

وحينئذ لا مجال لإرجاع هذا الوجه إليه ، المستلزم لعدم الفرق بين التخييري والتعييني إلّا في المتعلق ، حيث يكون متعلق التعييني عنوانا منتزعا من جهة مشتركة بين الأطراف ، ومتعلق التخييري عنوان أحدها.

وما ذكره بعض مشايخنا من إرجاع التكليف التخييري لذلك لدعوى أن الوجوب لما كان أمرا اعتباريا أمكن تعلقه بالعناوين الانتزاعية ، كما ترى! لأنه مع عدم وجود منشأ انتزاع للعنوان لا يكون موطنا للغرض ، ليكون

٣٦٩

موردا للتكليف.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم من إمكان التكليف بالمفهوم المذكور وإن لم يكن له منشأ انتزاع موجود في الخارج.

هذا مضافا إلى أن عنوان أحد الامور كثيرا ما لا يؤخذ في موضوع التكليف التخييري ، بل يرد التكليف على الأطراف بخصوصياتها مع العطف بينها ب (أو) التي لا تفيد مفهوما اسميا صالحا لأن يكون متعلق التكليف ، مع وضوح عدم الفرق بين المفادين ، الكاشف عن عدم كون المراد ـ في صورة أخذه ـ تعلق التكليف به ، بل محض العبرة به لبيان التعلق بالأطراف بالنحو الذي يؤديه العطف ب (أو).

فلا بد من رجوع هذا الوجه إلى تعلق التكليف بمصداق أحدهما ـ كما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) ـ بمعنى تعلقه بكل من الخصوصيتين بنحو خاص من التعلق يقتضي التخيير بينهما في مقام العمل والاكتفاء بكل منهما بدلا.

فالفرق بينه وبين التكليف التعييني في المتعلق وكيفية التعلق ، فمتعلق التعييني واحد ، ومتعلق التخييري متعدد ، وتعلق التخييري بالواحد بنحو يصح نسبة التكليف إليه ويقتضي تحقيقه لا غير ، وتعلق التخييري بالمتعدد بنحو يقتضي تحقيق طرف منه على البدل من دون أن يصح نسبته إليه إلّا مع بقية الأطراف بنحو البدلية.

وكأنه إليه يرجع ما قيل : من تعلقه بالواحد المردد ، وإلا فالترديد ظاهر في الإبهام ، الممتنع ثبوتا والممكن إثباتا ، وهو مباين للتخيير سنخا.

ومن هنا لا مجال لرده بامتناع البعث نحو المردد كما لا تتعلق الإرادة

٣٧٠

به ، إذ لو اريد بالبعث نحو المردد البعث نحو المبهم فليس منه المقام ، وإن اريد به البعث التخييري فامتناعه أول الكلام.

نعم ، يمتنع البعث الخارجي نحو المردد ، لأنه إضافة شخصية متقومة بأطرافها من الباعث والمبعوث والمبعوث إليه ، فمع عدم تشخص بعضها فلا تتشخص ، فلا توجد. ولذا لا يتعلق إلّا بالجزئي ، مع تعلق البعث الاعتباري بالكلي.

هذا ، وقد يدعى امتناع تعلق التكليف بأحد الأمرين بنحو الترديد والتخيير ، لأنه ناشئ عن الإرادة التشريعية ، وهي لا تتعلق إلّا بالمعين ، فتقتضي تحقيقه تعيينا ، قياسا على الإرادة التكوينية التي لا تتعلق إلّا بالمعين القابل للإيجاد ، فتقتضي إيجاده.

لكن بعض الأعاظم (قدس سره) منع من قياس الإرادة التشريعية بالتكوينية في ذلك ، لأن الإرادة التكوينية لما كانت علة لإيجاد المراد لزم كون متعلقها معينا قابلا للإيجاد خارجا ، بخلاف التشريعية لتبعيتها للغرض سعة وضيقا ، وبهذا اختلفا في تعلق الثانية بالكلي ، دون الاولى.

والذي ينبغي أن يقال : الإرادة التكوينية في مرتبة تعلق الغرض تابعة له سعة وضيقا وتعيينا وتخييرا ، فكما تتعلق تعيينا بالكلي الواحد ذي الخصوصيات الفردية المتكثرة ، لوفائه بالغرض ، كذلك تتعلق بالأكثر بنحو التخيير والبدلية تبعا لنحو دخله في الغرض.

نعم ، في مرتبة تحقيق المراد لا تكفي الإرادة المذكورة بأحد النحوين ، بل لا بد من أن ينضم إليها اختيار إحدى الخصوصيات تعيينا من الكلي الواحد الذي تعلق به الغرض والإرادة تعيينا ، أو من أحد الكليات المتعددة التي

٣٧١

تعلق بها الغرض والإرادة بنحو التخيير والبدلية.

لكن اختيار الخصوصية تعيينا في المقام المذكور ليس ناشئا من الغرض الأول ، بل من جهات خارجية زائدة عليه ، ككون الخصوصية المذكورة أسهل أو أفضل أو غيرهما.

وهذا لا ينافي تحقق الإرادة التكوينية الناشئة عن الغرض وبقائها على سعتها بالنحو السابق ، ولذا قد تتمحض في الداعوية للسعي نحو الامتثال بفعل المقدمات المشتركة قبل الاحتياج للتعيين.

مثلا : لو أراد الشخص شراء الطعام تعيينا أو أراد شراء الفراش أو بيع الثياب بنحو التخيير والبدلية ، لغرض قائم بأحد النحوين ، ولم يحدّد ما ينبغي اختياره من الخصوصيات ، فإنه قد يذهب للسوق الذي هو مقدمة مشتركة بين الخصوصيات مندفعا عن الإرادة المفروضة بأحد النحوين محضا ، فإذا وصل إلى السوق وصار في مقام تحقيق ما أراده تبعا لغرضه فلا بد له من اختيار إحدى خصوصيات الطعام في الفرض الأول ، أو اختيار إحدى الخصوصيات من أحد الأمرين من البيع والشراء في الفرض الثاني ، لأمر زائد على الغرض الذي تسببت عنه الإرادة الاولى ، ككون ما يختاره أسهل أو أنفع له أو لمن يهمه أمره أو نحو ذلك. هذا في الإرادة التكوينية.

أما الإرادة التشريعية فمن الظاهر أنها ـ بأي معنى فسرت ـ لما كانت مسببة عن الغرض فهي نظير الإرادة التكوينية التي تكون في مرتبة تعلق الغرض ، تابعة له سعة وضيقا وتعيينا وتخييرا ، وليست نظير الإرادة التكوينية التي تكون في مرتبة تحقيق المراد ، بل ليس النظير لها إلّا الإرادة الحاصلة من المكلف حين الامتثال ، والتي هي مسببة عن التكليف لا منشأ له.

٣٧٢

ومما ذكرنا يظهر أن ما سبق من منع تعلق الإرادة التشريعية بالمتعدد بنحو الترديد والتخيير ، قياسا على الإرادة التكوينية ، وما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) من الفرق بين الإرادتين ، ناشئان عن الخلط بين الإرادة التكوينية التابعة للغرض ، والإرادة الحاصلة حين تحقيق المراد.

ومن هنا لا مخرج عما هو ظاهر الأدلة من تعلق التكليف التخييري بالأطراف بخصوصياتها المتباينة بنحو البدلية والتخيير.

بل لما كان الظهور المذكور نوعيا ارتكازيا كان بنفسه صالحا لدفع بعض التوهمات والشبه المنافية له ، والكشف عن خلل فيها إجمالا. فلاحظ.

بقي في المقام امور

الأول : من الظاهر أن مقتضى الإطلاق البناء على كون الأمر بالشيء تعيينيا ، سواء استفيد الأمر من هيئة افعل أو نحوها ، أم من مادة الأمر أو الوجوب أو الاستحباب أو نحوها من المفاهيم الاسمية.

لكن لا بمعنى الإطلاق المقابل للتقييد كما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) وغيره ، بل بمعنى ما يستفاد من الكلام مع التجرد عن القرينة ، لما أشرنا إليه من أن نحو تعلق الأمر التخييري بمتعلقه يقتضي عدم نسبته لبعض الأطرف ، بل لتمامها بنحو يفيد التخيير ، فالاقتصار على نسبته للواحد ظاهر في التعيينية.

وكذا الحال بناء على الوجه الأول ، لأن سنخ الوجوب التخييري الذي عبّر عنه بالطلب الناقص يبتني على نحو عناية لا يحمل عليها الكلام إلّا بالقرينة.

٣٧٣

نعم ، بناء على الوجه الثاني يكون ذلك مستفادا من الإطلاق المقابل للتقييد ، إذ لا يكون الأمر بالشيء تخييريا إلّا إذا كان مقيدا بعدم فعل بقية الأطراف ، الذي هو خلاف مقتضى إطلاق الهيئة أو نحوها مما يدل على الأمر.

وكذا على الوجه الرابع المبتني على رجوع الأمر التخييري إلى وجوب المعين عند الله تعالى الذي يفعله المكلف لوضوح أنه عليه يلزم اختلاف أفراد المكلفين فيما هو الواجب من الأطراف ، فإذا ورد الأمر بشيء كان مقتضى إطلاق الموضوع اشتراك جميع المكلفين في المأمور به.

أما بناء على الوجه الثالث فلا ينهض الإطلاق ابتداء بنفي كون الوجوب تخييريا ، لابتناء الوجوب التخييري عليه على كون وجوب كل طرف مطلقا ، وأن سقوطه بالطرف الآخر ليس لكونه مقيدا بعدم فعله.

نعم ، ينهض بنفي لازمه وهو السقوط بفعل الطرف الآخر ، لأن مقتضى الإطلاق الأحوالي بقاء التكليف بعد فعل الطرف الآخر ، المستلزم لعدم كونه تخييريا.

مع أن سقوط الأمر بغير الامتثال مع فرض إطلاقه لو أمكن فهو خلاف الأصل فيه ، لأن الأمر يدعو إلى متعلقه. فلاحظ.

هذا إذا كان الأمر واردا لبيان الحكم الكلي بنحو القضية الحقيقية ، أما إذا كان واردا لبيان الحكم الشخصي في قضية خارجية ، واحتمل كونه تخييريا وإنما اقتصر على بعض الأطراف لتعذر غيره على الشخص المذكور ، فلا مجال للتمسك بأحد الوجوه المتقدمة لإثبات كونه تعيينيا بحسب أصل الجعل ، بعد فرض عدم تصدي المتكلم لبيان الحكم بحسب أصل الجعل.

لكن حمل الخطاب في القضايا الشرعية على القضية الشخصية الخارجية

٣٧٤

مخالف للظاهر ، لأن الخطاب وإن كان كثيرا ما يوجه لشخص خاص إلّا أن المفهوم منه عدم خصوصيته في الحكم ، بل يشاركه فيه كل واجد للجهة المشار إليها في موضوع الحكم.

ثم إنه لو فقد الإطلاق فالكلام في أن مقتضى الأصل التعيين أو التخيير موكول إلى مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، لشدة ارتباطه بها ، فلا مجال معه لإطالة الكلام فيها هنا.

الثاني : وقع الكلام بينهم في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر ، وربما يمنع بأنه بعد وجود الأقل ووفائه بالغرض وسقوط الأمر به لا مجال لدخل الزائد في الامتثال.

ومنه يظهر اختصاص الكلام بما إذا كان الإتيان بالزيادة بعد تمامية الأقل ، دون ما إذا كانت في أثنائه ـ كما في التخيير بين القصر والتمام ، حيث يؤتى بالركعتين الأخيرتين قبل التسليم الذي تتم به الصلاة المقصورة ـ أو مصاحبة له ـ كالتخيير بين كتابة القرآن فقط وكتابته مع قراءته دفعة ـ لعدم تحقق الأقل الذي يسقط به الأمر إلّا مع الزيادة ، فلا محذور في استناد الامتثال إليهما في ظرف اجتماعهما ، وإن كان الأقل وحده صالحا لأن يتحقق به الامتثال ، فيخير بينهما وبين الأقل وحده في مقام الأمر.

فما قد يظهر من بعض كلماتهم من عموم الكلام لذلك لعله في غير محله.

ودعوى : أنه لا مجال لدخل الزيادة في الامتثال بعد فرض وفاء الأقل به ، لترتب الغرض عليه دونها ، بل لا بد من كونها خارجة عنه مطلقا ولو لم يكن الإتيان بها بعد الفراغ منه.

٣٧٥

نعم ، لو كانت الزيادة فردا آخر من أفراد المأمور به صالحة لأن يترتب عليها الغرض ويتحقق بها الامتثال ـ كما لو أمر بالضرب ، فضرب شخصين دفعة واحدة ـ تعين استناد الامتثال للفردين في ظرف اجتماعهما ، لعدم المرجح.

مدفوعة : بأن وفاء الأقل بالغرض وتحقق الامتثال به حين الإتيان به وحده لا ينافي عدم وفائه به حين الإتيان به مع الزيادة ، بل يستند إليهما معا حين اجتماعهما ، ولا وجه مع ذلك لاستناد الامتثال لخصوص الأقل ، بل يتعين استناده لهما ، لابتناء الأمر على التخيير بينهما معا وبين الأقل وحده ، تبعا لنحو ترتب الغرض عليهما.

وبالجملة : ما ينبغي الكلام فيه صورة الإتيان بالزيادة بعد تمامية الأقل الصالح لأن يفي بالغرض ويتحقق به الامتثال ، كالتخيير بين صوم يوم واحد وصوم يومين ، بلحاظ المحذور المتقدم.

والظاهر اندفاع المحذور المذكور : بأن الملاك الموجب للتكليف بالفعل لا يلزم أن يكون هو أثره المترتب عليه بالمباشرة والمسبب التوليدي له ، كانكسار الزجاج المترتب على ضربه بالحجر ، بل هو الغرض الأقصى الذي قد لا يترتب عليه إلّا بوسائط ومقدمات متعددة ، كالأكل المترتب على شراء الطعام ، وحينئذ يمكن أن يكون ترتب الغرض الأقصى على الأقل مشروطا بعدم انضمام الزائد إليه ، أما مع انضمامه إليه ولو بعد وجوده فالغرض الأقصى يستند إليهما معا ، ولا وجه مع ذلك لاختصاص التكليف بالأقل وحده وكونه تعيينيا ، بل لا بد من التخيير بينه وبين الأكثر ، تبعا لنحو ترتب الغرض عليهما.

٣٧٦

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من رجوع ذلك في الحقيقة إلى التخيير بين المتباينين ، لأن الأقل حينئذ مقيد بعدم كونه في ضمن الأكثر ، فيباين الأكثر.

ففيه : أن دخوله في التخيير بين المتباينين لا ينافي امتناعه للوجه المذكور واحتياج إمكانه لدفعه بما تقدم ، والمراد بالتخيير بين الأقل والأكثر ذلك ، بل لا يكون إلّا كذلك ، وإلّا فلو اخذ الأقل لا بشرط ، بحيث يترتب الغرض عليه وحده سواء كانت الزيادة معه أم لم تكن ، لم يكن من التخيير بين الأقل والأكثر ، بل بين المطلق والمقيد الذي لا إشكال في امتناعه ، لتحقق المطلق في ضمن الواجد للقيد ، فمع وفائه بالغرض بنفسه يكون دخل القيد فيه خلفا.

وبعبارة اخرى : المراد من الأقل والأكثر ما ينتزع من الأجزاء الخارجية في مقابل المتباينين بالإضافة إليها كالعتق والصدقة ، لا ما ينتزع من الجزء التحليلي ، وهو التقييد. فما ذكره أشبه بالإشكال اللفظي.

وإن كان يحسن ملاحظة كلامه ، حيث قد يظهر منه منع ما ذكرناه من التخيير بالنحو السابق واختصاص الممكن بمثل التخيير بين القصر والإتمام الذي لا يمكن فيه إلحاق الزيادة بعد الفراغ من الأقل ، فينهض ما سبق منا بدفعه. فتأمل جيدا.

ثم إن التخيير المذكور لما كان على خلاف المتعارف ولم تأنس به أذهان العرف كان الحمل عليه محتاجا إلى عناية وكان الأظهر عرفا حمل دليل التخيير بين الأقل والأكثر على أفضلية الزيادة ، سواء كانت من سنخ الأقل كالصوم يوما أو يومين ، أم من غير سنخه كالصلاة مع التعقيب أو بدونه ، فضلا عمّا إذا لم يكن الدليل بلسان التخيير ، بل كان الأمر بكل منهما بلسان ظاهر في التعيين ، حيث لا يجمع بينهما بالحمل على التخيير ، بل على

٣٧٧

الأفضلية.

بل لعل ذلك يجري ـ أيضا ـ فيما إذا كان الإتيان بالزيادة قبل الفراغ من الأقل الذي عرفت أنه خارج عن محل الكلام ، حيث يكون الأقرب الحمل على أفضلية الأكثر وإن كان طرفا للتخيير ، لعدم سقوط الأمر إلّا بإتمام العمل.

نعم ، قد يشكل في مثل القصر والإتمام ممّا كان مقتضى الأصل أو الدليل مبطلية الزيادة ، حيث يكون المتيقن من التخيير فيه بيان مشروعية الأكثر وإجزائه ، ولا مجال لاستفادة أفضليته إلّا بدليل خاص.

ثم إن التخيير بين الأقل والأكثر كما يكون شرعيا ، لكون كل منهما دخيلا بخصوصيته في ترتب الغرض الواحد أو المتعدد ، يكون عقليا ، كما لو كان الأثر مستندا لجهة مشتركة تصدق على الكثير بعين صدقها على القليل ، كعنوان الجماعة والورد ونحوهما.

وقد سبق أن هذا هو المعيار في الفرق بين التخييرين ، ولا يناط بما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من تعدد الغرض ووحدته.

الثالث : من الظاهر أنه كما يمكن كون الملاك الموجب للأمر بنحو يقتضي الاكتفاء بأحد الأمرين ، فيكون الأمر تخييريا ، كذلك يمكن كون الملاك الموجب للنهي مقتضيا للاكتفاء بترك أحد الأمرين ، لكنه لا يوجب النهي التخييري ، لعدم مناسبة التخيير للنهي عرفا ، بل يوجب النهي عن الجمع بين الأمرين.

نعم ، يمكن كون الترخيص تخييريا ، كما فيما لو كان ناشئا عن مصلحة مخرجة عن مقتضى الحكم الأولي ، تقتضي الترخيص في فعل أحد الأمرين دون

٣٧٨

الجمع بينهما ، ولا يكون الترخيص الناشئ عن عدم المقتضي.

والنهي عن الجمع والترخيص التخييري وإن كانا متفقين عملا ، إلّا أنهما يختلفان منشأ وموردا ، فإن كان مقتضى الحكم الأولي الترخيص في الأطراف لو لا المفسدة المانعية من الجمع بينها لزم الأول ، كما في النهي عن الجمع بين الاختين في النكاح ، وإن كان مقتضى الحكم الأولي المنع من الأطراف لو لا المصلحة المقتضية للترخيص في أحدها لزم الثاني ، كما في التخيير بين القصاص وأخذ الدية.

٣٧٩
٣٨٠